ولد سيد درويش فى 17 مارس سنة 1893م في مدينة الاسكندرية..
وتوفي في الاسكندرية أيضا في10 سبتمبرعام 1923م.
تزوج الشيخ سيد وهو في السادسة عشرة من العمر، وصار مسئولا عن عائلة،
فاشتغل مع الفرق الموسيقية، لكنه لم يوفق، فاضطر أن يشتغل عامل بناء،
وكان خلال العمل يرفع صوته بالغناء، مثيرا إعجاب العمال وأصحاب العمل، وتصادف وجود الأخوين أمين عطا الله وسليم عطا الله، وهما من أشهر المشتغلين بالفن، في مقهى قريب من الموقع الذي كان يعمل به الشيخ سيد درويش، فاسترعى انتباههما ما في صوت هذا العامل من قدرة وجمال،
واتفقا معه على أن يرافقهما في رحلة فنية إلى الشام في نهاية عام 1908، حيث قضى هناك عشرة شهور تعرف خلالها بالأستاذ عثمان الموصلي وحفظ عنه التواشيح وفي عام 1909 ألحقه الأخوان عطا الله بفرقتهما. سافر مرة أخرى إلى الشام من عام 1912 حتى عام 1914 حيث أتقن العزف على العود وكتابة النوتة الموسيقية فبدأت ينابيع الفن تتفجر لدى سيد درويش فلحن أول أدواره ”يا فؤادي ليه بتعشق“ وهنا صار اللحن للمرة الأولى هو تصور موسيقي للمعنى. في عام 1917 انتقل سيد درويش إلى القاهرة، ومنذ ذلك سطع نجمه وصار إنتاجه غزيرا فقام بتلحين كافة رويات الفرق المسرحية في عماد الدين حتى قامت ثورة 1919 فغنى ”قوم يا مصري“ . أدخل سيد درويش في الموسيقى للمرة الأولى في مصر الغناء البوليفوني في أوبريت العشرة الطيبة وأوبريت شهرزاد و البروكة. وبلغ إنتاجه في حياته القصيرة من القوالب المختلفة العشرات من الأدوار وأربعين موشحا ومائة طقطوقة و30 رواية مسرحية وأوبريت. تجددت الروح في الطابع الأصيل للمزاج المصري ومازال نشيد بلادي بلادي الذي ألفه في مطلع القرن 20 هو النشيد القومي لمصر اليوم . والعقاد تأثر بوفاة ذلك الموسيقي الكبير باعتباره يملك موهبة قلّما يجود بمثلها الزمان..
وحنجرة رنانة لا تمل الأذن شدوها المحبب إلى النفس..
وقد صور العقاد إعجابه بسيد درويش في كتابه «مراجعات في الآداب والفنون» اذ قال
«واذا قلت السيد درويش فقد قلت امام الملحنين، ونابغة الموسيقى المغرد في هذا الزمان».
ويتضح لنا إعجاب العقاد الشديد بسيد درويش عندما قال «مات والقطر كله يصغي إلى صوته، وسمع نعيه من سمعوا صوته ومن سمعوا له صداه من مرتلي ألحانه ومرجعي أناشيده، فما خطر لهم إلا القليلين انهم يسمعون نبأ خسارة خطيرة، وان هذه الأمة قد فجعت في رجل من أفذاذ رجالها المعدودين».
مقطوعة شعرية للعقاد في رثاء سيد درويش في إحدى ذكريات وفاته..
واذا المسارح راجعت أيامهالاذت بفرد منه لا يتكرر
قالوا تفرنج بالغناء وانماهو مؤثر في الفن لا متأثر
عرف الأغاني واللحون كما جرتفي عرف من نطقوا بهن فعبّروا
أمم اذا غنت فليس غناؤها لغو المجانة بل معان تؤثر
في يوم الخميس 29 مايو عام 1919 في منزل بسيط بحي جزيرة بدران بشبرا ، إمتلأتالدنيا بالزغاريد و الفرحة و البهجة بين أصدقاء و أسرة العروس وهي في قمة زينتها وجمالها بإنتظار عقد قرانها على عريسها الشيخ سيد درويش ، وما أن جاء المأذون لعقدالقران حتى سكن الجميع و كأن على رؤوسهم الطير ، في انتظار الانتهاء من مراسمالزواج ، وبدأ المأذون في ملأ بياناته الروتينية ، وجاء الوقت لملأ خانة مهنةالعريس ، فقال سيد بكل بساطة "موسيقي" ، وما أن سمع المأذون ذلك حتى اكفهر وجه وبدأ يلملم أوراقه مستعداً للإنصراف ، وعندما استوقفه الجميع عن ذلك متعجبين لتصرفهأجابهم باقتضاب أن العرف المتفق عليه يقضي بعدم الإعتراف بأهلية العاملين في الوسطالفني أو الموسيقي ولن يتمكن أى مأذون من إتمام هذه الزيجة ، فما كان من الشيخ سيددرويش إلا أن أجابه والغصة تملأ حلقه بأنه يعمل كـ"مدرساً"!!!.
كانت هذهنقطة إنطلاق القضية التي تبناها الشيخ سيد رويش وهي قضية "كرامة الفنان و نظرةالمجتمع له" ، فقد كانت المجتمع يرمق الفنان بنظرة مليئه "بالقرف" و الاستهزاء وعلىأنه أحقر حقير خلق ، فقد تتنكرعائلة بأكملها للابن إذا قرر دخول عالم الفن ، وفيالمحاكم لا تؤخذ شهادة الفنان وذلك على إعتبار أن المزيكاتي أو القرداتي أوالأدباتي –كما كان يوصف- لا يعترف به كشخص عاقل له كيان يحترم ، وقد ثارت ثائرة سيددرويش لهذه المعاملة و قرر أن يثبت للمجتمع أن للفنان حق في أن يحترم و أن يعترفبقيمته الهامة جداً في حياة الشعوب.
وتمكن شيخ الفنانين سيد درويش بالفعل منإثبات ذلك بجدارة ، فقد تفنن في إبداع الأغاني والطقاطيق والمسرحيات المأخوذة عنحياة الشعب نفسه ، مما سهل على الجمهور إستقبال الفن الذي قدمه ، كما أن ألحانه علىسبيل المثال كانت الوسيلة التي عبر بها الشعب عن سخطه نتيجة نفي الزعيم سعد زغلولوآخرين من الزعماء السياسين في مارس 1919 ، حيث إنتشرت بين صفوف المواطنين أغنيتهالشهيرة "يا بلح زغلول" ، فكانت كلمة "السعد" و "زغلول" هما المتنفس الوحيد للتعبيرعن الغضب المكبوت في صدور الملايين الثائرة ، في الوقت الذي قامت فيه الحكومةالمتشددة من منع نشر أخبار أو أسماء الزعماء المنفيين أو مجرد التلميح لهم ، وكانتهذه المرة الأولى التي إستطاعت بها الأغنية الخفيفة أن تلقي اهتمام واسع من الجميعو أن تدخل التاريخ السياسي بهاتين الكلمتين ، وبهذا بدأ الشيخ سيد في الانتشار بينصفوف الشعب بألحانه الثورية ، سواء المعبأة بروح المقاومة ضد الاستعمار ، أوالثورية على "لون" الغناء القديم الذي إعتمد عليه المطربين القدماء.
وقد كانمن شيم الشيخ سيد ألا يضع لحناً لكلمات إلا إذا شعر بها و دخلت إلى عقله و قلبه ،مما جعله يصنع ألحاناً أتت عن رغبة و حب و إيمان بما يغنيه ، وكان مهتماً بتقديم مايسعد الشعب ويرفه عنه في وقت الحروب والاستعمار ، وفي الوقت الذي كان المجتمع لايعترف بمكانة الفنان ، فأصبح على يديه الفن هو ما يبهج الشعب و يساعده على الخروجمن أزماته وتعبه وشقاؤه ، كما كان يرفض وضع ألحاناً لكلمات لا يشعر بصدقها حتى لوكانت ستدر عليه دخلاً كبيراً ، فعلى الرغم من حاجته للمال ، إلا أن احترامه لمكانتهو عمله كفنان كانت تمنعه من إهدار موهبته ، مما أجبر الآخرين على احترامه و تقديرعمله.
كل هذا أدى إلى رد اعتبار الفنان بين أفراد المجتمع ، ومن منطلق استحقالشيخ سيد لقب "فنان الشعب" لعدة أسباب ، منها أنه كان فناناً بسيطاً ، منتهىسعادته هو أن يرى السعادة و السرور على وجوه جمهوره من الغلابة و البسطاء من خلالألحانه و مسرحياته ، ولم يكن أبداً من مطربي "الصالونات" أو القصور ، و من ذلكالقصة الطريفة التي رواها الناقد الفني أحمد حسن رحمه الله ، والذي كان مقرباً مندرويش وتعود أن يحضر جميع "لياليه" وسهراته ، وفي أحد الأيام مر عليه الشيخ سيدليأخذه معه لإحدى السهرات ، فاعتقد هو أنها ستكون سهرة عبقرية ، إلا أنه روى له فيالطريق أنه استقل في نهار اليوم نفسه عربة حنطور مع سائق لا يعرفه ، وسمعه يناديعلى زميلٍ له في الاتجاه المقابل و يدعوه إلى سهرة في بيته الليلة بمناسبة سبوعابنه ، فرد عليه صديقه ساخراً :"يعني مسهر الشيخ درويش يا أخي؟!" ، وتضاحك الصديقانومضى كلاَ منهما في طريقه ، وتمكن الشيخ سيد من خلال حديثه مع السائق من معرفةعنوانه ، وقرر أن يحيي حفلة "سبوع" ابنه ..
وبالفعل جاء الليل ومر الشيخ سيدعلى صديقه أحمد حسن و قد شقا طريقهما نحو منزل هذا السائق ، ومن حارة إلى زقاق إلىعطفة داخل حي شعبي ، وجد السائق راكب الصباح يقف أمامه حاملاً عوده ، وعندما علمأنه الشيخ سيد درويش "بشحمه و لحمه" لم يصدق نفسه و قفز عليه يقبله و يعانقه ، وقدانتشر خبر وجوده في الحي بأكمله و تجمع الأهالي و الجيران ليجلسوا حول الشيخ سيددوريش الذي أخذ يأكل و يشرب معهم ويغني ويحفظهم ألحانه . ويعلق أحمد حسن رحمه اللهعلى هذه الليلة " ووالله ماسمعت سيد يحلق إلى القمم التي حلق فيها تلك الليلة بمثلالإبداع الذي جعلها ليلة العمر في حياتي" ، وهذا مثال حي على مدى بساطة هذا الفنانوحبه للناس وتواضعه معهم.
وسبب آخر قد يفسر استحقاقه للقب "فنان الشعب" وهيكيف أنه كان يستشف ألحانه العبقرية من "أغاني الشارع" ، فعلى الرغم من أن هذا اللفظقد يثير حافظة البعض ، إلا أنه يجسد الحقيقة ، فقد عثر الشيخ سيد على ثروة لحنيةجديدة في أسلوبها و جوهرها من خلال كنز لايفنى من ألحان الشارع ونبع لا ينضب منألحان عفوية لاحصر لها ، وكانت بداية هذا الإكتشاف مع أول ألحانه لفرقة نجيبالريحاني "السقايين" .
ويروي الفنان نجيب الريحاني قصة هذا اللحن في مذكراته، بأنه قد تم تسليم الشيخ سيد زجل لرواية أطلق عليها "ولو" وهى عبارة عن شكوى منمجموعة سقايين يروون فيها للجمهور آلامهم في الحياة ، وقد وعد الشيخ سيد بأن يجهزاللحن في الغد ، وجاء اليوم التالي و لم يظهر ، ومر يوماً آخر ولا أثر للحن بعد ،وفي اليوم الثالث ذهب أحد الأصدقاء إلي الشيخ سيد في منزله وسهر معه في هذه الليلة، فوجده لم يجهز اللحن بعد لأن قريحته متحجرة وقد قضي الثلاثة أيام الماضية يحاولفي العثورعلى اللحن المناسب و لكن دون جدوى ، وفيما هما يتحدثان ونهار يوم جديدأوشك على الظهور ، صادفهمها صوت ساقي يحمل الماء على ظهره ويجوب الحواري وهو يناديبأعلى صوته و بنغمته التقليدية الخاصة قائلاًً "يعوض الله" فتنبه الشيخ سيد ، وأمسكذراع صديقه و هتف " خلاص .. خلاص لقيت اللحن اللى انا عاوزه" ، وغنى الشيخ سيد هذااللحن على أفراد فرقة الريحاني ، وعلى الرغم من معرفته لجودة هذا اللحن و تميزه ،إلا انه لم يتمكن من إخفاء قلقه و هو يراقب تأثير اللحن على وجوه مستمعيه ، إلى أنإطمأنت نفسه بعد لاحظ عليهم القبول وقد وجد الطريق إلى قلوبهم ، وأنه قد حاز رضاالجميع بعد ان استخدم نفس النداء "الحي" بمقامه الموسيقي وجعله بدايةاللحن.
الشيخ سيد أحسن إستماعه إلى النداءات الشعبية المنتشرة في الأسواق والميادين بين الناس ، وجمعها في ذاكرته وحفظها ، مما سهل عليه استخدامها كمصدراًللإلهام و ذلك بإعادة صياغتها في ألحان سهلة لا تشعر بغربة وأنت تستمتع إليها حتىخرجت رائعة بما فيها من بساطة الحياة وجمالها.
"ألحان الشارع" التي ابتدعهاسيد درويش جعلته يتحمل موجات عاتية من هجوم لا مثيل له في عالم الفن في حياته و بعدوفاته أيضاً ، فقد تنكر العديدون للون الغناء الجديد الذي قدمه ، ونعته البعضبالسارق وذلك بنسب ألحان من صنعه إلى أنفسهم ، بل أنه نعت بالسارق لإستعانته بألحانالشارع العفوية في صنع ألحانه ، ولكن على الرغم من كل ذلك فقد كان و سيظل الشيخ سيددرويش هو عميد الأغنية المصرية و فنان الشعب و صاحب كل الألقاب التي منحها جمهورهإياه رغم أنف الجميع ، وخاصة ... الحاقدين!!
"ليست الموسيقى صناعة منالصناعات المنحطة التي يتخذها محترفوها وسيلة للكسب فحسب بل هى فن جميل راق يجب أنيعمل المشتغلون به على ترقيته قبل أن يعملوا على الربح منه لأنه من الفنون التيتستخدمها الأمم الراقية لتقويم الأخلاق و ترقية النفوس و الحض على الولاء ، ذلكإعتقادي وهو إعتقاد كل مشتغل بفن الموسيقى بإخلاص وغيره بل هو الواجب المحتوم علىكل من يتصدى لخدمة هذا الفن" كان هذا قول فنان الشعب و شيخ الأغنية الراحل سيددرويش..رحمه الله.
1892 : يوم 17 مارس في منزل متواضع بحي كوم الدكةبالإسكندرية بشارع السوق الذي سمي الآن شارع الشيخ سيد درويش ، ولد طفل صغير عرفهالتاريخ بإسم السيد درويش البحر.
1923 : في شهر سبتمبر توفي الأسطورة السيددرويش في موطنه بالإسكندرية في ظروف غامضة إلى الآن وهو في ريعان شبابه ، رحمهالله.
** المصدر : "من أجل أبي .. سيد درويش" تأليف حسن درويش