|
أرشيف المنتدى هنا نقل الموضوعات المكررة والروابط التى لا تعمل |
|
أدوات الموضوع | ابحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
الأزمات الاقتصادية والأوبئة في مصر الإسلامية
الأزمات الاقتصادية والأوبئة في مصر الإسلامية (1/11) د. محمد بركات مقدمة أقْدَم العرب المسلمون على فتْح مصر وهُم يُدركون حقيقةَ قدراتها العظيمة، وخيراتها الوفيرة، ولا شكَّ أنَّ مصر الإسلامية[1] كانت تتمتَّع بقسط وافر من الغنى والرخاء [2]، حتى إنَّها كانت - في رأي عمرو بن العاص - تعدل دولةَ الخِلافة بأكملها، ونعَتَها بعض الخلفاء بأنَّها "سلة الخبز"[3]، كما أنَّها كانت تعدُّ خزانة أمير المؤمنين[4]، وقد كان ثراءُ مصر واحدًا من الأسباب التي جعلتِ العرب يُقدِمون على فتْحها، وجعلها هذا الثراء محطَّ اهتمام دول الخلافة الإسلاميَّة، ابتداءً من الخلافة الراشدة، ومرورًا بالخلافة الأُمويَّة فالعباسيَّة، ثم الخلافة الفاطميَّة. لكنَّ رخاء مصر لم يَسْلم من بعض الأزمات الاقتصاديَّة التي كانت تقطع حَبلَ ذلك الرخاء من وقت لآخر، وقد أصاب المقدسيُّ - إلى حدٍّ بعيد - حينما قال عن مصر: "هذا إقليم إذا أقبلَ، فلا تسأل عن خصبه ورخصه، وإذا أجدبْ فنعوذ بالله من قَحْطه"[5]، وعبارة المقدسي - على إيجازها - تعبِّر عن حال مصرَ أبلغَ تعبير، إذ بلغت بعضُ الأزمات الاقتصاديَّة فيها - رغم رخائها - شوطًا بعيدًا في حدِّتها وقسوتها، وامتدت لبضع سنين. ولم تقتصرِ الأزمات الاقتصاديَّة في مصر الإسلاميَّة على فترة من تاريخها دون أخرى؛ بل حَدَثت هذه الأزمات في كافَّة عصور تاريخ مصرَ الإسلاميَّة: عصر الولاة، العصر الطولوني، العصر الإخشيدي، ثم العصر الفاطمي، إلاَّ أنَّ كثرة ما وصل إلينا من أنباء الأزمات الاقتصاديَّة في العصر الفاطمي، قد يوحي للبعض بانطباع خاطئ، مؤدَّاه أنَّ الأزماتِ الاقتصاديةَ التي وقعت في العصر الفاطمي فاقتْ - كمًّا وكيفًا - مثيلاتها في الأعصر السابقة عليه من تاريخ مصر الإسلامية، وهو الأمرُ الذي يُخالجنا في صحته شكٌّ كبير، إذ ليس من المعقول أن يَشهد العصر الفاطمي - الذي يعدُّه الكثيرون العصر الذهبي لمصر الإسلاميَّة - من الأزمات الاقتصادية أكثرَ ممَّا شهدته عصورُ الولاة والطولونيِّين والإخشيديِّين مجتمعة، وثلاثتها كانت أقلَّ ثراءً ورخاءً من العصر الفاطمي، ومع ذلك فما وصل إلينا عن الأزمات الاقتصادية فيها مجتمعة أقلّ بكثير ممَّا وصل إلينا عن مثيلاتها في العصر الفاطمي.. وقد يرجع ذلك - في رأينا - للأسباب الآتية: أولاً: نصب أكثر اهتمام الجغرافيِّين المسلمين كالخوارزمي واليعقوبي، وابن الفقيه وابن درسته، وابن حوقل والبكري، والشريف الإدريسي وغيرهم ممَّن تناولوا مصر بالدِّراسة، على وصْف النيل أكثرَ من اهتمامهم بالأزمات الاقتصاديَّة، أو المجاعات ونوبات الغلاء التي نجمتْ عن تقاصُر فيضان النيل. ثانيًا: لم يكن اهتمام المؤرِّخين بهذا الصدد بأكثرَ من اهتمام الجغرافيِّين، وحتى هؤلاء الذين وقفوا كتاباتِهم على مصر ممَّن يمكن أن نطلق عليهم المدرسة التاريخيَّة المصرية، حتى هؤلاء لم نحظَ منهم بكثير من المعلومات عن الأزمات الاقتصاديَّة التي حدثت في الأعصر السابقة على العصر الفاطمي، خاصَّة وأنَّ مؤلَّفات ابن زولاق والقضاعي الهامَّة لم يصل إلينا منها إلاَّ نتفٌ متفرِّقة في كتب اللاَّحقين. ثالثًا: وإذا كان تَقيُّ الدِّين المقريزي يُعدُّ أهمَّ مَن كتب عن الأزمات الاقتصادية، حتى إنَّه أفرد للكتابة عنها مؤلَّفه القَيِّم الذي أسماه "إغاثة الأمَّة بكشف الغمَّة"[6]، وهو مؤلَّف تفوق قيمتُه الكبيرة حجمَه الصغير بكثير، إلاَّ أنَّ المقريزي يعدُّ متأخِّرًا بالنسبة للفترة التاريخيَّة التي نُعنَى بدراستها[7]؛ لذلك جاءت معلوماتُه وفيرة عن الأزمات الاقتصاديَّة في العصر الفاطمي، شحيحة عن مثيلاتها في الأعصر السابقة على هذا العصر، وبديهي أن يصدق ما قُلْنا عن المقريزي على المؤرِّخين اللاحقين عليه؛ مثل جمال الدين بن تغري بردي، وجلال الدِّين السيوطي، وغيرهما. وعلى ذلك، فإنَّنا نعتقد أنَّ الأزماتِ الاقتصاديةَ التي وقعت في عصور الولاة والطولونيِّين والإخشيديِّين تُضارِعُ ما وقع منها في العصر الفاطمي، على الرَّغم من أنَّ المصادر التي بين أيدينا لا تُسعفنا في تأكيد هذا الاعتقاد. وبعد، فسوف نحاول أن نستقصيَ تلك الأزماتِ الاقتصادية التي حَدَثت طيلةَ تاريخ مصر الإسلاميَّة، منذ الفتح العربي الإسلامي، حتَّى نهاية العصر الفاطمي، وسنعمل على إبراز أسبابها، وكيفية تفاقمها، وكيفية علاجها وتأثيراتها على النواحي الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. أسباب الأزمات الاقتصادية كانت الأزمات الاقتصاديَّة في مصر الإسلاميَّة ترجع إلى عواملَ متنوعةٍ، تنقسم بطبيعتها إلى قسمين رئيسَين: عوامل طبيعية، وأخرى بشرية. أولاً: العوامل الطبيعية: يقصد بالعوامل الطبيعيَّة تلك العوامل التي لم تَكن من صُنْع البشر، وإنَّما هي محصلة ظروف بيئيَّة لم يكن في استطاعة المصريِّين - في حدود قدراتهم المتاحة في العصر الإسلامي - أن يتحكَّموا فيها، أو يُسيطروا عليها، كان منتهى قدرتهم إزاءَها أن يُخفِّفوا من حدتها، أو يُعالجوا بعضَ آثارها، وقد تعدَّدت تلك العوامل الطبيعيَّة وتنوَّعت، وتفاوتت في مدى خطورتها، وفي حجم تأثيرها على النحو التالي: 1 - فيضان النيل: يأتي قصورُ فيضان النيل في مقدِّمة العوامل الطبيعيَّة المسببة للأزمات الاقتصاديَّة، بل وأشدها خطورةً على الإطلاق، فنهر النيل - كما هو معروف - هو المانح الأول للحياة على ذلك الشَّريط الخضر الملاصِق لضفَّتيه على طولِ مجراه، من أقصى جنوب مصر، حتى مصبِّه شمالاًً في البحر المتوسط، وبعيدًا عن الجدل بين مَن يقول بأنَّ مصر هبة النيل، ومن يقول بأنها هِبة المصريِّين، فمما لا شكَّ فيه هو أنَّ اقتصاد مصر الإسلامية كان - في المقام الأوَّل - اقتصادًا زراعيًّا، يعتمد اعتمادًا حياتيًّا على الرَّيِّ من ماء النيل، يقول القضاعي فيما نقله عنه ياقوت الحموي: "ومن عجائب مصرَ النيل، جعله الله لها سقيًا يزرع عليه، ويُستغنى به عن مياه المطر"[8]. وكان الري في مصر الإسلاميَّة ريًّا حوضيًّا، يعتمد بصفة أساسيَّة على الفيضان[9]؛ لذلك عُنِي المصريُّون - منذ قديمِ تاريخهم - بحفر الخلجان والتُّرع، وإقامة السُّدود لضمان الانتفاع بمياه الفيضان، سواء جاء مرتفعًا أو جاء منخفضًا[10]. والخلجان هي أمَّهات الترع التي تغذي غيرها من التُّرع الأخرى التي تصغر عنها، وكان بعضُ الخلجان محفورًا قبلَ الفتح الإسلامي، ذكر منها في المراجع العربية سبعة خلجان هي: خليج سخا، وخليج دمياط، وخليج منف، وخليج المنهي، وخليج السردوس، وخليج الإسكندرية. أمَّا خليج أمير المؤمنين، فقد جَدَّد حفرَه عمرو بنُ العاص في ولايته الأولى على مصرَ لِتحلَّ عليه الميرة إلى أهْل الحِجاز في المجاعة المعروفة بالرمادة [11] وفي العصر الإسلامي، شُقَّت خلجان أخرى؛ كخليج أبي المنجا الذي أَمَر بحفره الأفضلُ بن بدر الجمالي في خلافة المستعلي بالله الفاطمي سنة 506هـ؛ نزولاً على نصيحة أبي المنجا بن شعيا اليهودي، الذي غَلَب اسمه على الخليج مِن دون الأفضل [12]. وكانت السُّدود تُقام على فوهات الخلجان والترع قبل زِيادة النيل، وكانت مادتها من الحَلْفاء والطِّين[13]، ويُبنى سد وراءَ آخر في اتِّجاه المَصبِّ؛ لذلك كان الريُّ يتمُّ على مراحل. وأدرك المصريُّون أهميةَ الجسور في حفظ مياه الفيضان من التسرُّب، ولتنظيم عملية الري، حتى إنَّهم كثيرًا ما أرجعوا قصورَ النيل إلى فساد تلك الجُسور وعدم العناية بها، ويذكر ناصر خسرو الذي زار مصرَ في خلافة المستنصر بالله الفاطمي: أنَّ المصريِّين أنشؤوا على الشاطئ من أوَّل الولاية [14] إلى آخرها جسرًا من الطِّين؛ ليسيرَ عليه الناس، وتصرف خزينة السُّلطان [15] كلَّ سَنَة، للعامل المعتمد عشرةَ آلاف دِينار مغربي لتجديد عمارته [16]. وانقسمتِ الجسور إلى نوعين: جسور عامَّة تقوم الدولة على رعايتها والعِناية بها، وهي التي يُطلَق عليها ابنُ مماتي اسمَ الجسور السُّلطانيَّة، وجسور محليَّة أو بلديَّة كان على كلِّ كورة في مصر أن تُعنى بها في نطاق حدودها [17]. وبلغتْ عنايةُ المصريِّين بالري درجةً عظيمة، حتى إنَّهم رصدوا للعناية به إمكانياتٍ كبيرةً، فقد قيل: إنَّه كان لنِيل مصر وصفه على جميع الكور مائة وعشرون ألف رجل معهم المساحي، وآلات يعملون طولَ العام، يُخصص منهم سبعون ألفًا للصعيد، وخمسون ألفًا الأسفل الأرض، ومهمَّتُهم حفرُ الخلجان، وإقامة الجسور والقناطر، وسدُّ الترع، وقطع القصب والحلما وكل نبت يضر بالأرض [18]، وكانتِ الحكومة تُنفق في هذا الصَّدد نحوَ ثُلُث خراج البلاد، وقد يزاد في الإنفاق إذا اقتضى العمل ذلك[19]، وكان الفلاَّحون يُؤجَّرون على ما يؤدُّونه من عمل في الجسور السلطانيَّة من قِبَل الدَّولة، ويُؤجَّرون على ما يؤدونه من عمل في الجسور البلديَّة من قِبل متقبِّلي الخراج في الكور[20]. وعُني المصريُّون عنايةً فائقة بقياس فيضان النيل؛ لتقدير الخراج على الأرض الزراعيَّة من ناحية، ومن ناحية أخرى للتنبؤ بسني الشِّدة والرخاء[21]، فأقاموا لذلك المقاييس العديدة على طولي مجرَى النَّهر في أسفل الأرض (الدلتا) وفي أعلاها (الصعيد). والمِقياس عبارةٌ عن عمود مِن رخام قائم، مُقسَّم إلى أذرع وأصابع [22]. وقد وَجَد العربُ حينما فتحوا مصرَ عدَّةَ مقاييس؛ منها ما هو لأسفل الأرض كمقياس منف، ومقياسي حصن بابليون اللَّذَين وُجِد أحدهما عند قيسارية الأكسية، والآخر عند الباب الصغير على يمين الداخل. ومنها ما هو للصعيد، كمقياس أنصنا، ومقياس أخميم، ويبدو أنَّ مقياس منف كان من أهمِّ المقاييس قاطبةً عند قدوم الفاتحين المسلمين[23]، ولعلَّه قدِ احتفظ بهذه الأهمية، حتى نهاية القرن الثاني الهِجري [24]. ولَمَّا فتح المسلمون مصرَ قاموا بإصلاح المقاييس القديمة[25]، خصوصًا المقاييس الصعيديَّة، ثم استحدَثوا مقاييس جديدة، أُقيم بعضُها في العصر الأموي، كالمقياس الذي أقامه عبدالعزيز بن مْروان في حُلوان، والمقياس الذي أقامه أسامة بن زيد التنوخي في جزيرة الرَّوضة بأمر سليمان بن عبدالملك سنة 97هـ، وكان يُعرف بالمقياس القديم، والمقياس الذي شيَّده محمد بن عبدالله خازن الإخشيد بصناعة مصرَ (الفسطاط)، والمقياس الهاشمي الذي بُني في جزيرة الرَّوضة بأمر المتوكِّل العباسي سنة 247هـ/ 861م، في ولايةِ يَزيد بن عبدالله التُّركي، وقد عرف هذا المقياسَ بالجديد أو الكبير، ووكل أمره إلى أبي الرداد عبدالله بن عبدالسلام المعلِّم [26]. ويَذكر سعيدُ بن بطريق[27] أنَّ المتوكِّل بنى مقياسه هذا لَمَّا بلغه من فساد المقياس القديم الذي بناه أسامة بن زيد التنوخي، وأنَّه قد وجَّه لإتمام بنائه مهندِّسًا عراقيًّا يُسمَّى محمد بن موسى المنجم[28]، وإن كان الملاحَظ أن تغيير المقاييس كان يتمُّ بصفة مستديمة كلما دلَّت دولة بأخرى ممَّا يوحى بوجود أسباب سياسيَّة وراء كلِّ تغيير، وارتباطه بنظام جديد للجِباية، يتَّفق وسياسةَ الحكومة الجديدة. كانتِ المقاييسُ في مصرَ الإسلاميَّة تُستخدم لتعيين حدِّ الوفاء الذي كان عندَ بلوغ الماء حدَّه يعتبر فيضان النيل قدْ أوفى بحاجة البِلاد من ماء الرَّي، وقد اعتاد المصريُّون على اعتبار حدِّ الوفاء ستةَ عشرَ ذراعًا، تصحُّ عندها جباية الخراج؛ لذلك كانوا يسمُّونه ماء السُّلطان، وكانوا يفرحون فرحًا عظيمًا لبلوغ النِّيل هذا الحدَّ، حتى بعد أن تَزايد حدُّ الوفاء عن ذلك كثيرًا من الناحية الفِعليَّة، يقول المقريزي: "ويَحصل لأهل مصر بوفاء النِّيل ستةَ عشرَ ذراعًا فرحٌ عظيم، فإنَّ ذلك كان قانونَ الريِّ القديم، واستمرَّ إلى يومنا هذا"[29]. إلاَّ أنَّه ينبغي لنا أن نميِّز بين حدَّي الوفاء للنيل في مصر الإسلاميَّة؛ أولهما: يمكن تسميتُه بالحدِّ الاعتباري. في كتابة القيم - والذي لا يَزال مرجعًا يعول عليه - عن حالة مصر الاقتصاديَّة في عهد الفاطميِّين، يذكر البراوي أنَّه: "اختلفت آراء الكتَّاب في بيان الحدِّ اللازم لري الأراضي حتى لا تقحط"[30]، وبعد أن يستعرض البراوي آراءَ كلٍّ من المسعودي والقضاعي، وناصر خسرو، وعبداللطيف البغدادي، والتي لا يأخذ بها، ينتهي به الرأيُ إلى القول بأنَّه برغم تقديراتهم المتباينة يبدو أنَّ حدَّ الوفاء حتى العصر الفاطمي كان ستةَ عشرَ ذراعًا، ويستدلُّ على ذلك بأنَّ المعز لدِين الله الفاطمي أمَرَ بالنداء إذا بلغ النيل هذا الحدَّ، ويدعم البراوي رأيَه بعبارة ينقلها عن المقريزي، قال فيها: "إنَّ قانون النِّيل إلى ما بعد خمسمائة كان ستةَ عشرَ ذراعًا في مقياس الجزيرة"[31]. إلاَّ أنَّنا لا نستطيع مجاراةُ الدكتور البراوي فيما ذهب إليه لاعتبارات عديدة: أولاً: لم يكن حدُّ الوفاء الفعلي في مصر الإسلاميَّة ثابتًا، بل كان متزايدًا تزايدًا مطَّردًا من عصر لآخر، فإذا كان العربُ قد فتحوا مصرَ وحدُّ الوفاء ستةَ عشرَ ذراعًا لما كانت عليه جسورها من إحكام، ولبناء قناطرها، ونظافة خلجانها [32] فإنَّ إهمال شؤون الري أدَّى إلى تغيُّر حدِّ الوفاء، ويبدو أنَّ إهمال شؤون الري قد بدأ منذ وقت مبكِّر في مصر الإسلاميَّة، في ولاية عبدالله بن سعد بن أبي سرح، الذي زاد في الخراج، ونقص في المؤن - على حدِّ تعبير ابن زولاق - فأضرَّ بالسنوات التالية[33]، وعلى الرَّغم من هذا الإهمال في شؤون الري في عصر الولاة[34] فإنَّ حدَّ الوفاء الفعلي لم يتغيَّر كثيرًا، أو على نحو سريع، فظلَّ حدُّ الوفاء الفعلي ستةَ عشر ذراعًا حتى نهاية القرن الثاني الهجري[35]، غير أنَّ استمرار إهمال شؤون الري، وتدهور أحواله جَعَل حدَّ الوفاء يتزايد باستمرار بطريقة وئيدة، ولم تُجْدِ كثيرًا جهودُ أحمد بن طولون لتطهير القنوات والتُّرع ومجاري المياه [36]، فضلاً عن قيامه بإصلاح المقياس الهاشمي سنة 259هـ [37]؛ إذ إنَّ جهودَه لم تكفِ لإصلاح ما أفسده من شؤون الري عصرُ الولاة على امتداده الطويل الذي امتدَّ في مصر نحوَ قرنين وثلث من الزَّمان، ويدلُّ على قلَّة جدوى جهود أحمد بن طولون أنَّ جباية مصر في عهده لم تزدْ عن أربعة ملايين دينار، بينما كان عمرو بن العاص قد جباها - في اعتدال - اثني عشر مليون دينار، وإذا كان كلٌّ من المسعودي والقضاعي، وناصر خسرو والبغدادي يكتبُ عمَّا رآه في عصره كشاهد عيان، فإنَّ كتاباتِهم تُظهر بجلاء أنَّ حدَّ الوفاء الفعلي في مصر الإسلاميَّة كان يتزايد من عصر لآخَرَ، فالمسعودي الذي زار مصر زمنَ محمد بن طغج الإخشيد، وأقام بها منذ سنة 336هـ/ 947م إلى سنة 345هـ/ 956م[38] - ذَكَر أنَّ زيادة النيل إذا انتهت - في عصره - إلى ستة عشر ذراعًا ففيه تمام الخراج، وريع للبلد عام، وأتم الزِّيادات نفعًا للبلد كلِّه سبعة عشر ذراعًا؛ إذ تُروى جميع أراضيها، أما إذا بلغ النيل ثمانيةَ عشر ذراعًا فإنَّه يستبحر من أرض مصر الربع[39]، إلاَّ أنَّ القضاعيَّ الذي عاشر بمصر من الفاطميين، وتولَّى بعضَ المهام الحكوميَّة في خلافة المستنصر بالله الفاطمي يعترض على أن يصدق قول المسعودي على عصره - القضاعي - فيقول - فيما نقله المقريزي -: "وفي هذا الحساب نظرٌ في وقتنا؛ لزيادة فساد الجُسور وانتقاص الأحوال"[40]. ويأتي الرَّحَّالة الفارسي قاصر خسرو لزيارة مصر في خلافة المستنصر؛ أي: إنَّه عاصر القضاعي، وكان بمصر وقتَ وجوده فيها تقريبًا، ودَوَّن ناصر خسرو مشاهداتِه فأكَّد ما جاء فيها رأي القضاعي، يقول الرحَّالة الفارسي: "ويفرح الناس حين تبلغ الزِّيادة ثمانية عشر ذراعًا وهي الزيادة المعهودة"[41]، ويُضيف أنَّه كلَّما قلَّت الزيادة عن ذلك قيل: إنَّ النيل ناقص، فيتصدَّق الناس وينذروا النذور، ويعلوهم الغَمُّ، وما لم يصل الارتفاع إلى ثمانية عشر ذراعًا لا يأخذ السلطان الخراج[42]، أمَّا عبداللطيف البغدادي الذي زار مصر في العصر الأيوبي بعد أقلَّ من ثلاثة عقود من سقوط الدولة الفاطميَّة، فإنَّه يذكر أنَّ نهاية ما تدعو إليه الحاجة من الزيادة ثمانية عشر ذراعًا[43]، ويذكر مُعاصرُه الأسعد بن مماتي أنَّ الاعتداد ببلوغ النيل ستة عشر ذراعًا لم يعد موجودًا إلاَّ في بطون كتب المتقدِّمين، أمَّا في عصره هو، فقد تغيَّرت الأحوال، واختلفت الأحكام [44]. ثانيًا: تعدَّدت المقاييس في مصر الإسلاميَّة، ولم تكن هذه المقاييس موحَّدة الذرع، فالقضاعي يذكر - فيما نقل عنه - أنَّ المقاييس القديمة الصعيديَّة كانت تختلف عن المقاييس الجديدة الإسلاميَّة (التي أُقيم أكثرُها قرْب رأس الدلتا)، إذ كانت المقاييس الصعيديَّة من أوَّلها إلى آخرها - على حدِّ قوله - أربعة وعشرين إصبعًا كل ذراع[45]. أمَّا المقاييس فقدِ استنَّ لها عمرو بن العاص - تنفيذًا لأمر الخليفة عمر بن الخطاب - أن يكون طولُ الذِّراع ثمانية وعشرين إصبعًا في الأذرع الأولى، حتى تمام اثني عشر ذراعًا، ثم يكون طولُ كل ذراع بعد ذلك أربعة وعشرين إصبِعًا[46]، فأصبحت الاثنا عشر الأولى تساوي في الأصل أربعة عشر ذراعًا ذراعًا، والستة عشر ذراعًا تساوي في الأصل ثمانية عشر ذراعًا [47] وهلمَّ جرًّا. وفضلاً عن هذا، ينبغي أن يُلاحظ وجودُ تفاوت في طول الذِّراع بين المقاييس؛ إذ لم يكن طولُ الذراع فيها موحَّدًا حسب نوع الذراع؛ لأنَّ الذراع السودا أطولُ من الذراع الدور بإصبِع وثلثي إصبِع، وأوَّل مَن وضع الذراع السودا هارونُ الرشيد، قدَّرها - كما يقول ابن إياس - بذراع خادم أسود كان قائمًا على رأسه، وهي التي تستخدم في قياس نيل مصر[48]، وبديهي أنَّ تلك الذِّراع السودا لم يبدأ العمل بها إلاَّ عندَ بناء المقياس الهاشمي الذي بَناه - كما ذكرنا - المتوكِّل العباسي في ولاية يَزيدَ بن عبدالله التركي[49]، وعلى ذلك فقد كان هذا المقياس أكبرَ ذرعًا من المقاييس التي سبقتْه في تشييدها، ولعلَّ هذا يُفسِّر قول المقريزي أنَّ الثمانية عشر ذراعًا في مقياس الجزيرة اثنان وعشرون ذراعًا في الصعيد الأعلى[50]، ولعلَّه يفسِّر تسمية هذا المقياس بالكبير، ويمكن القولُ: إنَّ هذا المقياس قد أُقيم لإصلاح أمْر الخراج[51]، فإنَّ ماء السلطان الذي كانت تُجبى عنده البلاد فيما سلف - وهو الستة عشر ذراعًا - لا يصحُّ أن يظلَّ تقديرُه كما كان فيما مضى من الناحية الفعليَّة، بعد أن تغيَّر فعليًّا حدُّ الوفاء، ولما كان حدُّ الوفاء قد ارتبط في أذهان المصريين برقم الستة عشر ذراعًا، وأصبحتْ له دلالة نفسيَّة عندهم تَطيب نفوسُهم لبلوغه، فقد أقام المتوكِّل مقياسًا جديدًا استخدم فيه الذرع السودا لتصبح الستة عشر ذراعًا النظرية - حسبَ المقاييس القديمة - تساوي ثمانيةَ عشرَ ذراعًا فيها من الناحية الفعليَّة، وإن كانت في المقياس الجديد لا تظهر هذه الزِّيادةُ فتطمئن النفوس، ولا ينتابها القلق، ونعلم أنَّ هذه لم تكن أوَّلَ محاولة لإصلاح المقاييس، فقد سبق أنْ أشرنا إلى قيام عمرو بن العاص بالتعديل في ذَرْع المقياس حسبَ توجيهات الخليفة عمر بن الخطَّاب. ولعلَّنا نستخلص - بعد هذا كلِّه - أنَّ المقاييس لم تكن كلُّها موحدةَ الذرع، بل كانت وحداتُ القياس فيها متفاوتة. ثالثًا: لا يعني أنَّ المعز لدين الله الفاطمي قد أمَرَ بالنداء بوفاء النيل عندَ بلوغه ستة عشر ذراعًا، أن يظلَّ هذا هو الحدَّ الفعلي لوفاء النيل حتى عصر المعز، ولكن ذلك هو ما نُسمِّيه الحدَّ الاعتباري الذي يستبشر به المصريُّون، وتطمئن أفئدتُهم لبلوغه؛ لاعتيادهم عليه زمنًا طويلاً قبلَ الإسلام، وفي صدر مصر الإسلاميَّة، وهذا ما عناه المقريزي - فيما يبدو – بقوله: "ويحصل لأهل مصر بوفاء النيل ستةَ عشر ذراعًا فرح عظيم، فإنَّ ذلك كان قانونَ الري في القديم، واستمرَّ ذلك إلى يومنا هذا"[52]. وفضلاً عن هذا فقد أراد المعزُّ لدين الله الفاطمي بهذا الإعلان عن وفاء النيل ما كان يُريده عمرو بن العاص من تعديل للذرع في المقاييس الموجودة على عهده، فرغم اختلاف الوسائل بينهما إلاَّ أنَّهما كليهما كانا يهدفانِ إلى قطع الطريق على المحتكرين والمتلاعبين بالأسعار، إذ كان فرط الاستشعار - على حدِّ قول القضاعي - يدعو إلى الاحتكار، والاحتكار يدعو إلى تصاعُد الأسعار بغير قحط[53]. يتبع |
#2
|
||||
|
||||
جزاك الله خيراً وبارك فيك
مجهود حضرتك في المنتدى طيب
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
جزاكم الله خيرا ونفع بكم
تقبل الله منا ومنكم صالح الاعمال |
#4
|
||||
|
||||
الأزمات الاقتصادية والأوبئة في مصر الإسلامية (1/11)
د. محمد بركات رابعًا: لا ينبغي الخلطُ بين الحدِّ اللازم لري الأراضي حتى لا تقحط، وهو ما يمكن تسميتُه حدَّ الكفاية، وبين حدِّ الوفاء الذي يعني ماءَ السلطان، وتصحُّ عنده جباية الخراج[54]، فواقع الحال أنَّ حدَّ الكفاية كان أقلَّ من حدِّ الوفاء بنحو ذراعين، بمعنى أنَّه حينما كان حدُّ الوفاء ستة عشر ذراعًا، كان حد الكفاية أربعة عشر ذراعًا فقط تكفي لكيلا تقحط البلاد، وأن يحصل أهلها على ما يَكفيهم لعامهم الذي هم فيه دونَ أداء الخراج، يذكر القضاعي - فيما نقل عنه - أنَّ عمرو بن العاص - أوَّل والٍ على مصر - كتب إلى الخليفة عمر بن الخطَّاب أنَّه وجد "ما تروي به مصر حتى لا يقحط أهلُها أربعة عشر ذراعًا، والحد الذي تُروى منه إلى سائرها حتى يفضل عن حاجتهم، ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعًا، والنهايتان المخوفتان في الزِّيادة والنقصان، وهما الظمأ والاستبحار اثنا عشر ذراعًا في النقصان، وثمانية أذرع في الزِّيادة[55]، ومِن الطبيعي أنَّ حدَّ الكفاية كان يتزايد كلَّما تزايد حدُّ الوفاء لتوحُّد الأسباب، وهي فساد الجُسور، وارتفاع قاع النهر نتيجةَ ترسيب الطمي عامًا وراءَ آخر. ولم يكن قصورُ النيل عن حدِّ الوفاء كارثةً في معظم الأحيان، بل كان الكارثة الحقيقية في قصور النيل عن حدِّ الكفاية، فحينما وصل حدُّ الوفاء إلى ثمانية عشر ذراعًا وقت زيارة ناصر خسرو لمصر في خلافة المستنصر بالله الفاطمي، كان حدُّ الكفاية ستة عشر ذراعًا، ومع أنَّ الناس كانوا يضيقون بوقوف النيل عند حدِّ الكفاية، ويقولون: إنَّ النيل ناقصٌ، وقد يتصدَّقون وينذرون النذور[56]، إلاَّ أنَّ الأمر لم يكن يتعدَّى ذلك؛ لأنَّهم لم يكونوا يتعَّرضون لخطر حقيقي، وإنَّما الخطر كلُّ الخطر في نقص النيل عن حدِّ الكفاية، يذكر البغدادي - وهو لا يَبعُد كثيرًا عن العصر الفاطمي - أنَّ ما نقص عن ستة عشر ذراعًا "يُروى به ما هو دون الكفاية، ولا تحصل منه مِيرة سَنَتِهم، ويكون تعذُّر القوت بمقدار نُقصانه عن ستة عشر ذراعًا، وحينئذٍ يُقال: إنَّ البلاد قد شرقت"[57]. وعلى ذلك، فلعلَّ ما ذكرناه يدعونا إلى التمهُّل عند استقراء ما ساقه إلينا أبو المحاسن بن تغري بردي - أو غيره - من ثبت لمياه النيل ومقادير زيادته أو نقصانه، في السنوات الممتدة منذُ الفتح الإسلامي لمصر، حتى عصر أبي المحاسن، ومع أنَّ بعض المؤرِّخين المُحْدَثِين قد لاحظ تناقضًا بين ما ورد من أخبار المجاعات والغلاء، وبين مقادير المياه التي أثبتها ابن تغري بردي، إلاَّ أنَّه لم يُعنَ بتفسير هذا التناقض، واكتفى بالقول بأنَّه يصعب الربط بين أزمات الغلاء التي ذكرها المؤرِّخون، وبين حالات نقْص المياه اعتمادًا على تلك السجلاَّت المجرَّدة[58]، إلاَّ أنَّ الرؤية قد تتضح، وقد نجد تفسيرًا لهذا التناقض إذا تساءلنا عن المصادر التي استقى منها ابن تغري بردي بياناتِه، واعتمد عليها في تدوين ثَبَته عن مقادير المياه الذي ساقه إلينا، وهل اعتمدَ في تدوينه على سجلاَّت ومصادرَ رسميَّة، أو نقل عن مصادرَ غيرِ رسمية وروايات شفهيَّة، وإذا سلَّمْنا بأنَّه كان يستطيع الحصول على سجلاَّت عصره، فهل كان ميسورًا له أن يحصل على سجلاَّت الأعصر السابقة، خصوصًا المتقدِّمةَ منها كعصر الولاة؟ وهل كان في مصر الإسلاميَّة أرشيفٌ على تلك الدرجة من الكفاءة التي تُمكِّن من حفظ السجلاَّت على مرِّ العصور، حتى تصل سليمةً غير مصحَّفه إلى يدي أبى المحاسن بن تغري بردي، خصوصًا ونحن نلاحظ قصورًا في مثل هذه العمليات الأرشيفيَّة في عصرنا الحاضر، فكيف بها إذًا في مصر الإسلاميَّة؟![59] وفضلاً عن هذا، فنحن لا ندري أيّ المقاييس كان يُعوِّل عليها أبو المحاسن في تدوين بياناته، فالمقاييس - كما علمنا - كانت متعدِّدة متعاونة في وحدات قياسها، ولم يذكر أبو المحاسن عن أيِّها كان ينقل بياناتِه، وسواء اعتمد على مقياس واحد بعينه، أم اعتمد على عدَّة مقاييسَ، فقد كان هذا من أسباب التناقض المشار إليه؛ لأنَّ المقياس الرئيس لم يكن ثابتًا طيلةَ التاريخ المصري الإسلامي، كما أنَّ أبا المحاسن لم يلاحظ الفروق بين كلِّ مقياس وآخر، أو على الأقلِّ لم يُشر إليها، كما أنَّ قصور النيل عن حدِّ الوفاء لم يكن يؤدِّي إلى الغلاء في بعض الأحيان، وقد حَدَث الغلاء في سنوات سجَّل فيها أبو المحاسن أنَّ النيل بلغ حدَّ الوفاء، وهذا يعنى - بالقطع - أنَّ مثل هذا الغلاء كان مفتعلاً يرجع في المقام الأوَّل إلى عواملَ بشريَّة. وجدير بالذِّكْر أنَّ نقص مياه النيل لم يكن يؤثِّر فقط على الريِّ والزِّراعة، بل كان له أسوأُ الأثر على التِّجارة الداخلية التي كانت تعتمد اعتمادًا رئيسًا على نهر النيل في نقل البضائع بين أنحاء البلاد؛ إذ كان نقصُ ماء النيل يعطِّل سير المراكب، مثلما حَدَث في سَنَة 398هـ التي نقص فيها ماء النيل نقصًا فاحشًا، وصار النيل - على حدِّ تعبير يحي بن سعيد الأنطاكي - مخائض تخوضه الدواب فأدَّى هذا إلى انقطاع سَيْر المراكب في البحر الشرقي من تنيس ومِن المحلَّة[60]، وقد كان تعطُّل المراكب - بطبيعة الحال - يهدِّد بغلاء الأسعار في المدن الكبرى كالفُسطاط التي كانت تعتمد في ميرتها على ما يأتيها من الأقاليم، وعلى نشاط التِّجارة الداخليَّة[61]، يؤكِّد ذلك ما ورد في بردية مِن أوراق البردي العربيَّة التي جمعها جروهمان، وكانت هذه البرديَّة المفقود أوَّلُها موجهةً من أولي الأمر إلى صاحب المكس بميدان القمْح سنة 91هـ، وفيها يحثُّ مَن وجه تلك الرِّسالة[62] صاحبَ المكس على أن يُسرع بإدخال القمْح إلى الفسطاط، حتى لا يغلو سعرُه، ويخبره أنَّه أعفى التجار من المكس على القمْح؛ تشجيعًا لهم على سرعة إدخاله إلى المدينة[63]، وهذا إن دلَّ على شيء، فإنَّما يدل على أنَّ تعطيل تجارة القمْح كان يؤدِّي إلى غلوِّ الأسعار، وحدوث أزمة اقتصادية؛ وهو الأمر نفسه الذي كان يحدُث إذا تعطَّلت المراكب بسبب نقص مياه النيل. ولم يقتصرْ وقوع الأزمات الاقتصاديَّة على حالات قصور النيل، وحدوث الظمأ أو القحط، وإنَّما كانت تحدُث بعضُ الأزمات في حالات الاستبحار التي تنجم عن زيادة مُفرِطة، لكن الأماكن التي تستبحر يدوم مكوث الماء عليها، فيفوت أوانُ زراعتها[64]، ومن الطبيعي أنَّ حدَّ الاستبحار كان يتزايد هو الآخر، مثلما يَتزايدُ كلٌّ مِن حدِّ الوفاء، وحدِّ الكفاية، فحينما كان حدُّ الوفاء ستة عشر ذراعًا، كان حدُّ الاستبحار ثمانية عشر ذراعًا[65] إذا بلغه النيل استبحر من البلاد ربع الأراضي الزراعيَّة[66] وإذا تخطَّت الزيادة ثمانية عشر ذراعًا، كانت العاقبةُ في انصرافه حدوثَ وباء[67]، وحينما أصبح حدُّ الوفاء ثمانية عشر ذراعًا، أصبح حدُّ الاستبحار عشرون ذراعًا [68] وهلمَّ جرًّا. وإجمالاً، فقد كان فيضانُ النيل هو العاملَ الرئيس وراءَ حدوث الأزمات الاقتصاديَّة، التي كانت تنجُم غالبًا عن قصور النيل قصورًا شديدًا، أو تحدُث أحيانًا زيادة النيل زيادة مفرطة، ويمكن القول: إنَّ تلك الأحوال (الظمأ والاستبحار) لم تحدُثْ في مصر إلاَّ قليلاً طيلةَ تاريخ مصر الإسلامية[69]، لكنَّ هذا القليل من الأزمات الاقتصاديَّة شاع ذِكرُه؛ لأنَّه لم يكن شيئًا معتادًا في تاريخ مصر الإسلاميَّة التي اعتادتِ الغِنى والرَّخاء، فكان المصريُّون يَفزعون لأيِّ بادرةِ نقص في مياه النيل. [1] يقصد بمصر الإسلامية تلك الفترة من تاريخها التي تمتد من فتح المسلمين لها سنة 21 هـ، 641 م، حتى سقوط الخلافة الفاطميَّة سنة 567 هـ، سنة 1171 م. [2] ينقل ياقوت الحموي عن صاحب الزيج: أنَّ مصر خزائن الأرضين كلها؛ "معجم البلدان،(5/137)، مادة مصر. [3] ابن زولاق: "فضائل مصر"، (ص: 33). وابن ظهيرة: "الفضائل الباهرة"، (ص: 128- 129). [4] ياقوت الحموي: المصدر السابق، (5/138). [5] أحسن التقاسيم، (ص: 202). [6] طبع هذا الكتاب بعناية لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة، سنة 1940 م، وقام على تحقيقه ونَشْره كلٌّ من المؤرخَين القديرَين الدكتور/ محمد مصطفى زيادة، والدكتور/ جمال الدين الشيال - رحمهما الله. [7] وُلد المقريزي بالقاهرة سنة 766 هـ، وتوفي ودفن بها سنة 845 هـ، وقد ألَّف كتابه المشار إليه في سنة 808 هـ. [8] ياقوت: "معجم البلدان"، (5/334)، مادة نيل. [9] كانت الأرض تُقسم إلى أحواض تتفاوت مساحاتها بين ألْف وأربعين ألف فدان، وحينما يرتفع الفيضان تتدفق المياه في قنوات صغيرة بطريقة منظَّمة لتغمر الأرض بمياه مرتفعة، وتظل تغمر الأرض مدَّة تتراوح بين 40 -60 يومًا، حتى ينخفض النهر بدرجة كافية، فتصرف فيه المياه ثانية. (Hurat, the Nile p. 48) [10] محمد حمدي المناوي: "نهر النيل في المكتبة العربية"، (ص: 119). [11] ابن ظهيرة: "الفضائل الباهرة"، (ص: 112). [12] المقريزي: خطط، (1/488). [13] المقدسي: "أحسن التقاسيم"، (ص: 206). [14] لم تكن مصر زمنَ المستنصر بالله الفاطمي ولايةً، وإنما كانت منذ مجيء المعز لدين الله مقرَّ الخلافة الفاطمية، ويبدو أنَّ استخدام ناصر خسرو كلمة ولاية يقصد به أنَّ هذا الجسر كان موجودًا قبل العصر الفاطمي. [15] يقصد بخزينة السلطان: الخزانة الحكومية؛ لأن الأيوبيِّين الذين حكموا مصر بعد الفاطميين كانوا أوَّلَ من تلقَّب بالسلاطين من حكّام مصر في تاريخها الإسلامي. [16] ناصر خسرو، "سفر نامة"، (ص: 43). [17] ابن مماتي: "قوانين الدواوين"، (ص: 232، وما يليها). [18] ابن عبد الحكم: "فتوح مصر وأخبارها"، (ص: 204). والكندي: "فضائل مصر"، مخطوط، (ورقة: 16). وابن ظهيرة: "الفضائل الباهرة"، (ص: 162). وجلال الدين المحلي: "مقدمة النيل السعيد"، (ص: 9). [19] القابسي: "نيل الرائد في النيل الزائد"، (ص: 8). [20] محمد أمين صالح، "دراسات اقتصادية في مصر الإسلامية"، عصر الولاة، (ص: 48). [21] تشير المصادر إلى أنَّ أول من قاس النيل نبي الله يوسف - عليه السلام - ومعروف أنَّه كان يعمل ليقي مصر من شدَّة السنوات العِجاف التي أشار إليها القرآن الكريم، (سورة يوسف، الآية 46، وما بعدها). وانظر: ابن عبد الحكم: "فتوح مصر"، (ص: 16)، ابن مماتي: "قوانين الدواوين"، (ص: 75)، "الاستبصار في عجائب الأمصار"، لمجهول (ص: 75)، ابن ظهيرة: "الفضائل الباهرة" (ص: 178). [22] ياقوت: "معجم البلدان"، (5/178)، مادة مقياس، ويصف الإدريسي - "صفة المغرب والأندلس والسودان ومصر"، (ص: 144) - مقياس الروضه بقوله: ".. دار المقياس هي في الرأس العريض من الجهة الشرقية مما يلي الفسطاط، وهي دار كبيرة يُحيط بها من داخلها من كل جهة أقبيةٌ دائرة على عمد، وفي وسط الفسقية عمود رخام قائم، وفيه رسوم أعداد أذرع وأصابع بينها، وعلى رأس العمود بنيانٌ متقن من الحجر، وهو ملَّون مرسوم بالذَّهب واللازورد، وأنواع الأصباغ المحكمة والماء، يصل إلى هذه الفسقية على قناة عريضة تصل بينها، وبين ماء النيل، والماء لا يدخل في هذه الجابية، إلاَّ عند زيادة ماء النيل". [23] القلشندي: "صبح الأعشى"، (3/ 298). ومجهول: "الفتوحات"، مخطوط (الصفحات بدون ترقيم). غير أنَّ ابن تغري بردي يرى أنَّ المقياس الذي كان يُعمل به قبلَ الفتح هو الذي كان بقيسارية الأكسية. "النجوم الزاهرة"، (2/309). [24] يروي ابن عبد الحكم "فتوح مصر"، (ص: 16): أنَّ يحيى بن بُكير المتوفى سنة 231هـ/ 846م حدَّثه بأنَّه أدرك القياس في مدينة منف. [25] محمد حمدي المناوي: المرجع السابق، (ص: 48). [26] الكندي: الولاة والقضاة، (ص: 203)، ابن مماتي: "قوانين الدواوين"، (ص: 759)، والمقريزي، "خطط"، (1/92)، وابن ظهيرة: "الفضائل الباهرة"، (ص: 178). [27] "تاريخ سعيد بن بطريق"، (2/62). - ينفرد ابن البطريق بالقول بأنَّ مقياس المتوكِّل بني بجيزة مصر سنة 245هـ، إلاَّ أنَّ الكشوف الأثريَّة أثبتت وجود مقياس المتوكِّل في جزيرة الروضة مكتوبًا عليه تاريخ إنشائه سنة 247هـ. سيدة إسماعيل كاشف: "الأرض والفلاح"، (ص: 177). [28] يطلق ابن تغري بردي "النجوم الزاهرة"، (2/111) على هذا المهندس العراقي اسمَ محمَّد بن كثير الفرغاني. [29] الخطط، (1/979). [30] راشد البراوي: "حالة مصر الاقتصاديَّة في عهد الفاطميِّين"،( ص: 64). [31] المرجع نفسه، الصفحة نفسها. [32] المقريزي، "خطط"، (1/96)، السيوطي: "مبدأ النيل على التحرير"، (ص: 23). [33] ابن زولاق: "فضائل مصر"، (ص: 29). [34] محمود أبو زيد: "أثر النيل"، (ص: 127). [35] ابن ظهيره: "الفضائل الباهرية"، (ص: 160)، وجلال الدين المحلي: "مقدمة النيل السعيد"، (ص: 9)؛ يتفقان في أنَّ محفوظ بن سليمان عالِم خراج مصر ذَكَر أنَّه إذا تمَّ الماء ستة عشر ذراعًا، فقد وفى خراج مصر، ومحفوظ بن سليمان هذا كان حيًّا في أواخر القرن الثاني الهجري. [36] أحسن أحمد محمود: "مصر في عصر الطولونيين"، (ص: 30). [37] ابن إياس: "نزهة الأمم في العجائب والحكم"، (ص: 69). [38] توفي المسعودي في هذه السَّنة عقبَ خروجه من مصر مباشرة، ومعنى هذا أنَّ كتاباتِه عن مصر لا تصدق على أبعد من هذا التاريخ بأيِّ حال من الأحوال. [39] المسعودي: "مروج الذهب"، (1/311). ولدينا نصٌّ من ابن حوقل "صورة الأرض"، (ص: 136)، يقول فيه: "كان خراجها – مصر – على عهده – يقصد المأمون أو المعتصم العباسي – بالإنصاف في الجبَّانة، وتوخي الرِّفق بالرعية، والمعدلة إذا بلغ النيل سبع عشرة ذراعًا وعشر إصابة أربعة آلاف ألف دينار ومائتي ألف وسبعة وخمسين ألف دينار، والمقبوض على الفدان ديناران". ومعنى ذلك أنَّ حدَّ الوفاء أو ماء السلطان كان قد تزايد منذ أواخرِ العصر العباسي الأوَّل إلى سبعة عشر ذراعًا تُجبَى عندها البلاد. [40] المقريزي، "خطط"، (1/94). [41] كانت الزيادة المعهودة في زمن ناصر خسرو 18 ذراعًا، بينما كان بلوغ النيل هذه الزيادةَ في خلافة عمر بن عبدالعزيز يُعدُّ من العجائب التي يدهش لها الناس. ابن زولاق، "فضائل مصر"، (ص: 48)، وإن كان القلقشندي يَزيد هذا الرقم ذراعًا واحدًا، فيجعلها 19 ذراعًا. "صبح الأعشى"، (3/296). [42] ناصر خسرو: "سفر نامه"، (ص: 42). [43] البغدادي: "الإفادة والاعتبار"، (ص: 75). [44] ابن مماتي: "قوانين الدواوين"، (ص: 75). [45] المقريزي، "خطط"، (1/94)، وابن إياس: "نزهة الأمم"، (ص: 71). [46] القلشندي: "صبح الأعشى"، (3/299)، وابن مماتي: المصدر السابق، (ص: 75)، وجلال الدين المحلي: "مقدمة النيل السعيد، (ص: 23). [47] ابن إياس: "نزهة الأمم"، (ص: 71)، والمقريزي، "خطط"، (1/96). [48] ابن إياس: "نزهة الأمم"، (ص: 73). [49] ابن الطولوني: "النزهة السَّنيَّة"، (ورقة: 15؛ ظهر). [50] لمقريزي: "خطط"، (1/96). - تُظهر العمليات الحسابية بعضَ التفاوت عمَّا ذكره المقريزي، لكن هذا لا يُقلِّل من قيمة رأي المقريزي، وصحته على المجاز. [51] انظر ما أثبتناه في ص: 10 - 11. [52] "الخطط" (1/97). [53]"الخطط" (1/93)، القلشندي: "صبح الأعشى"، (3/299)، وابن تغري بردي: "النجوم الزاهرة"، (2/312)، وابن إياس: "نزهة الأمم"، (ص: 70). [54] يذكر ابن حول "صورة الأرض"، (ص: 136): "ولمصر عادةٌ وسُنة لا يستقيم استيفاء الخراج من أهلها إلاَّ عند تمام الماء، وقد لا يستتم الماء، فيعجز بعض الأرض عن أن يركبَها الماء، فيرزح الخراج عن الكمال". [55] المقريزي: "خطط"، (1/ 94)، ابن تغري بردي: "النجوم الزاهرة"، (2/312). [56] ناصر خسرو: "سفر نامه"، (ص: 42). [57] البغدادي: "الإفادة والاعتبار"، (ص: 44). [58] محمد أمين صالح: المرجع السابق، (ص: 49). [59] يذكر ابن عبد الحكم "فتوح مصر"، (ص: 189): أنَّ بعض المشايخ المتقدمين ذكر أنَّه نظر في بعض الدواوين بالفسطاط – عن فتح النوبة – وقرأه قبل أن ينخرق، وهذا يُبيِّن صعوبة حفظ السجلاَّت لفترة قصيرة، فكيف بها لو امتدت لبضعة قرون؟! [60] "تاريخ يحي بن سعيد الأنطاكي"، (2/194). [61] ذكر ابن سعيد الأندلسي "النجوم الباهرة"، (ص: 27)، وينقل عنه المقري "نفح الطيب"، (8/200): الفسطاط أكثر أرزاقًا، وأرخص أسعارًا من القاهرة؛ لقرب النيل من الفسطاط، فالمراكب التي تصل بالخيرات تحطُّ هناك، ويباع ما يصل فيها بالقرب من ساحلها، ولا يتَّفق ذلك في ساحل القاهرة؛ لأنَّه يبعد عن المدينة، وكانت المراكب تأتي الفسطاط من شمال النيل، ومن جنوبه بأنواع الفوائد. [62] أغلب الظنِّ أن موجِّه تلك الرسالة هو قُرَّة بن شريك والي مصر منذ سنة 90هـ، حتى سنة 96هـ. [63] "أوراق البردي العربية"، (3/8). [64] البغدادي: "الإفادة والاعتبار"، (ص: 44). [65] المسعودي: "مروج الذهب"، (1/212)، والمقريزي"الخطط" (1/94)، وابن تغري بردي: "النجوم الزاهرة"، (2/312). [66] القلقشندي: "صبح الأعشى"، (3 /300)، وجلال الدين المحلي: "مقدمة النيل السعيد"، (ص: 9). [67] المقريزي،"الخطط" (1/95)، وابن ظهيرة: "الفضائل الباهرة"، (ص: 160)، وجلال الدين المحلي: "مقدمة النيل السعيد"، (ص: 10). [68] الإدريس: المصدر السابق، (ص: 144)، والبغدادي: "الإفادة والاعتبار"، (ص: 44). [69] البغدادي: "الإفادة والاعتبار" (ص: 45). |
#5
|
||||
|
||||
جزاكم الله خيرا ونفع بكم
تقبل الله منا ومنكم صالح الاعمال |
#6
|
|||
|
|||
شكرا..........
|
العلامات المرجعية |
|
|