|
الأدب العربي قسم يختص بنشر ما يكتبه كبار الشعراء والأدباء قديمًا وحديثًا |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
قصة قصيرة:القط الأسود
لست أتوقع منكم، بل لست أطلب أن تصدقوا الوقائع التي أسطرها هنا لقصة هي أغرب القصص وإن كانت في الآن عينة مألوفة للغاية. سوف أكون مجنوناً لو توقعت أن تصدقوا ذلك، لأن حواسي ذاتها ترفض أن تصدق ما شهدته ولمسته. غير أنني لست مجنوناً – ومن المؤكد أنني لا أحلم- وإذ كنت ملاقياً حتفي غداً فلا بد لي من أن أزيح هذا العبء عن روحي. ما أرمي إليه هو أن أبسط أمام العالم، بوضوح ودقة، وبلا أي تعليق، سلسلة من الوقائع العادية جداً.. إنها الوقائع التي عصفت بي أهوالها وواصلت تعذيبي ودمرتني، ومع ذلك لن أحاول تفسيرها وإذا كنت لا أجد فيها غير الرعب فإنها لن تبدو للآخرين مرعبة بقدر ما ستبدو نوعاً من الخيال الغرائبي المعقد. قد يجيء في مقبل الأيام ألمعي حصيف يبين له تفكيره أن هذا الكابوس مجرد أحداث عادية – وربما جاء ألمعي آخر أكثر رصانة وأرسخ منطقاً وتفكيره أقل استعداداً للإثارة من تفكيري، ليرى في الأحداث التي أعرضها بهلع مجرد تعاقب مألوف لأسباب طبيعية ونتائجها المنطقية. عُرِفْت منذ طفولتي بوداعتي ومزاجي الإنساني الرقيق، حتى أن رقة قلبي كانت على درجة من الإفراط جعلتني موضوع تندر بين زملائي، وقد تميزت بولع خاص بالحيوانات مما جعل أبوي يعبّران عن تدليلهما لي بإهدائي أنواعاً من الحيوانات المنزلية. مع هذه الحيوانات كنت أمضي معظم أوقاتي، ولم أعرف سعادة تفوق سعادتي حين كنت أطعمها وأداعبها.. نمت هذه الطباع الغريبة مع نموي، وكانت لي في طور الرجولة أكبر منابع المتعة. الذين عرفوا مشاعر الولع بكلب أمين ذكي سوف يفهمون بسهولة ما أود قوله عن مدى البهجة المستمدة من العناية بحيوان أليف.. إن في تعلق الحيوان بصاحبه تعلقاً ينـكر الـذات ويضـحي بها ما يخترق قلب الإنسان الذي هيأت له الظروف أن يعاني من خسة الصداقة وضعف الوفاء عند الجنس البشري. تزوجت في سن مبكرة، وقد أسعدني أن أجد في مزاج زوجتي مالا يناقض مزاجي، وإذ لاحظت ولعي بالحيوانات المنزلية لم تترك مناسبة تمر دون أن تقتني منها الأجناس الأكثر إمتاعاً وإيناساً. هكذا تجمع لدينا طيور وأسماك ذهبية وكلب أصيل وأرانب وقرد صغير وقط. كان هذا القط كبير الحجم بشكل مميز، جميل الشكل، أسود اللون بتمامه، وعلى قدر عجيب من الذكاء، كانت زوجتي التي لا أثر للمعتقدات الخرافية في تفكيرها، حين تتحدث عن ذكائه تشير إلى الحكايات الشعبية القديمة التي تعتبر القطط السود سحرة متنكرين. هذه الإشارات لا تعني أنها كانت في يوم من الأيام جادة حول هذه المسألة. أذكر هذا لسبب وحيد هو أنه لم يرد إلى ذهني قبل هذه اللحظة. كان بلوتو – وهذا هو اسم القط- حيواني المدلل وأنيسي المفضل، أطعمه بنفسي، ويلازمني حيثما تحركت في البيت. بل كنت أجد صعوبة لمنعه من اللحاق بي في الشوارع. دامت صداقتنا على هذه الحال سنوات عديدة، تبدل خلالها مزاجي وساء سلوكي بفعل إدماني المسكرات (إني أحمرّ خجلاً إذ أعترف بذلك) ويوما بعد يوم تزايدت حدة مزاجي وشراستي، واستعدادي للهيجان، وتزايد استهتاري بمشاعر الآخرين. ولكم عانيت وتألمت بسبب التعابير القاسية التي رحت أوجهها إلى زوجتي، حتى أنني في النهاية لجأت إلى العنف الجسدي في التعامل معها. وبالطبع فقد استشعرت حيواناتي هذا التغير في مزاجي. ولم أكتف بإهمالها بل أسأت معاملتها. وإذا كان قد بقي لبلوتو بعض الاعتبار مما حال دون إساءتي إليه فإنني لم أستشعر دائماً في الإساءة إلى الأرانب أو القرد، أو حتى الكلب، كلما اقتربت مني مصادفة أو بدافع عاطفي. غير أن مرضي قد تغلب علي – وأي مرض كالمسكرات!- ومع الأيام حتى بلوتو الذي صار هرماً ومن ثم عنيداً نكداً بدأ يعاني من نتائج مزاجي المعتل. ذات ليل كنت عائداً إلى البيت من البلدة التي كثر ترددي إليها وقد تعتعني السكر؛ وخيل إلي أن القط يتجنب حضوري؛ فقبضت عليه، وإذ أفزعته حركاتي العنيفة جرحني بأسنانه جرحاً طفيفاً فتملكني غضب الأبالسة. وبدا أن روحي القديمة قد اندفعت على الفور طائرة من جسدي؛ وارتعد كل عرق في هيكلي بفعل حقد شيطاني غذاه المخدر. فتناولت من جيب سترتي مطواة، فتحتها وقبضت على عنق الحيوان المسكين واقتلعت عامداً إحدى عينيه من محجرها! إنني أحتقن، أحترق، أرتعد حين أكتب تفاصيل هذه الفظاعة الجهنمية. لما استعدت رشدي في الصباح – لما نام هياج الفسوق الذي شهده الليل- عانيت شعوراً هو مزيج من الرعب والندم بسبب الجريمة التي ارتكبتها، غير أن ذلك كان في أحسن الحالات شعوراً ضعيفاً وملتبساً لم يبلغ مني الأعماق. ومن جديد استحوذ علي الإفراط في الشراب. وسرعان ما أغرقت الخمر كل ذكرى لتلك الواقعة. في هذه الأثناء أخذ القط يتماثل للشفاء تدريجياً. صحيح أن تجويف العين الفارغ كان يشكل منظراً مخيفاً لكن لم يبد عليه أنه يتألم، وعاد يتنقل في البيت كسابق عهده، غير أنه كما هو متوقع، كان ينطلق وقد استبد به الذعر كلما اقتربت منه. كانت لاتزال لدي بقايا من القلب القديم بحيث ينتابني الحزن إزاء هذه الكراهية الصارخة التي يبديها لي كائن أحبني ذات يوم. لكن سرعان ما حل الانزعاج محل الحزن. وأخيراً جاءت روح الانحراف لتدفعني إلى السقوط الذي لا نهوض منه. هذه الروح لا توليها الفلسفة أي اعتبار. مع ذلك لست واثقاً من وجود روحي في الحياة أكثر من ثقتي أن الانحراف واحد من الموازع البدائية في القلب البشري، واحد من الملكات أو المشاعر الأصيلة التي توجه سلوك الإنسان. من منا لم يضبط نفسه عشرات المرات وهو يقترف إثماً أو حماقة لا لسبب غير كون هذا العمل محرماً؟ أليس لدينا ميل دائم، حتى في أحسن حالات وعينا، إلى خرق ما يعرف بالقانون لمجرد علمنا بأنه قانون؟ روح الانحراف هذه هي التي تحركت تدفعني إلى السقوط النهائي. إنها رغبة النفس الدفينة لمشاكسة ذاتها – لتهشيم طبيعة ذاتها- لاقتراف الإثم لوجه الإثم، هذه الرغبة التي لا يسبر غورها هي التي حرضتني على مواصلة الأذى ضد الحيوان الأعزل، وأخيراً الإجهاز عليه. ذات صباح وعن سابق تصور وتصميم لففت حول عنقه أنشوطة وعلقته بغصن شجرة ..شنقته والدموع تتدفق من عيني، وفي قلبي تضطرم أمرّ مشاعر الندم؛ شنقته لعلمي أنني بذلك أقترف خطيئة،خطيئة مميتة سوف تعرض روحي الخالدة للهلاك الأبدي، وتنزلها إن كان أمر كهذا معقولاً، حيث لا تبلغها رحمة أرحم الراحمين والمنتقم الجبار. في الليلة التي وقع فيها هذا الفعل الشنيع، استيقظت من النوم على صوت النيران. كان اللهب يلتهم ستائر سريري والبيت بكامله يشتعل. ولم ننج أنا وزوجتي والخادم من الهلاك إلا بصعوبة كبيرة. كان الدمار تاماً. ابتلعت النيران كل ما أملك في هذه الدنيا، واستسلمت مذ ذاك للقنوط واليأس. لم يبلغ بي الضعف مبلغاً يجعلني أسعى لإقامة علاقة سببية بين النتيجة وبين الفظاعة التي ارتكبتها والكارثة التي حلت بي. لكنني أقدم سلسلة من الوقائع وآمل ألا أترك أي حلقة مفقودة في هذا التسلسل. في اليوم الذي أعقب الحريق ذهبت أزور الأنقاض. كانت الجدران جميعها قد تهاوت باستثناء جدار واحد، هذا الجدار الذي نجا بمفرده لم يكن سميكاً لأنه جدار داخلي يفصل بين الحجرات ويقع في وسط البيت، وإليه كان يستند سريري من جهة الرأس. وقد صمد طلاء هذا الجدار وتجصيصه أمام فعل النيران. وهو أمر عزوته إلى كون التجصيص حديثاً. أمام هذا الجدار كان يتجمهر حشد من الناس وبدا أن عدداً كبيراً منهم يتفحص جانباً مخصوصاً منه باهتمام شديد، فحركت فضولي تعابير تصدر عن هذا الحشد من نوع (عجيب!) (غريب!) دنوت لأرى رسماً على الجدار الأبيض كأنه حفر نافر يمثل قطاً عملاقاً. كان الحفر مدهشاً بدقته ووضوحه، وبدا حبل يلتف حول عنق الحيوان. عندما وقع نظري لأول مرة على هذا الشبح، إذ لم أكن أستطيع أن أعتبره أقل من ذلك، استبد بي أشد العجب وأفظع الذعر. غير أن التفكير المحلل جاء ينقذني من ذلك. لقد كان القط على ما أذكر معلقاً في حديقة متاخمة للبيت؛ فلما ارتفعت صيحات التحذير من النار، غصت الحديقة فوراً بالناس، ولا بد أن شخصاً ما قد انتزعه من الشجرة وقذف به عبر النافذة إلى غرفتي، وربما كان القصد من ذلك تنبيهي من النوم. ولابد أن سقوط الجدران الأخرى قد ضغط ضحية وحشيتي على مادة الجص الحديث للطلاء؛ اختلط هذا الطلاء بالنشادر المتصاعد من الجثة وتفاعل به بتأثير النيران فأحدث الرسم النافر الذي رأيته. ومع أنني قدمت هذا التفسير لأريح عقلي، إن لم أكن قد فعلت ذلك لأريح ضميري، فإن المشهد الغريب الذي وصفته لم يتوقف عن التأثير في مخيلتي، وعلى مدى أشهر لم أستطع أن أتخلص من هاجس القط؛ خلال هذه الفترة عاودني شعور بدا لي أنه الندم، ولم يكن في الحقيقة كذلك. لم يكن أكثر من أسف على فقد حيوان، وتفكير بالحصول على بديل من النوع نفسه والشكل نفسه ليحل محله. في إحدى الليالي، فيما كنت جالساً، شبه مخبول، في وكر من أوكار العار، إذ أنني أدمنت الآن ارتياد هذه الأماكن الموبوءة، جذب انتباهي فجأة شيء أسود فوق برميل ضخم من براميل الجن أو شراب الروم، البراميل التي تشكل قطع الأثاث الرئيسية في ذلك المكان، كنت طوال دقائق أحدق بثبات في رأس البرميل، وما سبب دهشتي هو أنني لم أتبين للحال طبيعة الشيء باستثناء شيء واحد. إذ لم تكن في أي مكان من جسم بلوتو شعرة بيضاء واحدة؛ وكانت لهذا القط بقعة بيضاء غير واضحة الحدود تتوزع على منطقة الصدر بكاملها. حالما لمسته نهض وأخذ يخط بصوت مرتفع ويتمسح بيدي، وبدا مسروراً باهتمامي له، وإذن هذا هو بالضبط ما كنت أبحث عنه. للحال عرضت على صاحب البيت شراءه، لكن هذا أجاب بأنه لا يملكه ولا يعرف شيئاً عنه، ولم يره من قبل. واصلت مداعبتي له، ولما تهيأت للذهاب، اتخذ وضعية تبين أنه يريد مرافقتي، فتركته يصحبني، وكنت بين الحين والآخر أتوقف وأربت على ظهره أو أمسح رأسه. لما وصل إلى البيت بدا أليفاً ولم يظهر عليه أي استغراب. وعلى الفور صار أثيراً لدى زوجتي. أما أنا فسرعان ما وجدت المقت يتصاعد في أعماقي، وكان هذا عكس ما توقعته، ولم أستطع أن أفهم كيف تعلق القط بي ولا سبب هذا التعلق الواضح الذي أثار اشمئزازي وأزعجني، وأخذ الانزعاج والاشمئزاز يتزايدان شيئاً فشيئاً ويتحولان إلى كراهية مريرة، فأخذت أتجنب هذا الكائن؛ كان إحساس ما بالعار، وذكرى فظاعتي السابقة يمسكان بي عن إلحاق الأذى الجسدي به. وامتنعت طوال أسابيع عن ضربه أو معاملته بعنف، لكن تدريجياً - وبتدرج متسارع- أخذت أنظر إليه بكره لا يوصف وأبتعد بصمت عن حضوره البغيض كما أبتعد عن لهاث مصاب بالطاعون. ما أكدَّ كرهي لهذا الحيوان هو اكتشافي، صبيحة اليوم التالي لوصوله أنه مثل بلوتو، قد فقد إحدى عينيه، غير أن هذا زاد من عطف زوجتي عليه لأنها كما ذكرت تملك قدراً عظيماً من المشاعر الإنسانية التي كانت ذات يوم ملامحي المميزة، ومنبعاً لأكثر المسرات براءة ونقاء. كان هيام القط بي يزداد بازدياد بغضي له، فكان يتبع خطواتي بثبات يصعب إيضاحه، فحيثما جلست، كان يجثم تحت مقعدي، أو يقفز إلى ركبتي ويغمرني بمداعباته المقززة، فإذا نهضت لأمشي اندفع بين قدمي وأوشك أن يوقعني، أو غرز مخالبه الطويلة الحادة في ثيابي ليتسلق إلى صدري، ومع أنني كنت أتحرق في مناسبات كهذه لقتله بضربة واحدة فقد كنت أمتنع عن ذلك بسبب من ذكرى جريمتي السابقةإلى حد ما، لكن بصورة أخص – ولأعترف بذلك حالاً- بسبب الرعب من هذا الحيوان. لم يكن هذا الرعب خوفاً من شر مادي مجسد، مع ذلك أحار كيف أحدده بغير ذلك، يخجلني أن أعترف أجل، حتى في زنزانة المجرمين هذه، يكاد يخجلني الاعتراف بأن الرعب والهلع اللذين أوقعهما في نفسي هذا الحيوان ازدادا حدة بسبب من وهم لا يقبله العقل كانت زوجتي قد لفتت انتباهي، أكثر من مرة إلى طبيعة البقعة البيضاء على صدر القط، والتي أشرت إليها سابقاً، تلك العلامة التي تشكل الفارق الوحيد بين هذا الحيوان الغريب وذاك الذي قتلته. هذه البقعة على اتساعها لم تكن لها حدود واضحة، غير أنها شيئاً فشياً وبتدرج يكاد لا يلحظ، تدرج صراع عقلي لكي يدحضه ويعتبره وهماً، اكتسبت شكلاً محدداً بوضوح تام. صار لها الآن شكل أرتعد لذكر اسمه.. هذا الشكل هو ما جعلني أشمئز وأرتعب، وأتمنى التخلص من الحيوان لو تجرأت، كان الآن صورة لشيء بغيض شيء مروع هو المشنقة! أوه أيّ آلة شنيعة جهنمية للفظاعة والجريمة للنزع والموت! والآن لقد انحدرت إلى درك ينحط بي عن صفة الإنسانية! كيف ينزل بي حيوان بهيم – قتلت مثله عن سابق تصميم- حيوان بهيم ينزل بي أنا الإنسان المخلوق على صورة كريمة، كل هذا الويل الذي لا يحتمل! واأسفاه! ما عدت أعرف رحمة الراحة لا في النهار ولا في الليل! ففي النهار لم يكن ذلك البهيم ليفارقني لحظة واحدة، وفي الليل كنت أهب من النوم مراراً يتملكني ذعر شديد لأجد لهاث ذلك الشيء فوق وجهي، وثقل جسمه الضخم – مثل كابوس متجسد لا أقوى على زحزحته- يجثم أبدياً فوق قلبي. وهكذا انهارت بقايا الخير الواهية تحت وطأة هذا العذاب، وصارت أفكار الشر خدين روحي، أشدَّ الأفكار حلكة وشيطانية، ازدادت مزاجيتي سوداوية حتى تحولت إلى كراهية للأشياء كلها وللجنس البشري بأسره، وأخذت نوبات غضبي المفاجئة المتكررة التي لم أعد أتحكم بها واستسلمت لها كالأعمى، أخذت تطال - واأسفاه زوجتي-، أعظم الصابرين على الآلام. رافقتني ذات يوم لقضاء بعض الأعمال المنزلية في قبو المبنى القديم حيث أرغمتنا الفاقة على السكنى، تبعني القط على الدرج وكاد يرميني، فاستشاط غضبي الجنوني؛ رفعت فأساً متناسياً ماكان من خوفي الصبياني الذي أوقفني حتى الآن، وسددت ضربة إلى الحيوان كانت ستقضي عليه لو أنها نزلت حيث تمنيت، غير أن يد زوجتي أوقفت هذه الضربة. كان هذا التدخل بمثابة منخاس دفع بغضبي إلى الهياج الشيطاني؛ انتزعت يدي من قبضة زوجتي ودفنت الفأس في رأسها، فسقطت ميتة دون أن تصدر عنها نأمة. لما ارتكبت هذه الجريمة البشعة، جلست على الفور أفكر في التخلص من الجثة. عرفت أنني لا أستطيع إخراجها من البيت لا في الليل ولا في النهار دون أن أخاطر بتنبيه الجيران. مرت برأسي خطط عديدة. فكرت بأن أقطع الجثة إرباً ثم أتخلص منها بالحرق. وفكرت في حفر قبر لها في أرض القبو. كما فكرت في إلقائها في بئر الحوش، أو أن أحشرها في صندوق بضاعة وأستدعي حمالاً لأخذها من البيت. وأخيراً اهتديت إلى أفضل خطة للتخلص منها. قررت أن أبنيها في جدار القبو، كما كان الرهبان في القرون الوسطى يبنون ضحاياهم في الجدران. كان القبو مناسباً لهذه الغاية. فقد كان بناء جدرانه مخلخلاً وقد تم توريق الجدران حديثاً بملاط خشن حالت الرطوبة دون تصلبه. وفوق ذلك كان في أحد الجدران تجويف بشكل المدخنة تم ردمه بحيث تستوي أجزاء الجدار، وتأكد لي أن باستطاعتي انتزاع قطع الطوب من هذا التجويف وإدخال الجثة، وبناء التجويف ليعود الجدار كما كان بحيث لا ترتاب العين في أي تغيير. ولم تخطئ حساباتي. استعنت بمخل لانتزاع قطع الطوب، وأوقفت الجثة بتأن لصق الجدار الداخلي ودعمتها لتحتفظ بوضع الوقوف، فيما كنت أدقق لأعيد كل شيء إلى ما كان عليه. كنت قد أحضرت الملاط والرمل والوبر، فهيأت الخليط بمنتهى الدقة والعناية بحيث لا يميز من الملاط السابق، وأعدت كل قطعة طوب إلى مكانها. عندما أكملت العمل أحسست بالرضا عن النتيجة. لم يكن يبدو على الجدار أدنى أثر يدل على أنه قد لمس. نظفت الأرض بمنتهى العناية ونظرت حولي منتصراً وقلت في نفسي: "لم يذهب جهدي سدىً". كانت الخطوة الثانية هي البحث عن الحيوان الذي سبب لي هذه الفاجعة الرهيبة، ذلك أنني قررت القضاء عليه، لو عثرت عليه في تلك اللحظة لما كان هنالك من شك في أمر مصيره؛ لكن يبدو أن الحيوان الذكي أدرك عنف غضبي فاختفى متجنباً رؤيتي وأنا في ذلك المزاج. يستحيل علي أن أصف عمق الراحة والسكينة التي أتاحها لروحي غياب ذلك الحيوان. لم يعد للظهور تلك الليلة. وهكذا ولأول مرة منذ وصوله إلى البيت نمت بعمق وهدوء، أجل نمت على الرغم من وزر الجريمة الرابض فوق روحي. مر اليوم الثاني ثم الثالث ولم يظهر معذبي، ومن جديد تنفست بحرية. لقد أصيب الوحش بالذعر فنجا بنفسه نهائياً! ولن يكون علي أن أتحمله بعد الآن! كانت سعادتي بذلك عظيمة! ولم يؤرق مضجعي وزر الجريمة السوداء إلا لماماً. جرت بعض التحقيقات وقدمت أجوبة جاهزة. بل كانت هناك تحريات، غير أن شيئاً ما لم يكتشف، وأدركت أن مستقبل سعادتي في أمان. في اليوم الرابع بعد وقوع الجريمة جاءت فرقة من الشرطة إلى البيت بشكل لم أتوقعه وبدأت تحريات واستجوابات دقيقة، لكن بما أنني كنت مطمئنا إلى إخفاء الجثة لم أشعر بأي حرج. سألني ضباط الشرطة أن أرافقهم إلى القبو، فلم ترتعد فيَّ عضلة واحدة. كان قلبي ينبض بهدوء كقلب بريء نائم. رحت أذرع القبو جيئة وذهاباً عاقداً ذراعي فوق صدري. اقتنع رجال الشرطة بنتائج بحثهم واستعدوا للذهاب، كانت النشوة في قلبي أقوى من أن أكتمها. كنت أتحرق لقول كلمة واحدة، لفرط ما أطربني الانتصار، ولكي أزيد يقينهم ببراءتي. "أيها السادة - قلت أخيراً، لما كان الفريق يصعد الدرج - يسرني أن أكون قد بددت كل شكوككم. أتمنى لكم تمام الصحة ومزيداً من اللباقة، بالمناسبة أيها السادة، هذا بيت مكين البناء - في رغبتي العارمة لقول شيء سهل، لم أجد ما أتلفظ به - إنه بيت مبني بشكل ممتاز. هذه الجدران- هاأنتم ذاهبون أيها السادة- هذه الجدران متماسكة تماماً" وهنا، وبنوع من الزهو المتشنج- طرقت طرقاً قوياً على الجدار بعصا كانت بيدي، تماماً في الموضع الذي أخفيت فيه زوجة قلبي. لكن ليحميني الله من مخالب إبليس الأبالسة! لم تكد اهتزازات ضربتي تغرق في الصمت حتى جاوبني صوت من داخل القبر! صرخة مكتومة متقطعة بدأت كبكاء طفل، لكن سرعان ما أخذت تتعاظم وتتضخم لتغدو صرخة واحدة هائلة مديدة شاذة غريبة وغير آدمية بالمرة.. غدت عواء.. عويلاً مجلجلاً يطلقه مزيج من الرعب والظفر، وكأنما تتصاعد من قيعان الجحيم تتعاون فيها حناجر الملعونين في سعير عذاباتهم والشياطين إذ يهللون اللعنات. من الحماقة أن أحدثكم عن الأفكار التي تلاطمت في رأسي.. ترنحت منهاراً وتهاويت مستنداً إلى الجدار المقابل.. للحظة واحدة ظل فريق الشرطة مسمراً على الدرج بفعل الرعب والاستغراب. وفي اللحظة التالية كانت بضع عشرة ذراعاً شديدة تهدم الجدار. انهار قطعة واحدة. كانت الجثة قد تحللت إلى درجة كبيرة وغطاها الدم المتجمد، وهي تنتصب واقفة أمام أعين المشاهدين وعلى رأسها يقف القط الأسود الكريه بفمه الأحمر المفتوح وعينه الوحيدة النارية، القط الذي دفعتني أفعاله إلى الجريمة ثم أسلمني صوته الكاشف إلى حبل المشنقة. كنت قد بنيت الجدار والقط داخل القبر. ـــــــــــ ترجمة خالدة سعيد من مجموعة القط الأسود، دار الآداب بيروت 1986م |
العلامات المرجعية |
|
|