مواضع القدوة في حياة ابن قدامة 541هـ - 620هـ
أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
في زخم الحياة رجال يتحسر المسلم على فقدهم وعدم الالتقاء بهم ومشاهدة سمتهم وهديهم، ومعرفة أخلاقهم وعباداتهم، والناس كثيرون لا يصلح جلهم للاقتداء بهم، والتشبه بطباعهم وشمائلهم، وقد ثبت في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وإنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)) (1). وقد عبثت الحضارة المادية اليوم بأخلاق الورَى وعصفت بقلوبهم -إلا من رحم الله- فلا تكاد تجد أخاً وفياً، ولا صاحباً حيياً، فإلى الله المشتكى، والأمر كما قال الشاعر: الناس ألف منهم كواحدٍ *** وواحد كالألف إن أمر عنا (2). ومن الأعلام العاملين ممن يقتدى بهم الشيخ المربي الإمام: "عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجّماعيلي" العالم الفقيه صاحب التصانيف المباركة. يُعدُّ من مفاخر الأمة، وأحد رجالاتها في العلم والدعوة والسمت الصالح. أصله من " جمّاعيل " إحدى قرى نابلس، اشتهر بنسبته إلى جده الثاني" قدامة " ولا يكاد يعرف إلا بهذه النسبة فصارت علماً ملازماً له. (3) وعند النظر في سيرة هذا الإمام يتبين للمتأمل أن الرجل كان محل عناية الله وحفظه، فقد هيّأه الله منذ نعومة أظفاره ليكون قدوة في العلم والعمل والهدي الصالح، من غير اعتقاد العصمة فيه. وقبل سرد مواضع القدوة في حياة ابن قدامة أشير إلى خطورة شأن القدوة، وأنه لا يصح أن يوضع في مقام القدوة إلا أهل الهدى والصلاح، والأخيار من الأعلام الصادقين، فليحذر من تصدَّر للتدريس وتوعية الأمة من توريط الناشئة في الاقتداء ببعض الفئات المحسوبة على أهل العلم والعبادة. وقد بكى حكيم بن حزام –رضي الله عنه- يوماً لينبِّه على هذا المعنى النفيس، فقال له ابنه: ما يبكيك؟ قال: " خصال كلها أبكاني، أما أولها: فبطء إسلامي حتى سبقت في مواطن كلها صالحة، وذلك أني أنظر إلى بقايا من قريش لهم أسنان متمسكين بما هم عليه من أمر الجاهلية، فاقتدي بهم، ويا ليت أني لم اقتدي بهم، فما أهلكنا إلا الاقتداء بآبائنا وكبرائنا، فلما غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة، جعلت أفكر، فجئته فأسلمت - يعني أسلمت متأخراً" (4) ومواضع القدوة في حياة ابن قدامة تتجلى في خمسة أمور: الأول: إحفظ الله يحفظك (5). نشأ ابن قدامة في أسرة كريمة اشتهرت بالفضل والصلاح والعلم والعمل، فوالده كان عالماً، إماماً في قريته " جماعيل " وكانت له هيبته، وعمه كان رجلاً صالحاً معروفاً بعلمه وأدبه وعبادته وزهده. وهذه الأسرة الكريمة " المقادسة " أسرة صالحة يعود نسبها إلى عمر بن الخطاب القرشي –رضي الله عنه-(6)، وهي موجودة إلى اليوم في فلسطين. ومعلوم أن النسب العريق إذا زِيْدَ عليه العلم والتقوى فإنه يرقى بصاحبه إلى درجات الشرف والسؤدد، وقد حفظ الله أسرة ابن قدامة من بأس الفرنج الذين استولوا على الأرض المقدسة، فقد هاجر والد الإمام بأسرته فاراً بدينه وعرضه واستقر في جبل قاسيون (7)، وقد أحاط الله بحفظه وعنايته هذه الأسرة لحكمة بالغة أرادها الله. الثاني: العلم من المهد إلى اللحد. (8) كرَّس ابن قدامة عمره في فهم العلم وحفظه وتعليم الناس والإفادة، والاعتكاف على تدوين المصنفات النافعة، فقد حفظ القرآن الكريم في طفولته، وحفظ مختصر الخِرَقي في الفقه. ثم اتجه إلى تحصيل العلم عن طريق الرحلات العلمية، فزار بغدادَ وأخذ عن الشيخ عبد القادر الجيلي والشيخ نصر النهرواني، ثم رجع إلى دمشق وأخذ عن بعض علمائها. ورحل إلى مكة المكرمة سنة (574هـ) وقرأ على الشيخ " المبارك بن علي الطباخ " بعد أن فرغ من أداء مناسك الحج (9). لقد جدّ ابن قدامة واجتهد في تحصيل العلم وثنى الركب عند العلماء والأئمة، ومن حرصه على سماع العلم وتحصيل الأسانيد قراءته على العالمة المسندة " شهدة بنت أحمد الدينوري" مسندة العراق الملقبة بفخر النساء. ومن أقوال ابن قدامة عنها: "انتهى إليها إسناد بغداد وعمرت حتى ألحقت الصغار بالكبار، وكانت تكتب خطاً جيداً، لكنه تغيَّر لكبرها" (10). وقد تصدَّر ابن قدامة للتدريس، فقد كانت له حلقة يدرس فيها، وكان يجلس للمناظرة ويجتمع إليه الفقهاء، وكان يدرس إلى ارتفاع النهار، ومن بعد الظهر إلى المغرب في جملة من العلوم (11). الثالث: السمت الصالح جزء من النبوة (12). كان ابن قدامة صاحب خلق مهذَّب، وهدي وسمت صالح، وأدب رفيع، وهذه من بركات العلم النافع، ولا تكون إلا بتربية العلماء الربانيين الصادقين، فليس العلم بكثرة الرواية ولكنه نور يقذفه الله في قلب العبد. فقد تلقى عن شيوخه العلم والأدب والخلق. فمن شيوخه " نصر النهرواني " المعروف بالورع والعبادة وحسن السمت على منهاج السلف. قال ابن قدامة واصفاً شيخه: " شيخنا أبو الفتح كان رجلاً صالحاً، حسن النية والتعليم، وكانت له بركة في التعليم، قل من قرأ عليه إلا انتفع، وكان يقنع بالقليل، وربما يكتفي ببعض قرصه، ولم يتزوج، وقرأت عليه القرآن، وكان يحبنا ويجبر قلوبنا، ويظهر منه البشر إذا سمع كلامنا في المسائل" (13)، وقال واصفاً شيخه " أحمد بن صالح الجيلي ": " كان مليح الخط، متقناً، ورعاً، ديناً، على سمت السلف، وكان ذا حِلم وسؤدد" (14). وقد اتصف ابن قدامة وتَحلَّى بأخلاق شيوخه تأثراً بالعلم والعلماء. قال عنه تلميذه ابن النَّجار: " كان الشيخ موفق الدين غزير الفضل، كامل العقل، شديد التثبُّت، دائم السكوت، حسن السمت، نزهاً ورعاً عابداً على قانون السلف، على وجهه النور، وعليه الوقار والهيبة، ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه" (15)، وقال عنه سبط ابن الجوزي: " كان كثير الحياء هيناً ليناً متواضعاً محباً للمساكين، حسن الأخلاق، جواداً سخياً، من رآه فكأنما رأى بعض الصحابة، كأن النور يخرج من وجهه، كثير العبادة، يقرأ كل يوم وليلة سبعاً من القرآن، ولا يصلي ركعتي السنة في الغالب إلا في بيته، اتباعاً للسنة" (16). الرابع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ذكر ابن قدامة في كتابه الشهير" المغني" وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حيث قال في باب إجابة الدعوة: " إذا دُعي إلى وليمة فيها معصية، كالخمر والزمر والعود ونحوه، وأمكنه الإنكار وإزالة المنكر، لزمه الحضور والإنكار؛ لأنه يؤدي فرضين، إجابة أخيه المسلم، وإزالة المنكر، وإن لم يقدر على الإنكار لم يحضر، وإن لم يعلم بالمنكر حتى حضر، أزاله، فإن لم يقدر انصرف" (17)، وقد كان هذا الإمام يحتسب على الناس في المساجد والأسواق والمجالس. ولم يقتصر ابن قدامة على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان فحسب، بل زاد على ذلك تدوين المصنفات الشرعية النافعة في كثير من فنون العلم وموضوعاته. مؤلفاته: فمن أشهر مؤلفاته: " المغني" وهو شرح مختصر الخِرقي، ويعد من أفضل كتب الفقه الإسلامي تحقيقاً ومعرفة للدليل والتعليل، وقد اعتنى فيه بالفقه المقارن مع الترجيح والاستنباط. ومن مصنفاته: " التبيين في أنساب القرشيين" و "رسالة في تخليد أهل البدع في النار" و "مشيخة ابن قدامة " وفيها أسماء شيوخه، وغيرها من المصنفات النافعة. ومما يذكر فيشكر لابن قدامة - رحمه الله تعالى - نزوله إلى ميدان القتال وجهاده للنصارى في الحروب الصليبية تحت إمرة صلاح الدين الأيوبي، فقد ذكر المؤرخون أن ابن قدامة كانت له خيمة ينتقل بها مع المجاهدين، وكانت له خطب في حض المسلمين على الشهادة في تلك المعارك. (18) الخامس: إياكم ومحدثات الأمور: (19) المطالع لسيرة ابن قدامة ومصنفاته يجد حرص هذا الإمام على التمسك بالسنة ومحاربة البدعة. قال - رحمه الله تعالى -: " فإنني إذا كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حزبه، متبعاً لسنته، ما أبالي من خالفني، ولا من خالف فيّ، ولا أستوحش لفراق من فارقني، وإنني لمعتقد أن الخلق كلهم لو خالفوا السنة وتركوها، وعادوني من أجلها، لما ازددت لها إلا لزوماً، ولا بها إلا اغتباطاً إن وفقني الله لذلك، فإن الأمور كلها بيديه، وقلوب العباد بين أَصْبُعيه" (20). وقال أيضاً: " فمن أحب النجاة غداً، والمصاحبة لأئمة الهدى والسلامة من طريق الردى، فعليه بكتاب الله، فليعمل بما فيه، وليتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، فلينظر ما كانوا عليه فلا يعدوه بقول ولا فعل"(21). ومن الأدلة القوية على تمسك ابن قدامة بالسنة قوله المشهور في شيخه ابن الجوزي - عفا الله عنه - حينما خاض في تأويل الأسماء والصفات، حيث قال: " ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ، وصنف في فنون العلم تصانيف حسنة، وكان صاحب فنون...إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنة، ولا طريقته فيها " (22). إن حياة ابن قدامة - رحمه الله تعالى - تعد مدرسة للشباب المسلم اليوم؛ لأن فيها علماً وعملاً وجهاداً ومثابرة مع سمت وهدي صالح ودماثة أخلاق، وحب للمسلمين وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وهذه الدروس يندر أن يجدها المسلم المطالع في حياة الناس اليوم. إنَّ أطفالنا وشبابنا هُزِمُوا في باب القدوة، عندما انساقوا إلى مطالعة أحوال الفارغين البطالين في بعض وسائل الإعلام، حتى أصبح بعضهم ضعيف الوعي لأحوال أمته ومجتمعه فضلاً عن الاعتزاز بتاريخه ومجده. وهذا نداء أهتف به في ضمير كل مسلم عاقل أن يدرك أبناءه قبل أن ينجرفوا إلى هوة سحيقة لا يعلم مداها إلا الله، فقد اتسع الخرق على الراقع عند كثير من الشباب ولا حول ولا قوة إلا بالله. إنَّ هزيمة الجيل المسلم اليوم ما كانت لتقع - بعد أمر الله وتقديره - لو حافظنا على فلذات أكبادنا من سموم وسائل الاتصال وآلاته التي لا يكاد يخلو منها بيت من بيوت الدنيا اليوم. وأصبحت القنوات المشبوهة فكرياً، المنحرفة أخلاقياً، تبث سمومها للجيل، وتغريه، وتؤثر في مسلكه، وبتبرز المشاهير من أهل الكفر كمثال يحتذى به، حتى أصبح التقليد السيئ سمة للشباب والشابات إلا من - رحمه الله -، وصدق - صلى الله عليه وسلم - حينما قال: ((لتتَّبِعُنَّ سَنَن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جُحْر ضَبٍّ لسلكتمُوه... ))(23). لم يبق للجيل المسلم اليوم في هذا العصر الذي تموج فيه الفتن موجاً إلا أن يحصِّن ذاته وروحه بأدوية الوحيين (الكتاب والسنة) والاقتداء بالسلف الصالح والعلماء الربانيين الناصحين. يا أولياء أمور الشباب، علموا أبناءكم محبة العلماء، واغرسوا في قلوبهم وجوب الاقتداء والتأسي بسلف الأمة. بادروا الناشئة بالدعوة إلى مكارم الأخلاق، والمحافظة على السنن، والتأدب مع أهل الخير والفضل. نسأل الله أن يوفق شباب المسلمين إلى الاقتداء بعلماء الأمة، وأن يكونوا خير خلف لخير سلف. ــــــــــــــــــــ الهوامش والمراجع: 1- أخرجه البخاري (6133) مسلم (6451) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. 2- القائل: محمد بن الحسن ابن دريد الأزدي، إمام في اللغة والأدب، توفي سنة (321هـ). 3- سير أعلام النبلاء (8 :627). 4- صفة الصفوة لابن الجوزي (ص:162). 5- قطعة من حديث مشهورا أخرجه الترمذي (2566) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - وإسناده صحيح. 6- معجم الشيوخ لابن فهد الهاشمي (ص:51). 7- ذيل طبقات الحنابلة (2 :52). 8- أثر نسبه ابن الجوزي في "صيد الخاطر "ص/234 إلى الإمام أحمد بن حنبل. ولا يصح مرفوعاً. 9- مرآة الزمان (8: 627). 10- سير أعلام النبلاء (20/543). 11- سير أعلام النبلاء (22/17)0. 12- جزء من حديث رواه الترمذي - كتاب البر والآداب والصلة - باب ما جاء في التأني والعجلة رقم (2010)، ورواه أبو بكر الشيباني في الآحاد والمثاني (2/336) رقم (110)، وعلاء الدين على المتقي في كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال رقم (6376)، والحديث حسنه الألباني انظر حديث رقم: (3692) في صحيح الجامع السيوطي / الألباني، وقال أيضاً في صحيح الترغيب والترهيب رقم (1696) (حسن صحيح). وللحديث روايات بألفاظ متقاربة منها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة)). 13- ذيل طبقات الحنابلة (1/361). 14- الكامل لابن الأثير (9/108). 15- ذيل طبقات الحنابلة (2/135). 16- مرآة الزمان (8/628). 17- المغني (10/198). 18- مرآة الزمان (8/548). 19- أخرجه أبو داود في سننه، واللفظ له (4/201) برقم (4607)، وابن ماجه (1/15) برقم (42)، والترمذي (5/44) برقم (2676) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والحديث صححه الألباني. 20- طبقات الحنابلة (2/154). 21- ذم ما عليه مدعو التصوف لابن قدامة (ص/ 18). 22- سير أعلام النبلاء(21/168). 23- البخاري (3381) مسلم (6732)