#1
|
|||
|
|||
كيف تكون عبدا لله؟
الخطبة الأولى الحمد لله على كل حال... الحمد لله المتصف سبحانه بالعزة والعظمة والجلال... القيوم الحق الدائم بغير زوال... المتفضل على عباده بجلائل النعم، الكبير المُتَعال... نحمده تبارك وتعالى بالغدوِّ والآصال... ونعوذ بنور وجهه الكريم من ظلمات الشك والشرك والضلال... وأشهد أن لا إلـه إلا الله الحى الحميد... ذو العرش المجيد... الفعَّال لما يريد... * وأشهد أن سيدنا محمدا عبده و رسوله ذو الخُلُق الحميد... والرأي الرشيد... والقول السديد...خيرُ مَن صلَّى وصام وعبد ربه وأناب، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الأخيار... ما تعاقب الليل والنهار. * أما بعد: الحكمة الربانية مِن الخَلْق: قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]. لا يخلُق اللهُ شيئًا، ولا يدبِّر أمرًا، ولا يصرِّف خَلْقًا، ولا يمنع، ولا يُعطي، ولا يأخذ، ولا ينزل، ولا يصعد، ولا يتحرك، ولا يسكن شيء؛ إلا ولله فيه حكمة وتدبير. والإنسان أكرَم مخلوق، وأعز موجود، وأشرف عند الله من الوجود، جَعَل له أعظم حكمة مِن خَلقه وأجلَّها وأنفَسَها تسري في جسده فِطرة ربانية فُطر عليها (لا معبودَ بحقٍّ إلا الله). * إن القلب ليحمل الحكمة الربانية مِن الخَلْق، فلا يرضى أن يكون عبدًا لغير خالقه مهما تلوَّث هذا القلب بشُبهة الإلحاد أو الزندقة أو الكفر، ومهما انغمس في شهواتِ وبلايا المجتمعات الرذيلة، فإنه سرعانَ ما ينتفض عندما يشتمُّ رائحةَ الفطرة، ويغسل بماء الطهر والعفاف؛ ليعود إلى العبودية لله الواحد الأحد. * والناس كلهم عبيد لله، وليس لهم إلا الله، ولا منجَى ولا مَلجأ مِن الله إلا إليه، فكلما ازداد القلب حُبًّا لله ازداد له عبودية، فانطلق حُرًّا عزيزًا أبيًّا في فضاء رحب ليس له حد زماني ولا مكاني. * نعْت النبي في أكمل أحواله: ولذا تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أراد الله أن يشرفه في المقامات العليَّة نَعَتَهُ بالعبودية: ففي الإسراء: قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ﴾ [الإسراء: 1]. وفي الوحي: قال تعالى: ﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ [النجم: 10]. وفي الدعوة: قال تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴾ [الجن: 19]. وفي التحدي لأهل الكفر: قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ [البقرة: 23]. * وعندما عُرض الأمر على النبي المصطفى وخُيِّرَ اختار الكمال والشرف؛ ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: (جلسَ جبريلُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فنَظرَ إلى السَّماءِ فإذا ملَكٌ ينزلُ فقالَ جِبريلُ: إنَّ هذا الملَكَ ما نَزلَ منذُ يومِ خُلِقَ قبلَ السَّاعةِ، فلمَّا نزَلَ قالَ يا مُحمَّدُ، أرسلَني إليكَ ربُّكَ قالَ: أفملِكًا نبيًّا يجعلُكَ، أو عبدًا رسولًا؟ قالَ جبريلُ: تواضَع لربِّكَ يا محمَّدُ. قالَ بَل عبدًا رسولًا). ومما زادني شرفًا وتيهًا وكدتُ بأخمصي أطأ الثريَّا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيَّرت أحمد لي نبيَّا * ما هي العبودية؟ ولكي نطلَّ على معنى العبودية فلنستمع إلى شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. * فكلُّ بِرٍّ يحبُّه الله ويرتضيه مِن عبده؛ لأنه قام به كما يجب سواء كان قولًا أو عملًا ظاهرًا أو باطنًا يُعَدُّ عبودية لله، ولو كان من المُباحات ففي الحديث: قال صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم: ((وفي بُضْعِ أحدكم صدقةٌ)). قالوا: يا رسولَ اللهِ! أياتي أحدُنا شهوتَه ويكون لهُ فيها أجرٌ؟ قال: ((أرأيتم لو وضَعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ؟ فكذلك إذا وضَعها في الحلالِ كان لهُ أجرًا))؛ انظروا إلى مستوى العبودية، كيف يجعل المسلم تندرج حركاته وسكناته تحت ظل العبودية. * يوضح هذا قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]. يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه كما ورد في البخاري: ((إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي))، وبهذا يصِل الإنسان إلى أعلى درجات العبودية. * أنواع العبودية: وإن كل إنسان عابدٌ بفطرته. أي: إنه مجبول على العبادة؛ فإما أن يكون عابدًا لله وحده بلا شريك، وإما أن يكون عابدًا لشيء آخر غير الله. * فحقيقتي العبادة يمكن ادراجهما في قضيتين رئيسيتين: الأولى: شعور يجِدُه الإنسان بأن هناك ربًّا يُعبد، وهناك عبدًا يتوجَّه بعبادته لهذا الرب، فهي خضوع لأمر الله الكوني فتشمل جميع الخلق قال تعالى: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93]. * الثانية: التوجُّه بكل الحركات والضمائر إلى الله، مع إخلاص له وحده لا شريك له، واتِّباع لِسُنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فهي خضوع لأمر الله الشرعي، وهذه خاصة لأهل الإيمان، قال تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ [الفرقان: 63]، وبهذه يتحقق معنى العبودية لله. * ومتى تحركت نفس المرء إلى غير الله، وقدَّم مراده على مراد الله فقد عَبد غيرَ الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((تعِس عبدُ الدينارِ، تعِس عبدُ الدرهمِ، تعِس عبدُ الخميصةِ، تعِس عبدُ الخميلةِ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ )). صحيح. إن العبودية تحتاج إلى عناية عظيمة ظاهرًا وباطنًا، علمًا وعملًا، والله بعد تضرُّع الإنسان وجهدِه وتوكُّله على الله يعصِمه من الشرك بإذنه. * اللهم، إنا عبيدُك الضعفاء، نرجوا رحمتك وفضلك ومغفرتك، فاغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، إنك أنت الغفور الرحيم. * الخطبة الثانية الحمد لله المعبود بحق، ولا معبود بحق سواه، أحمده أن جعَلنا مسلمين، وأوضح لنا الطريق بكتابه المبين، وهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. * أما بعد: أقوى وسائل العبودية: إنَّ مِن أقوى وسائل العبودية لكي تسير في سياقها الصحيح، ونجني ثمرتها حياة طيبة، وفلاحًا بعد الممات، ممارسة هذه الوسائل والمقومات، والتي تُعِين على نضج ثمار العبودية، وتجعلها في أحسن أحوالها؛ لتغذي بدَن المؤمن بالسعادة والحبور، وقد اجمع العلماء أن رُكْنَيِ العبادة وأسَّها أمران عظيمان هما: أولًا: الإخلاص: فالعبادة إذا لم يبتغِ بها المرء وجهَ الله كانت عليه وبالًا، ولم ينتفع بها حالًا ولا مآلًا. فمَن أشرك في العبودية فاسمع إلى الحديث القدسي، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ تبارك وتعالى يقول: أنا خيرُ شريكٍ، فمن أشرك معي شريكًا فهو لشريكي، يا أيها الناسُ أخلِصوا أعمالَكم؛ فإنَّ اللهَ تبارك وتعالى لا يَقبلُ من الأعمالِ إلا ما خلُصَ له، ولا تقولوا: هذه للهِ وللرَّحِمِ؛ فإنها للرَّحِمِ، وليس للهِ منها شيءٌ، ولا تقولوا: هذه للهِ ولوجوهِكم؛ فإنها لوجوهِكم، وليس للهِ منها شيءٌ))، قال الألباني صحيح لغيره، ولا شك أن المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم قرينة الإخلاص. * ثانيًا: الصبر: فوجوده في العبادة يعظم به الأجر، وتُنجز العبادة على الكمال، وتصِل إلى الدرجات العُلى مِن الإحسان؛ ففي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس قال له: ((واعلم أن في الصبر على ما تَكْره خيرًا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العُسر يُسرًا)). حديث صحيح. * وبعد فلنا أن نُوجز هذه الخطبة في جمل أربع: الأولى: أننا عبيد لله، لن ننال حُريَّتنا إلا بالعبودية له وحده لا شريك له. الثانية: مَن جَعَل حركته في الحياة عبادة لله فقد حقَّق العبودية على مراد الله. الثالثة: لا نترك عبادة إلا ونضرب فيها بسهم؛ فلا نعلم ما الذي يُنجينا يوم العَرض الأكبر. الرابعة: مَن لم يُخلص ويصبر في العبادة فهو كحامل الماء يموت عطشًا. * وخاتمة المسك مقولة شيخ الإسلام ابن تيمية: (العبودية تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له.). * الدعاء: ربَّنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة؛ إنك أنت الوهاب، وأصلح اللهم أحوالنا في الأمور كلها، وبلِّغنا بما يرضيك أمالنا، واختم اللهم بالصالحات أعمالنا، وبالسعادة آجالنا، وتوفَّنا يا رب وأنت راض عنا. اللهم، اجعل جمعنا هذا جمعا مباركا مرحوما، وتفرُّقنا مِن بعدِه تفرُّقًا معصوما، ولا تجعل فينا شقيًّا ولا محرومًا. ربنا لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرجته، ولا مريضا إلا شفيته، ولا ميِّتا إلا رحمته، ولا طالبًا أمرًا من أمور الخير إلا سهلته له ويسرته. اللهم وحِّد كلمة المسلمين، واجمع شملهم واجعلهم يدا واحدة على مَن سواهم، وانصر اللهم المسلمين، واخذل الكفرة المشركين أعدائك أعداء الدين. اللهم إنا نسألك لِوُلاة أمورنا الصلاح والسداد، اللهم كن لهم عونا، وخذ بأيديهم إلى الحق والصواب والسداد والرشاد، ووفقهم للعمل لما فيه رضاك، وما فيه صالح العباد والبلاد. اللهم اجعلنا من أخلص عبادك لك، وأقوَمهم بأمرك، وأزكاهم علمًا وعملًا يا أرحم الراحمين سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. عطية بن عبدالله الباحوث
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
بارك الله فيكم
|
#3
|
|||
|
|||
جزاك ربي خير الجزاء علي هذة الخطب القيمة
كل الشكر و التقدير لحضرتك علي هذا الجهد استاذنا الفاضل
__________________
Minds, like parachutes, only work when opened
|
العلامات المرجعية |
|
|