#1
|
||||
|
||||
جماليات التعريف والتنكير في الكلمة القرآنية
جماليات التعريف والتنكير في الكلمة القرآنية دكتور أسامة عبد العزيز جاب الله كلية الآداب – جامعة كفر الشيخ ينهج القرآن الكريم منهجاً فريداً في انتقاء الكلمة القرآنية مراعياً أبعادها الصوتية والصرفية ، ثم في توظيفها بعد ذلك في السياق التركيبي ، ولذا فالكلمة القرآنية في هذا الإطار تتمتع بكل عناية واهتمام منذ لحظة الانتقاء إلى لحظة التوظيف النصي . ومن ضمن أسس الانتقاء ؛ التوظيف السياقي للكلمة القرآنية في هيئات النكرة والمعرفة ، وما ذاك إلا قصداً لدلالات بعينها . وتوظيف الكلمة منكرة أو معرفة إنما يخضع في خصوصيته لمحددات السياق النصي ، وفنيات التوظيف الجمالي . يقول الزملكاني : " قد يظن ظانٍ أن المعرفة أجلى ، فهي من النكرة أولى ن ويخفى عليه أن الإبهام في مواطن خليق ، وأن سلوك الإيضاح ليس بسلوك للطريق . وعلة ذلك أن النكرة ليس لمفردها مقدار مخصوص ، بخلاف المعرفة ، فإنها لواحد بعينه ، يثبت الذهن عنده ، ويسكن إليه " ( ) . فالزملكاني يقرر هنا أن النكرة اصل والتعريف فرع عليه ، إذ قد يراد من وراء توظيف النكرة الدلالة على عموم وشمول لا تستطيع المعرفة أن تدل عليها . لكن ذلك لا يلغي أهمية التوظيف للمعرفة في سياقها النصي الخليق بها ( ) . ولنحاول الوقوف على بعض سياقات التعريف والتنكير في كلمات القرآن الكريم ، رغبة في إدراك بعض جماليات التوظيف لهذه الفنية في السياق القرآني . * فمن ذلك قوله تعالى : وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( ) ، فقد وظف النص القرآني في هذه الآية كلمة ( نفحة ) منكرة ، وهي لم ترد في القرآن الكريم كله إلا في هذا الموضع . والمعنى يدور في الآية على سياق ( التقليل ) ، وهذا كما يقول القزويني : " مستفاد من البناء للمرة ، ومن نفس الكلمة لأنها إما من قولهم : ( نَفَحَتْ الريحُ ) إذا هبَّتْ ، أي هبة . أو من قولهم : ( نَفَحَ الطيبُ ) إذا فاح ، أي فَوْحَة . كما يقال : ( نسمة ) . واستعماله بهذا المعنى في الشر استعارة ، إذ أصله أن يستعمل في الخير ، يقال له : ( نفحة طيبة ) أي :هبة من الخير " ( ) . وفي تنكير التقليل في ( نفحة ) ملحظ أسلوبي لطيف ، فإذا كانت النفحة الواحدة من العذاب تذكرهم بالويل المنتظر ، وبالظلم الذي اكتسبوه ، فما بالهم بما وراءها من لفحات العذاب . والتنكير هنا في إفادته التقليل ، يقوم أيضاً على لإفادة التوبيخ والتنبيه على أن مسّ قدر يسير من العذاب لأمثال هؤلاء حقه أن يكون في حكم المقطوع به . وربما استدعت البنية الصوتية لكلمة ( نفحة ) كلمة أخرى تدنو منها في تلك البنية ، ألا وهي كلمة (لفحة) التي تخالفها في المدلول الإيحائي . وهذا الاستدعاء الصوتي نوع من " العلاقات الإيحائية التي تعني أن العلاقة ( الرمز ) يمكنها أن توحي بمدلول علامات أخرى مشابهة صوتياً لها من الناحية النحوية ، أو من ناحية المعنى ، اعتماداً على هذا التناسب أو التشابه الصوتي " ( ) . ونستطيع أن نتخيل المعنى لو وردت كلمة ( نفحة ) معرفة ، لانعقد المعنى حينئذ – في غير القرآن – على إفادة معنى الحصر لهذا العذاب ، إذ هي ( النفحة ) التي تعقبها نفحات ، سرعان -حاشا لله – ما تنتهي وتزول . وهذا بالطبع يتناقض مع سياق التعذيب الدائم والمستمر لهؤلاء المعاندين . * ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( ) . فقد وردت هنا كلمتان معرفتان هما ( العزيز ) و ( الكريم ) . وبمقارنة سياق ورود هاتين الكلمتين في القرٌآن الكريم نجد أنهما قد وردتا منكرتين في آيات أخرى مثل قوله تعالى : عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم ( ) ، وقوله تعالى : مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ( ) ، قوله تعالى : إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( ) ، وقوله تعالى : أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( ) ، وقوله تعالى : وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزا ( ) . ولذا نجد أنفسنا إزاء العديد من الأسئلة أهمها على الإطلاق : ما سر التعريف في موضع ، والتنكير للفظة نفسها في موضع آخر ؟ وللإجابة عن هذا السؤال لا بد أولاً من التأمل الدقيق في هاتين الكلمتين في حال تعريفهما بـ(ال) لندرك سر هذا التعريف . يقول الإمام عبد القاهر : " اعلم أنك تجد الألف واللام في الخبر على معنى الجنس ، ثم ترى له في ذلك وجوهاً : أحدها أن تقصر جنس المعنى على المخبر عنه لقصدك المبالغة ، وذلك قولك : ( زيد هو الجواد ) ، و ( عمرو هو الشجاع ) ، تريد أنه الكامل ، إلا أنك تخرج الكلام في صورة توهم أن الجود والشجاعة لم توجد إلا منه ، وذلك لأنك لم تعتد ما كان من غيره لقصوره عن أن يبلغ الكمال " ( ) . فالتعريف بأل هنا على دلالة قصر جنس المعنى على المخبَر عنه لقصد المبالغة ، فكأن العزة والكرامة لم توجد إلا في هذا الشخص . يقول د. محمد العبد : " لننظر إلى التعريف بأل في ( العزيز ) و ( الكريم ) حتى نرى أثره في بنية الدلالة المفارقية ، كأن كلا من هذين الوصفين ، وبالتالي عكسهما تماماً – كما نريد المفارقة حقيقة أن تقول – قد تناهى في الظهور على الموصوف ، حتى امتنع خفاؤه " ( ) . فالآية بهذا التعريف تقصد معنى التهكم والسخرية من هذا العزيز الكريم ( أبي جهل ) ؛ ذلك لأن معاني العزة والكرامة على نحوهما الدقيق مما لا يعرف له سبيل عند هذا الرجل ، فليس له نصيب من العزة والكرامة إطلاقاً . ولذا فإن التعريف هنا أبلغ ما يكون ، وأدق ما يوصف به توظيف ، بعيداً عن سياقات التنكير التي كانت - عندئذ – ستغرقنا في دائرة العمومية والإيهام ، وهو غير ما يُقْصَد هنا . * ومن ذلك قوله تعالى : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً ( ) ، وذلك في الكلام على سيدنا يحيى -عليه السلام - ، وقوله تعالى : وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ( ) ، في سياق الحديث عن سيدنا عيسى -عليه السلام- . ولنا أن نتعجب من إيراد لفظ السلام في الآيتين ما بين والتنكير في جانب سيدنا يحيى والتعريف في جانب سيدنا عيسى ، فما السر في ذلك ؟ . والإجابة تتمثل في أن لفظ ( السلام ) قد عُدِل به من التنكير إلى التعريف لثلاث فوائد : أولها : أن ( السلام ) يشعر بذكر الله تعالى ؛ لأنه اسم من أسمائه جل ذكره . والفائدة الثانية : أنه يشعر بطلب السلامة والأمان منه جل وعلا ؛ لأنك متى ذكرت اسمًا من أسماء الله تعالى تعرضت لطلب المعنى الذي اشتق منه ذلك الاسم ؛ نحو قولك : الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس، السلام . والفائدة الثالثة : أنه يشعر بعموم التحية ، وأنها غير مقصورة على المتكلم وحده . فأنت ترى أن قولك : سلام عليك ، ليس بمنزلة قولك : السلام عليك ، في العموم . وقد اجتمعت هذه الفوائد الثلاث في تسليم عيسى - عليه السلام- على نفسه في قوله تعالى : وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ، ولم تكن واحد من هذه الفوائد الثلاث في تسليم الله تعالى على يحيى- عليه السلام- في قوله تعالى : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً ؛ لاستغناء هذه المواطن الثلاثة عنها ؛ وهي يوم الولادة ، ويوم الموت ، ويوم البعث ؛ لأن المتكلم - هنا- هو الله جل جلاله ، فلم يقصد تبركًا بذكر الاسم ، الذي هو( السلام ) ، ولا طلبًا لمعنى السلامة ، ولا عمومًا في التحية منه ، لأن سلامًا منه سبحانه كاف عن كل سلام ، ومغن عن كل تحية ، ومرب عن كل أمنية - كما يقول السهيلي ( ) . ولهذا لم يكن لذكر الألف واللام- ههنا- معنى؛ كما كان لهما- هنالك- لأن عيسى- عليه السلام- يحتاج كلامه إلى هذه الفوائد ، وأوكدها كلها : العموم ، فلذلك كان لا بد في تحيته من تعريف السلام بأل الجنسية ، التي تفيد الاستغراق والعموم . وعلى هذا يكون معنى تسليم عيسى- عليه السلام- على نفسه : السلام كله عليَّ خاصَّة . أي : جنس السلام . وإذا كان كذلك ، فلم يبق لأعدائه غير اللعنة . فكأنه بهذا التعريف يعرِّض باللعنة على متهمي مريم - عليها السلام- وأعدائها من اليهود ( ) . ومثل هذا التلوين الصوتي في تنويع التوظيف النصي للنكرة والمعرفة في إطار الكلمة ذاتها إنما مداره في النص القرآني على شمولية النظرة إلى الصورة القرآنية كاملة ، لا إلى مفردة من أجزائها ، أو أحد أركانها . والتلوين بهذا التناول الصوتي والصرفي والتركيبي والسياقي للكلمة يومئ إلى الدلالات الجمالية ، ويفجر أسرارها النصية ، وهذا هو المقصد هنا . الهوامش : 1. - الزملكاني ، البرهان الكاشف عن سر الإعجاز ، 136 . 2. - ينظر : عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 132 . – السكاكي ، مفتاح العلوم ، 85 . – العلوي ، الطراز ، 208 . 3. - سورة الأنبياء : آية رقم ( 46 ) . 4. - القزويني ، الإيضاح ، 54 . 5. - د. محمد العبد ، المفارقة القرآنية ، 80 . وينظر :– د. منذر عياشي ، مقالات في الأسلوبية الصوتية ، 356 . 6. - سورة الدخان : آية رقم ( 49 ) . 7. - سورة التوبة : آية رقم ( 138 ) . 8. - سورة يوسف : آية رقم ( 31 ) . 9. - سورة الحاقة : آية رقم ( 40 ) . 10. - سورة الأنفال : آية رقم ( 74 ) . 11. - سورة الفتح : آية رقم ( 3 ) . 12. - عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز ، 138 . 13. - د. محمد العبد ، المفارقة القرآنية ، 69 . 14. - سورة مريم : آية رقم ( 15 ) . 15. - سورة مريم : آية رقم ( 33 ) . 16. - ينظر : السهيلي ، نتائج الفكر ، 416 – 418 . 17. - ينظر : د. فضل حسن عباس ، تأملات في القصص القرآني ، دار الفكر ، دمشق ، 2001 ، 354 – 360 .
__________________
تهانينا لقد تم تحميل السرطان بنجاح
|
#2
|
|||
|
|||
جزاك الله كل خير علي هذا الموضوع الأكثر من رائع
|
#3
|
|||
|
|||
جزاك الله خيرا يا استاذ أحمد
|
#4
|
|||
|
|||
بارك الله فيك أستاذي الفاضل أحمد
ودكتور أسامة عبد العزيز أستااااذ نقد وبلاغة ومشرفي ما شاء الله عليه ربنا يكرمه ويوفقه |
#5
|
||||
|
||||
بارك الله فيك
|
#6
|
|||
|
|||
جزاك الله كل خير
|
#7
|
||||
|
||||
جزاك الله خيرا
__________________
تحيــــاتي وتقــديري للجمــــيع <CENTER></CENTER><CENTER></CENTER> |
العلامات المرجعية |
|
|