اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > التاريخ والحضارة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16-06-2015, 09:49 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
العمر: 60
المشاركات: 4,132
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي التاريخ بين عناية الله والفاعلية الإنسانية


التاريخ بين عناية الله والفاعلية الإنسانية
أ. د. عبدالحليم عويس


على خلاف التفسيرات المادية للتاريخ، تؤمن الرؤية الإسلامية للتاريخ بأن الله هو الخالق للتاريخ - زمانًا ومكانًا، وإنسانًا وعقيدة - وتُحدد إطار التفاعل بين الإنسان والزمان والمكان.
وليس دور الله في التاريخ - كما يتخيَّله أرسطو وبعض فلاسفة الإغريق - دورًا مؤقتًا ينتهي عند انتهاء عملية الخلق، والتزويد بالأسلحة المطلوبة، بل هو عناية كاملة ومستمرة بالتاريخ الإنساني، وبالكون الذي يتحرك التاريخ الإنساني فيه، ولا حياة لهذا التاريخ الإنساني بدون هذا الكون.
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41].
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحج: 65].
ومع أن اليهودية والنصرانية دينان أصابهما التحريف في مصادرهما الأساسية، إلا أن إيمانهما بدور الله في الفعل التاريخي أمرٌ لا يمكن إنكاره على الرغم من أن النصرانية (بعد مجمع نيقية)، تعطي شخص المسيح (الابن) دورًا أساسيًّا في تحريك التاريخ، يقترب من دور الله (الأب
وفيما بين القرنين الخامس والثامن عشر للميلاد، سيطر التفكير اللاهوتي المسيحي في تفسير التاريخ على العقل الأوروبي كله، ولم يستطع أن يَقدر الله حقَّ قدره من جانب، ولا أن يعطي الإنسان المساحة الصحيحة التي يَملِكها الإنسان في صناعة التاريخ من جانب آخرَ، بل كاد يلغي الإنسان، ظانًّا أنه بذلك يتقرَّب إلى الله، والحقيقة أنه بتهميشه دورَ الإنسان في التاريخ، يَصم الله ضمنًا (بالظلم)، بما أن الإنسان سوف يحاسب في الآخرة على دوره الأساسي في صناعة الحضارة، بل وعلى مستوى استخدامه للطبيعة التي سخرها الله له.
إن غوستاف لوبون يتحدث مصوِّرًا هذا التفسير اللاهوتي الذي يلغي الإنسان، فيقول: "تصفَّحوا تاريخ ما بين القرن الخامس والقرن الثامن عشر، تجدوا أن عِلم اللاهوت هو الذي يسيطر على الروح البشرية ويوجِّهها، فتُطبَع جميع الآراء بطابع علم اللاهوت، وننظر إلى المسائل الفلسفية والسياسية والتاريخية من الوجهة اللاهوتية دائمًا، والروح اللاهوتية من بعض الوجوه، هي الدم الذي جرى في عروق العالم الأوروبي حتى "بيكن وديكارت"[1]، وتدل الكتب التاريخية التي أُلِّفت في ذلك الزمن الطويل على درجة ما يمكن للعوامل الدينية أن تؤثر في أفكار الناس، وعلى مقدار بساطة المبدأ العام عن الكون في ذلك الحين، هذا المبدأ العام الذي يركز على القدرة الإلهية الجبرية ويلغي الإنسان تمامًا.
ففي هذا الرأي اللاهوتي تُسيطر على مجرى التاريخ قدرة ربانية عاطفة أو ساخطة، فكان لا بد من خشيتها، أو التضرُّع إليها بلا انقطاعٍ، وكان أقوى الملوك يرتجفون أمامها، ومن ذلك أن لويس الحادي عشر كان ينفق كل ماله محاولاً أن ينالَ حماية العذراء وأبرار الفردوس، مؤمنًا - على رواية مؤرِّخ له - بأنهم يتدخلون في أعمال الإنسان دائمًا، قادرين - وحدهم - على ضمان الانتصارات الحربية أو الدبلوماسية، وإلى وقت قريب نسبيًّا كان على هذا الاعتقاد الصبياني فلاسفة فُضلاء، وقد ساق هذا الاعتقاد (ليبنتز) إلى أفكار كثيرة التفاؤل، فكان يقول: إن العالم بالغ الصلاح بحُكم الضرورة؛ وذلك لأنه لا حدَّ لحكمة الربِّ وكرَمه.
ولم تأخذ مبادئ التاريخ اللاهوتية في الزوال إلا بعد أن أثبَت تقدُّم العلم كون جميع حوادث العالم خاضعة لسُنن وثيقة لا تعرف الهوى[2].
وهكذا تجعل النصرانية من فِعل الله مُصادرة لفاعلية الإنسان، كما أنها - بهذا التصور - تُصادر السنن الكونية والاجتماعية التي يَرتبط الإنسان بها ويتعامل معها، وهو يُحقق الإبداع الحضاري، فما دام أبرار الفردوس والعذراء قادرين وحْدهم على ضمان الانتصارات الحربية أو الدبلوماسية، فإن السنن الكونية والاجتماعية، والفاعلية الإنسانية، لا تَعدو أن تكون ذات دور هامشي أو صوري.
وسيبدو مجازيًّا إذًا نسبة الحضارة إلى الإنسان، فالعالم كما يقول (ليبنتز) بالغ الصلاح بالحكمة الربانية، بعيدًا عن حضور الإنسان في التاريخ.
بل إن الإنسان يعتبر مجرَّد أداة تتحرك آليًّا - بلا إرادة ولا وعي - في الاتجاه الذي تحدِّده الأقدار القاهرة.
وفي مواجهة هذا الإسراف اللاهوتي في تجريد الإنسان من دوره وفاعليته؛ خضوعًا للمشيئة الإلهية التي لم تترك له مساحة لائقة من حرية العمل والإبداع - ظهرت الفلسفات المادية الاشتراكية والبورجوازية التي لا تُؤمن بفاعلية الله في التاريخ الإنساني، وترى أن الإنسان هو - وحده - الفاعل والمريد، والقادر والمبدع والمُهيمن.
وكانت الماركسية (الاشتراكية العلمية)، أبرز مثلٍ صارخ لهذه الاتجاهات المادية التي ترفض وجود المشيئة الإلهية في توجيه التاريخ، بل إنها تُنكر وجود الله أصلاً.
إن المقولات الأساسية لفلسفة التاريخ عند ماركس واضحة ومنطقيَّة، فبدلاً من الأفكار الشخصية - الحرية، والفردية، والأمة، والدين - التي اختارها المؤرخون المثاليون، فإن علم التاريخ الماركسي اتَّخذ نقطة بدايته من الوظيفة الأولى لكافة المجتمعات البشرية؛ سواء الابتدائية منها، أو المتقدمة، وهذه الوظيفة هي سَدُّ الحاجات الفيسيولوجية للإنسان، وتوفير الغذاء والمسكن والملبس والمأوى، وبقيَّة الضرورات الأساسية للحياة، وقد تساءل ماركس: "هل من حاجة إلى بصيرة عميقة لإدراك أن أفكار الإنسان ونظراته وتصوُّراته، أو بكلمة واحدة وعْيه، يتبدل مع كل تبدُّلٍ من أحوال وجوده المادي في علاقته الاجتماعية في حياته الاجتماعية؟ وماذا يستطيع تاريخ الأفكار أن يُثبت غير أن الإنتاج الفكري يُبدِّل طبيعته تبعًا للتبدُّل الذي يحدث في الإنتاج المادي؟
وقد اتخذت هذه المعالجة للتاريخ شكلها الكلاسيكي في مقدمة ماركس لكتابه "نقد الاقتصاد السياسي"؛ حيث قال: "الناس فيما يسيرون عليه من إنتاج اجتماعي، يدخلون في علاقات محددة لا يستغني عنها، ومستقلة عن إرادتهم"، وهذه العلاقات هي "علاقات الإنتاج" التي تكون في "جملتها" البنية الاقتصادية للمجتمع، وإن هذه البنية الاجتماعية هي: "الأساس الحقيقي الذي تقوم عليه النُّظم القومية القانونية والسياسية، وتتطابق معها أشكال من الوعي الاجتماعي"، وبالإضافة إلى ذلك فإن علاقات الإنتاج ذاتها تتطابَق مع مراحل النمو المختلفة من القوى المنتجة وتتبدَّل تبعًا لها[3]، وبالتالي - وفي ضوء هذه المعادلات الماركسية الاقتصادية الفاعلية - فلا وجود لدور علوي في توجيه التاريخ.
أما التفسير البورجوازي للتاريخ، فهو يخلط بين المظاهر الطبيعية ومشيئة الله، حتى ليبدو توجيه الله للتاريخ الإنساني محصورًا في الكوارث الطبيعية التي يؤدب بها البشر، بل إن كلمة "الطبيعة" تستعمل عند بعض المفسرين البورجوازيين في مكان اسم الله، وتأتي كلمة "القدر" كأنها مستقلة ومرادفة أيضًا لاسم الله دون أن تَرتبط بالمشيئة الإلهية.
وتزداد الرؤية البورجوازية المُنبثقة من العداء للكنيسة غموضًا ومادية، حين تتعامل مع الدين والأيديولوجية على أنهما مجرد أوهامٍ، ومجرد خادم للأوضاع، ولا ضَيْرَ من استغلالهما لخدمة الدولة.
إن الدين لا يوجه إذًا، بل إنه يوظف لخدمة الأوضاع، كما أن دوره الحقيقي ليس في هذه الدنيا، بل في الآخرة حيث الخلاص الأبدي، يقول "هوبز": إن على رجال الأكليروس أن يدركوا أنهم ليس لهم سلطة، عدا تلك التي تَمنحهم إياها السلطة المدنية العليا.
ويقول "هوبز" أيضًا:
"إن لكل مواطن عادي كامل الحرية - لأن الأفكار حرة - في أن يؤمن أولاً إيمانًا عميقًا بالوقائع المقدمة على أنها معجزات، وبالنظر إلى الحسنات التي يُضيفها المعتقد الشعبي على الذين يُثبتون المعجزة ويلتزمون بها، فإن ذلك المواطن العادي بإمكانه أن يستنتج ما إذا كان ينبغي اعتبار تلك الوقائع معجزات أم أكاذيبَ"[4].
وينبغي على الدولة أن تدعو دينًا بحمْل الأوهام المفيدة لأهدافها، وتُصدِّق على عبادته ونشره، متَّخذة على عاتقها جيشًا كاملاً من الكهنة حسب ممارسة الكنيسة الإنكليكانية.
في البدء ابتدَع الكهنة الدين ورعوه لأغراضهم الشخصية بطريقة متعمدة، وهذا ما ينبغي على الدولة أن تقوم به الآن: "إن الخوف من قوى خفية - سواء أكانت مختلقة، أو منقولة عن التقاليد - يُعد دينًا عندما يقام بقرار من الدولة، ومعتقدًا باطلاً عندما لا ينشأ بقرار منها".
ينبغي إذًا وضْع الخوف - باعتباره خاصة أساسية في الطبيعة البشرية - في خدمة الدولة، وذلك بواسطة الدين الذي ينبغي أن يستخدم أساسًا لضمان الطاعة أمام القانون، ولمراعاة حُسن السلوك البرجوازي عامة.
إن كون المسيح هو المخلِّص الموعود في العهد القديم، هو قسم من العقيدة يَستبقيه هوبز باعتباره شرطاً كافيًا لخلاص الروح؛ إذ إن المرء هكذا يكون ميَّالاً إلى التسليم بأن التقيُّد بالوصايا يسمح بالحصول على الخلاص الأبدي[5].
أما ميكيافيلي صاحب كتاب "الأمير"، فقد أظهر تذبذُبًا واهتزازًا في رؤيته للنسبة المتاحة للإنسان في التاريخ، وقد انتهى إلى أن الله لا يقوم بدور أساسي في التاريخ، وخلَط بين الطبيعة والمشيئة الإلهية، وأعطى لقوانين الطبيعة سلطة مطلقة، وكأنها إله فاعلٌ قادر.
إن ميكيافيلي يتساءل: هل البشر قادرون بشكل عام على التدخل الواعي في مجرى التاريخ؟ ويطرح ميكيافيلي - مثل عادته - هذا السؤال من أجل هدفٍ عملي؛ إذ يقول في "الأمير": "أي دورٍ للقدر في الأمور الإنسانية؟".
وهو يعني بـ"القدر" كلَّ ما لا يتوقَّف على إرادة البشر، فيقول: "لست أجهل مطلقًا بأن كثيرًا من الناس فكروا وما زالوا يفكرون بأن الله والقدر يُدبران أشياءَ هذا العالم بطريقة لا يتمكَّن معها كلُّ التعقل الإنساني من توقيف مسارها أو تنظيمه، ومن ثَمَّ يمكن الاستنتاج بأنه من غير المُجدي "الاهتمام بذلك بكثيرٍ من المشقة، وأن الأمر لا يستدعي سوى الإذعان وترْك كل شيء يسير حسب القدر"، وأنا نفسي أثناء تفكيري في ذلك بضع مرات، توصَّلت جزئيًّا لهذا الرأي، ومع ذلك لم أستطع الافتراض بأن تتحول حرية الاختيار لدينا إلى لا شيء، وأتصوَّر بأنه قد يكون من الصحيح أن القدر يتصرَّف في النصف من أعمالنا، لكنه يترك النصف الآخر تقريبًا تحت سلطتنا.
إنني أُقارنه بنهر عنيفٍ عندما يَفيض، يَغمُر السهول، ي***ع الأشجار والأبْنِيَة، يَجرُف التربة من مكانها، ويحملها إلى مكان آخرَ، لا شيء يمكن أن يُعرقله، ومع ذلك - ومهما كان جبروته - فإن الناس لا يَتهاونون بعد انتهاء الكارثة في البحث عن وسائل لتلافي الفيضانات؛ كالسدود والحواجز، وغيرها[6].
وحول الدور الذي يُعطيه ميكيافيلي للطبيعة التي تُشبه (الإله) عنده، يشير إلى أن الإرادة الإنسانية مشروطة بعوامل طبيعية؛ كالغرائز والميول الطبيعية التي لا يستطيع أحد مقاومتها، تمامًا مثلما هي الحالة بالنسبة لسقوط الحجر الذي تحدِّده الجاذبية والثقالة.
وهكذا فبينما تكاد فاعلية الله في التاريخ تنعدم عند ميكيافيلي، نجد الفاعلية الإنسانية - كذلك - هامشية؛ إذ هي محكومة بغرائز ميكانيكية مسيطرة وبقوانين طبيعية، فالإنسان جزء من الطبيعة، ولا يمكنه بأي طريقة أن يتحرَّر من قوانينها، وهو ليس حرًّا إلا فيما يتعلق بإمكانية التصرُّف على أساس قراراته الشخصية، الحرية لا تعني التحرر من الشروط الطبيعية[7].
فالطبيعة وليس الله أو الإنسان، هي الفاعلة الأكبر في التاريخ البشري، والتاريخ بالتالي يمضي بطريقة ميكانيكية فيزيائية، والدولة تشبه في المحيط الإنساني (القوة) المناظرة لقوى الطبيعة في المحيط الكوني!
وقد ذكر ميكيافيلي في إحدى رسائله:
"إن الطبيعة مثلما أعطت الناس وجوهًا مختلفة، وهبَتهم أيضًا عقلاً مختلفًا وأفكارًا مختلفة، وينتج عن ذلك أن كل شخص يتصرف وفقًا لعقله وفكرته"، ويعود عيب التصور الميكيافيلي للتاريخ إلى كونه يجعل هذا النمط الخصوصي "للتفكير وللإحساس"، متعلقًا بعوامل طبيعية ثابتة تاريخيًّا دون اعتبار التغيرات الاجتماعية.
وطبقًا لمعنى العلم الجديد، فإن ما هو ثابت نسبيًّا وحده قابلٌ للتفسير، ونظرًا لاعتبار الذرات عناصرَ ثابتة، فقد شكَّل هذا الاعتبار أداة تفسيرية للفيزيقا، كذلك فإن طبائع الإنسان عند ميكيافيلي تشكل آخرَ برهانٍ يسمح بتفسير مجرى التاريخ؛ لأنها تنتج عن عناصر نفسية ثابتة: الغرائز والأهواء التي لا تتغير [8].
وفي محاط أُخَر يأتي فريدريك نيتشه عابدًا للقوة الإنسانية وللنتائج الواقعية التي تنتهي إليها حركات الصراع في التاريخ، فلا مكان إلا للإنسان، وأما غير الإنسان، فهو غير موجود في التاريخ، بل إن التاريخ الطبيعي "علم الأحياء" يتمتَّع بتقديس خاص لدى نيتشه، إنه النتيجة الحيوية الخالصة المتعانقة مع العقلانية الإنسانية، فالتفسير التام والمعرفة الناجزة لضرورة حدثٍ تاريخي، ما يمكنهما أن يُصبحا وسيلة لعقلنة التاريخ، غير أن التاريخ المعتبر "في ذاته" لا يمتلك عقلاً، فهو ليس "جوهرًا" من أي نوع كان، ولا "روحًا" ينبغي أن ننحني أمامه، ولا "قوة"، ولكنه خلاصة مفهومية للأحداث التي تنتج عن صيرورة تطوُّر حياة الناس الاجتماعية.
لا أحد مدعو من "التاريخ لكي يحيا أو لكي يموت، إن التاريخ لا يطرح أية مهمة، كما أنه لا يحل أية مهمة أيضًا، لا يوجد سوى بشر حقيقيين ينشطون ويتجاوزون العراقيل، ويتمكنون من إنقاص الشر الفردي أو الجماعي الذي خلقوه هم أنفسهم، أو خلَقته قوى الطبيعة.
ليست الدعوة المتعلقة بالاستقلالية الحلولية للتاريخ في كائن جوهري موحد، سوى ميتافيزيا دوغمائية"[9].
ولئن كان فيكو الإيطالي المتوفى سنة 1744م يدعو العناية الإلهية: "ملكة الشؤون البشرية"، وإذا كان يتوجب على فَهمه للتاريخ كما يقول بوضوح: "أن يكون برهنة على (العناية) كواقع تاريخي"، ويبدو حينئذ أن الدلالة الأساسية لفلسفته تتكون من الإيمان بمعنًى إلهي ما، وغاية مقدسة للتاريخ، وأنه عندما يطبق مفهوم (العناية) تطبيقًا محسوسًا، يتَّضح بأنه لا يعني بذلك سوى الإلحاح، أو القانون الذي يدفع الناس - برغم غرائزهم الفردية والوحشية والأنانية - إلى تكوين مجتمع وثقافة، وما هو جوهري في التاريخ ليس الظواهر السطحية التي يصنف "فيكو" ضمنها بواعثَ وأعمال الناس الفردية، إن ما يتحقق هو بالأحرى تعاقُب لأشكال اجتماعية تجعل العمل التمديني للبشر ممكنًا[10]، غير أن فيكو يعود إلى كاثوليكيته، فيرى أن الله يحاكم الإنسان بعد موته محاكمة عادلة".
هكذا يبقى الحكم على الفرد متعاليًا عن التاريخ في نظر فيكو، في حين أن دين هيجل على العكس، يتكون أساسًا من الإيمان بلاهوت ملازم - أي: بإنجاز للعدالة المطلقة في المجتمع - وتتطابق عنده محاسبة العالم مباشرة بتاريخ العالم، وتغدو مسألة الألم الفردي بلا معنًى، ذلك أن مثاليَّته تُنكر على الفردية أية حقيقة جوهرية.
يُبين مثلاً (فيكو وهيجل) أن الإيمان الصادق بدين مُتعال، ومنزل يسمح على الأقل في العصر الحديث باستكشاف للدنيا - يكون أكثر موضوعية من الخلط الحلولي بين الله والعالم، وبين العقل والواقع[11].
إن فيكو ينطلق في النهاية - مثل ميكيافيلي - من فكرة أن النتاجات البشرية ينبغي أن تفسَّر من خلال الضرورة، وبتحديد أكثر: من خلال ردود الفعل على الضرورة المادية.
إن شروط الحياة الخارجية والبيئة النفسية البدائية للبشر الأوائل، هما العنصران اللذان يسمحان بتقديم تفسير للتاريخ البشري.
ويمكن لتلك الظروف الفعلية في الأزمنة البدائية أن تستنتج من المواد التي تُزوِّدنا بها شهادات التقليد المتوارث، وخصوصًا الأسطورة[12].
ومن المهم الإشارة إلى أن فيكو يستنتج شروط الحضارة من تفاعل الظروف المادية الخارجية والاستجابات الغرائزية لدى الناس، برغم لجوئه إلى العناية الإلهية في إطار مادي حداثي.
وتعود شروط الحضارة جوهريًّا - عند فيكو - إلى أربعة عناصر ناتجة عن التفاعل الذي أشرنا إليه، ويدعوها فيكو "الأسباب الأربعة"، أو بالأحرى العناصر الأربعة الأساسية للعالم الاجتماعي (...): الأديان، الزواج، الملاجئ السكنية، وأول قانون زراعي[13].
ويوضح فيكو أن "العناية الإلهية في مرحلة ما قبل القوانين، دفَعت الناس المتوحشين والعنيفين نحو الإنسانية، وكونت الأمم بتحريك فكرة غامضة عند الناس، فنسبوها بسبب جهلهم إلى مخلوقات لم تكن لتَمتلكها، ولخوفهم من ذلك الإله الخيالي، بدؤوا بالتلاؤم مع نظام ما"[14].
ونحن نَلمَح أن مفهوم الدين عند فيكو لا يَعْدُو أن يكون الميثولوجيا "الأسطورية" التي تَمنح الناس تعويضًا زائفًا، والتي يخترعها الناس البدائيون لمقاومة الخوف من الطبيعة، أو من الناس الآخرين، وحتى في العصور المتطورة يتطوَّر مفهوم الدين لمعالجة حاجات ضرورية، لكنه ليس أكثر من ميثولوجيا مُلفقة وهميَّة، تستجيب لتحديات معينة.


[1] لوبون؛ فلسفة التاريخ؛ ترجمة عادل زعيتر.
[2] المرجع السابق.
[3] جيفر باراكلو؛ الاتجاهات العامة في الأبحاث التاريخية؛ ترجمة د/ صالح أحمد العلي.
[4] ماكس هوركهايمر؛ بدايات فلسفة التاريخ البرجوازية؛ ترجمة: محمد علي اليوسفي.
[5] هوركهايمر؛ المرجع السابق.
[6] المرجع السابق نفسه.
[7] هوركهايمر؛ بدايات فلسفة التاريخ؛ ترجمة: محمد علي اليوسفي.
[8] المرجع السابق.
[9] هوركهايمر؛ بدايات فلسفة التاريخ؛ ترجمة: محمد علي اليوسفي.
[10] المرجع السابق.
[11] المرجع السابق.
[12] هوركهايمر؛ بدايات فلسفة التاريخ؛ ترجمة: محمد علي اليوسفي.
[13] المرجع السابق.
[14] المرجع السابق.
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 11:00 PM.