#1
|
||||
|
||||
قاطرة التعليم تمضي بلا هدف.. نمط التعلم الاكتشافي الإبداعي
قاطرة التعليم تمضي بلا هدف.. نمط التعلم الاكتشافي الإبداعي
إبراهيم جمعة "التعلم الوحيد الذي يثبت فعلا في الذهن، هو الذي يكتشفه الإنسان بنفسه"[1]. إن نمط التعلم الاكتشافي الإبداعي هو نمط التعلم السائد في العالم المتطور اليوم، والذي يمثل فيه الطالب المحور الرئيس والشريك الأساس في العملية التعليمية، تحت إشراف معلمين على مستوى عال من التدريب. البداية عندهم تأتي بتعظيم دور المعلم وحسن إعداده وتدريبه؛ لأن هذا الرجل هو أهم الرجال عندهم، إذ هو المستأمن على تشكيل عقول ووجدان الأبناء الذين هم الكنوز الحقيقية لديهم، فالموارد البشرية هي أعظم ثروة يمكن أن تملكها أي أمة. يقول أحد كتاب صحيفة الواشنطن بوست: "قد تكون جراحاً تؤدي عملك في غرفة العمليات، وقد تكون محامياً تترافع في قضية معقدة، وقد تكون ضابطاً رفيعاً تعمل في البنتاجون. أياً كان عملك فلن يرقى إطلاقاً في أهميته إلى أهمية عمل المعلم"[2]. بالله عليكم، لو كتب أحد الكتاب العرب هذه الفقرة في صحفنا، لأمسكنا أفواهنا من الضحك، واعتبرناه يمزح، أو يكتب ذلك على سبيل السخرية؛ لأن الحقيقة المؤسفة .. أن مكانة المعلم عندنا، على العكس تماما من مكانته عند هؤلاء القوم، وربما يكون لنا بعض العذر، فالمعلم عندنا ليس كالمعلم عندهم، المعلم عندهم كان غالبا من أوائل الطلبة أثناء مشواره التعليمي، أما عندنا لو فكر أحد أوائل الطلبة أن يصبح معلما لا تهمناه بالجنون. المعلم عندهم مؤهل تأهيلا حقيقيا، ومدرب تدريبا فائقا. أما عندنا، فإنه يعاني من ضعف التدريب إن لم يكن انعدامه. المعلم عندهم يتقاضى أعلى الرواتب، أما المعلم عندنا، فيكفيه شرف المهنة!. من منا يتمنى لابنه أن يصبح في المستقبل -لا قدر الله، لا قدر الله- معلما؟! من هنا يمكننا أن نمسك بداية الخيط: إنه المعلم الضعيف المستضعف، غير المؤهل وغير المدرب!. هذا عن المعلم، فماذا عن نمط التعلم الذي يسيطر على سياساتنا التعليمية؟! تحدثنا في الحلقة السابقة عن نمط التعلم الاستقبالي التلقيني، وبينا خطورته على تكوين شخصية طلابنا، والآن دعونا نعقد مقارنة سريعة بين نمطي التعلم الإبداعي "عندهم" والتلقيني "عندنا" لتتضح الصورة أكثر، ولكن. قبل أن أدخل في تلك المقارنة لا بد أن أؤكد على أن انتقادي لطريقة التلقين هنا، إنما يخص العلوم التطبيقية وحدها. في التعلم الإبداعي يتم تقسيم الطلاب إلى فرق بحثية، تحت إشراف معلمين خبراء بمناهج البحث وعلوم التربية، ويحددون موضوع البحث، ويتسلحون ببعض المهارات التي تجعلهم ينطلقون في بحثهم بأسلوب علمي، ليكتسب الطلاب روح الفريق، ويتدربون على الحوار العلمي ويتقبلون النقد واختلاف وجهات النظر؛ فتتفتح آفاقهم وتنجلي بصائرهم، بينما التعلم التلقيني فلا حاجة لفرق بحثية ولا لتحديد موضوع البحث، فكل شيء قد حدد سلفا، لا عليك أيها الطالب إلا أن تحفظ ما في الكتاب وأنت ساكت، والكتاب مليء باللوغاريتمات التي لا يستطيع فك رموزها إلا المعلمون؛ لذا فالطلاب لدينا مرتبطون بالمعلمين ارتباط الظل، لا ينفطمون عن حب الرضاع إلى أن يدخلوا الجامعة، بل وتظل تلك الحالة غالبا أثناء الدراسة الجامعية، التي من المفترض أن يكون الطالب فيها قد بلغ أشده، ووصل إلى درجة معقولة من درجات البحث، وهو مالا يحصل في معظم جامعاتنا العربية. فالطالب في نظام التعلم الإبداعي هو طالب راشد، مفكر، ناقد، واعٍ، قادر على طرح بدائل عديدة لحل أي مشكلة، ومن ثم قادر على اتخاذ القرار المناسب، بينما الطالب في نظام التعلم التلقيني طالب قاصر، عاجز، يحتاج من يبحث له، ويشرح له، ويفكر له، كالأعمى الذي يحتاج دائما من يمسك بيده، ليوصله إلى نهاية الطريق، وهذا هو الفارق الجوهري بين الطالبين في كلا النظامين!. في النمط التلقيني للتعلم تختفي الفروق الفردية وتموت المواهب؛ لأن المطلوب من جميع الطلاب دراسة نفس المقرر، وحفظ المعلومات ذاتها، ومعيار التفوق هو لأكثر الطلاب قدرة على ترديد الكلمات واسترجاعها في ورقة الإجابة. بينما في نمط التعلم الإبداعي تظهر الفروق الفردية وتنطلق المواهب بقوة؛ لأنه نمط يعتمد على قياس مهارات التعلم الذاتي، والتفكير الناقد والقدرة على التواصل والحوار وطرح البدائل وحل المشكلات. لا فرق بين المراحل التعليمية في النمط التلقيني، سواء كان الطالب في المرحلة الابتدائية أو المتوسطة أو الثانوية، فكل المراحل في هذا النمط يشبه بعضها بعضا؛ لأنه نمط يعتمد بالدرجة الكبرى على التلقين لا التفكير. أما في النمط الإبداعي فلا، فلكل مرحلة سماتها التي تختلف عن الأخرى يتدرج الطالب بين الحفظ والتلقين في بواكير مسيرته التعليمية، ثم ينتقل إلى تنمية الحدود الدنيا من التفكير، ثم إلى مهارات التفكير المتوسطة، وصولا إلى مهارات التفكير العليا وحل المشكلات. إذن، فالنمط التلقيني يهتم فقط بزرع عدد من المعلومات الجاهزة في عقول الطلاب، كمعلومات في الكيمياء، ومعلومات في الفيزياء، ومعلومات في الرياضيات، ثم يقيس قدرة الطالب على حفظها، بينما النمط الإبداعي يهتم بزرع روح البحث والتقصي والمناقشة والتفكير، ثم يقيس قدرة الطالب على ممارسة عدد من المهارات أثناء ذلك، كمهارة البحث ومهارة النقد ومهارة الحوار. وشتان شتان بين نمط يعطيك عددا محدودا من المعلومات، ونمط يدربك على استخدام الآلة التي تحصد بها عددا لا نهائيا من المعلومات، وهذا هو بيت القصيد!. وأخيرا: فإنني أستطيع أن أقول بكل أسى، إن استمرار النمط التلقيني في تعليمنا العربي، هو المسؤول الأول عن بقائنا في مصاف الدول المتأخرة، وإبعادنا تماما عن منافسة العالم المتقدم؛ لنقعد كالمصاب بالشلل، نتفرج على العالم وهو يتحرك وينطلق ويبدع ويفكر ويخترع وينتج، ونحن ننبهر ونصفق ونتنافس فيما بيننا في الشراء والاستهلاك!. ولكن، لن نفقد الأمل.. في الحلقة القادمة نواصل الموضوع لنتحدث عن استراتيجية التعلم التعاوني، كأحد أهم الاستراتيجيات التي يرتكز عليها نمط التعلم الإبداعي، فإلى اللقاء. _______________________ [1] مقولة شهيرة لكارل رودجرس أحد خبراء التعليم في الغرب. [2] من مقال "سر ضعف التعليم" د. عبدالعزيز العمر. |
العلامات المرجعية |
|
|