|
محمد ﷺ نبينا .. للخير ينادينا سيرة سيد البشر بكل لغات العالم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
قول النبي صلى الله عليه وسلم "من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"
إن الحمد لله، نَحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين. * أما بعدُ: فلله الحمد وله الفضل، وله الشكر وله النعماء، له الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، له الحمد جل وعلا، وله الشكر على كل نعمةٍ أنعم بها في قديمٍ أو حديثٍ، في سرٍّ أو علانية، فله الحمد والفضل والشكر والثناء تعالى وتقدَّس. * أيها الإخوة المؤمنون، لم تزل المجتمعات محتاجةً إلى الآداب والأخلاق التي تضبط تعاملات أفرادها، والتي هي في الحقيقة سياجٌ يجعل الجميع هانئًا مطمئنًا؛ لأنَّ الأخلاق مقصدٌ من مقاصد الشريعة في تكميلها، وترسيخ جذورها وأصولها في المجتمعات، ألم يقل نبيكم محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق)، (إنما بُعثت لأُتمم محاسن الأخلاق). * ومن جملة هذه الآداب العظيمة التي تحتاج إليها المجتمعات، ويحتاج إلى أن ينضبط بها الأفراد، وخاصة في مثل زماننا، أدبٌ عظيم هو من أصول الآداب، جاء في حديثٍ شريفٍ صحيح - هو من جوامع كلم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم - رواه الإمام الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مِن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). * فهذا الحديث العظيم دلَّ على هذا الأصل، وهو أنْ يترك الإنسان ما لا يعنيه، وهذه أمارة على حُسْن إسلامه، وهذا يبيِّن أنَّ أهل الإسلام منهم مَنْ حَسُنَ إسلامه وتمَّ وكمل، وصار له ثمراتٌ واضحةٌ ملموسة، ومنهم مَن إسلامه فيه النقص ويلحقه التثريب؛ لأنَّه لم يُكمله كما جاءت به الشريعة، ولذلك حثَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذا المنهج الأخلاقي العظيم، وبيَّن أنَّه دلالة على حُسن إسلام المرء، وإنما حسن إسلامه؛ لأنَّه فَقِهَ هذا العمق العظيم الذي يحتاجه هو ويحتاجه مجتمعه؛ لأنَّ إعراض الإنسان عما لا يعنيه يجعله متفرغًا لما يعنيه، ولأنَّ الإنسان إذا كفَّ عما لا يعنيه، كان هذا نوعًا من تطويق الأمور التافهة التي لا يحتاجها الناس مما فيه ضياع أوقاتهم، وانصراف هِممهم عن الأمور السامية إلى الأمور الدنيئة، ولأن عمل الإنسان بهذا الحديث العظيم يقطع الطريق عن الإرجاف في المجتمع، من خلال أخبار وأقاويل يتناقلها الناس، دون أن يعلموا حقيقتها ومصداقيتها وتناقلوها، مع أنَّه لا صلة لهم بها تجعلهم مؤهلين للحديث عنها أو لتناقُلِها. * والمقصود أنَّ هذا الحديثَ العظيم ينبغي أن يكون مستحضرًا لدى كل فرد من أفراد المجتمع: (مِنْ حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، ولذلك ذكر ابن القيم رحمه الله أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جمع الورع كله في هذا الحديث، فهو يضع للعبدِ قاعدةً عظيمة فيما يأتي وما يدع، وفيه تنبيهٌ أيضًا على الركن الأول في هذا الحديث، وهو تزكية النفس وتربيتها، وهو جانب التخلية بترك ما لا يعني الذي يلزم منه الركن الثاني، وهو التحلية بالانشغال بما يعنيه. * ولذلك كان حريًّا بالمؤمن أن يكون معتنيًا بتكميل إيمانه وتحسين إسلامه، ألم تروا أن الله سبحانه وتعالى نبَّه عباده إلى أنَّ منهم من كان في حسن إسلامه مضرب المثل؛ ولذا قال جل وعلا: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [النساء: 125]. * أما من لم يقم بهذا الدين ظاهرًا وباطنًا، فقد أساء، ولذلك كان من علامات حسن الإسلام انشغال المرء بما يعنيه، وأن يترك ما لا يعنيه، ولذلك فإنَّ من مفهوم هذا الحديث أن انشغال الإنسان بما لا يعنيه من علامات تفريطه في إسلامه. * أيها الإخوة المؤمنون، إنَّ تنبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن من الاهتمام بما يَعنيه، وهذا ضابطٌ مهمٌّ جدًّا أن يكون شغل الإنسان الشاغل أن يهتمَّ بما يعنيه، وهذا مقتضاه أنْ ينصرف عما لا يعنيه؛ أي: لا يهمه ولا يفيده في دينه ولا دنياه، ويدخل في الأمور التي لا تعنيه المحرَّمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها الإنسان، ذلك أن الذي يعني الإنسان في حقيقة الأمر هو دينه بالدرجة الأولى، وذلك أن يكون مكملًا لدينه، حتى إذا وافته منيته يكون قد أتى ما أحبه الله جل وعلا ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]. * ومن جملة ما يعتني به الإنسان ما يتعلق بأموره الحياتية، فثمةَ أمور يلزمه أن يبادر إليها، وأن يكون مكتسبًا قائمًا بها؛ لأنه إن فرَّط فيها تَلحقه بذلك الملامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع مَن يقوت). * وها هنا ملحظٌ مهم جدًّا، وهو معرفة الضابط فيما يعني الإنسان وما لا يعنيه، هل هي كما تروق للإنسان أن يقول هذا مما يعنيني أو لا يعنيني؟ الحقيقة أنَّ الضابط في ذلك هو الشرع وليس الهوى، فإنَّ كثيرًا من الناس قد يحلوا له أن يترك أمورًا مهمة، ويقول: هذه لا تعنيني، ولكنَّ هذا الأمر لا يُسلَّم له، فقد تجد بعض الناس يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بدعوى أن ذلك من التدخل في خصوصيات الآخرين، وأنَّ هذا مما لا يعني الإنسان، وهذا أمرٌ يتداوله البعض، وربما تلفَّظ به بعض الناس، حينما يُرشَد إلى خير ويُؤمَر بمعروف، أو يُنهَى عن منكر من أمور الدين والدنيا، تجد الذي يرد عليه يقول: هذا ليس مما يعنيك، أو يقول: اهتم بما يعنيك، أو يقول: لا تتدخل في خصوصيات الآخرين، وهذه الكلمة ليست على إطلاقها، نعم قد توجد بعض الأمور من خصوصيات الآخرين، وهي التي تكون شديدةَ الصلةِ بالإنسان، وليس لها امتداد بالآخرين، فلو أنَّ إنسانًا عمل عملًا وكان خاطئًا - وهو مُستتر به، غير مظهر له، ولا مُستعلن به - فإنَّ الشخص الذي يُنقِّب وراءه، ويفتِّش حوله، لا شك أنَّه تدخل فيما لا يعنيه؛ لأنَّ الشريعة تنهى عن التجسس والتنقيب، وتتبُّع ما سُتِر، لكن إذا ظهر أمرٌ من الأمور الخاطئة وكان له تعلُّق بالآخرين - سواء كان في الأمور الدينية، أو الأمور الحياتية المعيشية - لم يعد حينئذٍ شأنًا خاصًّا؛ لأنه تعلق بالآخرين، وحينئذ وجب على الناس أن يكونوا مبادرين لتعديل هذا الخطأ؛ لأنَّ التغاضي عنه سيؤدي إلى مشكلاتٍ متعددةٍ في أمور حياتهم. * وقد يستدل بعض الناس بحديث أو بآية من القرآن الكريم على أن الشخص لا يتدخل في شؤون الآخرين، وهي قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، وهذا الأمر قد أبانه وأوضحه سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فيما رواه أبو داود أنه رضي الله عنه قام في الناس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، قال: وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك الله أن يعمهم بعقاب)، وفي روايةٍ قال: (وإني سمعت رسول الله صلى لله عليه وآله وسلم يقول: ما من قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيِّروا، ثم لا يغيِّروا - إلا يوشك أنْ يعمَّهم الله منه بعقاب). ولذلك فالإنسان يميِّز ما يعنيه وما لا يعنيه، والضابط في هذا هو الشرع المطهَّر، وليس الهوى والادعاء. * وبعد أيها الإخوة المؤمنون، فهذا الحديث العظيم حديثٌ ينبغي أنْ يكونَ محل اهتمام الإنسان، وأن يكون متوجهًا إلى ما يعنيه من أمور دينه ودنياه، وأن يكون مهتمًّا بالأولويات، فلا يدخل عليها الأمور الهامشية؛ لأنَّ كثيرًا من الناس اليوم تجده يتحدَّث في كثيرٍ من الأمور، ولكنَّ أكثرها مما لا يعنيه ويضيع ما يعنيه، ولو أنَّ كل واحد حدَّد ما يهمه وما يعنيه، فبادر إليه في أمور دينه وأمور دنياه، لوجدنا ثمراتٍ كثيرة، وإنتاجًا واضحًا في المجتمع. * وهذا الأمر يتأكد ولا شك في مثل زماننا اليوم، مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي والثورة المعلوماتية التي جعلت أكثر الناس يتحدَّثون فيما ليس من تخصُّصهم، ولا مما يعنيهم، فتجده يُفتي ويقضي ويرجِّح، ويُخطِّئ ويُصحِّح في أمور دينية وأمور حياتية، وكأنما جمع هذا الإنسان كل التخصصات في الأمور الدينية والأمور الحياتية، فهو يفتي في أمور طلاق وأمور اقتصاد، وأمور العبادات، وأمور المعاملات، وغير ذلك، ويخطِّئ ويصحح على غير علم ولا هدى، ولا كتاب منير، وإذا جئت له في أمور الدنيا، فهو يتحدث في أمور السياسة وفي أمور الاقتصاد، والتجارات، وغير ذلك من أمور هي أكبر منه لا من جهة التخصص، ولا من جهة ما خَفِي عنه، ولو أن كلَّ أحدٍ تكلم فيما يعنيه، وفيما هو مِن تخصُّصه، فإن ذلك أدعى إلى ضبط الأمور في المجتمع، بل إن الإنسان لو كان له تخصُّص في مجال معين، لكنه لم يطلب منه الحديث في هذا المجال، ولا نقده ولا توضيحه، ثم أتى ليتحدث دون أن يُطلب منه، فإن ذلك سيؤدي به إلى خطأ، وربما إلى ردِّ قوله وإلى تضعيف رأيه، وهذا الحديث النبوي يضبط هذه الأمور كلها، ويجعل الناس يهتمون بما يعنيهم. * هذا الحديث تزداد له الحاجة والضرورة لأن يُعمَل بمقتضاه في زمننا هذا، بعد أن تزاحمت فيه الواجبات، واختلطت فيه الأولويات، ولذلك كانت الخطوة الأولى لنجاح الإنسان، ولأجل أن يطمئن ويبعد عن خاطره ما يشغله - أن يحدِّد الأولويات عنده، ما الذي يجعله ناجحًا في أمور دينه وأمور دنياه؟ وأن يركِّز على ما هو بصدده مما يتعلق به، وأما أمور الآخرين - أن يُخطئهم أو يصحح لهم، وليس ذلك فرضًا عليه - فهذا نوعٌ من تضييع الوقت، ونوعٌ من إضاعة الإنسان لما يهمه، ونوعٌ من التفريط الذي يؤدي إلى ثمرات غير حميدة. * بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. * الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. * أما بعدُ: أيها الإخوة المؤمنون، إنَّ انتباه الإنسان وتركيزه فيما ينبغي له، وما يتعين عليه، وما ينبغي له أن ينصرف عنه - أمرٌ مهمٌّ، فتتعين وتتأكد أهميته في مثل زماننا اليوم الذي تحيط بنا أنواعٌ من الفتن، ومن تغيُّرات الأمور وتقلُّبات الأحوال، وبعد أن بات أكثر الناس يستطيعون أنْ يتحدثوا وأنْ يكتبوا، من خلال ما تهيَّأ من وسائل التواصل الاجتماعي، وشبكة الإنترنت، والثورة المعلوماتية، وهذا يوجب على الإنسان أنْ يكون يَقِظًا غير ناقلٍ للأخبار إلا بعد التثبت منها، وبعد أن يتثبت، ينظر هل في نقله لما ينقله مصلحة راجحة؟ وهل فيما يكتبه ويتحدث به نفعٌ له وللآخرين؟ وإلا فليُمسك عن ذلك، وهذا الأمر توارَدت على تأكيده نصوص القرآن والسنة. * ومما يدل على هذا الأصل الذي هو موضِّح ومؤكِّد للأصل النبوي المتقدم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) - ما جاء في كتاب الله جل وعلا من قوله سبحانه: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83]. * فهذه الآية الكريمة: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ﴾ [النساء: 83]، إنكارٌ من الله جل وعلا على من يبادر إلى الأمور قبل تحقُّقها، فيخبر بها ويُفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة، وإنما هي أقاويل وأحاديث قالها فلان من الناس؛ إما أن يكون مجهولًا غير معروف، وإما أن يكون إنسانًا غير ثبتٍ، ولا مُتحقق من صحة ما يقول، والله جل وعلا يقول في كتابه الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حذَّر من تناقُل الأخبار، ومن تداول الأحاديث دون أن يتأكد منها، فقد روى الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قالكفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكل ما سمع)، وهذا الحديث يعني أنَّ الإنسان إذا كان من طبعه وسجيته أنَّه يتحدث بكل ما يسمع، فلا بد أن يقع في الكذب؛ لأنَّه ليس كل ما يُنقل صحيحًا متحققًا، وحينئذٍ مع تحدُّثه بكل ما يسمع، سيقع في الكذب والخطأ، وفي البهتان والزور وفي اتهام الآخرين. * وثبت في الصحيح أيضًا أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من حدَّث بحديث وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذِبين)، وهذا يرد على ما قد يكون عند بعض الناس حينما يرسل رسالة عبر مواقع التواصل، فيقول: كما وردني، أو منقول، أو كما بلغني، هذا لا يعفيك من مسؤولية ما تنقل، وهذا النص النبوي شاهدٌ على تحميل الإنسان مسؤولية ما يكتب: (من حدَّث بحديث وهو يرى أنه كذب)، والمعنى أنَّ الشخص يُحمَّل المسؤولية، فأنت إنسان عاقل، أنت إنسان راشد، أنت مسلم تستطيع أن تميِّز هل هذا الذي بلغك صحيح أو خطأ؟ هل يصح نقله أو لا يصح؟ أنت عندك عقل وعندك تمييز، وعندك فَهْم بالشرع، وتعلم أن هذا يُنقَل أو لا يُنقَل، وهل إذا كان صحيحًا، أجازَه العقل أن يكون صحيحًا؟ هل من مصلحة الناس أن تنقل لهم هذا؟ أم أنه نوعٌ من الإرجاف؟ ونوع من إدخال الحزن عليهم؟ تجد الشخص ينقل الخبر المحزن المكدر المخوف: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ﴾ [النساء: 83]، أمور عظام أمور كبار، لا يصلح أن يتحدث فيها إلا من هو مؤهل لها، وممن له الصلاحية في ذلك، ثم تجد أفراد الناس وعامتهم ودهماءهم يتداولون هذه الأمور الكبار، فتدخل الحزن أو تدخل الإرجاف، أو تدخل الأقاويل أو الإشاعات، أو تُسبب أنواعًا من المشكلات بين الناس، مما قد يكون فيه ضررٌ واضح بالأفراد والأشخاص، أو بالمجموعات أو بالمجتمع كله، ثم يقول بعد ذلك: كما بلغني أو كما وصلني، لا، أنت مسؤول عما تكتب وعما تنقل، وعما تخبر، وخاصة إذا كان من الأمور العظام التي نهى الله جل وعلا عن تناقلها إلا بردها إلى أهل الاختصاص، وهو ما دل عليه قول ربنا جل وعلا: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ ﴾ [النساء: 83]، إذا جاءهم هذا الأمر، لكن لو أنهم فعلوا الأمر الأرشد الذي أمر الله به، وهو أن يردوه إلى الرسول، وذلك في حياته، وهذا كان سببُ نزول هذه الآية، لَما بلغهم ما بلغهم من خبر، كان الأرشد بهم - بأولئك الذين تناقلوا ما تناقلوا - أن يردوه إلى الرسول، وذلك إبَّان حياته الشريفة عليه الصلاة والسلام، أو إلى أُولي الأمر منهم، إلى الصحابة رضي الله عنهم، أو إلى أهل السلطان وأهل المسؤولية، فإن هذا هو الأرشد: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83]، ما الذي يكون؟ ﴿ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83]، سيدرك أهل الاختصاص وأهل العلم والخبرة الذين عندهم القدرة على الاستنباط والفهم، وتمييز الأقاويل والأحاديث، يعلمون حينئذٍ هل هذا حق أو كذب؟ ثم لو كان حقًّا، يعلمون ما الذي ينبغي أن يعمل، وما الذي يجب أن يتصرف فيه. * فهذه الآية ميزانٌ حميدٌ عظيمٌ كريم، والحديث المتقدم أيضًا في هذا السياق، وبذلك تنضبط الأقاويل والأحاديث، وما يكتب وما يتناقل، دون أن يكون الإنسان مجرد ممرر لما يرده، مع ظهور خطئه أو أنه مما لا يَعنيه. * وبعد أيها الإخوة المؤمنون، فإنَّ كثيرًا من الناس اليوم انشغل بما لا يفيده، وانشغل بما قد يلحق به الضرر، فتجد كثيرًا من الأشخاص يمضي الأوقات الطوال على الشاشات - شاشات الجوال، والأجهزة المحمولة وغيرها - يمضي أوقاتًا طويلة يتتبع فيه ما ينقل، وما هو من القيل والقال، وما هو في حقيقته من جملة فضول الأمور، أو ربما من المحرمات، فيضيع عليه عمره، وتذهب أوقاته سُدى، فلا هو بالذي نفع نفسه في دينه، ولا هو بالذي حمى صحيفته من أن يكتب فيها السيئات، ولا هو بالذي أنتج ما ينفع ويفيد، شبابٌ على وجه الخصوص تضيع أوقاتهم في قيل وقال، ولو أنهم صرفوا هذه الأوقات في تعلُّمهم علومًا نافعة - من علوم الحاسب أو اللغات، أو تدريب الذات والمهارات، أو أنهم التحقوا بشيءٍ من الأعمال - لوجدوا في ذلك كسبًا في المال ينفعهم ويرفعهم عن الحاجة للآخرين، ولوجدوا في ذلك أيضًا تطويرًا لذواتهم، وتَمكينًا من أن يكونوا أعضاءً نافعين، أما أن يصبحوا ويمسوا على هذه الشاشات في نقل للأحاديث أو كتابة لما لا يفيد، فذلك حقيقته تضييع للعمر وتحميل للمسؤولية، بل هو تضييع أيضًا وضعفٌ في المجتمع؛ لأنَّ مجتمعنا يحتاج كل فرد أن يكون نافعًا منتجًا، وأسوأ من ذلك كله أن تجد بعض الناس - وقت عمله الذي ينبغي أن يكون متفرغًا فيه لإنجاز ما كُلِّف به - منشغلًا بهذه الأحاديث والأقاويل، ليتداولها وينقلها دون تثبُّتٍ، بل دون نفع، وانشغل عما ما هو واجب عليه، وهذا الحديث النبوي والآية الكريمة قبله، لا شك أنها ضابطةٌ لهذا الأمر، ومنظِّمةٌ لتصرفات الناس، حتى يعوا ما ينبغي لهم، وما ينفعهم ويفيدهم مما يعنيهم، وينصرفوا عما دون ذلك. * ألا وصلوا وسلِّموا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا ربنا بهذا، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. * اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء والأموات. ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]. اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغارًا. ربنا هبْ لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعينٍ، واجعلنا للمتقين إمامًا. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى. اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك، وحُسن عبادتك. اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان. اللهم اجمعهم على الحق يا رحمن. اللهم اجعل بلدنا آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفِّق ولاة أمورنا لما فيه خير العباد والبلاد. اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، وأبْعِد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين. اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم واكْفهم شرارهم. اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوءًا، فاشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا سميع الدعاء. اللهم احفظ جنودنا المرابطين على الحدود وفي الثغور. اللهم احفظهم بحفظك، اللهم سدِّد آراءهم ورَمْيهم، وعظِّم أجورهم يا رب العالمين. اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان. اللهم عجِّل بالفرج لإخواننا المسلمين في فلسطين والشام، وفي العراق وفي بورما، واليمن وفي ليبيا، وغيرها من البلاد يا رب العالمين. اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، إن بأمة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام من الفرقة واللأواء، ومن الشدة وتسلُّط الأعداء، ما لا يعلمه إلا أنت، ولا يقدر على كشفه إلا أنت، ولا نشكوه إلا إليك، فنسألك اللهم فرجًا عاجلًا لكل مكروب من أمة نبيك عليه الصلاة والسلام. عباد الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزيدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون. الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|