فن قيادة الشعوب

[abomokhtar]

بقلم/ تراجي الجنزوري
إن ما حدث منذ سنتين في الشرق الأوسط من ثورة الشعوب على حكوماتها.. لجدير بأن نقف معه وقفة نرى من خلالها صفة الحكومة المنوطة بقيادة الشعوب .. فالحكومات وإن شئت فقل الدول قسمان:
دولة شعارها الجباية.. ودولة شعارها الهداية.. ولكل منهما طابع خاص.. ورجال مخصوصون.. ولكل نتائج مميزة .
أولا ً: ميزان الأشياء ومناط الأحكام
بالنظر إلى دولة الجباية تجد أنمناط الأحكام وميزان الأشياء فيها هو تضخم الميزانية.. وكثرة الدخل والإيرادات.. ورفاهية رجال الحكومة.. وإن كان ذلك بامتصاص دماء الفقراء.. وفرض الضرائب المجحفة.. بما يهيئ للأمراء والوزراء.. وأبنائهم وأبناء أبنائهم.. والمتصلين بهم ورجال الحكومة وأسرهم وخدمهم أسباب الترف والتنعم والبذخ.. وبما يبنون به القصور الفاخرة.. ويملكون السيارات بل الطائرات الفارهة والأملاك والعقارات الواسعة .
وأما بقية الشعب فكبر عليه أربعا ً.. فقد مات إكلينيكيا من شدة الفقر.. وقسوة الضرائب.. والشعب قد أنهك في سبيل أن يجد لقمة العيش .
فهذه الحكومة تغفل وتتغافل عن كل ما لا يجر عليها فائدة مالية.. فتجدها تبيح المنكر والمحرم طالما تجني منه نفعا.. وتحرم المباح والحلال إذا كانت تخاف منه خطرا ً سياسيا ً..ولا يزال الجشع بها حتى تفرض ضرائب على الموت والحياة.. وقد تصل الضرائب إلى العبادات .. وهذا واقع ومشاهد .
وبهذا تتحول الدولة من حكومة ساهرة على مصالح الجماهير إلى شركة تجارية.. لا هم لها إلا جمع الأموال .
أما الدولة التي شعارها الهداية فمهمتها:الدعوة إلى مكارم الأخلاق.. السعي الحثيث في محاولة رفع روح الجماهير وتحليتهم بالفضائل.. وتجنيبهم المحرمات.. وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وبالدعوة إلى الله.. ولو كان ذلك على حساب ميزانيتها.
فتنصب الوعاظ.. وترسل الدعاة.. وتشجع الحسبة.. وتمنع الخمور.. وتحرم الفجور.. وتطارد المفسدين في الأرض.. ويتحقق فيهم قول الله: "الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ "
ثانيا ً: رجال الحكومتين.. شتان لا سيان:
يمتاز رجال حكومة الهداية بكل ما هو نبيل.. يمتازون في النزعة والروح.. والسيرة والمعاملة والسلوك.. فترى فيهم التطوع والاحتساب.. وروح الخدمة والإيثار.. وروح التضحية والوفاء والعطاء.
أم رجال حكومة الجباية فيتصفون بكل ما هو سيئ ومشين فتجدهم دائما ًمعاكسين للقانون.. محاولين التفلت منه.. سبيلهم في الحياة الأثرة والخيانة.. والنفاق والزور.. وفشوا الرشوة والمحسوبية.. ولا تستطيع أن تتمتع بحق من حقوقك إلا برضخ المال وتقديم الطعام .
ثالثا ً: النتائج:
نتيجة حكومة الجباية لا يحتاج إلى تحقيق مناط ولا سبر أغوار.. فقد رأيتموه رأي العين في مصر وليبيا وتونس وغيرها من البلاد العربية.
وقد بدا واضحا ً جليا ً في ميادين الاعتصام .. وصرحت به لافتات المتظاهرين.. مما لا يدع مجالا ً للشك أنها حكومات فاشلة ظالمة.. ولقد ذاق الشعب منهم الويلات.. فحق عليهم قول الله تعالى: "وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ".
أما حكومة الهداية.. فإنك تستشعر مع اللفظ نفسه الطمأنينة والأمن والراحة والعدل.. ومعها يكون الخصب والزرع.
وهذه الحكومات نادرة جدا ً ..ولنضرب لها مثلا ً:
أصبح محمد (صلى الله عليه وسلم ) نبيا ًباقرأ.. ورسولا ً بالمدثر.. فأسلم على يديه "إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى........" وكان هؤلاء الفتية هدف كل قسوة وظلم.. فصمدوا وثبتوا كالجبال.
ثم أذن الله لهم بالهجرة.. فشقت الدعوة طرقها وآتت أكلها حتى قضى الله أن يحكم رجاها في الأرض.. فأقاموا العدل ونصبوا القسط.. ودخل الناس في دين الله أفواجا.. وتأسست دولة الإسلام.. وفتحت فارس وبلاد الروم وبلاد الشام بتحقيقهم قول الله: " الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ"
وما أطلق على عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين إلا بتغييره مجرى الحكومة من الجباية إلى الهداية .
وفي النهاية أقول:
لقد جربنا حكومات الجباية على اختلاف أنواعها.. فلم نر منها إلا شرا ً ومرا ً فهيا إلى حكومة الهداية.. فهي فرصة لم تسنح إلا كل حين.. ومعها يكون الأمن والأمان.. والعدل والإحسان.