|
حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
فضل صنائع المعروف وإغاثة الملهوف
الحمد لله خالقِ النَسَم وبارئِ الأمم، وفاطرِ النفوس من العدم ومانحِ العطاءِ وفيضِ النعم، نحمده على نعمةِ الإسلام ونشكرهُ على مزيدِ الفضلِ والإنعامِ. * يا أخا الإسلام: والمرءُ بالأخلاقِ يسْمُو ذِكْرُهُ وبِهَا يُفضَّلُ في الوَرَى ويُوَقَّرُ وقد ترى كافراً في الناسِ تحسَبُهُ جهنمياً ولكنْ طَيُّةُ الطُّهْرُ وقد ترى عابداً تهتزُّ لحْيَتُهُ وفي الضَّمِيرِ به من كفرهِ سَقرُ أوغلْ بدُنْيَاكَ لا تنسَ الضَّمِيرَ ففي طَيَّاتِهِ السِّرُّ عِنْدَ اللّهِ يَنْحَصِرُ * وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، يحب أهل الأخلاق الكريمة والقلوب الطاهرة، وجعل الأساسَ في أنَّ خيرَ الناسِ أنْفَعُهُمْ للنَّاس. * وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، أكمل الخلق ديناً وأوفاهم في الهدى خُلُقاً، أتم الله به مجامع الأخلاق الحسان وجعل شريعته كاملَةَ الشرائع والأركان. اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. * أما بعد: فمن أجلِّ وأجملِ نعوت المجتمع المسلم أن يتمتع أفراده بالمروءة والشهامة وإغاثة الملهوف، تلك السجايا التي تطرز النفوس بالخيرات وتُحوِّلُ الحياة إلى طعومٍ طيبةٍ، وتعزز معاني الوئام بين القلوب، وفي نور هذه المعاني الحسانِ يتفيأ المؤمنون ظلالها الوارف ويتنسمونَ طِيبَ عَرْفِهَا الشَّذِي ويتقاسمون أصدقَ صُوَرِ التدين الحقيقيِ النَّابعِ من أوامر القرآن الكريم والسنة المطهرة، وفي جماله يتنافسون: وما المرءُ إِلاّ حيثُ يجْعَلُ نفْسَهُ ♦♦♦ فكُنْ طَالِباً في النَّاسِ أعْلَى المَرَاتِبِ * فهيا بنا إلى استرواحِ تلك المعاني الرائعةِ عندَ أهل الإنسانيةِ الحقَّةِ لنتذكر أن الشهامةَ والمُروءةَ يتلخصان في الحرص على الأعمال العظيمة لطيب الذكر عند الله تعالى والناس. * ولطالما تسامع الناس عن صنائع المعروف والتي تؤرخُ لكرام البشر الذين يبذلون المساعدة والعطاء بطلبٍ وبدون طلبٍ ويسابقون الزمان في التميز بخدمة الخلقِ وإغاثة الملهوفين، وهكذا كانوا جِدَّ مستجيبين لأمر الخلاق العليم حين قال عز وجلَّ: ﴿... وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج جزء الآية 77]، وقال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة جزء الآية 237]، وفي دائرة التعامل اليومي للمجتمع بين الأفراد تبدو إمارات الألفة بين الناس في قضاء المصالح وإجابة أهل الحاجات وفعل المروءات، ولا شك أن أعظمها وأبقاها ما كان متداولاً بين القلوب بطعم الإيمان، قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يألفُ ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس) (الألباني في السلسلة الصحيحة 426 عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقال: إسناده حسنٌ)، وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (إنَّ للهِ عبادًا خلقَهم لحوائجِ الناسِ يفزعُ الناسُ إليهم في حوائجِهم أولئك الآمِنونَ يومَ القيامةِ) (السفاريني الحنبلي في شرح كتاب الشهاب 216 وقال: صحيحٌ لغيره، ورواه الألباني في ضعيف الجامع 1949 بألفاظٍ متقاربة وقال: ضعيفٌ، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما). * وعلى العكس من ذلك، فمن وُكلت إليه أمانةٌ فأصابه الضَّجَرُ وتأفَّفَ من وجوه الخلق إليه بطلب الحوائج وأنكرَ فضل الله عليه بتركِ صُنْعِ المعْروفِ لمن طلَبَهُ فإن ذلك إيذانٌ بزوالِ النِّعَمِ، قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (ما من عبدٍ أنعمَ اللهُ عليه نعمَةً فأسْبَغَها عليه ثم جعل من حوائِجِ الناسِ إليه فتَبَرَّمَ فقَدْ عرَّضَ تلْكَ النعمةَ للزوالِ) (الهيتمي في مجمع الزوائد 8 /195 وقال: إسناده جيدٌ عن عبد الله بن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما). * القدوة الأولى في صنائع المعروف: والقدوة الأولى في ميدان المروءة وصنائع المعروف وإغاثة الملهوف هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، شهدت بذلك أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها بعد أن أخبرها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بما حدث له في الغار وقال لها: (... لقد خشيتُ على نفسي. فقالت خديجةُ: كلا واللهِ ما يخزيك اللهُ أبدًا، إنك لتصلُ الرحِمَ، وتحملُ الكلَّ، وتكسبُ المعدومَ، وتُقري الضيفَ، وتعينُ على نوائب الحقِّ) (صحيح البخاري 6307 عن عائشة رضي الله تعالى عنها)، وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناسِ وأجودَ الناسِ وأشجعَ الناسِ، ولقد فَزِعَ أهلُ المدينةِ ذات ليلةٍ فانطلق الناسُ قبلَ الصوتِ فاستقبلهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد سبق الناسَ إلى الصوتِ وهو يقولُ: لم تُراعوا لم تُراعوا "لا تخافوا" وهو على فرسٍ لأبي طلحةَ عُرِيٍّ ما عليه سَرْجٌ، في عُنُقِه سيفٌ فقال: لقد وجدتُه بحرًا أو إنه لبحرٌ "يقصد الفرسَ في سرعته") (صحيح البخاري 6033)، وهكذا نرى أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لم يتأخر عن نجدة الناس في وقت الفزع والخوف بل كان أسرعهم على فرس عريٍّ إلى موقع الحدث وعاد ليؤمِّنَهُم من فزعهم وخوفهم، وكذلك كان على الدوام؛ أقرب الناس إلى مظنات الأخطار ليحميَهم ويسدَّ عنهم الثغرات، قال عليٌّ بن أبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (كنا إذا حَمِيَ البأسُ ولَقِيَ القومُ القومَ اتَّقَيْنَا برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فما يكونُ أحدٌ أقربَ إلى العدوِّ منهُ) (العراقي في تخريج الإحياء 2 /467 وقال: إسناده صحيحٌ)، وهذا درسٌ من أعظم الدروس لكل قائدٍ أياً كان موقعه وفي أيٍّ مجال أن يبدأ بنفسه ليكون قدوةً في باب الشهامة والإقدام. * وقد أغاث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عمرو بن سالم الخزاعي لما جاءه ملهوفاً يستغيث به أن قريشاً خانوا العهد ونقضوا الميثاق، وكان مما قال عمرو بن سالم: (إِنَّ قُرَيْشًا أَخلَفُوكَ الْمَوعِدَا وَنَقَضُوا مِيثاقَكَ المُؤَكَّدَا وَزَعَمُوا أَن لَّسْتُ أَدْعُو أَحَدَا فَهُم أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا قَد جَعَلوا لِي بِكَدَاءَ مَرْصَدَا هُم بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدَا فَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا * فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: نُصِرتَ يا عَمرو بنَ سالمٍ) (الزيلعي في تخريج الكشاف 2 /55 عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة، وقال: رُوِيَ مُرْسَلاً). * وكان صلى الله عليه وسلم يبين لأصحابه أن إغاثة ذي الحاجة الملهوف من أكرم الأعمال وأجلِّ القربات وصدقة من الصدقات، فعن أبي ذرٍ رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس مِن نفسِ ابنِ آدَمَ إلَّا عليها صدقةٌ في كلِّ يومٍ طلَعَت فيه الشَّمسُ، قيل: يا رسولَ اللهِ ومِن أينَ لنا صدقةٌ نتصدَّقُ بها؟ فقال: إنَّ أبوابَ الخيرِ لكثيرةٌ: التَّسبيحُ والتَّحميدُ والتَّكبيرُ والتَّهليلُ والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عنِ المنكَرِ وتُميطُ الأذى عن الطَّريقِ وتُسمِعُ الأصَمَّ وتَهدي الأعمى وتدُلُّ المستدِلَّ على حاجتِه وتسعى بشدَّةِ ساقَيْكَ مع اللَّهفانِ المستغيثِ وتحمِلُ بشدَّةِ ذراعَيْكَ مع الضَّعيفِ فهذا كلُّه صدقةٌ منك على نفسِك) (صحيح ابن حبان 3377)، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من نفَّسَ عن مسلمٍ كُربةً مِن كُربِ الدُّنيا نفَّسَ اللَّهُ عنهُ كربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومن يسَّرَ على مُعسرٍ في الدُّنيا يسَّرَ اللَّهُ عليهِ في الدُّنيا والآخرةِ، ومن سَترَ على مُسلمٍ في الدُّنيا سترَ اللَّهُ علَيهِ في الدُّنيا والآخرةِ، واللَّهُ في عونِ العَبدِ، ما كانَ العَبدُ في عونِ أخيهِ) (الألباني في صحيح الترمذي 1930 وقال: حديثٌ صحيحٌ)، وجعل النبي الكريم صلى الله عليه إغاثة الملهوف من حق الطريق، فعن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه قال: (مرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مجلسِ الأنصارِ فقال: إنْ أبَيْتُم إلَّا أنْ تجلِسوا فاهدوا السَّبيلَ ورُدُّوا السَّلامَ وأغيثوا الملهوفَ) (صحيح ابن حبان 597). * ومن مواقف أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه النابضة بالشهامة والمروءة ما رواه أسلم مولى عمر قال: (خرَجْتُ مع عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه إلى السُّوقِ، فلَحِقَتْ عمرَ امرأةٌ شابةٌ، فقالت: يا أميرَ المؤمنين، هلكَ زوجي وتركَ صِبْيَةً صِغارًا، والله ما يَنْضِجون كُراعًا، ولا لهم زرعٌ ولا ضَرْعٌ، وخَشِيتُ أن تأكلَهم الضَبْعُ، وأنا بنتُ خَفافِ بنِ إيماءَ الغِفارِيِّ، وقد شَهِدَ أبي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فوَقَفَ عمرُ ولم يَمْضِ، ثم قال: مرحبًا بنَسَبٍ قريبٍ. ثم انصرَفَ إلى بَعِيرٍ ظَهِيرٍ كان مربوطًا في الدارِ، فحَمَلَ عليه غَرارتَيْنِ ملأَهما طعامًا، وحَمَل بينهما نَفَقَةً وثيابًا، ثم ناولَها بخِطَامِه، ثم قال : اقْتَادِيه، فلن يَفْنَىَ حتى يأتيَكم اللهُ بخيرٍ، فقال رجلٌ: يا أميرَ المؤمنين، أكثرْتَ لها؟ قال عمرُ: ثَكِلَتْك أمُّك! واللهِ إني لأرى أبا هذه وأخاها، قد حاصرَا حِصْنًا زمانًا فافتَتَحَاه، ثم أصبحنا نَسْتَفِيءُ سُهْمَانَهما فيه) (صحيح البخاري 4160) . * [وعن عبد الله بن الحسن بن الحسين رضي الله تعالى عنهم قال: أتيت باب عمر بن عبد العزيز في حاجة، فقال: إذا كانت لك حاجة إليَّ فأرسل إليَّ رسولاً أو اكتب لي كتاباً، فإني لأستحي من الله أن يراك ببابي. * وعن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أنه قال: والذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحدٍ أودع قلباً سروراً إلا خلق الله تعالى من ذلك السرور لطفاً، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الإبل. * وقال لجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: يا جابر؛ من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فإن قام بما يجب لله فيها عرضها للدوام والبقاء، وإن لم يقم فيها بما يجب لله عرضها للزوال] (شهاب الدين محمد بن أحمد الإبشيهي / المستطرف في كل فنٍ مستطرف ص 195 / ط1 / 2014م دار ابن الجوزي - القاهرة). * مروءة الصِّدِّيقِ يوسفَ والكليمِ موسى: وما أكرم وأنبل موقف سيدنا يوسف الصدِّيقِ عليه السلام الذي سارع بتأويل منامِ الملكِ وبلا أجرةٍ ولم يساوم في حريته من السجن وهو المظلوم منذ بضع سنين، وكان رده فورياً للعبد الذي وفد من الملكِ يسألهُ بقوله: ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ [يوسف 46 :49]. * لقد كان تأويل الصدِّيق يوسف عليه السلام كطوق النجاة للبلاد والعباد، ويعد من باب إغاثة الملهوف في باب التعبير والرؤيا، ويُدْهَشُ الملك من التأويل ويطلب يوسف عليه السلام لكنه أبى أن يخرج من باب العفو الملكي وطلب تحقيقاً جديداً في قصة امرأة العزيز ونسوة الوزراء، قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف:50]، ولهذا قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قوله: (نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: "رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" (البقرة جزء الآية 260)، ويرحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديدٍ، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي) (صحيح البخاري 3192 عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه). * وتجلت المروءةُ وصُنْعُ المعروفِ من سيدنا موسى الكليم عليه السلام حينما سقى لابنتي شعيبٍ وبلا أجرة مع أنه كان في شدة الحاجة مفتقرٌ إلى عطاءِ الله وفضله، قال الله تعالى عنه: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص 23 :24]، وهو الذي طَعِمَ ورق الشجر وكان في مخمصةٍ وفاقةٍ لكنه مع ذلك لم يشترطْ ولم يؤجل المروءةَ والشهامةَ ولم يُقَايِضْ عليهما مالاً أو مقابل [وكان لم يذق طعاماً منذ سبعة أيام ولُصِقَ بطنُهُ بظهره، قال ابن عباس: وكان قد بلغ به الجوع وأخضر لونه من أكل البقل في بطنه] (أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي / الجامع لأحكام القرآن ص 269 / ج6 بتحقيق هشام سمير البخاري 2003م دار عالم الكتب / الرياض - بانتقاء)، ووافاه فضل الله بعد ذلك حينما رجعت إليه إحدى ابنتي شعيب قائلةً: ﴿ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ [القصص: 25]، فقد أغاثهما موسى عليه السلام بلا مقابل ولم يطلب أي شئٍ بل إنه تولى عنهما بعد أن أدى واجبه، وهذا دأْبُهُ ودَأْبُ الأنبياء والصالحين، قال الله تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ﴾ [الأنبياء جزء الآية 73]. * استعراضٌ لبعض صور الإغاثة: ومن الناس من دَقَّ الفقر عُنَقَهُ وافترسه بأنيابه وفوَّتَ عليه جمال الحياة فهو يحتاج إلى من يُغيثُهُ بمطعمٍ أو ملبسٍ أو نفقةٍ تُعِينُهُ على مَسْغَبَتِهِ، ومن الفقراء أقوام جَلَّلَهم الدَّيْنُ بقَتَارِ الهَمِّ والانكسار والذل فهم أحوج الناس إلى صنع المعروف من أصحاب الديون أو ممن يَرِقُّونَ لبلواهم ويغيثونهم من الأغنياء وأهل النشب. * ومن الناس من يحتاج إلى الجاه ليقضي به مأربَه ويصل به إلى مبتغاه ومن يغيثه بالشفاعة الحسنة فله نصيبٌ من أجرها، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنه قال: (كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا جاءَه السائلُ أو طُلِبَتْ إليه حاجَةٌ قال: اشفَعوا تؤجَروا ويَقضي اللهُ على لسانِ نبيِّه "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" ما شاء) (صحيح البخاري 143). * ومن الناس قوم أهل سذاجة ٍوهم دوماً بحاجة إلى علمٍ وتعليمٍ، ومن مروءة العلماء والدعاة أن يصبروا عليهم ويتخيرون من بدائع الأساليب ما يبهج خواطرهم ويفتح مداركهم فيتعلمون ما يصلح الله به حالهم في العاجلة والآجلة. * وهناك استغاثاتٌ كاذبةٌ جائرةٌ ظالمةٌ تفنَّنَ أهلُهَا في التشكِّي الدائمِ وتراهم يظلمون الناس ثم يهْرَعُونَ بعد ذلك طالبين الغوث كأنهم مظلومون، ويكاد العقلاء يعرفونهم في لحن القول وبما يشيعه الناس عنهم، وهم طبقةُ الختَّالِينَ على المجتمع حيث يقوم أحدهم بضربِ الناس وإيذائهم ثم يسارع بطلب الغوث من دوائر الإنقاذ والإجارة بين الناس بتجهيز تقريرٍ طبيٍّ وتلفيق تهمٍ باطلةٍ لأناس ليس لهم في هذه المواهب أدنى نصيب!. * وأخيراً: نقرر مع الأسف بأن بعض المعاني الرائعة قد تاهت وانزوت منَّا في زحمة الحياة لتَخْلُفَهَا سماتٌ ونعوتٌ برزتْ كرؤسِ الشياطين، وها هي السلبيةُ المميتةُ لكلِّ معنى نبيلٍ أضحتْ سيدةَ كثيرٍ من المواقف التي تَعْرِضُ للمارَّة في الطريق وتستدعي همَّةَ المروءةِ والشَّهَامَةِ وإغاثة الملهوف ولسنا غرباء عن بعضنا فهذا الدين العظيم يجمعنا ويؤلف بين أشتاتنا، وإلا فالوطنية الضامَّةُ لكلِّ أبناء الوطن الواحد بالميزان العادل بين الحق والواجب. * هناك حالاتٌ لا تفتقر إلى بطاقةِ دعوةٍ من الملهوفين ضدَّ من يُؤذي أو يَضرب أو يُسئ إلى الناس، وإنما يحتاج الأمر إلى عينِ صقرٍ يراها على حقيقتها ويتصرف معها سِرَاعاً بما يُمْلِيهِ عليه ضميرُهُ من كلامٍ أو نصحٍ أو أمرٍ بالمعروف أو نهيٍ عن المنكر أو عطاءٍ لمحتاجٍ أو نجدةٍ لمريضٍ أو مكروبٍ.. ألا فلنكن أماناً على بعضنا وغوثاُ من كل ما يحيق بنا، ولنكن يقظةً سامعةً لصرخة مكلومٍ أو أنَّةِ مريضٍ أو زَفْرَةِ محتاجٍ، ولنكنْ مُواسين للجراحِ خفافاً في نجدةِ العَاني ومن تردَّتْ به أحوالُ الحياةِ على شتى الصور. * هكذا يكون أفراد المجتمع وهم يعبرون عن صدق إيمانهم على أساسٍ دينيٍّ، وقد جربَتْ البشريةُ جميع أسباب العطاء وإغاثة الملهوف وصنائع المعروف فوجدناها غُثَاءً وهباءً، لا تقوم لها على الحقيقة في ذرا المجد قائمةً لكونها على غير أساس الدين قامتْ بَيْدَ أنها وجدت من يحميها ويُحْسِنُ تسويقها بين الناس. * ومن الإحسان والصدق والإنصاف وعدم الإرجافِ أن نبنيَ حضارتنا في ميدان السلوك على أساس القرآن والسنة فهما الركن الأوفي لكل خيرٍ وسلامةٍ في الدنيا والآخرة. * ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين إلى فعل صنائع المعروف وإغاثة الملهوف. والحمد لله في بدءٍ وفي ختمٍ. الشيخ حسين شعبان وهدان
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|