هو الصحابي الجليل عمرو بن العاص بن وائل، القرشي السهمي، يكنى أبا عبد الله وأبا محمد. كان في الجاهلية جزارًا، وكان يحترف التجارة أيضًا، فقد كان يسافر بتجارته إلى الشام واليمن ومصر والحبشة. كما كان من فرسان قريش وأبطالهم المعدودين، مذكورًا بذلك فيهم، وكان أيضًا شاعرًا حسن الشعر، حفظ عنه الكثير في مشاهد شتى. كما كان معدودًا أيضًا من دهاة العرب وشجعانهم وذوي آرائهم، ولذلك أرسلته قريش إلى النجاشي ملك الحبشة ليرد عليهم من هاجر من المسلمين إلى بلاده.
وبعد أن رجع من الحبشة، وفي سنة ثمانٍ من الهجرة، وقبل الفتح بنحو ستة أشهر قدم هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة المدينة مسلمين، فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر إليهم قال: "قد رمتكم مكة بأفلاذ كبدها". وكان قد همّ بالإقبال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حين انصرافه من الحبشة، ثم لم يعزم له إلى ذلك الوقت.
ولما أسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم يقربه ويدنيه لمعرفته وشجاعته، وقد بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا يقول له: "خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني". قال عمرو: فأتيته وهو يتوضأ فصعّد فيَّ النظر، ثم طأطأه فقال: "إني أريد أن أبعثك على جيش فيُسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة". قال: قلت: يا رسول الله، ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "يا عمرو، نعم المال الصالح للمرء الصالح".
وقد كان من أهم ملامح شخصيته رضى الله عنه ما يلي:
1- يفزع إلى الله ورسوله:
فقد أخرج ابن حبان في صحيحه عنه رضى الله عنه أنه قال: فزع الناس بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم فتفرقوا، فرأيت سالمًا مولى أبي حذيفة احتبى بسيفه وجلس في المسجد، فلما رأيت ذلك فعلت مثل الذي فعل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني وسالمًا، وأتى الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أيها الناس، ألا كان مفزعكم إلى الله ورسوله! ألا فعلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان؟".
2- شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان:
وفي ذلك أخرج الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ابنا العاص مؤمنان، هشام وعمرو".
3- أميرٌ عليم بالحرب:
فقد ذكر ابن حجر في الإصابة من طريق الليث قال: نظر عمر إلى عمرو يمشي، فقال: ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرًا.
وأخرج الحاكم أيضًا في المستدرك عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما انتهوا إلى مكان الحرب أمرهم عمرو أن لا ينوروا نارًا، فغضب عمر وهمَّ أن ينال منه، فنهاه أبو بكر رضى الله عنه وأخبره أنه لم يستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم عليك إلا لعلمه بالحرب، فهدأ عنه عمر رضى الله عنه.
كما يحكي هو عن نفسه فيما أخرجه الحاكم أيضًا فيقول: "ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحدًا من أصحابه في حربه منذ أسلمنا".
4- شديد التواضع:
وهو فوق ذلك متواضع شديد التواضع، وقد أخرج ابن المبارك عن جرير بن حازم قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول: مَرَّ عمرو بن العاص فطاف بالبيت فرأى حلقة من قريش جلوسًا، فلما رأوه قالوا: أهشام (أخو عمرو) كان أفضل في أنفسكم أو عمرو بن العاص؟ فلما فرغ من طوفه جاء فقام عليهم فقال: إني قد علمت أنكم قد قلتم شيئًا حين رأيتموني، فما قلتم؟ قالوا: ذكرناك وهشامًا فقلنا: أيهما أفضل؟ فقال: سأخبركم عن ذلك, إنا شهدنا اليرموك فبات وبِتُّ في سبيل الله وأسأله إياها، فلما أصبحنا رُزِقَهَا وحُرِمْتُهَا، ففي ذلك تبين لكم فضله عليَّ.
وقد ولاه رسول الله r غزاة ذات السلاسل، وأمده بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح، ثم استعمله على عُمان فمات وهو أميرها، ثم كان من أمراء الأجناد في الجهاد بالشام في زمن عمر، وهو الذي افتتح قِنَّسْرِين وصالح أهل حلب ومَنْبج وأنطاكية وولاه عمر فلسطين، هذا غير جهاده العظيم في حروب الردة.
جهاده في حرب الردة
مات الرسول صلى الله عليه وسلم وعمرو بعُمان، فأقبل حتى انتهى إلى البحرين فوجد المنذر بن ساوى في الموت، ثم خرج عنه إلى بلاد بني عامر فنزل بقُرَّة بن هبيرة وهو يقدم رِجلاً إلى الردة ويؤخر أخرى ومعه جيش من بني عامر، فأكرم قُرَّة مثواه، فلما أراد عمرو الرحلة خلا به قرة وقال: يا هذا، إن العرب لا تطيب لكم نفسًا بالإتاوة، فإن أعفيتموها من أخذ أموالها فتسمع لكم وتطيع، وإن أبيتم فلا تجتمع عليكم. فقال عمرو: أكفرت يا قرة؟ أتخوفنا بالعرب؟! فوالله لأُوطِئَنَّ عليك الخيل في حفش أمك. (والحفش: بيت ينفرد فيه النفساء).
ومر بمسيلمة الكذاب فأعطاه الأمان، فقال له عمرو: "اعرض لي ما تقول". فذكر مسيلمة بعض كلامه، فقال عمرو: "والله إنك لتعلم إنك من الكاذبين" فتوعده مسيلمة.
ولما وصل عمرو المدينة وعقد أبو بكر أحد عشر لواء لحرب أهل الردة، عقد لعمرو وأرسله إلى قضاعة، وكان قد حاربهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات السلاسل، وكانت قضاعة قد ارتدت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أنفذ إليهم أبو بكر جيشًا بقيادة عمرو، سار عمرو بجيشه في الطريق الذي سلكه من قبل حتى وصل بلاد قضاعة، فأعمل السيف في رقابهم وغلبهم على أمرهم، فعادوا إلى الإسلام، وعاد هو إلى المدينة حاملاً لواء النصر.
جهاده في أرض الشام
رد أبو بكر عَمْرًا إلى عمله الذي كان رسول الله r ولاه إياه في (عُمان)، فلما أراد إرسال الجيوش لفتح أرض الشام كتب أبو بكر لعمرو: "إني كنت قد رددتك على العمل الذي ولاك رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدك به أخرى؛ إنجازًا لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وليته، وقد أحببت أن أفرغك لما هو خير لك في الدنيا والآخرة، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك". فكتب إليه عمرو: "إني سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامي والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارمِ به شيئًا إن جاءك من ناحية من النواحي".
فعقد أبو بكر لعمرو وأمره أن يسلك طريق (أيلة) عامدًا إلى فلسطين، وكان العقد لكل أمير من أمراء الشام في بدء الأمر ثلاثة آلاف رجل، فلم يزل أبو بكر يتبعهم الإمداد حتى صار مع كل أمير سبعة آلاف وخمسمائة، وكان جيش عمرو مؤلفًا من أهل مكة والطائف وهوازن وبني كلاب، وقال أبو بكر لعمرو: "قد وليتك هذا الجيش، فانصرف إلى أرض فلسطين، وكاتب أبا عبيدة وانجده إذا أرادك ولا تقطع أمرًا إلا بمشورته". فأقبل عمرو على عمر بن الخطاب وقال له: "يا أبا حفص، أنت تعلم شدتي على العدو وصبري على الحرب، فلو كلمت الخليفة أن يجعلني أميرًا على أبي عبيدة، وقد رأيت منزلتي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأرجو أن يفتح الله على يدي البلاد ويهلك الأعداء". فقال عمر بن الخطاب: "ما كنت بالذي أكلمه في ذلك؛ فإنه ليس على أبي عبيدة أمير، ولَأَبو عبيدة أفضل منزلة منك وأقدم سابقة منك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: "أبو عبيدة أمين الأمة". فقال عمرو: "ما ينقص من منزلته إذا كنت واليًا عليه؟!" فقال عمر: "ويلك يا عمرو! إنك ما تطلب بقولك هذا إلا الرياسة والشرف، فاتقِ الله ولا تطلب إلا شرف الآخرة، ووجه الله تعالى". فقال عمرو: "إن الأمر كما ذكرت".
وما كادت جيوش المسلمين تصل أرض الشام، حتى بعث هرقل قادته وجيوشه باتجاه قادة وجيوش المسلمين، فكان "تذارق" شقيق هرقل أمام عمرو على رأس جيش عدده تسعون ألفًا، ولكن قادة المسلمين فوتوا على الروم فرصة ضرب جيوش المسلمين على انفراد؛ إذ كاتبوا عَمْرًا: ما الرأي؟ فأجابهم: "إن الرأي لمثلنا الاجتماع، فإن مثلنا إذا اجتمعنا لا نغلب من قلة، وإذا نحن تفرقنا لا تقوم كل فرقة لمن استقبلها لكثرة عدونا". وكتبوا إلى أبي بكر فأجابهم مثل جواب عمرو، وقال: "إن مثلكم لا يؤتى من قلة وإنما يؤتى العشرة آلاف من الذنوب، فاحترسوا منها، واجتمعوا باليرموك".
واجتمع المسلمون باليرموك، واجتمع الروم بها أيضًا، فنزل الروم (الواقوصة)، وهي على ضفة اليرموك خندقًا لهم، وانتقل المسلمون عن معسكرهم فنزلوا على طريق الروم وليس للروم طريق إلا عليهم، قال عمرو: "أيها الناس أبشروا، حصرت - والله - الروم، وقلما جاء محصور بخير".
وفي معركة اليرموك الحاسمة كان عمرو على الميمنة، فكان له أثر كبير على انتصار المسلمين في هذه المعركة، وفي معركة فتح دمشق نزل عمرو بجيشه من ناحية باب (توما)، وبعد فتحها سار المسلمون نحو (فحل) وعليهم شرحبيل ابن حسنة، وكان عمرو وأبو عبيدة بن الجراح على المجنبتين، فانتصر المسلمون على الروم أيضًا. كما شهد مع شرحبيل فتح (بيسان وطبرية)، وصالحا أهل الأردن.
وعلم عمرو أن الروم حشدوا جيوشهم وعلى رأسها قائد فلسطين أرطبون في أجنادين، فسار عمرو ومعه شرحبيل ابن حسنة واستخلف على الأردن أبا الأعور السلمي، وكان الأرطبون أدهى الروم وأبعدها غورًا، وكان قد وضع بالرملة جندًا عظيمًا، و(بإيلياء) جندًا عظيمًا أيضًا، فلما بلغ عمر بن الخطاب الخبر قال: "رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب (يقصد عَمْرًا)، فانظروا عما تنفرج".
وكان معاوية بن أبي سفيان قد شغل أهل قيسارية عن عمرو، كما جعل عمرو علقمة بن حكيم الفارسي ومسروق العكي وجعل أبا أيوب المالكي بالرملة، فشغل هؤلاء القادة القوات الرومانية عن قوات عمرو الأصلية.
وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر على الأرطبون ولا تشفيه الرسل، فسار إليه بنفسه ودخل عليه كأنه رسول، ففطن به الأرطبون، وقال: لا شك أن هذا هو الأمير أو من يأخذ الأمير برأيه. فأمر رجلاً أن يقعد على طريقه لي***ه إذا مرَّ به، وفطن عمرو إلى غدر الأرطبون فقال له: "قد سمعت مني وسمعت منك، وقد وقع قولك مني موقعًا، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالي لنكاتفه ويشهدنا أموره، فأرجع فآتيك بهم الآن، فإن رأوا في الذي عرضت مثل الذي أرى فقد رآه أهل العسكر والأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم، وكنت على رأس أمرك". فقال الأرطبون: نعم، ورد الرجل الذي أمره ب*** عمرو. فخرج عمرو من عند الأرطبون، فعلم الرومي بأن عمرًا خدعه، فقال: "خدعني الرجل! هذا أدهى الخلق". وبلغت خديعته عمر بن الخطاب فقال: "لله دَرُّ عمرو!".
وقد عرف عمرو من استطلاعه الشخصي هذا نقاط الضعف في مواضع الروم، فهاجمهم واقتتلوا قتالاً شديدًا كقتال اليرموك حتى كثرت ال***ى بينهم، ولكن أرطبون انهزم فأوى إلى (إيلياء) ونزل عمرو أجنادين، وانضم علقمة ومسروق وأبو أيوب إلى عمرو بأجنادين.
ولما دخل أرطبون إيلياء فتح عمرو غزة وسَبَسْطِية ونابُلُس واللُّدّ ويُبْنَى وعَمَواس وبيت جِبْرين ويافا ورفح، وقدم عليه أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه وهو محاصر بإيلياء وهي بيت المقدس، فطلب أهل إيلياء من أبي عبيدة الصلح على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام على أن يكون المتولي للعقد لهم عمر بن الخطاب نفسه، فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك، فقدم عمر وأنفذ صلح (إيلياء) وكتب لهم به عهدًا.
وحاصر عمرو قيسارية بعد فتح بيت المقدس، ولكنه خرج إلى مصر فتولى فتحها معاوية بن أبي سفيان. لقد شهد عمرو أكثر معارك فتح أرض الشام، وكان فتح أكثر فلسطين على يديه.
عمرو بن العاص.. شبهات وردود
قلما تجد فاضلاً ليس له حساد ومفترون، وهذا الأمر لم يسلم منه عمرو بن العاص رضى الله عنه؛ فقد اختُلق في حقه قصة باطلة بصفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.
يقول نصر بن مزاحم الكوفي: وحمل أهل العراق وتلقاهم أهل الشام فاجتلدوا، وحمل عمرو بن العاص فاعترضه عليّ وهو يقول:
قد علمت ذاتُ القُرون الميل ... والخِصر والأنامل الطَّفول
إلى أن يقول: ثم طعنه فصرعه، واتقاه عمرو برجله فبدت عورته، فصرف علي وجهه عنه وارتُثَّ، فقال القوم: أفلت الرجل يا أمير المؤمنين. قال: وهل تدرون من هو؟ قالوا: لا. قال: فإنه عمرو بن العاص، تلقاني بعورته فصرفت وجهي.
وذكر القصة أيضًا ابن الكلبي، كما ذكرها السهيلي في الروض الأنف، وقال عن قول علي (إنه اتقاني بعورته فأذكرني الرَّحِمَ): "ويُروى مثل ذلك عن عمرو بن العاص مع علي t يوم صفين، وفي ذلك يقول الحارث بن النضر الشهمي رواه ابن الكلبي وغيره:
أفي كل يوم فارس غير منته ... وعورته وسط العجـاجة بادية
يكف لها عنه عليٌّ سـنانه ... ويضحك منه في الخلاء معاوية
والرد على هذا الافتراء والإفك المبين كالآتي:
فراوي الرواية الأولى نصر بن مزاحم الكوفي صاحب وقعة صفين شيعي جَلْد، لا يستغرب عنه كذبه وافتراؤه على الصحابة، قال عنه الذهبي في الميزان: نصر بن مزاحم الكوفي رافضي جَلْد، متروك، قال عنه العقيلي: شيعي، في حديثه اضطراب وخطأ كثير. وقال أبو خيثمة: كان كذابًا. وقال عنه ابن حجر: قال العجلي: كان رافضيًّا غاليًا، ليس بثقة ولا مأمون. وأما الكلبي هشام بن محمد بن السائب الكلبي، فقد اتفقوا على غلوه في التشيع. قال الإمام أحمد: من يحدث عنه؟! ما ظننت أن أحدًا يحدث عنه. وقال الدارقطني: متروك.
وعن طريق هذين الرافضين سارت هذه القصة في الآفاق، وتلقفها من جاء بعدهم من مؤرخي الشيعة وبعض أهل السنة ممن راجت عليهم أكاذيب الرافضة، وتُعدُّ هذه القصة أُنموذجًا لأكاذيب الشيعة الروافض وافتراءاتهم على صحابة رسول الله، فقد اختلق أعداء الصحابة من مؤرخي الرافضة مثالب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاغوها على هيئة حكايات وأشعار لكي يسهل انتشارها بين المسلمين، هادفين إلى الغَضِّ من جناب الصحابة الأبرار رضوان الله عليهم جميعا في غفلة من أهل السنة الذين وصلوا متأخرين إلى ساحة التحقيق في روايات التاريخ الإسلامي، بعد أن طارت تلكم الأشعار والحكايات بين القصّاص، وأصبح كثير منها من المُسلَّمات، حتى عند مؤرخي أهل السنة للأسف!
ولاية عمرو بن العاص على مصر
وَلَّى معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص على مصر عام 41هـ، وهذا من باب وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فعمرو فاتح مصر وواليها على عهد عمر وعثمان رضوان الله عليهم، وهو أقرب الناس لتولي هذه الولاية المهمة.
وقد تكاثرت الروايات الموضوعة والضعيفة في العلاقة بين عمرو ومعاوية رضي الله عنهما، واشتمل على مغامز خفية ومعلنة على الرجلين، وتشير بعضها إلى أن معاوية قد أعطى ولاية مصر لعمرو بن العاص مكافأة له نظير وقوفه إلى جانبه أثناء الفتنة التي أعقبت استشهاد عثمان بن عفان رضى الله عنه . وفي ذلك يقول الدكتور علي محمد الصلابي: "وهذا الأمر قد بينته في كتابي عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه بأن وقوف عمرو بن العاص مع معاوية في المطالبة بالتعجيل بتطبيق القصاص على ***ة عثمان لم يكن تضامنًا من عمرو مع شخص معاوية، بل كان نابعًا من اجتهاد عمرو الشخصي في هذه المسألة، حيث رأى رضى الله عنه الأخذ بالقوة من ***ة عثمان على الفور، فكان هذا الاجتهاد من عمرو بن العاص متطابقًا مع اجتهاد معاوية بن أبي سفيان في القضية نفسها".
وقد كانت ولاية عمرو بن العاص رضى الله عنه على مصر ذات صلاحيات واسعة بسبب ما كان يتمتع به من مقدرة إدارية فائقة، وقابليات سياسية وعسكرية متميزة، فقد واصل فتوحات الشمال الأفريقي ونظم أمر العطاء والإعمار والبناء والزراعة والري بمصر، وقد بقي في ولاية مصر حتى وفاته عام 43هـ.
إعطاء مصر طُعْمَة لعمرو بن العاص
تتعدد الروايات التي تنص على أن معاوية أعطى مصر طعمة لعمرو بن العاص لقاء تأييد الأخير له في حربه ضد علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم.
وجُلُّ هذه الأخبار تحوي روحًا عدائية لعمرو ومعاوية، وتصور اتفاقهما على حرب عليّ، كما لو كانت مؤامرة دنيئة أو صفقة مريبة، خان فيها الرجلان ربهما، ودينهما، وتاريخهما، مقابل عَرَضٍ زائل أو نصر سريع، وكأنه من المستحيل أن يبذل ابن العاص رضى الله عنه نصرة لقضية اجتمع حولها آلاف الرجال من الشام وغيرها، وهي الطلب بدم عثمان إلا إذا نال ولاية مصر وخراجها لنفسه.
وبعض هذه الروايات تحوي سُبابًا لهذين الصحابيين، كأن تزعم أن عَمرًا فضل ولاية مصر على حُسنَى الآخرة وصرح بذلك؛ فقال: "إنما أردنا هذه الدنيا"، أو أنه قال لمعاوية: "لا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك"، أو قوله: "إنما أُبايعك بها ديني" (أي بمصر)، أو قوله لمعاوية: "ولولا مصر وولاياتها لركبت المنجاة منها؛ فإني أعلم أن علي بن أبي طالب على الحق وأنت على ضده". إلى غير ذلك من الروايات.
وهي روايات باطلة وموضوعة عند المسعودي، وكتاب الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة وغيرها، تمسخ عمرو بن العاص إلى رجل مصالح، وصاحب مطامع وراغب دنيا.
وقد تأثر بالروايات الضعيفة والموضوعة والسقيمة مجموعة من الكتاب والمؤرخين، فأهووا بعمرو إلى الحضيض، كالذي كتبه محمود شيت خطاب، وعبد الخالق سيد أبو رابية، وعباس محمود العقاد الذي يتعالى عن النظر في الإسناد، ويستخف بقارئه، ويظهر له صورة معاوية وعمرو رضي الله عنهما بأنهما انتهازيان، صاحبا مصالح، ولو أجمع النقاد التاريخيون على بطلان الروايات التي استند إليها في تحليله، فهذا لا يعني للعقاد شيئًا.
فقد قال بعد أن ذكر روايات ضعيفة واهية لا تقوم بها حجة: "وليقل الناقدون التاريخيون ما بدا لهم أن يقولوا في صدق هذا الحوار، وصحة هذه الكلمات وما ثبت نقله ولم يثبت منه سنده ولا نصه، فالذي لا ريب فيه، ولو أجمعت التواريخ قاطبة على نقضه أن الاتفاق بين الرجلين، كان اتفاق مساومة ومعاونة على الملك والولاية، وأن المساومة بينهما كانت على النصيب الذي آل إلى كل منهما، ولولاه ما كان بينهما اتفاق".
وهناك عدة دلائل ترد على الروايات الضعيفة، والموضوعة والسقيمة التي لاقت رواجًا واستقرارًا في تشويه عمرو بن العاص ومعاوية بالظلم والبهتان، منها ما عرف من صحة إسلام وتقوى معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، وتاريخهما المضيء في خدمة دين الله منذ أسلما.
ففي معاوية يكفي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: "اللهم اجعله هاديًا مهديًّا، واهدِ به". وقوله صلى الله عليه وسلم : "اللهم علم معاوية الكتاب والحساب، وقهِ العذاب". وأما عمرو بن العاص فقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان حيث قال: "أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص". وفي حديث آخر - كما قدمنا - قال: "ابنا العاص مؤمنان: عمرو وهشام". وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وصدق عمرو، إن لعمرو عند الله خيرًا كثيرًا".
وعلى هذا فإن بيعة عمرو لمعاوية في عهد عليّ كانت على الطلب بدم عثمان رضى الله عنه ، فقد كان تأثُّر عمرو بم*** عثمان عظيمًا، فعندما سمع خبر م*** عثمان ارتحل راجلاً يبكي، ويقول: يا عثماناه، أنعي الحياء والدين. حتى قدم دمشق، فقد كان من أقرب أصحابه وخلانه ومستشاريه، وكان يدخل في الشورى في عهد عثمان من غير ولاية، ومضى إلى معاوية رضى الله عنه ليتعاونا معًا على الاقتصاص من ***ة عثمان، والثأر للخليفة الشهيد، لقد كان م*** عثمان كافيًا لأن يحرك كل غضبه على أولئك المجرمين السفاكين، وكان لا بد من اختيار مكان غير المدينة للثأر من هؤلاء الذين تجرءوا على حرم رسول الله صلى الله عيه وسلم و***وا خليفته على أعين الناس.
وأي غرابة أن يغضب عمرو لعثمان؟! وإن كان هناك من يشك في هذا الموضوع، فمداره على الروايات المكذوبة التي تصور عَمرًا: كل همه السلطة والحكم.
ومن الدلائل على بطلان فرية إعطاء مصر طُعْمة لعمرو بن العاص ما ذكره أبو مخنف - أحد رواة الفرية السابقة - أن دفع معاوية لجيشه إلى فتح مصر وأخذها من يد أنصار علي بن أبي طالب سنة 38هـ، وكان عمرو قائده في هذه الحملة، أنه كان يرجو أن يكون إذا ظهر عليها ظهر على حرب عليّ لعظم خراجها. فكيف يهب معاوية ذلك الخراج كله لعمرو بن العاص وهو في مسيس الحاجة إليه؟!
ومن الدلائل أيضًا: أن معاوية كتب بعد استخلافه إلى عامله على خراج مصر وردان أن زد على كل امرئ من القبط قيراطًا، فرد عليه: كيف وفي عهدهم أن لا يزاد عليهم؟! ولم يلِ وردان خراج مصر لمعاوية إلا في ولاية عمرو بن العاص؛ لأن من ولوا مصر بعد موت عمرو، وهم: عتبة بن أبي سفيان، وعقبة بن عامر، ومسلمة بن مخلد، كانوا يتولون صلاتها وخراجها، وهذه الرواية صريحة قاطعة في الدلالة على اهتمام معاوية بزيادة حصيلة الخراج في مصر، وفي ولاية عمرو بن العاص عليها.
وهذا الاهتمام لا معنى له إلا إذا كان فائض الخراج في مصر يحمل إلى معاوية في دمشق ليواجه به وجوه الإنفاق المتنوعة، كما أن معاوية لم يكن يستحل أن يتنازل عن خراج مصر وهي من أغنى الأقاليم للدولة الإسلامية آنذاك لفرد واحد، وهو يعلم أنه حق الأمة كلها، وأنه لا يملك التنازل عنه. وقد روى ابن تميمة عن عطية بن قيس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول: إن في بيت ملكم فضلاً بعد أعطياتكم، وإني قاسمه بينكم، فإن كان يأتينا فضل عام قابل قسمناه عليكم، وإلا فلا عتبة عليّ؛ فإنه ليس بمالي وإنما هو مال الله الذي أفاءَه عليكم.
وإذا أضفنا إلى ذلك ما نعرفه من تنافس الأمصار الإسلامية مع بعضها، ووجود معارضة للأمويين في مصر كانت حديثة العهد منذ تبعية مصر لعلي بن أبي طالب رضى الله عنه حتى دخلها عمرو بن العاص سنة 38هـ، لازددنا يقينًا أن أهلها لم يكونوا يقبلون ما يزعمه الرواة حول إعطائها طعمة لعمرو بن العاص رضى الله عنه.
وعلى ذات السبيل نذكر أن من رجال مصر من بذل في سبيل نصرة معاوية مثلما بذل عمرو بن العاص، إن لم يَفُقْهُ، كمعاوية بن حَدِيج وأصحابه من العثمانية، وهؤلاء لا يقبلون بحال أن يمتاز عمرو عليهم كل هذا الامتياز، ونذكر أن معاوية بن حديج هذا قد أرجع ابن أخت معاوية عبد الرحمن بن أم الحكم الذي ولاه معاوية مصر، من قبل أن يدخلها، ورفض أن يتولى إمارتهم، ورده إلى الشام على نحو غير كريم، فما استطاع معاوية أن يُغضِب ابن حديج.