عندما يخسر المواطن المصري مرتين

[نزيه الصعيدى]

من العبارات الدارجة اليوم أن المواطن المصري أصبح مغرقا في المحلية‏,‏ وحيث سبق أن استمعت لنفس المقولة علي لسان أكثر من شخصية بارزة في مجال الإعلام كما تذكرتها مجددا بعد أن أدرت سريعا أيضا شريط خبرة صحفية زادت علي الثلاثين عاما‏,‏ فقد وجدت العبارة تلخص من جهة أخري حال الصحافة المصرية الراهن إلي حد كبير بكل ما تمثله العبارة من إيجابيات وسلبيات‏,‏ وتفيد إلي حد كبير أيضا في سبر أغوار ما لحق بالمواطن المصري من تطورات علي الأصعدة الثقافية والاجتماعية والسياسية‏,‏ وعلاقة هذا التطور بالمضمون الإعلامي الراهن‏.‏
في الماضي كانت العبارة اتهاما يوجه دائما إلي حال الصحافة المصرية قبل أن تظهر الصحف الخاصة ووسائل الإعلام الأخري كالفضائيات والإنترنت‏,‏ وكان من يرددونها في الأوساط العربية يستندون إلي اعتياد الصحافة المصرية علي الاهتمام فقط بالأحداث المحلية‏(‏ المصرية‏)‏ دون الاهتمام بالمثل بالأحداث الخارجية عربية كانت أم أجنبية‏.‏ وما إن ظهرت الصحف الخاصة والفضائيات والشبكة العنكبوتية حتي بدا للوهلة الأولي أن هناك ثورة قادمة في عقل المواطن المصري‏,‏ حيث الانفتاح بلا قيود علي مساحة واسعة من الأفكار والرؤي والأحداث والتعليقات والحوارات الساخنة وكلها كانت كفيلة بأن تجعله يخرج عن حيزه المحلي الضيق ليجول في الفضاء الفسيح المحيط به فيتابع ما يجري هنا وهناك ويتفاعل معه‏.‏ ولكن خبرة سنوات مضت من هذه التجربة كشفت حقيقة أخري صادمة بكل تأكيد‏,‏ فعلي عكس ما كان متصورا من خروج المواطن المصري عن محليته‏,‏ ازداد إغراقا في المحلية بل وإلي حد مبالغ فيه‏,‏ فلم يعد مهتما فقط بما يجري من حوله من تطورات ساخنة في منطقته العربية‏,‏ بل لم يعد مهتما بالشأن العام المصري نفسه‏,‏ حيث لم يعد يري في كل الكون المحيط به إلا الأوضاع أو الأحداث التي تهمه شخصيا‏.‏
‏***‏
قد يحتج البعض علي هذا الاستخلاص الصادم مرددا أن العكس هو ما يتحقق‏,‏ بمعني أن المواطن المصري أصبح أكثر اهتماما بالأحداث العامة من حوله عربيا وأجنبيا ومحليا‏,‏ استنادا إلي ما يتم رصده في الصحف الخاصة والفضائيات والإنترنت من تفاعل مع بعض الأحداث الساخنة في الأراضي الفلسطينية‏,‏ أو العراق أو السودان أو الصومال‏,‏ ولبنان‏,‏ ومع قضايا عالمية تتعلق بالسياسات الأمريكية والأوروبية تجاه أوضاعها الداخلية أو تجاه المنطقة العربية عموما‏,‏ ولكن هذا يتم بشكل جزئي وطاريء‏,‏ حيث يعلو الاهتمام إلي حد إثارة الصخب والاحتجاج بصور مختلفة ثم يخفت ويختفي سريعا دون أن يؤشر إلي وجود اهتمام حقيقي بمثل هذه الأحداث‏,‏ برغم كل تتسم به من سخونة‏.‏ ومصدر الاهتمام في هذه الحالة لا يعود إلي وجود وعي لدي المواطن المصري بالقضايا المثارة من حوله‏,‏ حيث يصعب القول بأنه ملم فعلا بهذه القضايا بنفس الحال الذي كان هو عليه في خمسينيات وستينيات القرن الماضي‏,‏ وإنما يعود الاهتمام لأن الحدث أو القضية في زمن بعينه تؤثر علي الحياة الشخصية للمواطن‏,‏ هنا ينتفض مهتما ومتابعا‏,‏ إلي أن يطمئن بزوال الخطر فيعود إلي انكفائه علي نفسه وبشكل مبالغ فيه‏.‏ فهو يهتم بأحداث فلسطين عندما تنفجر المشكلات علي الحدود بأي صورة من الصور‏,‏ بينما لا يعنيه ما يجري من تطورات بالغة الخطورة علي الصعيد الفلسطيني ككل‏.‏ ويهتم بقضية المياه عندما يستشعر خطرا من بقية دول حوض النيل يؤدي إلي تقليل حصة المياه‏.‏ ويهتم بالأوضاع في العراق إذا ما تعرض مصريون أو شركات مصرية لأخطار أمنية هناك‏,‏ بينما لا يعنيه أبدا حال الأزمة السياسية التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين‏,‏ وإذا سألت مواطنا عاديا اليوم عن مدي متابعته للانتخابات الجديدة في العراق‏,‏ فإنه سيجيب بالنفي أو عدم العلم أصلا بوجود انتخابات‏.‏ وهكذا كان الحال أيضا بالنسبة للتطورات اللبنانية في الفترة الماضية التي لم يجذبه فيها سوي حرب نصر الله مع إسرائيل‏,‏ فحرب كهذه يمكن أن تؤثر سلبا أو إيجابا علي مستقبل حياته‏.‏ واهتم بالأزمة المالية العالمية لأنها بالطبع تؤثر علي أوضاعه الاقتصادية‏.‏ واهتم ولايزال بالسياسات الأمريكية والأوروبية بقدر تأثيرها علي أوضاعه الاجتماعية‏,‏ وعلي معتقداته الدينية وليس بقدر تأثيرها علي الأوضاع السياسية في المنطقة ككل‏.‏

http://arabi.ahram.org.eg/Index.asp?....htm&DID=10243