#1
|
||||
|
||||
ذو القرنين القائد
ذو القرنين القائد عبدالستار المرسومي شخصيةٌ قياديَّة ذكرها القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ [الكهف: 83]، وذو القرنين ليس اسمَه؛ إنما هو لقبُه، وذكر القرآن الكريم تمتُّعه بمجموعة من الصفات القيادية الإيجابية، قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "فذو القرنين كان رجلاً صالحًا موحدًا لله تعالى، يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبِه ورسله واليوم الآخر، وكان يغزو عُبَّاد الأصنام، وبلغ مشارقَ الأرض ومغاربها، وبنى السدَّ بين الناس وبين يأجوج ومأجوج"[1]. قال الثعالبي في تفسيره: "واختُلف في وجه تسميتِه بذي القرنين، وأحسن ما قيل فيه أنه كان ذا ضفيرتين من شعرٍ "هما قرناه"، والتمكين له في الأرض أنه ملك الدنيا ودانَت له الملوكُ كلُّها"[2]، فمِن الصفات القيادية الإيجابية التي ذكرها القرآن الكريم للقائدِ ذي القرنين، والتي أهَّلته لأن يكون في قائمة القادة الإيجابيين: 1 - التمكين:قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الكهف:83، 84]، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: أعطيناه ملكًا عظيمًا ممكَّنًا فيه، من جميع ما يُعطى الملوكُ من التمكين والجنود"[3]، وجاء في "المصباح المنير" للمقري الفيومي: "مَكُنَ: فلان عند السلطان "مَكَانَةً" وِزَان ضَخُم ضخامةً: عظم عنده وارتفع فهو "مَكِينٌ"، و"مَكَّنْتُهُ" من الشيء "تَمْكِينًا": جعلتُ له عليه سلطانًا وقدرة "فَتَمَكَّنَ" منه، و"اسْتَمْكَنَ": قدر عليه، وله "مَكِنَةٌ"؛ أي: قوة وشدة، و"أَمْكَنْتُهُ" بالألف مثل "مَكَّنْتُهُ"، و"أَمْكَنَنِي" الأمر سهل وتيسر". 2 - أوتي من كلِّ شيء سببًا: قال السعدي في تفسيره: "أي: أعطاه الله جل جلاله من الأسباب الموصلةِ له لِما وصل إليه - ما به يستعين على قهر البلدان، وسهولةِ الوصول إلى أقاصِي العمران، وعمل بتلك الأسباب التي أعطاه اللهُ إياها؛ أي: استعملها على وجهِها، فليس كلُّ من عنده شيءٌ من الأسباب يسلكه، ولا كلُّ أحدٍ يكون قادرًا على السبب، فإذا اجتمع القدرةُ على السبب الحقيقي والعملُ به، حصل المقصود، وإن عُدما أو أحدهما لم يحصل، وهذه الأسبابُ التي أعطاه الله إياها، لم يخبرنا اللهُ ولا رسوله بها، ولم تتناقلها الأخبارُ على وجهٍ يفيد العلمَ، فلهذا: لا يسعنا غير السكوت عنها، وعدم الالتفاتِ لما يذكُره النَّقَلَةُ للإسرائيليات ونحوها، ولكننا نعلمُ بالجملة أنها أسبابٌ قوية كثيرة، داخليَّة وخارجية، بها صار له جندٌ عظيم، ذو عَددٍ وعُدد ونظام، وبه تمكَّن من قهرِ الأعداء، ومن تسهيل الوصولِ إلى مشارق الأرضِ ومغاربها"[4]. 3 - العدل في الحكم: فقد كان ذو القرنين قائدًا عادلاً، لا يجامل ولا يُداهن على حساب الحقِّ، فحين خُوِّل بالقضاء في أولئك الذين وجدهم عند مَغرب الشمس، قَضى في أنه سيُعذِّب الظَّلَمَة منهم بظلمهم؛ وذلك غايةُ العدل البشري، قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ﴾ [الكهف: 86، 87]،و"أنَّ العدل أشرفُ أوصاف الْمَلِك، وأقومُ لدولته؛ لأنه يَبعث على الطاعةِ، ويدعو إلى الأُلفة، وبه تصلُح الأعمالُ وتنمو الأموال"[5]. والعدل هو: استعمالُ الأمور في مواضعها، وأوقاتِها، ووجوهها، ومقاديرِها، مِن غير سرفٍ، ولا تقصير، ولا تقديم، ولا تأخير، وكذلك هو: الاستقامة، والجورُ ضدُّ العدل. وفي إفشاء العدلِ بين الرعيَّة مجموعةٌ من الفوائد، هي: • ضمانُ كلِّ فرد مِن المجموعة لحقِّه، فلا يضطر لأن يسلك الطرقَ الملتوية أو غير الشرعية أو غير القانونية؛ للحصولِ على حقِّه. • انتفاء حالاتِ الحسد والحقد والضَّغينة بين أفراد المجموعة، فيعيشون بودٍّ ووئامٍ، بعيدًا عن الشحناءِ والبغضاء. • دوام عمل الجماعة التي يمارس قائدُها العدلَ وعدمُ فنائها، قال أحدُ الصالحين: "إن الله ليعزُّ الأمة وإن كانت كافرةً بعدلِها، وإن الله ليذلُّ الأمةَ وإن كانت مسلمةً بظلمها". • تعزيز مفهومِ الحقوق والواجبات، والتعاوُن في سبيل إرساء ذلك. • تقدُّم الأمة وتطورها؛ ذلك أن القائد العادلَ يأتي بأهلِ العدل من جماعته، وهؤلاء هم البُنَاة والذين يقومون بالتنمية. من صور العدل التي يقوم بها القائد: • العدل في الحكم بين الناس؛ أي: في القضاء. • العدل في توزيعِ المهامِّ والوظائف. • العدل في تقويمِ الأفراد. • العدل في الوفاء بالعهود بين أفرادِ الجماعة. • العدل في ظاهر الحبِّ والودِّ. • العدل في الأجور والرواتب. • العدل في فُرَص التعبير عن الرأي والكلام. • العدل في المنْحِ والعطاء والمنع. • العدل في المحاسبة والعقوبات. 4- العمل بمبدأ الثواب والعقاب: فكما أن القائد الناجحَ يحاسِب ثم قد يُعاقِب من يُخطئ أو يقصِّر متعمدًا؛ فإنه ينبغي أن يكافِئ المجدَّ والمثابِر والذي يقوم بالأعمال الصالحة، وهكذا كان فِعْل ذي القرنين، قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ﴾ [الكهف: 88]، وأقلُّ المجازاةِ هي الكلمةُ الطيبة بحقِّ من يقوم بواجبِه على الوجه المطلوب، والكلمةُ الطيبة يمكن أن تكون باللسان؛ وذلك بالثناءِ الجميل، أو تكون كلمة مكتوبة؛ وهي ما يُعرف بـ (كتاب الشكر) في علم الإدارة، ولو اقترنَت الكلمةُ الطيبة الجميلة مع المكافأةِ الماديَّة فستتحقَّق من ذلك نتائج عظيمة في نفسيَّة الرعيَّةِ، ويكون هذا الثوابُ بمثابة الدافعِ العلمي للمزيدِ من الإبداع والتطوير. 5- السعي من أجل نشر الحقِّ والفضيلة: فقد صال ذو القرنين وجال في غَرْب الأرض وشرقها، وقطع المسافات الشَّاسعة، وبذل الجهدَ وأنفق المالَ وسخَّر الجند، من أجل نشرِ الحقِّ والفضيلة؛ قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ﴾ [الكهف: 86]، وقال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ﴾ [الكهف: 90]، وقال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ﴾ [الكهف: 93]،فالقائدُ الإيجابيُّ من لا تمنعه مسافاتٌ ولا تردُّه حدودٌ في نشر الفضيلة والدعوة إلى ذلك. وحين يسعى القائدُ الإيجابي في نشر الحقِّ والفضيلة ومحاربةِ الظُّلم ورفعه عن العباد، فإنه لا ينتظر الجزاءَ والمكافأة من الناس، ولكنه يفعل ذلك في سبيلِ الله جلَّ جلاله، بل ربما فعل أكثر من المطلوب، فلما وصل ذو القرنين بين السدين طلَب القومُ هناك أن يجعلَ بينهم وبين قومِ يأجوج ومأجوج سدًّا مقابل أن يعطوه مالاً مقابل ذلك العمل؛ قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ﴾ [الكهف: 93، 94] ، ولكنَّ الملك العادلَ والقائد الإيجابي قدَّم أكثر مما طَلَب القومُ، وعمل لهم ردمًا وهو أشدُّ من السدِّ؛ أي: قدَّم لهم أكثرَ مما طلبوا منه ومِن غير مقابل، قال تعالى: ﴿ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ﴾ [الكهف: 95]. 5- محاربة الفساد: فليس على الأمَّة خطرٌ بعد الشرك بالله جل جلاله من الفسادِ، والفسادُ ضدُّ الصلاح، يُقال: لحمٌ فاسد: إذا تغيَّرت رائحتُه وتغير طعمُه، فالمفسِد هو من يتغيَّر عن سجيَّته التي خلقه اللهُ عليها، فيأتي بكلِّ ما يخالف الفطرةَ، مِن الأعمال الباطلة، وكان ذو القرنين حربًا على الفساد، قال تعالى: ﴿ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ﴾ [الكهف: 94، 95]. وهكذا هو دور القائد الإيجابيِّ: أن يجعل بين رعيَّته وبين المفسدين ردمًا، ويعلن الحربَ على المفسدين؛ فيراقبهم ويحاسبهم ويعاقبهم بالعقوباتِ المناسبة إذا ثبت فسادُهم، ويحاول أن يعزلَهم عن باقي أفراد المجتمع؛ لأن المفسدين كالمصابين بأمراضٍ مُعدِية، مَن خالطهم أُصيب بما أصيبوا به، وحين نقفُ عند مقالة ذي القرنين نلاحظ أنَّ القوم طلبوا أن يجعل بينهم وبين قومِ يأجوج ومأجوج المفسدين سدًّا؛ أي: حاجزًا ماديًّا؛ كي لا يَصِلوا إليهم بفسادهم، وهو حين استحسن الفكرةَ كانت خطَّته أن يبالِغ في هذا الحاجز بين المؤمنين والمفسدين، فأنجز مانعًا عظيمًا أعظم من السدِّ؛ وهو "الرَّدم"، فحين نسدُّ البابَ فنحن نأمل أنَّنا سنفتحه بعد حينٍ، وحين نردمه فيتبادر إلى الذِّهن أنَّنا لن نفتحه مرَّة أخرى. 6- استثمار الاكتشافات العلميَّة: لقد استطاع ذو القرنين أن يستثمر علمَه، وربَّما علم مَن معه في علم السبائك، واستخدم تلك المعرفة في صناعةِ السدِّ العظيم الذي فرَّق بين القوم الذي طلبوا منه عملَ السدِّ وبين القوم الفاسدين الذين لا يفقهون قولاً، فقد استخدم سبيكةَ الحديد مع النحاس والتي تعتبر من السبائك القويَّة، والتي ليس من السهل كسرُها أو تحطيمها؛ قال تعالى:﴿ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ﴾ [الكهف: 96، 97]، ويلاحَظ أن استثمارَ التقدُّم العلمي من قِبَل ذي القرنين إنما كان في الخيرِ ومحاربةِ الفاسدين. [1] إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان؛ ابن قيم الجوزية، ح2، ص 264. [2] الجواهر الحسان في تفسير القرآن؛ عبد الرحمن الثعالبي، ج2، ص393. [3] تفسير القرآن العظيم؛ ابن كثير الدمشقي، ج3، ص 124. [4] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ عبد الرحمن السعدي، ص 485. [5] المنهج المسلوك في سياسة الملوك ؛عبد الرحمن الشيزري، ص242. |
#2
|
||||
|
||||
جزاك الله خيراً
موضوع أكثر من رائع
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
واياكم استاذنا الفاضل
رفع الله قدركم فى الدنيا والاخرة |
#4
|
||||
|
||||
جزيت خيرا وبورك فيك
تحياتي أ.ابو وليد البحيري
__________________
ان صمتي لا يعني جهلي بما يدور حولي |
العلامات المرجعية |
|
|