#1
|
||||
|
||||
قراءة في وصية أبي الوليد الباجي
قراءة في وصية أبي الوليد الباجي (1)
د. فارس العزاوي مقدمة: لقد كان مِن مَناهج أهل العلم والعِرْفان وَضْعُهم مؤلَّفاتٍ ومصنَّفات، فيها خلاصة أفكارهم، وجُلُّ آرائهم، وحصيلة عِلمهم، ينكَبُّ عليها طُلابُهم قراءة وحفظًا وفَهمًا، ونشرًا وتبليغًا، وتِلْكم منهجيَّة سار عليها السَّابق واللاحق، ولا يَستغني عنها المُخالِف والموافق، وحريٌّ بنا نحن أهلَ الإسلام في واقعنا المعاصِر أن نكون سائرين في رِكابِهم آخِذين بِمَناراتهم، حريصين على اقتفاء آثارهم، ففيها الغُنْية والكفاية، لِمَن رام السَّيْر في طريق الهداية، وتحصيل الرِّواية والدراية، فحَسْبهم أنَّهم كانوا فرسان العلم والعمل والفِكْر والنَّظَر، وقد أهْدَوا إلينا نتاج عقولهم من خلال غَوْصهم في نصوص الشَّرع، وتبَحُّرِهم في مقاصده ووسائله، فكانت ثِمارهم ثروةً فكريَّة، قلَّ نظيرها - إن لم نَقُل بانعدامها - في الأمم. وكان مِمَّا أُثِر عنهم: وضْعُهم لبعض الوصايا ذات الطابع الخاصِّ الذي أخَذَ صورة نصائح بذَلوها لأولادهم، كان لها عظيمُ الأثر فيمن بَعْدهم، ويبدو - في نظَري - أنَّ هذه الوصايا كانت عادةً ومنهجًا قصدوا منه نَقْل ميراثهم العِلميِّ لأبنائهم، وليس غريبًا بعد هذا التَّقرير أن نَقْرأ ونسمع عن مثل هذه الوصايا، ما داموا قد اتَّخَذوها مسلكًا ومنهجًا لِنَشر العلم والدعوة إليه. ومن المفيد ذِكْرُه في هذا السياق: أنَّ العلماء قرَّروا لنا ثلاثةَ طرق من خلالها يُمْكن تثبيتُ العلم والمُحافَظة عليه، وهي: أوَّلاً: العمل به. ثانيًا: تعليمه. ثالثًا: التَّصنيف والتأليف فيه. ومِن تِلْكم الوصايا ما سَطره الإمام أبو الوليد الباجيُّ، حيث كتبَ وصية لولدَيْه يحثُّهما فيها على التخلُّق بالعلم وآدابه، والتحلِّي بالفضائل والشَّمائل الإسلاميَّة الرَّصينة؛ حِرصًا منه على تثبيت ميراث العلم والأدَب الذي تحلَّت به تلكم الأسرةُ الكريمة ذات المنبع الصافي النَّقي، ويَظْهر لنا أنَّنا - أهلَ المشرق الإسلاميِّ - قد تلبَّسْنا بالجهل بأعلام أهل المغرب وأفذاذهم وجهابذتهم إلاَّ قليلاً مِنهم، وهو وَصْف يدلُّ على عِظَم التَّقصير والتَّفْريط بنتاج أهل المَغْرب الأدنى والأقصى، وإن كنَّا على معرفةٍ سطحيَّة بأبي محمَّد بن حَزْم الأندلسيِّ والقرطبي، وأبي بكر ابن العرَبِي، وغيرهما، إلاَّ أننا في حاجةٍ إلى الغوص في مؤلَّفات تلكم الأجيال المغاربيَّة، التي نافحَتْ عن الإسلام وأهله، فكانت مؤلَّفاتُهم وآثارهم شاهدةً عليهم. أبو الوليد الباجيُّ بقلم الذهبي: قال الذَّهبِيُّ مترجِمًا لأبي الوليد الباجي: "الإمام العلاَّمة، الحافظ، ذو الفُنون، القاضي، أبو الوليد، سليمان بن خلف بن سَعْد بن أيُّوب بن وارث التجيبِي، الأندلسي، القرطبي، الباجي، الذَّهبي، صاحب التَّصانيف، أصلُه من مدينة بطليوس، فتحوَّل جَدُّه إلى باجة - بُلَيدة بقرب إشبيليَّة - فنُسِب إليها. وُلِد أبو الوليد في سنة ثلاثٍ وأربعمائة، وصنَّف كتاب "المنتقى في الفقه"، وكتاب "المعاني في شرح الموطَّأ"، فجاء في عشرين مجلَّدًا عديم النَّظير. وقد صنَّف كتابًا كبيرًا جامعًا، بلَغَ فيه الغاية، سَمَّاه "الاستيفاء"، وله كتاب "الإيماء في الفقه" خمسة مجلدات، وكتاب "السِّراج في الخلاف" لَم يتم، و"مُختصَر المختصر" في مسائل المدوَّنة، وله كتابٌ في اختلاف الموطَّآت، وكتاب في الجرح والتعديل، وكتاب "التسديد إلى معرفة التوحيد"، وكتاب "الإشارة في أصول الفقه"، وكتاب "إحكام الفصول في أحكام الأُصول"، وكتاب الحدود، وكتاب "شرح المنهاج"، وكتاب "سنن الصَّالحين وسنن العابدين"، وكتاب "سبل المهتدين"، وكتاب "فرق الفقهاء"، وكتاب التفسير ولَم يتمه، وكتاب "سنن المنهاج وترتيب الحجاج". مات أبو الوليد بالمرية في تاسع عشر رجب، سنة أربع وسبعين وأربعمائة، فعمرُه إحدى وسبعون سنة سوى أشهُر"[1]. نِسْبة الوصية لأبي الوليد: الوصيَّة الولدية ثبتَتْ نِسبتُها لأبي الوليد الباجي، فقَدْ ذكَرَها ابن فرحون المالكيُّ في كتابه "الدِّيباج المذهَّب" ضمن مصنَّفات أبي الوليد عند ترجمته، وسَمَّاها: "كتاب النَّصيحة لِولَدَيْه"، ونَصُّها يقطع بنِسْبتها إلى الباجي - رحمه الله - وهي وصيَّة عِلميَّة منهجيَّة تربوية، جامعة مانعةٌ شاملة، حرِيٌّ بِمَن أخذَ بِها أن يُقلَّد منصب العالميَّة حقًّا وصِدقًا، ويتَّصِف بِمُقتضياتها خلقًا وملَكة وكسبًا[2]. أركان الوصية: اقتضَتْ مناهِجُ العلماء السَّيْرَ وفق منهجيَّة خاصَّةٍ في الغالب، الغرَضُ منها تسهيلُ العلم، وتيسير توصيله لِطُلاَّبه، قِوَامها ذِكْرُ مقاصدهم العلميَّة مْجُملَة، ثم بيانها تفصيلاً، وهذه منهجيَّة قرآنيةٌ ظاهرة، ألاَ ترى أنَّ القرآن قد ابتدأَ بالفاتحة قبل غيرها من السُّوَر التفصيليَّة، وهي جامعةٌ كما هو معلومٌ لِمَقاصد القرآن الكليَّة، وهذا الذي يَجْعل الباحث يُرجِّح كونَ ترتيب القرآن في سُوَرِه تَوْقيفيًّا وليس توفيقيًّا، وهذه المنهجيَّة سوف نَعْرِضها في هذا المقام تحقيقًا للمقصد المَذْكور آنفًا، وتَبنِّيًا لطريق العلم وأهله. والوصيَّة بهذا الاعتبار قد جمعَتْ جملةَ أركان، إليك بيانَها: • التذكير بوراثة بني خلَف في صلاح التديُّن والتَّقوى، والورَع والاستقامة. • جَعْلُه الوصيَّة قسمين: قسم يتعلَّق بأمور الشريعة، وقسم يتعلَّق بأمور الدُّنيا. • التمسُّك بأركان الإيمان وسلامة المعتقَد. • المُحافَظة على أركان الإسلام. • الحثُّ على طلب العلم. • في ترتيب العلوم. • الاشتِغال بوظيفة الأمر بالمَعْروف، والنَّهي عن المنكر. • التِزام الأخلاق والفضائل الإسلاميَّة. • التقلُّل من الدُّنيا وزخارِفِها، والتقنُّع بِقَليلها. [1] "سير أعلام النبلاء"، الذهبي، ج18ص535. [2] "مفهوم العالمية من الكتاب إلى الربانية"، فريد الأنصاري، ص27. |
العلامات المرجعية |
|
|