|
حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() التعريف بالطلاق وأحكامه العامة
نبين في هذا الفصل ماهية الطلاق وأثره الشرعي بالعدة، كما نوضح أداته أو صورته بالخارج، ثم نذكر مقصوده والحكمة من مشروعيته، وذلك في ثلاثة مباحث كما يلي. المبحث الأول ماهية الطلاق وأثره الشرعي بالعدة أولًا: ماهية الطلاق أو حقيقته إن أصول البحث الفقهي عن حكم الطلاق الشفوي للزوجة الموثق عقد زواجها بصفة رسمية عند ولي الأمر المختص يقتضي الوقوف على ماهية الطلاق أو بيان حقيقته للقاعدة الفقهية المنطقية التي تقول "إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، والتصور كما يقول الجرجاني في "التعريفات" هو "حصول صورة الشيء في العقل وإدراك الماهية من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات". وماهية الشيء كنهه وحقيقته الذهنية. وأصل الماهية أنها جواب عن سؤال ما هو كذا، أو ما هي كذا؟ كما أن الكمية هي الجواب عن سؤال كم كذا؟. فإذا قلنا ما هو الطلاق؟ فإن الجواب عن هذا السؤال يصير ماهية للطلاق. وإذا ثبت هذا الجواب في الخارج فإنه يسمى حقيقة تجعل الشيء هو هو. أما الماهية بمعنى المرتب الشهري فهي كلمة منسوبة إلى "ماه" ومعناها بالفارسية شهر، وتجمع على ماهيات. والطلاق في اللغة يطلق على الحل ورفع القيد، وهو اسم مصدر يستعمل استعمال المصدر. تقول: طلق تطليقًا فهو طلاق. ويرادفه الإطلاق، وقيل الطلاق يكون للمرأة والإطلاق يكون لغيرها، كما يقال طلقت المرأة وأطلق الأسير. وقد ترتب على هذا الفرق عند بعض اللغويين بين الطلاق وبين الإطلاق اختلاف عند الفقهاء في وقوع الطلاق بلفظ الإطلاق من عدمه. أما الطلاق في اصطلاح الفقهاء فهو عند الحنفية والمالكية: "رفع قيد النكاح"، وعند الشافعية والحنابلة "حل قيد النكاح". والرفع والحل قريبان؛ لأن الرفع هو الإزالة على وجه لولاه لبقي ثابتًا، نقيض الوضع. والحل هو الانفكاك على وجه لولاه لبقي معقودًا، نقيض الشد. والمقصود بقيد النكاح ملكه وهو الاختصاص الحاجز عن التزويج بزوج آخر، كما ذكر الكاساني ت587هـ في "بدائع الصنائع". وبهذا يتبين أن حقيقة الطلاق أو ماهيته تقوم على حل رباط الزوجية بعد أن كان معقودًا، فالواجب عند إثبات الطلاق أو الحكم به أن تتحقق إزالة رابطة الزوجية أو عصمتها على وجه يبدأ الزوجان منه ترتيب ما يعتقدان من حكم ديني. فإذا لم يتمكن الزوجان أو أحدهما من الشروع في الأثر المترتب على الطلاق بسبب عدم حدوثه على وجه يرتب أثره فلا يجوز وصفه بالطلاق اصطلاحًا؛ لأن الفقهاء اصطلحوا على تعريف الطلاق بأنه حل رباط الزوجية أو رفعه، وليس مجرد التلفظ به بلفظ مفرغ عن مضمونه لا يحدث رفعًا أو حلًا لرباط الزوجية حقيقة، ولذلك قال الماوردي (ت450هـ) من الشافعية في "الحاوي الكبير"، والمرداوي (ت885هـ) من الحنابلة في "الإنصاف" أنه قيل في تعريف الطلاق: أنه تحريم بعد تحليل كالنكاح تحليل بعد تحريم. ثانيًا: الأثر الشرعي للطلاق بالعدة نكتفي ببيان الأثر الشرعي بالعدة للطلاق دون سائر الآثار الأخرى كالمستحقات المالية من المتعة وحلول مؤخر الصداق والإرث بضوابطه، وكذلك المستحقات الإنسانية كالحضانة والرضاع والإحداد؛ لأن الحكم بالعدة يقطع بإزالة قيد النكاح ويثبت حقيقة الطلاق.فإذا قلنا بصحة الطلاق على حقيقته الاصطلاحية وهي "حل قيد النكاح" فإن الشرع يرتب عليه تلقائيًا بحكم الدين الإسلامي الذي يؤمن به أهله ثبوت العدة على المطلقة أو إخلاء سبيلها لتحل للخطاب بدون عدة ودون أن يتوقف هذا الأثر الشرعي على إرادة بشرية. وإذا كان الدين الإسلامي يعلق وقوع الطلاق على إرادة الزوج واختياره فإنه جعل أثر هذا الطلاق بالعدة أو عدمها سماويًا لاستنقاذ الزوجة من التعسف والشح الإنساني. ويختلف الأثر الشرعي للطلاق لكل من الزوجين وتزداد الزوجة بأحكام العدة أو عدمها باختلاف وضع طلاقها أن يكون قبل الدخول، أو بعد الخلوة، أو بعد الدخول، كما سنوضحه بعد بإذن الله. أما أثر الطلاق على الزوج فيعطيه الحق الشرعي أن يتزوج بأخت الزوجة ونحوها ممن لا يجوز الجمع بينها وبين زوجته كعمتها وخالتها وخامسة سواها عند أكثر أهل العلم بعد انتهاء مدة عدة مطلقته الرجعية؛ لأن الرجعية في حكم الزوجة. أما إذا كان الطلاق بائنًا بكل صوره فلا يجب على الزوج الانتظار مدة عدة مطلقته البائن عند جمهور الفقهاء خلافًا للحنفية. والعدة في اللغة مأخوذة من العد والحساب والإحصاء. وهي في اصطلاح الفقهاء تطلق على المدة التي تتربص فيها المرأة ذات الزوج أو من في حكمه قبل زواجها من آخر بعد انتهاء الزواج السابق أو ما في حكمه. والحكمة منها مترددة بين معرفة براءة الرحم، أو الوفاء بالزوج السابق، أو التعبد دينًا. ونذكر فيما يلي أحكام العدة للمطلقة في أوضاعها الثلاثة (قبل الدخول، أو بعد الخلوة، أو بعد الدخول). (1)العدة للمطلقة قبل الدخول أجمع الفقهاء على أنه لا عدة للمطلقة قبل الدخول، فإذا وقع الطلاق اصطلاحًا بانحلال قيد النكاح حقيقة لم يعد للمطلق ولاية شرعية على مطلقته قبل الدخول، وصار لها الحق الشرعي في استقبال الخطاب والزواج بمن تريد منهم؛ لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحًا جميلًا" (الأحزاب:49). (2)العدة للمطلقة بعد الخلوة الخلوة في اللغة اسم للمكان الخالي. تقول: خلا الرجل أي وقع في مكان خال. وتقول: خلا الرجل بزوجته وإليها ومعها، أي انفرد بها واجتمع معها في خلوة. ويرى الحنفية أن الخلوة الصحيحة بالمعقود عليها هي التي لا يكون معها مانع من الوطء سواء كان هذا المانع حقيقيًا كالمرض وصغر السن، أو شرعيًا كالصوم والإحرام، أو طبيعيًا كالطرف الثالث المؤثر أو التواجد في الطريق العام. ويرى المالكية أن الخلوة الصحيحة بالمعقود عليها هي خلوة الاهتداء من الهدوء والسكون بحيث يسكن كل من الزوجين لصاحبه ويطمئن إليه وتكون بإرخاء الستور أو غلق الباب، ولا يمنع من خلوة الاهتداء الموانع الشرعية كالحيض والصوم والإحرام؛ لتجرؤ الناس على تلك الموانع غالبًا. ويرى الحنابلة أن الخلوة الصحيحة بالمعقود عليها هي التي لا يكون معها مانع طبعي من الوطء كالطرف الثالث. أما الموانع الشرعية كالحيض والصوم والموانع الحقيقية كالمرض وصغر السن فليس مانعًا من أثر الخلوة الصحيحة. ويرى الشافعية في الجديد أن الخلوة لا تقوم مقام الدخول في ثبوت العدة أو استكمال المهر. وقد اختلف الفقهاء في حكم العدة للمطلقة بعد الخلوة الصحيحة بها وقبل إعلان الدخول في عقد الزواج الصحيح على مذهبين في الجملة. المذهب الأول: يرى وجوب العدة على المطلقة بعد الخلوة بها في عقد الزواج الصحيح. أما في عقد الزواج الفاسد فلا عدة على المرأة إلا بالدخول. وهو مذهب الجمهور قال به الحنفية والمالكية والحنابلة والقديم عند الشافعية. وحجتهم: (1)عموم قوله تعالى: "وقد أفضى بعضكم إلى بعض" (النساء:21). وقد قال الفراء: الإفضاء الخلوة دخل بها أو لم يدخل بها؛ لأن الإفضاء مأخوذ من الفضاء وهو الخالي، فكأنه قال: وقد خلال بعضكم إلى بعض. وبهذا وجبت العدة بالدخول الصحيح؛ احتياطًا لحق الله تعالى. (2)أن الخلوة الصحيحة قد حصل بها تسليم للمرأة نفسها، كما يحصل هذا التسليم بالدخول الشكلي، مع أن هذا الدخول قد لا يرتب دخولًا حقيقيًا ولكنه سبب يفضي إليه، فأقيم الدخول الشكلي مقام الدخول الحقيقي احتياطًا من باب إقامة السبب مقام المسبب فيما يحتاط فيه، فكذلك أقيمت الخلوة الصحيحة مقام الدخول في وجوب العدة. المذهب الثاني: يرى عدم وجوب العدة على المطلقة بالخلوة بها دون الدخول الحقيقي أو إعلانه. وهو مذهب الشافعية في الجديد والظاهرية. وحجتهم: ظاهر قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها" (الأحزاب:49). (3)العدة للمطلقة بعد الدخول أجمع الفقهاء على وجوب العدة للمطلقة بعد الدخول، وهي لا تخرج عن ثلاثة أنواع بحسب حال المرأة، كما يلي. (أ)العدة بالقروء. وهي للمطلقة التي تحيض، وعددها ثلاثة للحرائر؛ لقوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" (البقرة:228). والقرء لفظ مشترك يطلق على طهر المرأة كما يطلق على حيضها، ولذلك فقد اختلف الفقهاء في المقصود منه في عدة المرأة على مذهبين. المذهب الأول: يرى أن المراد بالقرء في عدة المرأة الطهر. وهو مذهب الجمهور قال به المالكية والشافعية ورواية للحنابلة ومذهب الظاهرية، وروي عن عائشة وزيد بن ثابت وابن عمر وغيرهم من السلف. وحجتهم: (1)ما أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم عن ابن عمر، أنه طلق زوجته وهي حائض، فأخبر عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء". قالوا: فالرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى الطهر وأخبر أنه العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء، فصح أن القروء هي الأطهار. (2)ما أخرجه مالك في "الموطأ" عن عائشة قالت: "إنما الأقراء الأطهار". المذهب الثاني: يرى أن المراد بالقرء في عدة المرأة الحيض. وهو مذهب الحنفية والرواية الثانية للحنابلة، وروي عن الخلفاء الأربعة وابن مسعود وغيرهم من السلف. وحجتهم: (1)أن المعهود في لسان الشرع هو استعمال القرء بمعنى الحيض، فقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن أم حبيبة بنت جحش أنها استحيضت فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنتظر أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي. كما أخرج أبو داود بسند صحيح عن عروة بن الزبير أن فاطمة بنت أبي حبيش شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم، فقال: "إنما ذلك عرق فانظري إذا أتى قرؤك فلا تصلي فإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء". (2)أن العدة شرعت لبراءة الرحم، وهذا يحصل بالحيض لا بالطهر. (ب)العدة بالأشهر. وهي للمطلقة التي لا تحيض، وعددها ثلاثة أشهر قمرية للحرائر؛ لقوله تعالى: "واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن" (الطلاق:4). قالوا: أي واللائي لم يحضن فعدتهن كذلك ثلاثة أشهر؛ لأن الأشهر هنا بدل الأقراء. والأصل مقدر بثلاثة فكذلك البدل. قالوا وإنما كان الحساب بالأشهر القمرية لعموم قوله تعالى: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج" (البقرة:189). (ج)العدة بوضع الحمل. وهي للمطلقة الحامل؛ لقوله تعالى: "وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن" (الطلاق:4). ولأن القصد الظاهر من العدة هو براءة الرحم، وهذا يحصل بوضع الحمل. |
#2
|
||||
|
||||
![]() المبحث الثاني
أداة الطلاق أو صورته في الخارج وهي صيغته تولد التصرفات بين الناس بصدور صورها التي يمكن ضبطها في الحس الخارجي، وهذه الصور للعقود أو التصرفات هي صيغها أو أداتها، وهي التي تميز المعاملات البشرية عن العبادات الدينية، فمع اتحادهما في اشتراط تحقق الإرادة لصحتهما إلا أن المعاملات الإنسانية يجب أن لا يكون لها اعتبار إلا بعد التعبير عنها بإحدى الصيغ المتعارف عليها بين الناس لعدم انضباط معاملاتهم إلا بظاهر محسوس بخلاف العبادات الدينية التي يمكن تحققها بالنية القلبية؛ لاطلاع الله تعالى على ما في القلوب. والطلاق من زمرة التصرفات الآدمية في الجملة فلا يقع إلا بصيغة محسوسة في معاملات الناس حتى ولو نواه الزوج بقلبه دون أن يتلفظ بشيء عند أكثر أهل العلم؛ لما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به". وخالف في ذلك الإمام الزهري (ت184هـ) الذي قال بوقوع طلاق الناوي له من غير تلفظ؛ لما أخرجه الشيخان عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنية". (والإمام الزهري هو حفيد عبد الرحمن بن عوف، فهو ابراهيم بن سعد بن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وكنيته أبو اسحاق كان من علماء الحديث الثقات بالمدينة المنورة، وكان موسيقارًا يضرب العود ويغني عليه). وصيغة الطلاق أو أداته التي تظهر صورته في الخارج مردها إلى أفهام الناس وإدراكهم لها في حكم الأصل. إلا أن الفقهاء اشترطوا للحكم بصحة وقوع الطلاق أن يتم بصيغة خاصة، وهؤلاء أربع فرق. (1)فريق يرى ضرورة اختيار الصيغ الحاسمة التي لا تقبل التردد ولا تستعمل غالبًا إلا في إرادة وقوع الطلاق فيما أسموه بالصيغ الصريحة، أو الملحقة بالصريحة لظهور دلالتها عند الناس بذاتها أو بنية صاحبها، وهم المالكية والشافعية وبعض الحنابلة. (2)وفريق يتوسع في الحكم بوقوع الطلاق ليشمل مع صيغه الصريحة أو الملحقة بالصريحة الصيغ الكنائية وهي التي لم توضع للطلاق أصلًا وإنما قد تحتمله بسبب قرائن الأحوال أو الاستعمال العرفي مثل قول الزوج في حال رفضه لبعض تصرفات زوجته الحقي بأهلك، فإنه يكون طلاقًا ولو لم ينوه عند الحنفية والحنابلة في المعتمد. (3)وفريق يتوسع أكثر في الحكم بوقوع الطلاق ليشمل مع الصيغ الصريحة والصيغ الكنائية الصيغ التي لا علاقة لها بالطلاق من قريب أو من بعيد إذا ضم إليها النية بالطلاق، كما لو قال الزوج لزوجته: اسقني ماءً، وكان يقصد بذلك طلاقها، فهو طلاق عند المالكية في المشهور. أما إذا نوى الطلاق بدون أي لفظ مع تلك النية فلا يكون ذلك طلاقًا إلا عند الزهري (ت184هـ). (4)وفريق يضيق في الحكم بوقوع الطلاق فيرى عدم احتساب الطلاق أصلًا إلا إذا وقع بأحد الألفاظ الثلاثة الواردة في القرآن الكريم للدلالة على الطلاق وهي (الطلاق والفراق والسراح)، وكأنهم يرون الطلاق من العبادات التوقيفية كالصلاة والحج، وهم الظاهرية. والأصل في صيغة الطلاق أن تكون باللفظ؛ لأنها الأغلب في معاملات الناس فإن وقعت بالكتابة أو بالإشارة فلها حكم اللفظ عند العاجزين عنه كالخرس مع ضوابط تطمئن المجتمع على إرادة وقوع الطلاق منهم بتلك الكتابة أو الإشارة، واشترط الحنفية في ظاهر الرواية وبعض الشافعية لصحة وقوع طلاق الأخرس بالإشارة عجزه عن الكتابة. أما القادر على النطق فهل له حق في إيقاع طلاقه بالكتابة أو بالإشارة؟ للفقهاء في ذلك تفصيل قبل مرحلة التوثيق الرسمي الذي عرفته مصر لأول مرة في وقائع الزواج والطلاق اللاحقة للأول من أغسطس سنة 1931م حتى الآن. ونوجز هذا التفصيل فيما يلي. أولًا: الطلاق بالكتابة للقادر على النطق اختلف الفقهاء قديمًا في حكم الطلاق بالكتابة للقادر على النطق، وذلك على ثلاثة مذاهب كما يلي. المذهب الأول: يرى الحكم بوقوع الطلاق إذا كتبه الزوج ولم يتلفظ به مع قدرته على التلفظ دون حاجة إلى البحث عن نيته. وهو مذهب الجمهور قال به الحنفية والمالكية والحنابلة؛ لأن الكتابة أوثق من اللفظ لديمومتها. واستثنى المالكية والحنابلة من ذلك ما لو نازع الزوج وقال إنه كان ينوي بكتابته للطلاق تجويد خطه أو تجربة قلمه أو غم أهله. واشترط المالكية لقبول هذا الاستدراك أن لا يخرج الكتاب من يده. المذهب الثاني: يرى تعليق الحكم بوقوع الطلاق إذا كتبه الزوج القادر على النطق على نيته، فإن أخبرنا بنيته للطلاق من هذه الكتابة حكمنا بوقوع الطلاق وإلا فلا. وهو الأظهر عند الشافعية؛ لأن الكتابة مع القدرة على الكلام تثير الظنون فألحقت الكتابة بالألفاظ الكنائية التي لا تستبين إلا من صاحبها. المذهب الثالث: يرى عدم اعتبار الطلاق بالكتابة للقادر على النطق. وهو القول الثاني عند الشافعية وإليه ذهب الظاهرية؛ لأن العبرة في عقود الناس بما تعارفت عليه غالبًا، والغالب في إيقاع معاملات الناس ومنها الطلاق أن يكون من الناطقين باللفظ. ثانيًا: الطلاق بالإشارة للقادر على النطق اختلف الفقهاء قديمًا في حكم الطلاق بالإشارة للقادر على النطق كاختلافهم في حكم وقوعه بالكتابة إلا في مراكز الفقهاء من الأقوال، ويمكن اجمال أقوالهم في ثلاثة مذاهب كما يلي: المذهب الأول: يرى عدم وقوع الطلاق بالإشارة من القادر على الكلام. وهو مذهب الجمهور قال به الحنفية وأكثر الشافعية ومذهب الحنابلة والظاهرية؛ لأن الإشارة من المتكلم ملبسة، ولو كان يريد الطلاق لتكلم أو كتب. المذهب الثاني: يرى الحكم بوقوع الطلاق بالإشارة المفهمة من القادر على الكلام. وهو مذهب المالكية؛ لأن الإشارة المفهمة من وسائل التعبير فيقع بها الطلاق قياسًا على وقوعها من الأخرس. المذهب الثالث: يرى تعليق الحكم بوقوع الطلاق بإشارة الزوج دون تلفظه على نيته، فإن أخبرنا بأنه كان ينوي بإشارته تلك الطلاق حكمنا بوقوعه وإلا فلا. وهو وجه للشافعية؛ لأن الإشارة بالطلاق مع القدرة على التلفظ به تثير الظنون فألحقت بالألفاظ الكنائية التي لا تستبين إلا من صاحبها. |
#3
|
||||
|
||||
![]() المبحث الثالث
مقصود الطلاق والحكمة من مشروعيته يحرص الفقهاء على دراسة مقاصد العقود والحكمة من مشروعيتها لتفسير ما يغمض عليهم من مسائل تلك العقود على ضوء مقاصدها المستنبطة ومعانيها الظاهرة التي ينحازون إليها عند تعارض دلالات النصوص الشرعية. وتختلف مقاصد الطلاق ومعاني مشروعيته باختلاف نظرة الفقيه وجهة استنباطه، ويمكن أن نجمل ذلك في اتجاهين. الاتجاه الأول: يرى أن مقصود الطلاق هو إبقاء المعروف علامة مميزة له كما كان الزواج علامة مميزة له؛ لأن المعروف هو المقصد العام في علائق الناس كما قال تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا" (الحجرات:13). وإذا كان المعروف هو الراية التي تجمع الإنسانية في العموم فإنه الأشد مقصدًا في العلاقات الأسرية كما قال تعالى: "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه" (البقرة:231). وقال تعالى: "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير" (البقرة:237). أما الحكمة من الطلاق فهي تمكين كل واحد من الزوجين بعد فكاك رباط زواجهما من تدبير شأنه مستقبلًا دون عائق أو ضرر، ودون تقديم مصلحة أحدهما على مصلحة الآخر، فليست إحدى المصلحتين أولى بالرعاية من الأخرى، كما قال تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" (البقرة:228)، وقال تعالى: "وإن يتفرقا يغن الله كلًا من سعته وكان الله واسعًا حكيمًا" (النساء:130). ويكون انصراف كل من الزوجين إلى حال سبيله بعد استحالة العشرة بينهما، ولذلك جعل الله تعالى الطلاق على مراحل في قوله تعالى: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" (البقرة:229)، وجاءت الدعوة القرآنية للزوجين ببذل محاولات الصبر عند ابتداء الكراهية فقال تعالى: "وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا" (النساء:19). الاتجاه الثاني: يرى أن مقصود الطلاق هو تعظيم الرضا في العقود واستمراره، فقد أقام الدين أمر العقود على التراضي لسيادة الناس على أنفسهم، كما قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم" (النساء:29)، وأخرج ابن عدي في "الكامل" بإسناد حسن وصححه السبكي في "طبقات الشافعية" عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله والمرأة سيدة بيتها". وإذا كان التراضي هو أساس العقود في معاملات الناس فإنه الأشد اعتبارًا في العلاقات الأسرية كما قال تعالى: "لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالًا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما" (البقرة: 233)، وقال سبحانه: "وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا" (النساء:4)، وقال جل شأنه: "فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها" (البقرة:229). أما الحكمة من الطلاق فهي إراحة الزوج وتخليصه من رباط كرهه أو سئمه لرفع الضرر عنه. وقد نص الفقهاء على أن رفع الضرر من القواعد الفقهية التي يدل عليها الكتاب والسنة، ومن ذلك عموم قوله تعالى: "ولا يضار كاتب ولا شهيد" (البقرة:282)، وقوله تعالى: "لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده" (البقرة:233). وقد أخرج أحمد وابن ماجه والطبراني بسند له شواهد تصححه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار". وأخرج الطبراني وعبد الرزاق عن لقيط بن صبرة أنه قال: يا رسول الله إن لي امرأة فذكر من طول لسانها وبذائها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "طلقها". قال: يارسول الله إنها ذات صحبة وولد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أمسكها أأمرها فإن يكن فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظعينتك ضربك أمتك"، وأخرج أبو داود والبزار برجال ثقات عن ابن عباس أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن امرأتي لا ترد يد لامس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "غربها". قال: أخاف أن تتبعها نفسي؟ قال: "فاستمتع بها". وأخرجه النسائي عن ابن عباس بلفظ:قال: "طلقها". قال: لا أصبر عنها؟ قال: "فأمسكها". وتطبيقًا لهذين الاتجاهين في مقصود الطلاق والحكمة من مشروعيته نأخذ على سبيل المثال قوله تعالى: "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم" (الطلاق:1). هنا يمكن للفقيه أن يحكن بعدم احتساب الطلاق إذا وقع في زمن لا تبدأ فيه العدة، كما إذا أوقعه الزوج في فترة حيض الزوجة أو في طهر مسها فيه كما هو مذهب الظاهرية وأخذ به ابن تيمية وابن القيم؛ حتى لا تطول مدة العدة على المطلقة. كما يمكن للفقيه أن يحكم باحتساب الطلاق إذا وقع في كل زمن حتى ولو كان قبل احتساب العدة مما يطيل مدتها على المطلقة، كما هو مذهب الجمهور. والترجيح بين هذين القولين يرجع إلى انحياز الفقيه إلى المقصد من الطلاق في نظره، والحكمة من مشروعيته. فمن نظر إلى أن المقصد من الطلاق هو الفراق بالمعروف إبقاءًا للمعروف، وأن الحكمة من الطلاق هي تمكين الزوجين بعد فكاك رباطهما من أن يشق كل منهما طريقه مستقبلًا دون عائق أو ضرر انحاز إلى تفسير قوله تعالى: "فطلقوهن لعدتهن" على ضرورة أن يتم الطلاق على رأس العدة، وهو اليوم الذي تبدأ منه المطلقة احتساب عدتها حتى لا تطول عليها، فإن وقع الطلاق قبل هذا اليوم لم يكن طلاقًا لمخالفته مقصود الطلاق وهو إبقاء المعروف، ومخالفته الحكمة من مشروعية الطلاق وهي شق طريق المستقبل دون عائق أو ضرر. وبهذا نقيد وقوع الطلاق؛ عملًا بما أخرجه الحاكم وصححه، كما أخرجه أبو داود وابن ماجه بسند ضعيف عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الحلال عند الله الطلاق". ومن نظر إلى أن المقصود من الطلاق هو تعظيم الرضا في العقود واستمراره فلا يكره الزوج على إمساك العصمة، وأن الحكمة من مشروعية الطلاق إراحة الزوج بتخليصه من رباط كرهه أو سئمه انحاز إلى تفسير قوله تعالى: "فطلقوهن لعدتهن" على أفضلية أن يتم الطلاق على رأس العدة، فإن وقع الطلاق قبل هذا اليوم - كما إذا وقع في أيام الحيض، أو في طهر مسها فيه - لم يكن ذلك مانعًا من احتسابه طلاقًا؛ مراعاة لمقصود الطلاق الذي يراه في تعظيم رضا الزوج بحياته الزوجية، والحكمة من مشروعية الطلاق الذي يراها في تخليص الزوج مما يكره أو يسأم. وأما ما يقع على الزوجة المطلقة من ضرر في طول العدة فهو من المحرمات التي لا ترقى إلى مرتبة المانع من وقوع الطلاق بدليل سقوط هذا التحريم برضا الزوجة على الطلاق. |
#4
|
||||
|
||||
![]() الفصل الثالث
أصول وقوع الطلاق الطلاق شأن سائر التصرفات لا يحتسب إلا إذا وقع بأصوله الثلاثة المعتبرة، وهي تواجد أسبابه وتحقق شروطه وانتفاء موانعه التي تعرف في علم "أصول الفقه" بالحكم الوضعي أو الجعلي الذي هو "خطاب الله تعالى المتعلق بجعل الشيء سببًا في شيء آخر، أو شرطًا له، أو مانعًا منه". ونوضح تلك الأصول الثلاثة فيما يلي. (1)أما السبب فقد عرفه القرافي (ت684هـ) في "الفروق" بأنه: "ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته". ومثاله في الطلاق صدور صيغته على الوجه المعتبر عند الناس؛ حيث يلزم من وجود تلك الصيغة وجود الطلاق كما يلزم من عدمها عدمه. فإذا صدرت صيغة الطلاق على وجهها المعتبر في نظر الفقيه فإنه سيحكم بأنها سبب للحكم به. أما إذا صدرت صيغة الطلاق على غير هذا الوجه فإن الفقيه لن يراها سببًا للحكم بوقوع الطلاق، وسيحكم بأنها لغو، كما لو صدرت من مجنون أو من مغلوب على عقله. (2)وأما الشرط فقد عرفه القرافي بأنه: "ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته". ومثاله في الطلاق وجود علاقة الزوجية أو ولاية التطليق؛ حيث يلزم من عدم الزوجية ومن عدم ولاية التطليق عدم وجود الطلاق، ولا يلزم من وجود علاقة الزوجية أو وجود ولاية التطليق وجود الطلاق. فإذا لم توجد علاقة الزوجية أو لم توجد ولاية التطليق في نظر الفقيه فقد انعدم عنده شرط وجود الطلاق مما لا يجوز معه الحكم بوقوعه. ومن أمثلة شروط صحة الطلاق أيضًا وجود النية لحل رباط الزوجية عند التلفظ به ولو بصريح العبارة عند الظاهرية؛ لارتباط العقود بمقاصدها؛ خلافًا للجمهور الذي يرى صراحة العبارة مغنية عن النية. (3)وأما المانع فهو عكس الشرط، وقد عرفه القرافي بأنه: "ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته". ومثاله في الطلاق وجود الحيض أو المس في الطهر الذي يراه الظاهرية وابن تيمية وابن القيم مانعًا من إيقاع الطلاق، وهو المعروف بالطلاق البدعي. حيث يلزم من وجود هذا المانع في نظرهم عدم الطلاق، ولا يلزم من عدمه وجود الطلاق ولا عدمه. ومن أمثلة موانع الطلاق أيضًا وجود حال الغضب المغيرة لوضع الزوج عن عادته بحيث لو كان في حال اعتداله لما طلق، وهذا عند ابن تيمية وابن القيم، واشترط الجمهور لعدم وقوع طلاق الغضبان شدة الغضب لدرجة الهذيان واختلاط الكلام. وبهذا يتضح أكذوبة الحكم بوقوع كل ألفاظ الطلاق؛ استنادًا إلى حديث ما يمكن تسميته بعد توسع الفقهاء في تطبيقه بأنه "سيف الأسر"، وهو ما أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي بإسناد حسن وصححه الحاكم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة". فهل يهدم هذا الحديث أصول العقود والتصرفات التي تقوم على أسبابها وشروطها وانعدام موانعها، أم يجب عند تطبيق هذا الحديث أن يكون في ظل تلك الأصول الثلاثة (وجود السبب، وتحقق الشرط، وانعدام المانع)؟ إذا أردنا الانتصار لأصول المعاملات فليس أمامنا في تفسير هذا الحديث إلا أن نقول إنه إذا وقع أي عقد من "النكاح أو الطلاق أو الرجعة" على وجهه المعتبر عند الناس بوجود سببه وتحقق شرطه وانعدام موانعه فإننا نحكم بصحته حتى لو كان على وجه اللعب أو الهزل، كمن يريد مفاجأة زوجته فقدم لها مظروفًا بداخله وثيقة رسمية بطلاقها معتمدة من الجهات المعنية وبتوقيعه، فهنا نحكم بوقوع الطلاق حتى ولو كان تصرف هذا الزوج على وجه اللعب أو الهزل. أما إذا انعدم سبب الطلاق، أو تخلف شرط من شروط صحته، أو وجد مانع من موانع الحكم بصحته فهو والعدم سواء حتى ولو وقع لفظه بالجد لا بالهزل. وهذا هو الفقه الذي يحفظ الأسر من الضياع الذي يسببه أصحاب الفتاوى الطائشة الموهومون بحاكمية حديث "ثلاث جدهن جد" على الأصول المرعية في العقود والتصرفات من ضرورة انضباطها بالأحكام الجعلية الثلاثة (السببية والشرطية والمانعية). ونظرًا لبناء الفقه على الاستنباط البشري فقد تعددت الرؤى فيه، وكلها توصف بالصواب الذي يحتمل الخطأ؛ لانفراد الله تعالى بعلم الغيب. ولم يشفع لهذه التعددية قصر حق الاستنباط على المجتهدين أو المؤهلين؛ لتعدد مناهج الاستنباط، وتفاوت مراتب المجتهدين. وقد ترتب على ذلك إلزام المجتهدين ومتبعيهم بالتواضع أمام الرأي المخالف، والتزام الجميع بالقاعدة الفقهية: "لا إنكار في المختلف فيه"، مما يجعل الناس في سعة من الأحكام، كما أخرج ابن عبد البر في: "جامع بيان العلم وفضله" عن عمر بن عبد العزيز قال: "ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولًا واحدًا كان الناس في ضيق وأنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة". وسوف نعالج عشرة مسائل في الطلاق تظهر التزام الفقهاء بأصوله من السببية والشرطية والمانعية، مع تفاوتهم في التطبيق بما يعدد أقوالهم في المسألة الواحدة لتكون سعة للناس في الاختيار من دون ترهيب أو ترغيب أو تشكيك لصالح قول معين على حساب الآخر إلا أن يقع في قلب المتلقي موقع قبول. وهذه المسائل التي نعتزم بيانها الفقهي بإذن الله تعالى هي: الطلاق بغير صيغة التنجيز، والطلاق بغير نيته، والطلاق بالتوكيل، وطلاق الفضولي، والطلاق بغير الإشهاد، وطلاق الغضبان، وطلاق المكره، وطلاق السكران، والطلاق بلفظ الثلاث، والطلاق البدعي. وذلك في المباحث العشرة التالية. |
#5
|
||||
|
||||
![]() المبحث الأول
الطلاق بغير صيغة التنجيز (الطلاق المضاف والطلاق المعلق) صيغة الطلاق الصحيحة هي سبب الحكم بإيقاعه والنطق بحل رباط الزوجية وترتب آثار هذا الحل من العدة وغيرها. والأصل في الطلاق إذا أراده الزوج إرادة حقيقية أن يوقعه منجزًا؛ لأن التنجيز هو الطريق المستقيم المختصر لإبرام العقود والوصول إلى الأشياء. والطلاق المنجز هو الذي يرتب سبب الفرقة في الحال، ويعقبه أثره بدون تراخ. وصورته أن يصدر الزوج صيغة الطلاق مستوفية شروطها ومنتفية عن موانعها مثل أن يستخرج وثيقة رسمية معتمدة من الجهات المعنية تشهد بأنه أصدر تعبيره الصريح بطلاق زوجته "فلانة" وفق الشروط المعتبرة، ومثل أن يقول الزوج المتزوج عرفيًا لزوجته العرفية "أنت طالق" مع تحقق سائر شروط وقوع الطلاق وانتفاء موانعه. وإذا وقعت صورة الطلاق بغير صفة التنجيز فإنها إما أن تكون مضافة وإما أن تكون معلقة، وللفقهاء فيهما تفصيل نوجزه فيما يلي. أولًا: الطلاق المضاف الطلاق المضاف هو الصادر بصيغة مقرونة بوقت في المستقبل أو في الماضي، كأن يقيد الطلاق بأول الشهر القادم، أو بآخر الشهر الماضي. هنا اختلف الفقهاء في حكم هذه الإضافة الزمنية هل يعتد بها، أو تلغى من الحسبان ويحكم بوقوع الطلاق، أو تكون سببًا في بطلان صيغة الطلاق؟ ثلاثة مذاهب في الجملة، كما يلي. المذهب الأول: يرى الاعتداد بقيود الطلاق الزمنية المستقبلية والماضية في الجملة. وهو مذهب الحنفية والشافعية. وحجتهم عموم الأدلة الآمرة بالوفاء بالعقود والشروط، ومنها قوله تعالى: "أوفوا بالعقود" (المائدة:1)، وما أخرجه البخاري عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحق ما أوفيتم من الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج". واستثنى الحنفية والشافعية من صورة الطلاق المضاف إلى زمن ماضي إذا كان يقصد الزوج إيقاعه في الحال وليس الاخبار عن طلاق سابق فإنه يقع في الحال كالمنجز. المذهب الثاني: يرى إلغاء قيود الطلاق الزمنية المستقبلية والماضية ليحكم بتنجيزه في الحال في الجملة. وهو مذهب المالكية والحنابلة. وحجتهم أن استقرار المعاملات في عقود التمليكات تقتضي إلغاء ما يضاف إليها من شروط تهز صورتها المستقيمة بالتجيز، فقد أخرج الشيخان عن عائشة في قصة بريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن اشترط مائة شرط شرط الله أحق وأوثق"، وفي رواية: "ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله. من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة مرة. شرط الله أحق وأوثق". وأخرج الدارقطني عن عمرو بن عوف المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا". واستثنى أصحاب هذا المذهب من صورة الطلاق المضاف إلى زمن ماض إذا كان الزوج يقصد الإخبار عن حقيقة طلاقه الصحيح في الزمن الماضي وليس مجرد إضافة لزمن في صيغة الطلاق فإنه يحتسب من زمنه الماضي دينًا. المذهب الثالث: يرى أن إضافة الزمن للطلاق تبطله وتجعله لغوًا، سواء أكانت الإضافة لزمن في المستقبل أم لزمن في الماضي إلا إذا كانت الإضافة لزمن ماض خبرًا عن طلاق وقع صحيحًا في الزمن الماضي. وهو مذهب الظاهرية. وحجتهم أن الله تعالى علمنا كيف يكون الطلاق في قوله سبحانه: "إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن" (الطلاق:1)، والطلاق المضاف إلى أجل لا يجعل العدة فور الطلاق كما أمر الله، وهذا ظلم وعدوان منهي عنه كما قال سبحانه: "ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه" (الطلاق:1). قالوا: وأيضًا فإن كل طلاق لا يقع حين إيقاعه فمن المحال أن يقع بعد ذلك أو في زمن لم يوقعه فيه. وقد أخذ بعض الحنفية والحنابلة بهذا القول في صورة إضافة الطلاق لزمن في الماضي بغير قصد الإخبار، وإنما بقصد احتسابه بأثر رجعي لإيقاعه في الماضي. ثانيًا: الطلاق المعلق الطلاق المعلق هو الصادر بصيغة مرهونة بحصول شيء آخر، وقد يكون التعليق لفظيًا كقول الزوج "إن فعلت كذا فأنت طالق"، وقد يكون التعليق معنويًا كقول الزوج "علي الطلاق ما أفعل كذا". وقد اختلف الفقهاء في الحكم بإيقاع الطلاق بإحدى صيغ التعليق إذا تحقق الأمر المعلق عليه مع سائر شروط صحة الطلاق، هل يكون الطلاق صحيحًا إذا وقع الأمرالمعلق عليه، أو يأخذ الطلاق المعلق حكم اليمين بالله بلزوم الكفارة عند الحنث، أو نعد صيغة التعليق بالطلاق لغوًا؟ ثلاثة مذاهب للفقهاء، كما يلي. المذهب الأول: يرى صحة الحكم بوقوع الطلاق بصيغة التعليق إذا تحقق الأمر المعلق عليه، ولو بطريق النسيان أو الإكراه. وهو مذهب الجمهور ذهب إليه فقهاء المذاهب الأربعة في الجملة. وحجتهم عموم الأدلة الآمرة بالوفاء بالعقود والشروط. وقال الشافعية في الأظهر: إذا وقع الأمر المعلق عليه سهوًا أو إكراهًا فلا طلاق؛ لما أخرجه الحاكم وابن ماجه والطبراني بسند فيه مقال عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وقال بعض الشافعية: إن صيغة "علي الطلاق" ليست طلاقًا وإنما هي وعد به؛ لأن لفظ "علي" اسم فعل أمر بمعنى يلزمني. المذهب الثاني: يرى تحويل صيغة الطلاق بالتعليق إلى إحدى صيغ الحلف بالله، فتجب كفارة الحنث في اليمين إذا وقع المعلق عليه دون الطلاق. وهو قول ابن تيمية (ت728هـ) في الجملة. وحجته أن اختيار صيغة التعليق يدل على أن الزوج لا يرغب في الأصل إنشاء طلاق، وإنما يقصد حمل نفسه أو زوجته أو غيرهما على فعل شيء أو تركه، وكان الأصل أن يأتي باسم من أسماء الله في حلفه، إلا أنه أتى بلفظ الطلاق للتخويف به، والعبرة في التصرفات بالمعاني لا بالمباني، فقد أخرج الشيخان عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنية". المذهب الثالث: يرى إلغاء صيغة الطلاق بالتعليق واعتبارها كأن لم تكن. وهو مذهب الظاهرية والإمامية. وحجتهم أن الاستقامة في صيغ الطلاق إنما تكون بصيغة التنجيز، فكان الطلاق بصيغة التعليق انحرافًا وتعديًا لا يرقى إلى مرتبة الاعتبار؛ لقوله تعالى: "ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه" (الطلاق:1). |
#6
|
||||
|
||||
![]() المبحث الثاني
الطلاق بغير نيته (1)إذا وقع الطلاق باللفظ الصريح الذي يستعمل في إيقاعه غالبًا، كقول الزوج لزوجته "أنت طالق" فقد ذهب جمهور الفقهاء في المذاهب الأربعة المشهورة إلى القول بالحكم بوقوع الطلاق بهذا اللفظ الصريح دون حاجة إلى استحضار الزوج لنية الطلاق إذا تحققت سائر شروط صحة الطلاق؛ لأن صراحة اللفظ في الطلاق تقوم مقام النية عندهم. وذهب الظاهرية والإمامية إلى القول بأن الطلاق باللفظ الصريح لا يصح إلا باستحضار نية الطلاق، ولا تعرف هذه النية إلا من قبل الزوج. والأصل هو اعتبار اللفظ الصريح في الطلاق إلا إذا نازع الزوج ونفى إرادته له، كأن قال سبق لساني به، أو كنت أهدد به، فإنه لا يحكم بوقوع الطلاق؛ لعدم تحقق النية التي هي شرط صحة الأعمال، كما أخرج الشيخان عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنيات". وقياسًا على الساهي والنائم والغالط، فقد أخرج ابن ماجه والحاكم بإسناد صحيح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، وروى ابن حزم في "المحلى" بسنده عن خيثمة بن عبد الرحمن أن امرأة قالت لزوجها: سمني، فسماها الظبية. قالت: ما قلت شيئًا؟ قال: فهات ما أسميك به. قالت: سمني خلية طالق. قال: فأنت خلية طالق. فأتت عمر بن الخطاب فقالت: إن زوجي طلقني، فجاء زوجها فقص عليه القصة، فأوجع عمر رأسها، وقال لزوجها: خذ بيدها وأوجع رأسها. (2)أما إذا وقع الطلاق بغير ألفاظه الثلاثة الواردة في كتاب الله وهي: "الطلاق والفراق والسراح" كأن وقع بلفظ "الحقي بأهلك" أو بلفظ "حبلك على غاربك" أو بلفظ "أنت مبرأة" فإن الظاهرية والإمامية يرونه لغوًا، حتى ولو كان ناويًا للطلاق؛ لأنه وقع على وجه ليس في كتاب الله، وقد أخرج الشيخان عن عائشة في قصة بريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شرط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل". أما جمهور الفقهاء في المذاهب الأربعة المشهورة فيرون أن هذه الألفاظ التي لا تدل على الطلاق صراحة إن كانت لا تحتمل معنى الطلاق في استعمال الناس فهي لغو، وإن كانت تحتمل إرادة الطلاق فإنها توصف بالطلاق الكنائي ولا يحكم بوقوع الطلاق بها إلا إذا صرح الزوج بأنه كان ينوي بها الطلاق. ثم اختلف هؤلاء الجمهور في مدى إلحاق تلك الألفاظ الكنائية بألفاظ الطلاق الصريحة إذا كانت قرائن الحال تفيد إرادة الطلاق. وبتعبير آخر نقول إن جمهور الفقهاء قد اختلفوا في الحكم بوقوع الطلاق بالألفاظ الكنائية دون الحاجة لسؤال الزوج عن استحضار نية الطلاق عند التلفظ بها إذا كانت قرائن الحال تدل على إرادته الطلاق، كما لو قال لزوجته في مناسبة نقاش يحدد مصير علاقته بها "الحقي بأهلك"، فهل تغني قرائن الحال عن النية في ألفاظ الطلاق الكنائية؟ قولان لجمهور الفقهاء. القول الأول: يرى أن قرائن الحال كالنية للحكم بها على وقوع الطلاق بألفاظه الكنائية. وهو مذهب الحنفية والحنابلة في المعتمد؛ لأن قرائن الحال تلحق الطلاق الكنائي بالطلاق الصريح الذي لا يحتاج إلى نية عند الجمهور. ولأن اشتراط النية في الطلاق الكنائي كان لغموضه الذي لا يعرف إلا بها، فإذا دلت قرائن الحال على إرادة الطلاق لم نعد في حاجة إلى سؤال الزوج عن نيته. القول الثاني: يرى أن قرائن الحال لا تغني عن نية الزوج للحكم بوقوع الطلاق إذا وقع باللفظ الكنائي. وهو مذهب المالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة؛ لأن اللفظ الكنائي لم يوضع للطلاق وإن كان يحتمله، ولا سبيل إلى الوصول إلى إرادة الطلاق به إلا من جهة الزوج بنيته التي يصرح بها، فإن احتسبنا قرائن الحال كالنية فقد ألزمنا الزوج بشيء قد يكون منصرف الذهن عنه. |
#7
|
||||
|
||||
![]() المبحث الثالث
الطلاق بالتوكيل أو بالتفويض (1)التوكيل هو الاعتماد على الغير، ويكون بالوكالة أو بالتفويض في الجملة. أما الوكالة فتعني في اللغة التفويض إلى الغير ورد الأمر إليه. أما الوكالة في اصطلاح الفقهاء فهي كما ورد في "التعاريف" للمناوي (ت1031هـ): "استنابة جائز التصرف مثله فيماله عليه تسلط أو ولاية ليتصرف فيه"، مثل أن يقول الرجل لآخر: "وكلتك في طلاق زوجتي فلانة". والتفويض عند الفقهاء هو "رد الأمر إلى الغير لينظر فيه"، مثل أن يقول الزوج لآخر: "أعطيك الإذن في طلاق زوجتي فلانة"، أو يقول لزوجته: "أفوضك في طلاق نفسك، أو معك الإذن في طلاق نفسك". وقد اختلف الفقهاء في تحديد الفرق بين التوكيل وبين التفويض في الطلاق على مذهبين. المذهب الأول: يرى أن الفرق بين التوكيل وبين التفويض في الطلاق هو أنه يحق للموكل أن يلغي الوكالة قبل تصرف الوكيل بخلاف التفويض؛ لأنه كاليمين فيصير المفوض تحت سلطان الحائز على التفويض مدى حياته. وهذا مذهب الحنفية والمالكية وبعض الشافعية وقول للإمامية. المذهب الثاني: يرى أن الفرق بين التوكيل وبين التفويض في الطلاق هو أن التفويض له أثر فوري فإن فات مجلس التعاقد دون أن يستعمله صاحب التفويض لم يكن له حق في إنفاذ الطلاق بعد، وأكثر ما يكون التفويض أن يكون للزوجة. أما التوكيل بالطلاق فله أثر ممتد إلى حين إلغاء الوكالة. وهذا مذهب الشافعية في الجديد وإليه ذهب الحنابلة وأحد القولين للإمامية. (2)واختلف الفقهاء في طبيعة الطلاق هل هو من الحقوق العينية الذاتية التي لا تصح إلا من أصحابها كالصلاة والصيام واليمين والظهار واللعان والشهادة في الجملة، أم أنه من العقود الموضوعية المهنية التي يجوز فيها الإنابة بالتوكيل أو بالتفويض كالبيع والإجارة ونحوهما في الجملة؟ مذهبان للفقهاء. المذهب الأول: يرى أن الطلاق من العقود الموضوعية التي يجوز فيها الإنابة بالتوكيل أو بالتفويض. وهو مذهب جمهور الفقهاء في المذاهب الأربعة المشهورة وأحد القولين عند الإمامية، وروي عن إبراهيم النخعي والحسن البصري؛ قياسًا على سائر عقود المعاملات كالبيع والإجارة لرفع الحرج عن الناس كما قال سبحانه: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" (الحج:78). المذهب الثاني: يرى أن الطلاق من العقود العينية الذاتية التي لا تصح إلا من أصحابها الأصليين كالزوج المكلف أو ولي أمره إذا كان مجنونًا، فلا يصح الطلاق بالتوكيل أو بالتفويض. وهو مذهب الظاهرية والقول الثاني عند الإمامية؛ لعموم قوله تعالى: "ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى" (الأنعام:164). قالوا: فلا يجوز عمل أحد عن عمل أحد آخر، ولا يجزئ كلام أحد عن كلام غيره إلا حيث أجازه القرآن أو السنة الثابتة، ولم يأت في طلاق أحد بتوكيله إياه قرآن ولا سنة، فهو باطل. بل إن كل مكان ذكر الله تعالى فيه الطلاق فإنه خاطب به الأزواج لا غيرهم فلا يجوز أن ينوب غيرهم عنهم وإلا كان تعديًا لحدود الله. وقياسًا على أنه لا يجوز أن يظاهر أحد عن أحد، ولا أن يلاعن أحد عن أحد، ولا أن يحلف أحد عن أحد لا بوكالة ولا بغيرها. |
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|