اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > محمد نبينا .. للخير ينادينا

محمد نبينا .. للخير ينادينا سيرة الحبيب المصطفى بكل لغات العالم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 13-06-2015, 08:49 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي السيرة ووجوب معرفة أحوال الجاهلية


السيرة ووجوب معرفة أحوال الجاهلية (1)



وليد بن عبدالعظيم آل سنو


1- تمهيد:
يدرك ذَوو الألباب ذلك الرباطَ الوثيق بين الظلم والجاهلية، فبينهما علاقةٌ دائمة لا تنقطع؛ فأينما حلَّتِ الجاهليةُ بمكانٍ، ترَ الظلم تابعًا لها فيه؛ ولذلك فإن حقيقة الإيمان بالله لن تدرك كما ينبغي، إلا إذا استطعنا أن نفهم جيدًا مدى تأثير عبادة الأوثان والأصنام في دنيا الناس، وارتباط ذلك كله بقَسَم إبليس لرب العالمين: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83]؛ ولذلك فإن: "كل عهدٍ اهتزَّتْ فيه عقيدةُ التوحيد يُعَدُّ عهدًا مظلمًا؛ ذلك لأن الإيمان بالله - عز وجل - الذي هو نور السموات والأرض، إن لم يحكم جميعَ القلوب، سيطر الظلامُ على الأرواح، واسودَّتِ القلوب؛ فمثلُ هذه القلوب المظلِمة تُبتلى بقصر النظر عند مراقبة الأحداث، وتكون رؤيتها متعكرة وغير صافية، ويعيش صاحب مثل هذا القلب كالخفافيش في دنيا الظلام"[1].
ففي وجود ركام الجاهلية لا تجد للضياء مكانًا، ولا للموحدين أثرًا؛ لأن أفكار وعقائد الجاهلية يطغيان على كل شيء، وطوفان الجاهلية يحطِّم فيما يبدو للناس بقايا الإيمان المتناثرة في دنياهم، نخلص من ذلك إلى أنه "لا بد من دراسة البيئة التي نشأ فيها الإسلام، وردودِ الفعل التي حدثتْ تجاه الإسلام في تلك البيئة، والتغييرِ الهائل الذي أحدثه الإسلام فيها"[2].
ودراسة هذه البيئة الجاهليةللتعرُّف على ما صنعه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - بالعالم، كيف غيَّر مبادئَه وأخلاقَه وقيمَه؛ لأن "معرفة تاريخ الجاهلية وتصوراتها وقيمها تزيد المؤمنَ إيمانًا وطمأنينة إلى ما عنده من الحق، والمعرفة بمسار الأفكار الجاهلية ودخائلها حصانةٌ ضد الوقوع في شيء منها، ولكن لا بد أن يسبق هذه الدراسةَ معرفةُ تاريخ الجاهلية ونظمها، ويصاحبها إيمانٌ بالله صحيح، واعتزازٌ بشريعة الله، وفقهٌ بالحلال والحرام، وإلا أتتِ الدراسة محرفةً شوهاء"[3].
ولأن شأن الجاهلية ذو خطر عظيم، وله آثارٌ وخيمة، وأضرارٌ بالغة؛ لذا فقد جاء الأمر بمحْق أمر الجاهلية، كما في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد - رحمه الله - عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمَرَني ربي - عز وجل - بمحق المعازف والمزامير، والأوثان والصلب، وأمر الجاهلية))[4].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألاَ كلُّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوعٌ، ودماءُ الجاهلية موضوعة، وإن أول دمٍ أضع من دمائنا دمُ ابن ربيعة بن الحارث - وكان مسترضعًا في بني سعد، ف***تْه هذيل - وربا الجاهلية موضوع، وأول ربًا أضع من ربانا ربا عباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوعٌ كله))[5].
"فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أهدَرَ أمْرَ الجاهلية، ووضعه تحت قدميه الشريفتين؛ إعراضًا عنه، وإهانة له، وإيذانًا بإهداره وأنه لا عودة له أبدًا، وطبق المنهج على نفسه وأهله أولاً"[6].
"والمتأمل في هذه الأشياء التي أمَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمحْقها، يجد أن لها بُعدًا عميقًا، وأثرًا واضحًا في أيِّ واقعٍ ومجتمع جاهلي - قديمًا وحديثًا - مع وجود تلك الرابطة القوية بالشيطان، فحقيقةُ الصراع بين الإسلام والجاهلية هو في الحقيقة صراع مع الشيطان"[7].
والذي يُثبت تلك العلاقةَ بين إبليس وأفعال الجاهلية ما رواه الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكةَ رنَّ إبليس رنة اجتمعتْ إليه جنودُه، فقال: ايئسوا أن تردُّوا أمَّة محمد على الشرك بعد يومكم هذا، ولكن افتنوهم في دينهم، وأفشوا فيهم النوح"[8].
فجميع ما ذكر[9] من فعل الشيطان وأساليبه المختلفة في الغواية، وهو الآمر الأول بها، فما عُبدتِ الأوثانُ إلا بأمْر الشيطان، وما صُنع الصليبُ إلا بأمر الشيطان، وما صنعت المزامير والمعازف إلا بأمر الشيطان، وكل هذه المظاهر والمعالم إنما هي مظاهرُ ومعالمُ جاهليةٌ؛ لذلك كانت الجاهلية صنعة الشيطان ودعوته[10].
فإذا أردنا "تقييم الواقع الجاهلي، فإن التقييم يكون على أساس علاقة الشيطان بهذا الواقع الجاهلي، فالعلاقة بين الشيطان والواقع الجاهلي علاقةٌ بديهية، بلغت بداهتُها أن يدركها هدهدُ سليمانَ في تقييمه لمملكة سبأ: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 24]"[11].
ورغم تلك الحضارة السامقة، والمُلك العريض، إلا أنه كان في نظر الهدهد جاهليةً، و"هذا الربط الدقيق بين هذه الخصائص وتلك الأعمال، هو الذي يحدِّد التفسير الإسلامي لأدقِّ المظاهر الجاهلية"[12]، فخصائصُ الحضارة إن لم تقترن بالدِّين، فهي جاهلية، ولذلك كانت "الجاهلية تجرِبة واحدة، بدأها إبليس منذ معصيته، وسيظل قائمًا عليها إلى يوم الوقت المعلوم"[13].
إن ترْك مثلِ هذه الدراسة لتلك الفترة حتى الآن دراسة متأنية فياضة، يدلُّ دلالة قاطعة على أن هناك خللاً في فهم الواقع الجاهلي، وتكاسلاً رهيبًا لفهم تلك الفترة، ويدل على مدى التقصير والتفريط، أو ربما عدم إدراك أهمية دراسة مثل هذه الفترة الزمنية التي قبل الإسلام.
هذا التهاون في مثل هذه الدراسة كان السببَ الرئيس في خروج أجيال متأسلمة، منقطعة الصلة عن جذورها الأولى، تعيش الجاهلية المعاصرة بكل ما فيها من صخب وضجر وفجور، تمامًا كما كان يعيش الناس قبل الإسلام.
لذا نقول: إنه يجب دراسة أحوال الجاهلية دراسةً عميقة، تكون شديدةَ الأثر في دنيا الناس؛ لتعرفهم الفارق بين حياة الجاهلية وحياة الإسلام، والغرض الأسمى من هذا التعريف أن هذه المظاهر التي يحياها الناس ويمارسونها بإلف العادة، إنما هي في الحقيقة واقعٌ جاهلي، فمثل هذا التعريف يُخرِج الناسَ من عبادة الشهوات والأهواء إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعة الدنيا والآخرة، ولا ينبغي أن نكتفي بتلك القشور التي تُقدَّم في كثير من الكتب التي تتناول سيرة النبي الأعظم - صلى الله عليه وسلم - فيكتب في مقدمة أي كتاب يتناول السيرة ورقة أو ورقتين عن الجاهلية، ثم لا شيء بعدها.
إننا لا بد أن ندرس ذلك "العهد الذي اهتزتْ فيه جميعُ أسس الدين من قواعدها، وحرِّفتْ فيه الديانات السماوية من قِبَل أتباعها، ولم يبقَ هناك سوى فئةٍ قليلة من الموحِّدين الذين كانوا يؤمنون بالله - سبحانه وتعالى - ولكن دون أن يدركوا صفاتِه وأسماءَه الحسنى؛ لذا فما كانوا يعرفون كيف يوفون وظيفة العبودية لله"[14]، مثل كثير من المسلمين اليوم لا يعرفون كيف يوفون وظيفة العبودية لله رب العالمين؛ لأن معنى ضياع حقيقة العبودية هي انصهار ذلك المجتمع كله في وضع جاهلي ما، ضاعتْ بسببه تلك المعالمُ والحقائق للعبودية، والسؤال: ما هي تلك القوة الهائلة والمؤثِّرة التي طغتْ على حقيقة العبودية لله وحده، فطمستْها أو غيَّرتْها؟ وتأتي الإجابة قاطعةً حاسمة لا ريب فيها، إنها قوة الجاهلية، فما هي هذه الجاهلية؟
المطلب الأول: تعريف الجاهلية:
المعنى اللغوي والاصطلاحي للجاهلية:

قال الإمام السيوطي - رحمه الله - في "المزهر": "قال ابن خالويه: إن لفظ الجاهلية اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة"[15].
والجاهلية من الألفاظ التي لم يستخدمها العرب، ولم يرد في أشعارهم ولا كلامهم قبل الإسلام؛ وإنما استخدموا لفظَ الجهل ومشتقاتِه في معنيينِ اثنين:
1- الجهل الذي هو ضد العلم، وهو حالة عقلية.
2- الجهل الذي هو ضد الحلم، وهو حالة نفسية سلوكية، ومنه قول عمرو بن كلثوم:

أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا
ومنه قول الصمة بن عبدالله القشيري:
بَكَتْ عَيْنِيَ اليُسْرَى فَلَمَّا زَجَرْتُهَا عَنِ الجَهْلِ بَعْدَ الحِلْمِ أَسْبَلَتَا مَعَا
وقد وردتْ هذه اللفظةُ في القرآن بمعنيين كذلك، ولكنهما معنيان اصطلاحيان، والمعنى الاصطلاحي القرآني يدخل في إطار المعنى العام.
فالجاهلية معناها: الجهل الشديد، ولكن معناها الاصطلاحي في القرآن هو: إما الجهل بحقيقة الألوهية (وهو الحالة العقلية)، وإما اتِّباع غير ما أنزل الله (وهو الحالة النفسية السلوكية).
وهكذا حيث وجدْنا في القرآن لفظَ الجاهلية ومشتقاتها، أو اللفظَ المرادف {لَا يَعْلَمُونَ} فلم تخرج عن أحد هذين المعنيين الاصطلاحيين: الجهل بحقيقة الألوهية، أو عدم اتباع ما أنزل الله[16].
ولذلك نرى أن من أبرز سمات الجاهلية اقترانَ الجهل بالهوى، فهما قرينان لا يفترقان كالميل والمداهنة، فعهدُ الجاهلية عهدُ قبحٍ، وصفحة سوداء في تاريخ البشرية، "فالجاهلية لم تكن تأتي كنقيض للعلم وفقط؛ بل كمرادف للكفر الذي هو نقيض الإيمان والاعتقاد"[17].
وهنالك رأي آخر يقول: إن "الجاهلية ليست من الجهل الذي هو ضد العلم، ولكن من الجهل الذي هو السفه، والغضب والأنفة، قريب من هذا المعنى قول الشاعر:
وَقَاكَ الهَوَى وَاسْتَجْهَلَتْكَ المَنَازِلُ
فترى أن كلمة الجاهلية تدل على الخفة والأنفة والحمية والمفاخرة، وهي أمور أوضح ما كانت في حياة العرب قبل الإسلام"[18].
ــــــــــــــــــــ
[1] "النور الخالد"، لفتح الله كولن، 1/25.
[2] "كيف نكتب التاريخ الإسلامي"، للشيخ/ محمد قطب ص 39.
[3] "صفحات مشرقة من التاريخ الإسلامي"، د/ علي الصلابي، 1/62.
[4] حديث حسن أخرجه أحمد،والصلب؛ أي: الصليب، وهو الذي عند النصارى.
[5] حديث صحيح، وهو من خطبة النبي في حجة الإسلام "الوداع"، أخرجه مسلم من حديث جابر.
[6] مقالة: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة"، مجلة الرسالة، عدد 26 يناير 2008، د/ مروان شاهين، أستاذ الحديث وعلومه، جامعة الأزهر، ص 27.
[7] "عندما ترعى الذئاب الغنم"، للشيخ/ رفاعي سرور، ص 167 بتصرف.
[8] حديث صحيح، رواه أحمد، وأخرجه الطبراني في "الكبير"، ورجاله موثقون.
قال الألباني: صحيح 3467، وهو في "الصحيحة"، وانظر: "الترغيب والترهيب"، حديث 5178، طبعة دار ابن رجب.

[9] أي ما ذكر في حديث الإمام أحمد - رحمه الله.
[10] "عندما ترعى الذئاب الغنم"، ص 168.
[11] السابق نفسه، مع ملاحظة ما كانت عليه مملكة سبأ من تقدم وحضارة، ورفاهية في العيش، جاء ذكرها في القرآن، ورغم ذلك كان مجتمعًا جاهليًّا؛ لضياع حقيقة العبودية لله.
[12] السابق، ص 169.
[13] السابق، ص 174.
[14] "النور الخالد"، مصدر سابق، 1/25.
[15] نقلاً من "فجر الإسلام"، أحمد أمين، ص 86، مكتبة الأسرة، عام 1996.
[16] "كيف نكتب التاريخ؟"، مصدر سابق، ص 40 - 43.
يقول الدكتور/ علي إبراهيم أبو زيد بعدما استشهد بعدة آيات قرآنية ورد فيها لفظ الجهل، قال: فلفظ الجاهلية ليس معناه عدم العلم، أو الجهل، وإنما الاندفاع والثورة، ومعناه القوة أيضًا.
قلتُ (وليد): هذا التفسير مبناه على حالة العرب التي كانوا عليها من القوة والبطش، وهو معنى غير دقيق، فإذا أخذنا مثلاً تبرج الجاهلية، فما هي العلاقة بين التبرج والقوة؟ وكذلك حكم الجاهلية، وهو مسألة علمية، ولو قال: الحمية، لكانت أدق وأفضل.

[17] "النور الخالد" 1/ 22.
[18] "فجر الإسلام"، مصدر سابق، ص 110، 111.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 13-06-2015, 08:50 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

السيرة ووجوب معرفة أحوال الجاهلية (2)



وليد بن عبدالعظيم آل سنو



المطلب الثاني: ماذا نقصِد بالجاهليَّة؟
الجاهليَّة: "هي ما يَحمله الفرْد المعاصر من بُعْد عن المنهج الإلهي، وإن كانت تُحيط به مظاهر الحضارة"[1]، وهي فترة مقابلة للإسْلام لا تنحصِر في فترة زمنيَّة محدَّدة بعصرِ ما قبل الإسلام، بل هي اتِّباع الباطل في أيِّ عصْرٍ وفي أيِّ مكان، ودليلُ ذلك أنَّه في عزّ ظهور الإسلام قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأبي ذرّ - رضِي الله عنْه - وهو مَن هُو في المكانة بين الصَّحابة: ((إنَّك امرؤ فيك جاهليَّة))[2]؛ ولذلِك جاء في الحديث: ((إنَّ الله قد أذْهَب عنكم عُبِّيَة الجاهليَّة))[3].

"فالجاهليَّة حالة وُجِدت كثيرًا في التَّاريخ البشَري، في الجزيرة العربيَّة وفي غيرها، وإنَّها قابلة للعوْدة حيثُما وُجِدَت عناصرُها ومقوِّماتُها في أيِّ عصر وفي أيِّ قرنٍ من القرون"[4].
إنَّ كثيرًا من الناس يعتقِدون أنَّ فترة الجاهلية هي الفترة التي سبقتِ الإسلام ولن تعود مرَّة أخرى، وهذا مفهوم ضيِّق ولا يوضِّح دلالة هذه اللَّفظة على حقيقتِها.
إنَّ دلالةَ هذه اللَّفظة عند كثيرٍ من النَّاسِ إنِ استخْدَمْناها، فإنَّه يصرِفُها إلى عهد ما قبْل الإسلام، وهذا هو التَّعبير المتعارف عليه، وهذا يدلُّ على أنَّ هذا الصِّنف يكذب على نفسِه صراحة حين يعتقِد أنَّه ما عاد هناك جاهليَّة.
"فالجاهليَّة هي حكْم البشَر للبشر، أو عبوديَّة البشْر للبشر، وهي ليْست فترةً من الزَّمان ولكنَّها وضْع من الأوضاع، هذا الوضْع يُوجَد بالأمس ويوجَد اليوم ويوجد غدًا، فيأخذ صفة الجاهليَّة المقابلة والمناقِضة للإسلام"[5]، "إنَّه على قدْر معرفتنا بأعماق الجاهليَّة في النَّفْس البشريَّة وفي واقع الحياة، نسْتطيع أن نتعرَّف على أعْماق الإسلام ودوْره في حياة الإنسان"[6]، كما أنَّ هناك فارقًا هامًّا بين مظاهِر الجاهليَّة وجوْهر الجاهليَّة، وقد أدى الخلْط بيْنهما إلى وجود "قصور كبير في تصوُّر الجاهليَّة والإسلام كليهِما، فإنَّه ينبغي على أيِّ حال أن يصحَّح؛ لكيْ نفهم حقيقة الدَّور التَّاريخي الَّذي قام به الإسلام بالنِّسْبة للمسلمين، والَّذي يمكن أن يؤدِّيه للبشريَّة على امتداد الزَّمان.
فالجاهليَّة ليستْ حدثًا قائمًا بذاتِه؛ إنَّما ظاهرةٌ بشريَّة عامَّة في غيْبة الإسلام، قابلة للوجود في أيِّ زمان وأيِّ مكان وأيِّ وضْع حضاري، والواقِع والتَّجربة يؤكِّدان أنَّ النَّاس لا يتبيَّنون حقيقة الإسلام حتَّى يتبيَّنوا حقيقة الجاهليَّة"[7].
وهذه هي المعادلة الَّتي فشل كثيرٌ من المسلمين في إيجاد مخرج لها، أو على الأقلِّ إيجاد طريقة مُثلى للتَّعامل بالمظهر الإسلامي مع الواقِع الجاهلي.
فعِندما تصطَدِم معصية جاهليَّة واقعة في دُنيا النَّاس اليوم - كالغناء - مع نصٍّ قطعيٍّ لتحريمه[8]، هذا الواقع تجِد كثيرًا من النَّاس ومِن بيْنهم "أنُاس ألسنَتُهم أحلى من العسل"[9]، وأشباه دعاة يهْدون بغير هدْي النبي[10]، يُحاولون التَّوفيق الرَّائق والمبدع بين "الواقِع الجاهلي" و "النَّصّ" للخُروج من هذا التَّناقُض بين واقع الجاهليَّة ومُحاولة التَّجميل الإسلامي لها للمُعايشة السلميَّة بيْنهما، وهذا يفعلُه كثيرٌ من "الكبار" الَّذين يُشار إليهم ما بين سلطة دينيَّة متصوِّفة، وسلطة ثقافيَّة علمانيَّة.
"فلا بدَّ لنا أن نعرِف الجاهليَّة على حقيقتِها لكي نعرِف الإسلام على حقيقتِه، ونعرف دوْرَه في حياة البشر"[11]، ولا سبيل لنا لهذه المعرفة إلاَّ مِن خلال دراستِنا للسيرة النبويَّة دراسةً مستفيضة، فإنَّ ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الإنسان لكي يدْرِك استقامة النّور عليه أن يستشْعِر إغراقه الظلام؛ فالإسلام نور والجاهليَّة ظلام.
يقول الشَّيخ محمَّد قطب: "إنَّ الجاهليَّة ليستْ محصورةً في عبادة الأصنام، ووأْد البنات، وشرْب الخمر ولعب الميسر، وغارات السَّلْب والنَّهب ... إنَّما هذه كانت "مظاهر" الجاهليَّة في الجزيرة العربيَّة قبل الإسلام، أمَّا الجاهليَّة ذاتها فهي الجوْهر الَّذي تصدر عنه هذه المظاهر، وقد تصْدُر عنه مظاهر مختلفة تمامًا في مكانٍ آخَر أو زمان آخَر، كما حدث بالفِعْل خلال التَّاريخ، ولكن الجوْهر هو الجوهر في جميع الحالات: الجهل بحقيقة الألوهيَّة واتِّباع غير ما أنزل الله.
هذا الجوْهر هو حالة عقليَّة تَجهل الحقَّ وتتمسَّك بالخرافة، وحالة نفسيَّة ترفض الاهتداء بهدْي الله، ووضْع تنظيمي سلوكي يرفض اتِّباع منهج الله، وهو ظاهرة بشريَّة تحدث للبشَر في أي مكان أو زمان لا يكون الإسْلام هو الحاكم في تصوُّرات النَّاس، ومشاعِرِهم وواقع حياتِهم، وليس منحصرًا في زمان ولا مكان، ولا بيئة، ولا وضْع اقتِصادي أو اجتماعي أو سياسي أو حضاري معيَّن، فكما أنَّ الإسلام يُمكن أن يوجَد في أيِّ زمان ومكان وبيئة حين يعبد النَّاس اللهَ حقَّ عبادتِه ويتَّبعون شريعتَه، فكذلك الجاهليَّة يُمكن أن توجَد في أي زمان أو مكانٍ أو بيئة أو وضع، حين يرفُض النَّاس الاهتداء بهدي الله ويتَّبعون غير منهج الله، ولا بدَّ لنا أن نبيِّن للدَّارسين جوْهر الجاهليَّة بوضوح لا غبشَ فيه، بيانًا للحقيقة العلميَّة أوَّلاً، وتجْلِية للغموض الَّذي يغشِّي أفكار الدَّارسين حين يظنُّون أنَّ الجاهليَّة حالة مفردة وجِدَتْ في الجزيرة العربيَّة قبل الإسلام ولم توجَد في غيرها، ولن تعود"[12].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "فإذا تبيَّن ذلك فالنَّاس قبل مبعث الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانوا في حال جاهليَّة منسوبة إلى الجهل، فإن ما كانوا عليْه من الأقوال والأعمال إنَّما أحدثه لهم جهَّال، وإنَّما يفعله جاهل، وكذلك كلّ ما يُخالف ما جاء به المرسلون من يهوديَّة ونصرانيَّة فهو جاهليَّة، وتلك كانت الجاهليَّة العامَّة، فأمَّا بعد ما بعثَ الله الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فالجاهليَّة المطلقة قد تكون في مصرٍ دون مصر كما هي في دار الكفَّار، وقد تكون في شخصٍ دون شخصٍ كالرَّجُل قبل أن يسلم، فإنَّه يكون في جاهليَّة وإن كان في دار الإسلام، والجاهليَّة المقيَّدة قد تقوم في بعض دِيار المسلمين وفي كثيرٍ من المسلمين"[13].
ــــــــــــــــــــــ
[1] خواطر في السيرة النبويَّة للمصنف، مخطوط أسال الله أن ييسِّر ظهوره قريبًا.
[2] متَّفق عليه.
[3] حديثٌ حسن، أخرجه أحمد وأبو داود (5107) والترمذي (3964 - 3965)، ومعنى عُبية بضمّ العين وكسْر الموحَّدة المشدَّدة وفتح المثناة التحتيَّة، بمعنى: الكبر والنخوة.
[4] كيف نكتب التَّاريخ الإسلامي؟ للشيخ/ محمد قطب، ص 45.

[5] في ظلال القُرآن للأستاذ/ سيد قطب 2/ 904.
[6] كيف نكتب التاريخ؟ ص 49.
[7] السابق، ص 39 - 49 بتصرف.
[8] قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 64].
وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6].
وقال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 59 - 61].
وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليكوننَّ من أمَّتي أقوامٌ يستحلُّون الحِرَ والحريرَ والخمْرَ والمعازِف))؛ رواه البخاريُّ تعليقًا بصيغةِ الجزْم.
وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليشربنَّ ناسٌ من أمَّتي الخمْرَ يسمُّونَها بغير اسمها، يعزف على رؤُوسِهم بالمعازف والمغنيات، يَخسِف الله بِهِم الأرض ويَجْعل منهم قِردةً وخنازير))؛ "صحيح ابن ماجه" للألباني - رحمه الله.
[9] إشارة إلى حديث أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يَخرج في آخِر الزَّمان رجالٌ يَخْتِلون الدنيا بالدين، يلبَسون للنَّاس جلود الضَّأْن من اللِّين، ألسنتُهم أحْلى من العسَل وقلوبُهم قلوب الذِّئاب، يقول الله - عزَّ وجلَّ-: أبِي يغترون أم عليَّ يَجترِئون؟ فبِي حلفتُ لأبعثنَّ على أولئك منهم فتنةً تدَع الحليمَ حيران))، والحديث وإن كان به ضعف - كما قال الألباني - إلاَّ أنَّ معناه صحيح، وهو واقع بالفعل.

[10] إشارة إلى الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، من حديث حُذيْفة بن اليمان، قلت: يا رسولَ الله، وهل من بعد ذلك الشَّرِّ من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دخن))،قلتُ: وما دخنه؟ قال: ((قوم يهْدون بغير هديي يعرف منهم وينكر))، قلتُ: فهل بعد ذلك الخيرِ من شرّ؟ قال: ((نعم، دعاة على أبواب جهنَّم مَن أجابهم إليْها قذفوه فيها)) الحديث.
وأمثِلة هؤلاء كُثرٌ جدًّا، فمنهم مَن يحلِّل الربا، ومَن يحلِّل الغناء كالدكتور محمد عمارة كما نشر ذلك في مجلَّة الأزهر الشهريَّة، قال: "إنَّ الغناء فطرة إنسانيَّة تُحاكي بها الصَّنعة الإنسانيَّة الخلقة الإلهيَّة الَّتي أبدَعها الله، وخلقها في الطَّير والشَّجر"، وغيره كثير، فهؤلاء كما جاء في الحديث الصَّحيح؛ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما أخافُ على أمَّتي الأئمَّة المضلِّين))؛ رواه مسلم والترمذي وأبو داود.
[11] كيف نكتب التاريخ؟ مصدر سابق، ص40.
[12] السابق، ص 43 - 44.

[13] اقتضاء الصراط المستقيم، نقلاً من المصدر السابق ص 44.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 13-06-2015, 08:51 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

السيرة ووجوب معرفة أحوال الجاهلية (3)



وليد بن عبدالعظيم آل سنو


المطلب الثالث: الأدلَّة على وجوب معرِفة أحوال الجاهلية:
توطئة:
الأساس الجاهلي لا يتغير ولا يتبدَّل وإن تغير المكان والزَّمان، فها هي الصورة تنقل عبر الزَّمان قبل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والآن، فتجد مَن يتَّخذون الآلهة من دون الله ليكونوا لهم عزًّا، ومَن يتَّخذون الأولياء من دون الله، ويقولون: ما نعبدهم إلاَّ ليقرِّبونا إلى الله زلفى؛ أي: يشفعوا لنا ويقرِّبونا عنده منزلة.

وكذلك فإنَّ الجاهليِّين يَحلِفون بآبائهم وأمَّهاتهم وأولِيائهم، وكانوا يحلِفون باللاَّت والعزى، وكانوا إذا نشدوا قالوا: أنشدك الله والرَّحِم.

ومن المسلمين الآن مَن يحلف بالنَّبيِّ والوليِّ.

وكانت إذا وقعت مصيبة، يخمش النساء وجوهَهنَّ وينشرن شعورهنَّ، ويشقُقن جيوبَهن، ويدعون ويلاً، ويقَعْن في ضرْب الخدود، والدعاء بدعوى الجاهلية، وتكون منهن الصالقة والحالقة والشاقَّة ... وكانت بعض نساء الجاهلية إذا قال لها رجُل كلمةً قبيحةً وهي في طريقها في غيبةِ نفرِها، ولْولَت وقالت: لو كان ها هُنا أحدٌ من أنفارِنا، وتقول: لقد قال لي كلِمة تملأ الفم، تستعظِم ذلك، وكان في بعض نسائِهم من الحياء ما يجعَلُها إذا سمعت ذِكْر الزنا تضَع يدها على رأسِها حياء، وكانت المرأة متبرِّجة كاشفة عن جيْبِها"، هذا هو تبرُّج الجاهلية الأولى.

أمَّا عن مطابقة الجاهليَّة المعاصرة للجاهلية القديمة فلا ينكره أحد من كافَّة الوجوه، "فحياة الجاهلية حياة شرّ، فقد *** أهل الجاهلية النَّفس التي حرَّم الله، ودعوا مع الله آلهةً أخرى، وأتوا الفواحش، وكانوا يقطعون الأرحام، ويسيئون الجوار، ويأكل القويُّ منهم الضعيف، وكان بعضهم ينتزي على أرض بعض، وكان أحدُهم يصحب قومًا في***ُهم ويأخذ أموالَهم، وكان فيهم الحلاَّف المهين، الهمَّاز المشَّاء بالنميمة، المنَّاع للخير المعتدي الأثيم، العتلّ الزَّنيم.

ومن أخلاقهم أنَّ من سبَّ الرّجال سُبَّ أبوه وأمه، وكان أحدهم يسبُّ أخاه فيعيره بأمِّه، وكان عندهم جفاء في الفعل والقول حتَّى إنَّهم ليتَّهمون الجارية بالسَّرقة بدون بيّنة إذا فقدوا شيئًا، فيعذِّبونها ويفتِّشونها حتَّى يفتشوا قُبُلَها وهي بريئة"[1].

أوَّلاً: الأدلَّة من القرآن:
1- قال الله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55].
"إنَّ استبانة سبيل المجرمين ضروريَّة لاستِبانة سبيل المؤمنين، وذلك كالخطِّ الفاصل يُرسَم عند مفرق الطَّريق؛ لأنَّ استبانة سبيل المجرمين هدفٌ من أهداف التَّفصيل الربَّاني للآيات"[2].
2- وقال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37].
3- وقال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26].
4- وقال تعالى: {أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ *وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف: 21 - 25].

ثانيًا:- الأدلَّة من السنَّة:
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أبغض النَّاس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سنَّة جاهلية، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه))[3].

يقول الدكتور/ مروان شاهين أستاذ الحديث بجامعة الأزهر:
"قد يكون المراد بسنَّة الجاهلية الإبقاء على أخلاق الجاهلية، وسيرتها، وإشاعة ذلك وتنفيذه مما هدمه الإسلام، وذلك مثل العودة إلى تبرج المرأة وإبداء زينتها، والبروز من الخجل للرجال ونحو ذلك، وقد وسم الله ذلك بأنَّه من فعل الجاهلية؛ فقال سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33].

إنَّ الله قد أذهب جهل الجاهلية وظلامها، وأنعم عليْنا أن أخرجنا من ظلماتها وهدانا من ضلالها، والتَّعبير عن ذلك يكون بالاعتصام بالكتاب والسنَّة، كما ورد الخطاب بذلك من الله تعالى بعد الآية السابقة مباشرة: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34].

2- وقد يقال: إنَّ المراد هو العودة إلى ما كانت عليه الجاهلية من عقائد فاسدة مثل: الطيرة، والكهانة، والتشاؤم، وغيرها، مع أنَّ الإسلام الحنيف قد نهى عن ذلك كله، وهذا موجود منه كثير في زمننا هذا، فلا يزال الناس يأْتون العراف والكاهن ويذهبون إلى الدجَّالين يسألونَهم أحيانًا عن أمور الغيب، وذلك يمثل عودة خطيرة إلى الجاهليَّة يجب أن يتبرَّأ منها المسلمون.

3- وقد يقال أيضًا: إنَّ المراد الاحتِكام إلى مناهج الجاهليَّة وترْك الحكْم بما أنزل الله تعالى، واتباع شرع غير شرْعِه، والالتزام بهدي غير هدي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولعلَّ ما يشهد لهذا الرأي قوله سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

وقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد آيتين عظيمتين كل منهما تطلب من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يَحتكِم إلى ما أنزل الله تعالى، ولا يعدلوا عنْه إلى غيره، مهما كان، وحذَّر الله نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من ذلك تحذيرًا شديدًا؛ قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]، وبعدها مباشرة قال - سبحانه وتعالى -: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].

4- ومن الممكن أن يُراد من سنَّة الجاهلية مجموع ما ذكرنا، بل لعلَّ ذلك هو الأولى؛ فإنَّ سنَّة الجاهلية اسم *** يشمل كلَّ ما كان عليه أهل الجاهليَّة من فساد في الأخْلاق، أو العادات أو العبادات، أو العقائد أو العقائد الاجتماعيَّة، ونحو ذلك مما أبْطله الإسلام، وجاءت التشريعات مغايرة له في كتاب ربِّنا وسنَّة نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم.

ومما يدل لذلك ويؤكده: أنَّ النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أبطل كثيرًا من أمر الجاهليَّة في العقائد والمعاملات والأخلاق وغير ذلك، بل أهْدر أمر الجاهلية كلّه.

فما بال أمَّتِه تعود مرة ثانية إلى الأخذ بالثأر، وأكل الربا معرِضة بذلك عن هديه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أليس الذي يصنع ذلك هو الذي يبتغي في الإسلام سنَّة الجاهلية، بل إن أهل الجاهلية قد يكونون أعذر منه؛ لأنَّه لم يكن بين أيديهم منهجٌ يَحتكمون إليْه، أمَّا بعد أن أسبغ الله تعالى عليْنا نعمة الإسلام الكبرى، فلِماذا العودة إلى سنَّة الجاهليَّة البغيضة؟!

إنَّ هذه الآيات الشريفة والأحاديث المطهَّرة تثبت أنَّ سنَّة الجاهلية تعني ترْك هدى الإسلام في أيّ مجال وتحت أي مسمى، وهذا لا يجوز أبدًا بحال من أمَّة تدرك قيمة نعمة الإسلام السابغة"[4].

وعند مسلم[5] من حديث أبي هريرة: ((ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليْه وزرُها)) ... الحديث.

والضَّلال من خصال الجاهليَّة، فقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((سنة)) مضافة إلى الجاهلية دليل على أنَّ للجاهلية منهجًا واحدًا وطريقة ثابتة، فإذا عرفنا هذه السنَّة عن طريق الخبَر وأحوال أهل الجاهلية السابقين عرفناها في عصرِنا؛ لأنَّ السنَّة هي الطريقة الثابتة؛ كما قال تعالى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحِمه الله -: "قوله ((سنة جاهلية)) يندرج فيها كلّ جاهلية مطلقة أو مقيدة؛ أي: في شخص دون شخص، كتابية أو وثنيَّة أو غيرهما من كلّ مخالفة لما جاء به المرسلون"[6].

فكلّ خصلة من خصال الخير قد أبقى عليْها الإسلام، إن اقترنت بصفةٍ من صفات الجاهليَّة فهي من فعال الجاهلية[7]، فتعلُّم مسائل الجاهلية باب من أبواب التوحيد غفل عنه الكثير؛ لأنَّ الله حذَّر من مخالفة الرسُل؛ لأنَّ تلك المخالفة من أمور الجاهليَّة، فكلّ من خالف الرسُل يوصف بهذه الصفة.

قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92].
وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

بل إنَّ الرَّغَب عن السنَّة وتركها من فعال الجاهليَّة، كما بيَّن ذلك نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((فمَن رغِب عن سنَّتي فليس منِّي))[8].

فقوله: ((ليس مني)) هذا التبرُّؤ منه - صلَّى الله عليه وسلَّم - دليلٌ على ما ذكرنا، فكثْرة الصفات الجاهليَّة في أمَّة الإسلام كانت السَّبب المباشر في إبعاد النَّاس عن حوْض النبي يوم القيامة: ((ألا ليُذادنَّ رجال يوم القيامة عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أُناديهم: ألا هلمَّ فيقال: إنهم بدلوا بعدك))[9]، وعند البخاري[10] - رحمه الله-: ((إنَّهم ارتدُّوا بعدك على أدبارِهم القهقرى، قال: فلا أراه يخلص منهُم إلاَّ مثل همل الغنم)).

قال ابن مسعود - رضي الله عنْه -: "ليس عامٌ إلا والذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم"[11].

فهدم الإسلام إنما جاء من مخالفة الرسُل، وكل أمر يخالف ما جاء به رسل الله فهو أمر في ميزان الجاهليَّة؛ كما في الصحيح: ((مَن فارق الجماعة شبرًا فمات فميتتُه جاهليَّة))[12].

وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا لأصحابِه: ((أبِدعوى الجاهلية وأنا بين أظهُرِكم؟!))[13].

قال أبو العبَّاس - رحمه الله -: "كلّ ما خرج عن دعْوى الإسلام والقرآن من نسَب أو بلد، أو *** أو مذهب، أو طريقة، فهو من عزاء الجاهليَّة، بل لما اختصم مهاجري وأنصاري، فقال المهاجري: يا لَلمهاجرين، وقال الأنصاري: يا لَلأنصار، فغضب النبي لذلك غضبًا شديدًا"[14].

فكُلُّ ما خالف فيه الرَّسولُ ما كان عليه أهل الجاهلية فهو جاهلية وإن وُجِد في المجتمع المسلم؛ فالضِّدُّ يظهر حسنه الضدُّ، وبضدِّها تتبيَّن الأشياء.

يقول شيخ الإسلام/ محمد بن عبدالوهاب - رحِمه الله رحمة واسعةً، وطيَّب ربي ثراه -: "فأهم ما فيها – أي: الجاهلية - وأشدها خطرًا: عدم إيمان القلب بما جاء به الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنِ انضاف إلى ذلك استِحْسان ما عليه أهل الجاهلية تمَّت الخسارة؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 52][15].

ولقد أحصى - رحِمه الله - مائةً وعشرين مسألة خالف فيها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أهل الجاهلية[16]، ومن هذه المسائل ما هو موجود في أمة الإسلام، بل هناك مسائل فاق فيها المسلِمون أهل الجاهلية قديمًا، كاتخاذ القبور مساجد، واتخاذ السرُج على القبور، واتِّخاذ الأعياد الَّتي لم يأْذَن بها الله، والذَّبح لغير الله، والفخْر بالأحْساب والطَّعن في الأنساب والنِّياحة، ومودَّة أهل الكفر وموالاة أهل الشِّرك، والكهانة والسِّحر، بل وصرف العبادة لغير الله، ويوجد بين المسلمين من يجعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكَّل عليهم من دون الله، وما منزلة الأولياء عند العوامّ وجهلة المتصوفة عنَّا ببعيد، وكلها مسائل موجودة في واقع الأمة وجميعها مسائل جاهليَّة.

قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "يوشك أن يهدم الإسلام حجرًا حجرًا من جهل عادات الجاهلية"[17].

وفي الحديث قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ومن ادَّعى دعوى الجاهلية فإنه من جُثا جهنَّم))، فقال رجل: يا رسول الله، وإن صلَّى وصام؟ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين والمؤمنين عباد الله))[18].

وعند مسلم من حديث أبي مالك الأشعري: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حدَّثه قال: ((أربعٌ في أمَّتي من أمْرِ الجاهليَّة لا يتركونَهنَّ: الفخر في الأحْساب، والطَّعن في الأنساب، والاستِسْقاء بالنُّجوم، والنَّاحبة - أو قال: النَّائحة - إذا لم تتُبْ قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليْها سرْبال من قطران ودرع من جرب))[19].

وعن أبي هُريرة - رضي الله عنْه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أربعٌ في أمَّتي من أمر الجاهليَّة لن يدعهنَّ النَّاس: النياحة، والطَّعن في الأحساب، والعدْوى، أجرب بعير فأجرب مائة بعير، من أجرب البعير الأوَّل؟ والأنواء: مطرنا بنوء كذا وكذا))[20].

قوله: ((من أمر الجاهلية)) أي: حال كونهن من أمور الجاهليَّة وخصالها[21]، وفي رواية: ((ثلاث من عمل الجاهلية لا يتركهن أهل الإسلام: شق الجيب، والنياحة، والطعن في النسب))[22].

وفي رواية: ((ثلاثة من الكفر)) .... فذكر الحديث[23].

وعند مسلم: ((ثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت))[24].

قال الإمام النَّووي - رحِمه الله -: "وفيه أقوال، أصحُّها: أنَّ معناه: هما من أعمال الكفَّار وأخلاق الجاهلية.

والثاني: أنَّه يؤدّي إلى الكفْر"[25].

وعن ابن مسعود: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان ينهى عن النَّعي؛ ((إيَّاكم والنعي فإنه من عمل الجاهلية))[26]، وعن ابن مسعود - رضي الله عنْه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليْس منَّا مَن ضرَب الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعْوى الجاهليَّة))[27].
وعن الحسن بن عقيل بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنَّه تزوَّج امرأة، فدخل عليه القوم فقالوا: بالرّفاء والبنين، فقال: "لا تفعلوا ذلك؛ فإنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نهى عن ذلك"[28].

وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن قاتل تحت راية عمِّية يغضب لعصبة أو يدْعو إلى عصبة أو ينصر عصبة، فقُتِل، ف***ة جاهلية))[29].
وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا معشرَ قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء))[30].

فيجب معرفة السنة من البدعة، ومعرفة الخير من الشَّرّ للتَّفرقة بينهما؛ لعدَم الوقوع في الشر، كما فعل حذيفة - رضي الله عنه - فكان يسأل عن الشر مخافةَ الوقوع فيه.

وقد صحَّ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - قولُه: "لا عذر لأحد في ضلالة ركبها حسِبها هدى، ولا في هدى تركَه حسبه ضلالة، فقد بينت الأمور، وثبتت الحجة، وانقطع العذر، وذلك أنَّ السنة والجماعة قد أحكما أمر الدين كلّه وتبيَّن للنَّاس، فعلى الناس الاتباع"[31].

بل تأمَّل معي هذا الحديث الذي قال فيه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يذهب اللَّيل والنَّهار حتَّى تعبد اللات والعزى))، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن كنت لأظنُّ حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أنَّ ذلك تامّ، قال: ((إنَّه سيكون من ذلك ما شاء الله))[32].


يتبع..





ــــــــــــــــــــــــــ
[1] ما بين الأقواس تمَّ نقله من صحيح السيرة النبوية، المسمَّاة "السيرة الذهبية"، الشيخ/ محمد بن رزق بن طرهوني، طبعة ابن تيمية 1410 هـ 1/ 108 بتصرف.
[2] في ظلال القرآن 2/ 1105.
[3] رواه البخاري.
[4] نقلاً من مقالة "أبغض الناس إلى الله ثلاثة" ،مجلة الرسالة عدد 26 يناير 2008، د/ مروان شاهين أستاذ الحديث وعلومه، جامعة الأزهر، ص 26 - 27.
[5] رواه مسلم.
[6] متون التوحيد والعقيدة، سلسلة المتون العلمية، ص 97، دار ابن عمر.
[7] كالكرم والشجاعة والنجدة فهي من صفات العرب قبل الإسلام، ولكنها كانت خصال جاهلية؛ لأنها مقترنة بالرياء والسمعة والانتماء للقبيلة، فهذه الصفات التي غيَّرها الإسلام بتغير النية بل وأبقى عليها؛ كما في الحديث الصحيح: ((إنَّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))، فهذه المكارم إن فعلت في الإسلام مقترنة بما لها من صفات كانت في الجاهليَّة، فهي من صفات الجاهليَّة وإن وجدت في الإسلام.
[8] حديث صحيح؛ رواه النسائي 3217، وقال الألباني: صحيح. انظر السلسلة الصحيحة (394 - 2383).
[9] حديث صحيح؛ رواه ابن ماجه (4296)، وقال الألباني: صحيح، وانظر صحيح الجامع (3698).
[10] رواه البخاري.
[11] الأثر صحيح موقوف على ابن مسعود - رضي الله عنه.
[12] متفق عليه.
[13] ذكره السيوطي في الدر (2 /57) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[14] متون التوحيد والعقيدة، ص 105 سلسلة المتون العلميَّة دار ابن عمر - مصر.
[15] السابق: ص 131.
[16] انظر رسالته "مسائل الجاهليَّة".
[17] نقلاً من "بصائر في الفتن" د/ محمد إسماعيل المقدم، دار ابن الجوزي - مصر.
[18] الحديث صحيح؛ أخرجه أبو داود الطيالسي (ج 5 /159)، والترمذي (2863) وقال الألباني: صحيح. صحيح الجامع (1724).
[19] رواه مسلم (934).
[20] حديث حسن؛ أخرجه الترمذي (1001) وقال الألباني: حسن.
[21] تحفة الأحوذي (3 /438).
[22] حديث صحيح؛ رواه الحاكم وابن حبَّان، نقلاً من "الترغيب والترهيب" حديث رقم (5177).
[23] حديث صحيح؛ أخرجه الحاكم وابن حبَّان، وقال الألباني: صحيح.
[24] مسلم .
[25] صحيح مسلم بشرح النووي (1/334) طبعة دار الحديث.
[26] حديث ضعيف انفرد به الترمذي، نقلاً من "الترغيب والترهيب" (5188).
[27] البخاري (1294) ومسلم (103) والترمذي (999) وابن ماجه (1584) والنسائي (1859 - 1860). ودعوى الجاهلية: "أي: بدعائهم، فقال ما لا يجوز شرعًا مما يقول به أهل الجاهلية"؛ تحفة الأحْوذي (3/ 436) وهذا واقع في المجتمع المسلم.
[28] صحيح؛ أخرجه ابن ماجه (1906) والنَّسائي وابن أبي شيبة، وكان نهي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ذلك؛ لأنها تهنئة أهل الجاهلية، وقولهم بالرّفاء؛ أي: الالتحام والاتّفاق، والبنين: تهنئة بالولد دون البنت كعادة أهل الجاهلية؛ لأنهم كما وصفهم ربّ العزة: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل: 58] بل وكانوا يهنِّئون بوفاة البنت فتأمَّل تلك الحالة.
[29] رواه مسلم.
[30] السيرة النبوية لابن هشام (4 /42 - 43) دار الفكر.
[31] نقلاً من شرح السنَّة للإمام/ أبي محمد الحسن البربهاري، تحقيق د/ محمد سعيد القحطاني، مكتبة السنة، 1416 هـ
[32] رواه مسلم.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 13-06-2015, 08:53 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

السيرة ووجوب معرفة أحوال الجاهلية (4)



وليد بن عبدالعظيم آل سنو



ثالثًا: أدلَّة تتجلَّى من خِلال الواقع:
"الإنسان مكوَّن - كما يخبرنا العليم الخبير - من قبضةٍ من طين الأرْض ونفخةٍ من رُوح الله، فإذا كفر الإنسان وألْحد فقد أغلق النَّافذة التي يستمدُّ منها النُّور، ولم يبقَ له إلا عتامة الطين وغلاظة الحس؛ أي: لم يبق له إلا الماديات والمحسوسات، إليها يتطلع وفيها ينفق الجهد وإليها يعود، وعندئذ تجذبه ثقلة الأرض فلا يستطيع أن يتوازن إزاءها؛ لأن الذي يمنحه التوازن إزاءها هو انطلاقة الروح التي تصل قلبه بالله، وتجعله يؤمن باليوم الآخر ويعمل حسابه فى جميع أفعاله وأقواله فلا يسفل ولا يتدنى، فإذا فقدها فقَدَ توازنه وأصبح أسفل سافلين؛ كما يخبر الله عنْه في كتابِه الكريم"[1].

وتبعًا لهذه الازدواجية تختلِف القيم والمعايير، ويكون لكلّ من الإسلام والجاهليَّة معالم.

مثال: العفاف والفجور كلّ منهما يدل على معلم من معالم التجارب الإنسانية، فالعفاف هو ذرْوة الفضائل في معالم التَّجربة الإسلاميَّة.

والفجور أهمّ معالم التَّجربة الجاهليَّة مطلقًا، فكان المعْلم الأوَّل وهو "العفاف" والدعوة إليه دليلاً على صِدْق النبوَّة عند هرقل[2]، وفي قول أبي سفيان - رضي الله عنه -: "أمرَنَا بالصَّلاة والصّدق والعفاف"[3]، تستشعر القيمة العليا لتلك الحقيقة.

وكان الأمر بالعفاف في نص البيعة على الإسلام: ((بايعوني على ألاَّ تُشْرِكوا بالله ولا تزْنوا))[4]، وكان أوَّل أعمال النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في المدينة بعد بناء المسجد هو إقامة حدِّ الزِّنا على يهوديَّين بمقتضى حكم التوراة، وكذلك كان أوَّل أوامر للنَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في مكَّة بعد فتحِها قوله: ((لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان))[5].

وأمَّا معْلم الجاهليَّة - الفجور - فهو: الوجه المخالف للعفاف؛ لأنَّ أهمَّ معالم الجاهلية "العرْي والعهْر والزنا"؛ ولذلك كان الهدف الأسمى لأيّ جاهليَّة هو العمل على انتِشار الفوضى بين الرّجال والنساء، وتلك هي علاقة الشيطان بالجاهليَّة.

ولذلك قال ابنُ عبَّاس - رضِي الله عنْهما -: "لَم يكفُر مَن مضى إلاَّ من قبل النّساء – أي: بسببهنَّ - ولا كفر مَن بقي إلاَّ من قِبَل النّساء".

وقال أيضًا: "الشيطان من الرجُل في ثلاثة: في نظره وقلبه وذكره، وهو من المرأة في ثلاث: في بصرها وقلبها وعجزها"[6].

يقول فضيلة الشَّيخ محمَّد المنجد - حفظه الله -: "فالقضيَّة كلها تدور على الإغْراء والإغواء بالمرأة"[7].

إنَّ نقطة تحوّل المجتمع من مجتمع أخلاقي إلى مجتمع جاهلي مع الاحتفاظ بتلك العبادة والتَّقاليد الإسلامية، وبقائه على قول: "لا إله إلا الله" - هي انتشار الفوضى ال***يَّة؛ ولذلك جاء التَّحذير الصَّريح في الحديث الصَّحيح: ((اتَّقوا الدنيا واتَّقوا النساء؛ فإن أوَّل فتنة بني إسرائيل كانت في النساء))[8]؛ وذلك لأنَّ الجاهلية تحارب "وجود أي قيمة أخلاقية"[9].

وهذا يفسّر لنا سرَّ انتشار الانحراف؛ كما قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ما تركت بعدي فتنة أضرَّ على رجال أمَّتي من نسائها))[10].
قال العلامة صدّيق حسن خان - رحِمه الله - في كتابِه "حسن الأسوة": "ووجه كونهنَّ فتنة لأنَّ الطباع تميل إليهنَّ كثيرًا، وتقع في الحرام لأجلهنَّ، وتسعى للقِتال والعداوة بسببهنَّ، وأقلّ ذلك أن ترغِّبه في الدنيا وإفسادها أضرّ"[11].

وقال الحافظ ابن حجر - رحِمه الله -: "ومع أنَّها ناقصة العقل والدّين فإنَّها تحمِل الرجال على تَعاطي ما في تَعاطيه نقصُ العقل والدين، كشغْلهم عن طلب أُمور الدين وحمْلِهم على التَّهالُك على طلَب أمور الدنيا".

ومن أسباب كوْن المرأة فتنة قوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((المرْأة عورة))، كلُّها عورة لم يستثْنِ وجهًا ولا كفَّين أمام الرّجال، ((فإذا خرجتِ استشرفها الشَّيطان)).

قال المباركفوري - رحِمه الله -: "أي: زيَّنها في نظر الرجال، وقيل: أي: نظر إليها ليغْوِيها ويغوي بها، فيجعلها هدفًا منصوبًا ملفتًا لينظر إليها الرّجال، فهي وسيلته لإغواء الناس".

يقول رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية))[12].

يقول الأستاذ المودودي - رحمه الله - في كتابة "الحجاب" تحت عنوان "فتنة الطيب": "والطيب رسول من نفس شريرة إلى نفس شريرة أخرى - يريد: إذا كان العطر من المرأة في الطريق - وهو ألطف وسائل المخابرة والمراسلة ممَّا تتهاون به النظم الأخلاقية العامَّة - يريد: غير الإسلامية - ولكن الحياء الإسلامي يبلغ من رقَّة الإحساس ألا يهْمل حتَّى هذا العامل اللَّطيف من عوامل الإغراء، فلا يسمح للمرأة المسلمة أن تمرَّ بالطُّرق أو تغشى المجالس متعطِّرة؛ لأنَّها وإن استتر جمالُها وزينتها ينتشر عطرها في الجوّ ويحرك العواطف"[13].

فهذا الانحراف ال***ي هو الخطر الأكبر على رجال الإسلام خاصة؛ لأن الرجال هم طاقة الدعوة[14].

وكذلك بين الرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنَّ الزّنا جريمة الكيان الإنساني كلِّه؛ فقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((العين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها اللمس، والقدم تزني وزناها المشي، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه))[15].

"وبمعنى هذا الحديث يتأكَّد لنا أنَّ الانحراف ال***ي يستهلك ويهدم الشخصية الإنسانية، ومن هنا كان حدّ الزّنا هو الرجْم بمعناه المباشر، وهو إنْهاء وجود هذا الكيان المنحرف، وخطر ال*** باق أيضًا باعتبار أنَّه يتحوَّل إلى طاقة للتحرّك بأيّ قضيَّة باطلة يعتنقها الإنسان المنحرف، ومن هنا كانت الغريزة ال***يَّة هي الطاقة الأساسيَّة للحركة الجاهليَّة"[16].

والذي يؤكد هذه الحقيقة هو دفْع النساء المشركات للرجال المشركين لقتال المسلمين في غزوة أحد بقولهنَّ:
إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ وَنَفْرِشِ النَّمَارِقْ أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ
هذا التَّصريح ال***ي هو حقيقة الجاهلية، التي تجعل المكافأة لأي عمل هو ال***؛ ولذلك جاء المقياس الصحيح للوضع الاجتماعي الأمثل في سيرة النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وكأن السيرة هي الحماية من هذا الضغط ال***ي الجاهلي وتلك الفوضى الأخلاقية والدعوة لثقافة الجسد العاري، ففهم السيرة وفق النمط الصحيح من خلال رجال السيرة "أصحاب الرسول" يعلمنا كيفية الحماية من الانحراف، والدليل على أنَّ الجاهلية تركز على ال*** كقضيَّة أساسيَّة هو:
1- تفريغ الشباب عقائديًّا، فلا توجد في حياته قضيَّة مثالية يعيش لها؛ بمعنى: فقد القدوة المُثلى مع وجود قدوات أخرى تعمل في نفس المقتدي بالهوى والأماني، فتوافق شهواته ورغباته.
2- إشغاله بقضية الحبّ الجاهلي؛ لتصبح هذه المحبوبة هي القضية الكبرى له، يعيش من أجلها ويتعذَّب من أجلها ويبكي من أجلها، مع تصوّر أنَّ الحبَّ هو القيمة الأعلى لل***، مع أنَّ "ال*** والحبّ لم يكونا أبدًا توءمين"[17].
3- التصور الإسلامي الصَّحيح ومن خلال نتاجه الفكري الضَّخم يعدّ معضلة هائلة للسلْطة الجاهلية، حيث لا توجد لها قوة فكرية مقابلة، اللهُمَّ إلا نظريات مهترئة يعلم أهل السلْطة هزالها وسطحيَّتها، وعدم مقاومتها ولو هنيهة إذا قارن العقل البشري بيْنها وبين الفكر الإسلامي، بل وإذا نقدها فقط بمنطق الفطرة وبداهة الحق والاعتدال، ولكنَّهم مع ذلك ينشرون هذه الأفكار ويُحيون الغابر منها معتمدين على الضَّوضاء الإعلاميَّة، وكثرة التكرار لتصيد مَن تصيد من ناحية، وبتغييب الإنسان في الفقر والمجاعات من ناحية أخرى؛ حتَّى لا يقوى عقله على النقد، وإن نقد استنفدت طاقته في المعاش، فيبقى نقدًا فاقدًا للحركة والبناء الفكري والاجتماعي، ولكن كل ذلك لا يصل بالجاهليَّة إلى عمق القلوب كما يصل الإسلام إلى عمقها، والإسلام يصل بفكره إلى القلوب عن طريق العقل، ولكن الجاهلية لا تقوى على ذلك، فتلجأ إلى الدخول إلى القلوب عن طريق غير عقله - وهو ال*** - حيث يعد الانحراف ال***ي عنصرًا أساسيًّا في الحفاظ على الحكم الجاهلي من ناحيتين:
الأولى: عدم قدرة الإنسان الواقع في منهج الانحلال وفلسفة الحب الجاهلي على القيام برسالة الإسلام؛ لأنَّ ال*** يشمل كيان الإنسان كله بخلاف الغرائز والميول الأخرى، فإذا كان غير إسلامي كان كيان الإنسان كله غير قادر على القيام لله وللإسلام، وقد جعله الله سبيلاً سيئًا؛ فقال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]؛ أي: إنه ليس عملاً فقط؛ ولكنَّه قد يكون منهجًا وسبيلاً وطريقة حياتية.

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في التَّعليق على هذه الآية: "جعل الله - سبحانه وتعالى - سبيل الزّنا شرَّ سبيل؛ فقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}، ومقيل أهلها في الجحيم شر مقيل، ومستقرّ أرواحهم في البرزخ في تنّور من نار تأتيهم فيها من تحتهم، فإذا أتاهم اللهب ضجّوا وارتفعوا ثمَّ يعودون إلى موضعهم، فهُم هكذا إلى يوم القِيامة كما رآهم النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في منامه، ورُؤى الأنبياء وحي لا شكَّ فيها"[18].

ويقول الشَّيخ محمود مهدي الإستانبولي - رحمه الله -: "وقد شدد الإسلام حرصًا على كيان الأسرة عقوبة الزاني المحصن، وهي شريعة التوراة كما هي شريعة الإسلام، فما بال أعداء الإسلام يتَّهمونه بالقسوة في هذه العقوبة ولا يتهمون غيره؟! مع أنَّه جعل لها شروطًا دقيقة لا يتَّسع المقام لذكرها لتكون رادعة".

وقد سئل الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي عن حكمة رجْم الزَّاني المحصن ومثله الزَّانية، فأجاب في كتابه "وحي القلم": "لأنَّه هدم بيت؛ فيجب أن ي*** بحجارته؛ لأنَّه لا داعي إلى هذا الزِّنا ولا مبرِّر، فالرَّجل والمرأة اختار كلٌّ منهما الآخر بملء حرّيَّته"[19].

يقول الإمام ابن القيم - رحِمه الله -: "والزِّنا يجمع خلال الشَّرّ كلَّها من قلَّة الدّين وذهاب الورع، وفساد المروءة وقلَّة الغيرة، فالغدْر والكذِب، والخيانة وقلَّة الحياء، وعدم المراقبة، وعدم الأنَفة للجرم، وذهاب الغيرة من القلب - من شعبِه وموجباته.

ومنها الوحشة التي يضعها الله - سبحانه وتعالى - في قلب الزاني، ومنها ضيق الصدر وحرجه، ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذَّة والسُّرور، وانشِراح الصدر وطيب العَيش لرأى أنَّ الذي فاته من اللذَّة أضعاف ما حصل له، مع ربح العافية والفوْز بثواب الله وكرمِه، ومنها أنه يعرض نفسه لفوات الاستِمْتاع بالحور العين في المساكن الطيِّبة في جنَّات عدن"[20].

وقد أخبرنا الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن زنا العَين والسَّمع واليد والرِّجل والنفس، وهذا دليل على شمول هذه الحالة لكيان الإنسان.

الثانية: أنَّ ممارسة الحب الجاهلي تكون من خلال منهج اجتماعي وسياسي يسمونه "الحرية"، ويتشرَّب قلب الإنسان نظرية الحريَّة هذه لا عن طريق العقل؛ ولكنَّها تكون مغموسة ومندسَّة في حلاوة الانحراف ولذاذة الحبّ المحرَّم، وكلَّما مارس الانحراف مارس معه ضرورة "الحريَّة"، فتتحوَّل هذه الحريَّة في قلبه إلى عقيدة اجتماعيَّة، عنها ينافحُ منافحتَه عن عمره الجميل وصباه الباكر وغير الباكر، ولك أن تلاحظ اهتِمام بعض الحكَّام بإيصال الكهرباء في نصف القرْن الغابر إلى كلّ بقعة تقع تَحت حكْمِه ليصلَ بالتلْفاز إليْها، ولك أن تلاحظ الجاهليّين في ترْكيا وهم يحرصون على رفْض الحجاب في الجامعات حتَّى تنفض المستقيمات عن الجامعات، وتظلّ النّخبة الفاعلة في المجتمع من المؤمنات بالنَّظرية الجاهليَّة "الحرية"، وقرأت لبعضهم وقد اختار أن يتحدَّث عن استشهاديَّة فلسطينيَّة متبرِّجة، فاختار المتبرِّجة وحكى حوارها مع حبيبها في الهاتف قبل أن تفجر نفسها، وكأنَّه كان حاضرًا معهما وإن كانا متباعدين.

واليوم يخصصون مدنًا بأكملها لغير المختمرات، حيث يوجد النوابغ والنُّخبة الجادّين المنحلّين من الالتزام الإسلامي، ولك أن تندهش من إصْرار أمريكا على الدّفاع عن حقوق الشواذّ في بلاد الإسلام، بل وانزِعاج الغرْب من حالة زنا كان سيطبَّق عليْها حكم الرجْم في ماليزيا، وقام العالم على قدَم وساق لمنعها.

وإذا أردت أن تعرف خطورة الأمر فتأمَّل الأعداد الكبيرة المتظاهرة في تركيا رفضًا للحِجاب في الجامعات؛ حفاظًا على علْمانية الدولة؛ أي: حفاظًا على نمط حياة كلّ فرد منهم وعشقه لمرحلة سابقة من حياته، تشرَّب فيها الإيمان بالحرية العلْمانيَّة، وتزداد معرفتك إذا تنبَّهتَ أنَّ هؤلاء المتظاهِرين والمتظاهرات مسلمون ومسلِمات.

"واعترافنا بالحب كحقيقة إنسانيَّة واقعة إنَّما هو اعتراف مجرَّد من أي مدلول له في الواقع الجاهلي، وهذا التحفظ في غاية الأهمية؛ إذ إنَّ الحب في الواقع الجاهلي ما هو إلا ظاهرة من ظواهر الانحراف الجاهلي؛ وذلك لأنَّ الحب الجاهلي (ما هو إلاَّ محاولة لملء فراغ الإنسان الجاهلي وإثبات ذاته)؛ لأنَّ الجاهلية (في حقيقتها) واقع فراغ فكري ووجداني، وخطورة إثبات الذَّات من واقع الفراغ على علاقة الإنسان بالدَّعوة تأتي باعتِبارها استهلاكًا للخصائص الطبيعيَّة في الإنسان، والَّتي تحقّق فيه إمكانيَّات تحمل تكاليف الرِّسالة، وهي إمكانيَّات قائمة في كل إنسان، حيث إنَّ الله - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان مهيأً بتلك الخصائص لأن يكون صاحب رسالة، ودلائل هذه الإمكانيات هي: القدرة على الحياة بقضية الرسالة وتصور الوجود من خلال تلك القضية، والقدرة على مواجهة أي واقع مخالف لهذا التصور[21].

وعندما يحب الإنسان الجاهلي من الفراغ فإنَّه بهذا الحب ينطلق نحو مَن أحبَّها بخصائص الرسالة الكامنة فيه؛ لأنه يعيش بلا قضية، فتتحوَّل تلك التي أحبها إلى قضيته التي يحيا بها، ويتصوَّر الحياة من خلاها، ويسعى إلى الارتباط بها محطمًا في سبيل ذلك أي عقبة، وآثار الحب في الواقع الجاهلي هي الدليل على هذه الظاهرة، فعندما يمارس الجاهلي حبًّا فإنه يحب إلى حدّ العبوديَّة، وعندما يفشل في حبه فإمَّا أن يصاب بالجنون بعد طغيان إحساسه بمن أحبها على عقله وواقعه، أو يصاب بالانطِواء كصورة من صور الكفر بمبدأ "العلاقة" بعد فشله في علاقته بمن أحبها، أو ينتحِر كصورة من صور الرفض لحياته التي كان لا يتصوَّرها إلاَّ من خلال علاقته التي فشلت، وهذه هي الآثار الأساسية للحب في الواقع الجاهلي، وبذلك يكون الخطر الحقيقي على الإنسان عندما يمارس حبًّا جاهليًّا هو عجزه تمامًا عن أن يكون صاحب رسالة.

واعترافنا بالحبّ كحقيقة إنسانية واقعة، وتجريد هذا الاعتراف من أي مدلول له في الواقع الجاهلي يقتضي أن نناقش حالة خطيرة في حياة الدعاة، وهي دخول الإنسان في واقع الدعوة وهو يحمل في قلبه حبًّا قد بدأه في الجاهلية، ولم يتمكَّن من التخلص منه بعد دخوله واقع الدعوة، وهذه الحالة لها ثلاث نتائج مؤكَّدة:
أوَّلاً: إما أن تكون هذه المشاعر أساسًا للدعوة من الطرف المسلم في العلاقة إلى الطرف الآخر للالتزام.
ثانيًا: وإمَّا أن تكون هذه المشاعر فتنةً للطرف المسلم في العلاقة عن دعوته ودينِه.
ثالثًا: وإمَّا أن تنتهي هذه العلاقة.

وهذا يعني أنَّ التفكير في إنهاء العلاقة إنَّما يكون بعد محاولة تحقيق النَّتيجة الأولى وهي الدعوة، وحذرًا من الوقوع في النتيجة الثانية وهي الفتنة، ونتفق ابتداءً على أنَّ الإيمان الصحيح يحمي صاحبه من الفتنة، ولكن يجب أن نتفق كذلك على أنَّ الأمر يتطلب معالجة وجدانية مباشرة، ذلك أن الإيمان الصحيح يحقق غلبة الالتزام من حيث السلوك، ولكن المشاعر تظل باقية"[22].

"إن البشرية اليوم تعاني من الخواء المرير .... تعاني من الهجير المحرق الذي تعيش فيه بعيدًا عن ذلك الظل الوارف الندي، ومن ثم تجد الشَّقاء والقلق والحيرة والاضطراب، وتحس الخواء والجوع والحرمان"[23].

"فالبشريَّة اليوم تقف على حافة الهاوية بسبب إفلاسها في عالم القيم، التي يمكن أن تنمو الحياة الإنسانيَّة في ظلالها نموًّا سليمًا وتترقى ترقِّيًا صحيحًا"[24].

فالجاهلية تسير في طريقها الشاق الذي اختارته لطمس الحق وانتشار الظلام؛ لذلك عملت على جعل ال*** يبلغ أعظم تأثير له في الكيان الإنساني، فاتَّجهت بهذا العمل إلى التعويض أو البديل فارتكزتْ كل جاهلية على ظاهرة التعويض أو البديل، فكان ال*** هو طرف التَّعويض عن الدين والانشغال التَّامّ عن القيام بحقيقة هذا الدين وحقيقة العبوديَّة؛ ليشغل ال*** موضع التأثير العميق في النفس الإنسانية.

"فكما كانت العبادة هي العلَّة الغائية للوجود الإنساني، كان ال*** هو العلة السببية لهذا الوجود؛ بمعنى: أنَّ العبادة غاية وال*** سبب، وكما كان الخروج عن الصورة الصحيحة للعبادة خروجًا عن (الغاية الأساسية) للإنسان، كان أيضًا الخروج عن (الصورة) الصَّحيحة لل*** هو خروج عن (الفطرة) الإنسانيَّة[25].

ولذلك "كان رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يؤكّد هذا التوافق، فكان يصلي في فراش عائشة، وكان يقول: ((حبِّب إليَّ من دنياكم: الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)).

وبذلك يثبت التجانس بين العبادة وال***؛ ولذلك كانت العبادة وال*** هما المعيارين الأساسيين في تكوين الشخصية الإنسانية؛ ولكن "الجاهلية" عندما أرادت إلغاء جانب العبادة في تكوين الشخصية الإنسانية كان لا بدَّ لها أن تستبدل العبادة بالشَّهوة والفاحشة، لينشأ التضادّ الذي يذهب بالعبادة، فكانت الخطوة الأولى هي ما جاء في قول الله - سبحانه وتعالى -: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].

ومن هنا نشأ التضادّ بين العبادة وال*** عندما يكون انحرافًا وفاحشة، وكان ذلك تفسير قول الله: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]، وبذلك يضيع المعنى الإنساني للمعاشرة الزوجية الصحيحة حيث يتحوَّل الإنسان بالفاحشة إلى الدرك الحيواني؛ كما قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((فتبقى فئة تقذرُها نفس الله يتسافدون تسافُد الحمُر)).

فكلٌّ من العبادة وال*** استيعاب كامل لكيان الإنسان؛ فمن حيث العبادة قوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إذا قام للصلاة كما عند الإمام مسلم من حديث عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنَّه كان إذا قام إلى الصَّلاة قال: ((وجَّهتُ وجْهي للَّذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين، لا شريكَ له وبذلك أُمِرْت وأنا أوَّل المسلمين، اللَّهُمَّ أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربّي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفْسي واعترفتُ بذنبي، فاغفِرْ لي ذنوبي جميعًا إنَّه لا يغفِر الذُّنوب إلا أنت، واهْدني لأحسنِ الأخلاق لا يَهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيِّئَها لا يصرف عنِّي سيِّئها إلاَّ أنت، لبَّيك وسعديْك والخير كلّه في يديْك والشَّرّ ليس إليك، أنا بك وإليْك تباركتَ وتعاليتَ، أستغفرك وأتوب إليك))، وإذا ركع قال: ((اللهمَّ لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصبي))، وإذا رفع قال: ((اللهمَّ ربَّنا لك الحمد ملْء السَّماوات وملء الأرض وملْء ما بيْنهما، وملء ما شِئْتَ من شيء بعد))، وإذا سجد قال: ((اللهم لك سجدتُ وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجْهي للذي خلقه وصوَّره وشقَّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسنُ الخالقين))، ثمَّ يكون من آخر ما يقول بين التشهُّد والتَّسليم: ((اللهمَّ اغفِر لي ما قدَّمت وما أخَّرت، وما أسررتُ وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به منِّي، أنت المقدّم وأنت المؤخِّر لا إله إلا أنت))[26].

فيتبيَّن أنَّ حقيقة العبادة استيعاب للكيان الإنساني بصورة كاملة.

يتبع


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 13-06-2015, 08:54 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

السيرة ووجوب معرفة أحوال الجاهلية (4)



وليد بن عبدالعظيم آل سنو



فإذا جئنا إلى ال*** فإنَّنا نستدلّ على هذا الاستيعاب بالحكم الشَّرعي المترتّب على الزّنا وهو الرجم، حيث يشمل هذا الحكم الكيان الإنساني كلَّه، وحتى لو ستر الله العبد فلم يقم عليه الحدَّ، إنَّ الدليل على استيعاب الفعل لكيان الإنسان هو أن يرفع عنه الإيمان حتَّى يصير مثل الظلة؛ لأنَّه لا مكان للإيمان في كيان الإنسان وقت الوقوع في الفاحشة، ويرد إليه الإيمان كما قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((والتوبة معروضة بعد))[27].

ويتضمَّن معنى الاستيعاب معنى العمق؛ حيث يمثل كل من العبادة وال*** أبعد عمق في كيان الإنسان، وأعمق بُعد هو الاطمئنان؛ لأنَّ الاطمئنان هو المستقرّ، والاطمِئْنان مقدمة العبادة؛ {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].
والاطمئنان أثر العبادة؛ {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19 - 22].
والاطمئنان مقدمة للمعاشرة الزوجية وأثر لها؛ {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].

وبذلك يتم تفسير العلاقة بين العبادة وال*** كحقيقة ثنائيَّة في النفس البشرية، وهنا تدخلت الدراسة الجاهلية للنفس البشريَّة فدمَّرت خطّ العبادة الصحيحة، واستبدلت به ال*** تفسيرًا للسلوك الإنساني[28]؛ ولذلك فإنَّ "أي واقع اجتماعي تتسلَّل إليه الفوضى ال***يَّة لن يكون له بقاء صحيح ....... فالانحراف ال***ي بداية حقيقيَّة لتحوّل الأمة إلى الفساد"[29].

يقول فضيلة الشيخ عبدالحميد كشك - رحمه الله -: "ولا شكَّ أنَّ ضرر عقوبة الزنا لا توزن بالضَّرر الواقع على (الزاني وإنَّما توزن بالضَّرر الواقع على) المجتمع، من إفشاء الزّنا ورواج المنكر وإشاعة الفحش والفجور[30].

إنَّ عقوبة الزّنا إذا كان يضارُّ بها المجرم نفسه، فإنَّ في تنفيذها حفظ النفوس وصيانة الأعراض، وحماية الأسر التي هي اللَّبِنات الأولى في بناء المجتمع، وبصلاحِها يصلح وبفسادها يفسد.

إنَّ الأمم بأخلاقها الفاضلة وبآدابها العالية ونظافتها من الرجْس والتلوّث، وطهارتها من التدلي والتسفُّل"[31].

ومن ثم أصبح الضغط الجاهلي لل*** هو السَّائد؛ لأنَّه من مظاهر الجاهليَّة التي "تفترس الإيمان في كل قلب وتنهش الفطرة في كل جسد"[32].

هذا المظهر أدَّى إلى انتشار سلبية المجتمع؛ ولذلك كانت "السلبيَّة في مواجهة الانحراف تعتبر بذاتها دعوة إلى الانحراف"[33].

فالذي نراه من ضعف غيرة الرجال[34] يؤدّي إليه السلبيَّة الكاملة في مواجهة هذا الانحراف، وتلك من أهم صفات أهل الجاهليَّة، ولكنهم لا يأْبَهون ولا يهتمّون كثيرًا بانحراف زوجاتِهم وبناتهم، فيصبح المجتمع ذا صبغة منحرفة، "والمجتمع المنحرف لا يقبل بطبيعته وجود أي قيمة أخلاقيَّة فيه، فيكون الرَّفض الجاهلي للأخلاق"[35].

ولنا في قصَّة لوط - عليْه السَّلام - المثل في ذلك، فإنَّ قوم لوط مجتمع منحرف جاهلي، ولوط - عليه السلام - وبناته مجتمع عفيف إسلامي، فكان الفصْل بيْنهما هو النتيجة الحتمية؛ إذْ لا تعايُش بينهم: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 82]، {فمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56][36].

يقول الشَّيخ/ محمد قطب عن المرأة المعاصرة: "أمَّا كوْنها ألعوبةً في يد الشَّيطان يلهب بها الشَّهوات ويحرق كيانَها الذَّاتيَّ في بوتقتِها، فتخرج هي الخاسرة في النهاية رغْم كل "مكاسبها" - فأمر واضح لأصحاب العقول، وإن جادلَ فيه الغارقون والغارقاتُ في مستنقع الشَّهوات"[37].

ويقول الأستاذ/ محمَّد الغزالي: "ونحن نعرِف أنَّ المرأة في أوربَّا وأمريكا اشتغلتْ بالمصانع والحقول والشَّركات والجامعات، لكن حصاد اللّقاء البعيد عن معرفة الله واتّباع شرائعِه كان مرًّا"[38].

وتقول الكاتبة اللادى كوك: "إنَّ الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها، وعلى قدر الاختلاط تكون كثْرة أولاد الزِّنا، ولا يَخفى ما في هذا من البلاء العظيم على المرأة.

فيا أيُّها الآباء: لا يغرَّنَّكم بعض دريهمات تكسبها بناتُكم باشتغالهنَّ في المعامل ونحوها ومصيرهنَّ إلى ما ذكرنا، فعلِّموهنَّ الابتعاد عن الرجال، إذ دلَّنا الإحصاء على أنَّ البلاء الناتج عن الزنا يعظم ويتفاقم حيث يكثر الاختلاط بين الرجال والنّساء، ألم ترَوْا أنَّ أكثر أولاد الزِّنا أمهاتُهنَّ من المشتغلات في المعامل ومن الخادمات في البيوت، ومن أكثر السيِّدات المعرَّضات للأنظار.

ولولا الأطبَّاء الذين يُعْطون الأدْوية للإسقاط لرأيْنا أضعاف ما نرى الآن، ولقد أدَّت بنا الحال إلى حدٍّ من الدَّناءة لم يكن تصوُّره في الإمكان حتَّى أصبح رجال مقاطعات في بلادنا لا يقبلون البنت ما لم تكن مجرَّبة؛ أعني: عندها أولاد من الزنا، فينتفع بشغلهم؛ وهذا غاية الهبوط في المدينة، فكم قاست هذه المرأة من مرارة الحياة حتَّى قدرت على كفالتهم! والذي اتَّخذته زوجًا لها لا ينظر لهؤلاء الأطفال ولا يتعداهم بشيء يكون، ويلاه من هذه الحالة التعيسة! ترى مَن كان معينًا لها في الوحم ودواره، والحمل وأثقاله، والفصال ومرارته"[39].

ويقول ول ديورانت: "كان علماء اللاهوت قديمًا يتجادلون في مسألة لَمس يد الفتاة أيكون ذنبًا؟ أمَّا الآن فلنا أن ندهش ونقول: أليْس من الإجرام أن نرى تلك اليد ولا نقبِّلها؟! لقد فقد النَّاس الإيمان وأخذوا يتَّجهون نحو الفِرار من الحذر القديم إلى التَّجربة الطَّائشة"[40].

"إنَّ العرْيَ فطرةٌ حيوانية ولا يَميل الإنسان إليه إلاَّ وهو يرتكِس إلى مرتبة أدْنى من مرتبة الإنسان، وإنَّ رُؤية العري جمالاً هو انتِكاس في الذَّوق البشري قطعًا"[41].

وماذا تصنع الجاهليَّة الحاضرة بالنَّاس إلاَّ تعرِّيهم من اللباس، وتعرّيهم من التقوى والحياء؟! ثمَّ تدعو هذا رقيًّا وحضارة وتجديدًا، ثمَّ تعيِّر الكاسيات من الحرائر العفيفات المسلمات بأنهنَّ رجعيَّات تقليديَّات ريفيَّات"[42].

ونقل ابن الجوزي - رحمه الله - بسند صحيح إلى حسن بن صالح قال: سمعت أنَّ الشَّيطان قال للمرأة: أنت نِصْفُ جُندي، وأنت سهْمي الذي أرمي به فلا أخطئ، وأنت موضع سرِّي، وأنت رسولي في حاجتي"[43].

ولذلك قلنا: إنَّ الفوضى ال***يَّة من العلامات التي تفرّق بين كون المجتمع مجتمعًا إسلاميًّا وآخر جاهليًّا، ولذلك تركز الجاهلية تركيزًا شديدًا على وضْع المرأة باعتبارها أداة ووسيلة لها، حتَّى إنَّ تشابُه الجاهليَّة القديمة والمعاصرة والتي ستوجد في آخر الزَّمان تعود بنفس الكيفية.

فعَن أبي هُريْرة - رضِي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول: ((لا تقومُ السَّاعة حتى تضطرب أليات نساء دوْس على ذي الخلصة))، وذو الخلصة طاغية دوس الذي كانوا يعبدونه في الجاهلية[44] فهذه إشارة إلى عودة الصنميَّة.

قال الإمام النووي - رحمه الله -: "والمراد من الحديث: أنَّ أليات النساء يضطرِبْن من الطواف حول ذي الخلصة؛ أي: يكفرون ويرجعون إلى عبادة الأصنام وتعظيمها"[45].

فهذا الوصف النبوي الدقيق يؤكّد تشابُه الجاهليَّة وعودتها عودة المثليَّة بكلِّ ما فيها، وأنَّها ستكون كما كانت.

هذه المثليَّة وهذا التشابُه الذي بيَّنه رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يوضِّح لنا مدى ترْكيز الجاهليَّة على المرأة، وتأمَّل ذلك الاختِلاط بين الطَّلبة والطَّالبات وقصص الحب الواهية التي تشغل عليهم كيانهم، حتَّى يتخلَّل هذا العشق المحرم الفكر والمشاعر والوجدان، فلا شيءَ غير التَّفكير في لقاء أو مكالمة أو ما شابه ذلك.

هذا التدهْور والانحِطاط في عالم القِيم تظنُّ من خلاله أنَّ المجتمع لا رصيد له من القيم والفضائل؛ ولذلك كانت الجاهلية نظامًا واحدًا؛ دليلُ ذلك ما رواه البخاري - رحمه الله -: "فلمَّا بعِث محمَّد بالحق هدم نكاح الجاهلية"، فتأمَّل كيف عاد نكاح الجاهليَّة لواقع الأمَّة المسلمة: "الزَّواج العرفي - المتعة - الوهبي - زواج التيك أواي".

ومن الأحاديث الدالة على عودة الجاهلية قول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تقوم السَّاعة حتَّى تلحق قبائل من أمَّتي بالمشركين وحتَّى يعبدوا الأوثان))[46].

وقوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله))[47].

وقوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن عيسى - عليه السَّلام -: ((فيقاتل الناس على الإسلام فيدقّ الصَّليب وي*** الخنزير))[48]؛ لذلك كان رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إذا وجد تصاليب نقضها؛ تقول أمُّنا عائشة - رضِي الله عنْها -: "ما وجد رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - تصاليب إلا نقضها"[49].

وقوله - عليه الصلاة والسَّلام - لعدي بن حاتم حين دخل عليه وفي عنُقه صليب: ((يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن))[50].

وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضِي الله عنْه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا منعتِ العراق درهَمَها وقفيزها [مكيال أهل العراق]، ومنعت الشأم مُدْيَها [مكيال أهل الشأم] ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتُم من حيث بدأتم، وعدتُم من حيث بدأتم، وعدتُم من حيث بدأتم)) شهِد على ذلك لحم أبي هُريرة ودمه"[51].

ويشهد لهذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ))؛ لأنَّ غربة الإسلام متعلِّقة بأكثريَّة أهل الجاهليَّة، وتسلّط أهل الكفر؛ كما قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((تقوم السَّاعة والرُّوم أكثر النَّاس عددًا))[52].

فأحاديث عودة الجاهلية والتحذير في الوقوع بشيء منها والتلبس بها - كثيرة؛ ولذلك فإنَّ أكثر من يتبع الدجَّال النساء واليهود؛ لدعوته بدعوى الجاهلية، وهذان الصنفان أحْرص الناس على عودة الجاهلية.

"إنَّ الجِنْس جزء جوهري من كيان المرء، هبة بواسطتها تنال الحياة أعمق وأدقّ خبرة جسميَّة في الحياة وأوْفاها استغراقًا"[53]، ولكن الجاهلية جعلت ال*** في ذاته هدفًا من أهداف الحياة؛ لأنَّ "ال*** منفذ غير عقلي إلى كيان الإنسان"[54].

فأخطر ما في الجاهلية التركيز على ال*** وعودة البغاء؛ لأنَّ "وجود البغاء يغري الكثيرين لسهولتِه"[55]، "فالميل ال***ي يجب أن يكون نظيفًا بريئًا موجَّهًا إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة"[56].

"فالزنا أخطر مرض من أمراض المجتمعات، إذا ابتليت به أمة ضاعت كرامتها وانحلّت عراها، ودبَّ الضَّعف والخور في أبنائها"[57].

"ويجب أن يستمدَّ النَّاس في الأرض قِيَمَهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة، آتية لهم من السَّماء غير مقيَّدة بملابسات أرضية، طلقاء من قيم الأرض وموازينها المنبثقة من واقعهم كله"[58].

فيجب لنا التَّفرقة بين دعوى الإسلام ودعْوى الجاهليَّة، والنَّظر في سُنَن كليْهِما، فنعرف الفرق بينهما حتى لا نقع في شيء منها وبالتَّالي لا ندعو لها.

فلا بدَّ من أن يُوجد في ضمير المسلم عزلة شعوريَّة وجدانيَّة بين الإسلام والجاهليَّة؛ أي: انفصال عن البيئة الجاهلية.
يتبع
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 13-06-2015, 08:55 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

السيرة ووجوب معرفة أحوال الجاهلية (4)



وليد بن عبدالعظيم آل سنو



يقول صاحب الظلال - رحمه الله -: "حتَّى الكثير ممَّا نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرًا إسلاميًّا، هو كذلك من صنع الجاهلية؛ لذلك لا يستقيم الإسلام في نفوسنا، ولا يتَّضح تصوّر الإسلام في عقولنا، ولا ينشأ فينا جيل ضخْمٌ من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أوَّل مرَّة.

ويجب أن نتجرَّد من كلّ مؤثّرات الجاهليَّة التي نعيش فيها ونستمدّ منها.

لا بدَّ أن نرجع إلى النَّبع الخالِص الَّذي استمدَّ منه أولئك الرّجال"[59]، مع "تعرية الجاهليَّة من ردائِها الزَّائف وإظهارها على حقيقتِها"[60].

وأن يعرف المسلِم ذلك حتَّى لا يقع في شيء من أمور الجاهليَّة، وإليك بعضَ أحوال الجاهليَّة وأمورها وخصالها، والحالة التي كان عليها العالم قبل أن يأتينا ذلك النور الهادي، مع مقارنة بالواقع الأليم.


ــــــــــــــــــــــــــ
[1] ركائز الإيمان، محمد قطب، ص 433.
[2] بيت الدعوة، للشيخ رفاعي سرور، ص 21.
[3] البخاري، بدء الوحي.
[4] متفق عليه.
[5] متفق عليه.
[6] نقلاً من "تحفة العروس" للشَّيخ محمود مهدي الإستانبولي - رحِمه الله - ص 289، ط 1، مكتبة المعارف للنَّشر والتوزيع، الرياض.
قال أحد المستهترين: رأيتُ جارية كأنَّها مهاة - غزالة - جعلتُ أنظُرُ إليْها وأملأُ عيْني من مَحاسنِها، فقالتْ لي: يا هذا، ما شانك؟ قلت: وما عليْكِ من النَّظر؟
فأنشأت تقول:

وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا لِقَلْبِكَ يَوْمًا أَتْعَبَتْكَ المَنَاظِرُ
رَأَيْتَ الَّذِي لا كُلُّهُ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِر
كُلُّ الحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةٍ فَتَكَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا فَتْكَ السِّهَامِ بِلا قَوْسٍ وَلا وَتَرِ
وَالمَرْءُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا فِي أَعْيُنِ الغِيدِ مَوْقُوفٌ عَلَى الخَطَرِ
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ لا مَرْحَبًا بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّرَرِ

نقْلاً من "تحفة العروس" (ص 300).
[7] الابتلاء بفتنة النساء، للشيخ محمد صالح المنجد، ص 17.
[8] رواه مسلم.
[9] بيت الدعوة، ص 13.
[10] متفق عليه.
[11] نقلاً من "تحفة العروس" ص287.
[12] حديث صحيح.
[13] نقلاً من "تحفة العروس" ص 319-320 هامش2.
[14] يراجع في ذلك دروس فضيلة شيخنا المبارك/ إبراهيم شاهين، وهي من المجلس الثلاثين إلى المجلس الثالث والثلاثين.
[15] مسلم.
[16] بيت الدعوة ص 15.
[17] تحفة العروس، ص 476.
[18] روضة المحبين، نقلاً من "تحفة العروس" مصدر سابق، ص 329.
[19] السابق 329 - 330.
[20] باختصار عن "روضة المحبين" ص 358 - 361 نقلاً من "تحفة العروس" ص 331.
[21] ما بين القوسين، منقول بتصرف.
[22] بيت الدعوة، ص 17، 18.
[23] في ظلال القرآن 1/422.
[24] معالم في الطريق، ص 5.
[25] من كلام فضيلة الشيخ / رفاعي سرور بتصرف.
[26] مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
[27] متفق عليه.
[28] في النفس والدعوة، للشَّيخ رفاعي سرور، ص 149 - 153 بتصرف.
[29] بيت الدعوة، ص 21- 28.
[30] ما بين القوسين، منقول بتصرف.
[31] صورة من عظمة الإسلام، لفضيلة الشيخ عبدالحميد كشك - رحمه الله - ص 76، دار الاعتصام، ط1، 1978م.
[32] عندما ترعى الذِّئاب الغنم، للشيخ رفاعي سرور، ص 7.
[33] بيت الدعوة ص 13.
[34] روى الإمام أحمد بسند صحيح قولَ رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ثلاثة لا يدخلون الجنَّة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديْه، والمرأة المتشبِّهة بالرِّجال، والدَّيوث))، وانظُر صحيح الجامع (3071)، ونحن ندعو إلى الغيرة المحمودة المطلوبة شرْعًا.
يقول دكتور/ أمير بقطر: "الغيرة كسائر الأمراض تفتك بصاحبها، فيختل توازنه ويضطرب حبل شخصيَّته، وتضطرب حياتُه الوجدانيَّة وينبري سمّه، وتنحطّ قواه العقليَّة ويقلّ إنتاجه، والغيرة كالشّعور بالنَّقص لا بأس بها في الأحْوال العادية إذْ إنَّها ضرب من الدّفاع عنِ النَّفس، ووازع طبيعي للمنافسة الشَّريفة والطموح، وركوب متن السموّ والأماني، هذا هو الأصل بيْد أنَّها - كسائِر الصفات والطبائع والنَّزعات الحسنة - قد تصبح وبالاً على المتَّصف بها فتبطش به بطشًا إذا ما أسرف فيها، ويتَّفق علم النفس مع القاموس الإنجليزي في تعْريف الغيرة بقوله: "إنَّها خوف صاحبها من أن يحتلَّ مزاحم مكانه"، كما يعرّفها قاموس محيط المحيط العربي بقوله: "أنفة مع الحمية وكره شركة الغير". نقلاً من "تحفة العروس" ص 344.
[35] بيت الدعوة 13ص.
[36] ولذلك كان جزاء العفَّة عظيمًا؛ قال الله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23].
وقال تعالى: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف: 32].
وقال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((سبعةٌ يظلّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه، ومنهم: ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إنّي أخاف الله ربَّ العالمين))؛ متفق عليه.
[37] من قضايا الفكر الإسلامي للشيخ / محمد قطب ص 106.
[38] ركائز الإيمان بين العقل والقلب، لمحمد الغزالي ص 232.
[39] الإسلام روح المدنية، مصطفى الغلاييني ص212 نقلاً من "العلمانيَّة نشأتها وتطورها" ص 419 - 420.
[40] نقلاً من العلمانية ص 431.
[41] في ظلال القرآن، 3 /1275.
[42] السابق، 3 /1283.
[43] تلبيس إبليس، للإمام جمال الدين ابن الجوزي، ص 38، ط/ ابن رجب.
[44] متفق عليه.
[45] مسلم بشرح النووي، 9 /261.
[46] مسلم (2889) والترمذي (2219) وأبو داود (4246).
[47] مسلم (148) والترمذي (2207).
[48] صحيح، وأصله في الصحيحين، أخرجه الترمذي (2233)، وأبو داود (4316) واللفظ له، وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلاً فيكسر الصليب وي*** الخنزير ويضع الجزية)).
[49] البخاري كتاب اللباس.
[50] حديث حسن أخرجه الترمذي (3095) وحسَّنه الألباني .
[51] مسلم (2896).
[52] صحيح مسلم (2898).
[53] عندما يواجه المعلمون أنفسهم، آرثر جير سلد ص158.
[54] عندما ترعى الذئاب الغنم، ص 173.
[55] في ظلال القرآن (4 /2516).
[56] السابق (4 /2517).
[57] صور من عظمة الإسلام ص 73.
[58] في ظلال القرآن (5 /3823).
[59] معالم في الطريق، ص 21.
[60] في ظلال القرآن، (3 /1649).

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 13-06-2015, 08:56 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

السيرة ووجوب معرفة أحوال الجاهلية (5)



وليد بن عبدالعظيم آل سنو


أسباب عودة مظاهر الجاهلية وانتشارها (أ)



1- مدخل: نجحتِ الجاهليةُ المعاصرة في أن تجعلَ لها رَنينًا خاصًّا تؤثِّر به على الأسماع، وبَريقًا جذَّابًا تخطف به الأبصار، وقوةً غاشمة تُرهِب المخالفين، وديمقراطية تضَع مِن خلالها سلطانَ التعقيدات ضدَّ النضال والتحرُّر من ربقة الصنم وعبودية الوثَن؛ إذ لا مكانَ للنضال والتحرُّر في الضمير الوثَني، مع وجودِ الجذور الاجتماعيَّة لهذا الضعْف والتشرذم والضياع للعبيد.
ومع افتراضٍ ضمني لوجودِ دراسة إستراتيجيَّة وتنظيمات ثوريَّة للتحرُّر مِن عبودية الصَّنم، إلا أنَّ المرء لا يستطيع أن يَتنبأ بنجاحِ مِثل تلك المحاولة، وبأنَّه سوف يُفلِح تمامًا في ا***اعِ قواعد ورواسبِ الجاهليَّة؛ إذ إنَّ السندَ التاريخي يؤكِّد حقيقتين:
الأولي: تعذُّرُ وصعوبةُ التخلص مِن طبقية الجاهليَّة وقيودها ورواسبها، ما لم تكُن هذه الثورة دِينيَّةً خالصة صائِبة، وهذا هو المنعطَف الأخير الذي تسير فيه الشعوبُ المستضعفة.
الثانية: أنَّ القوة تبدو في ظاهرِها مع الجاهلية، وهذا مِن أهم أسباب تخاذُل النخبة الفاعلة في وقتها الراهن.
لذلك فإنَّ الجاهلية عَمِلتْ على تعدُّد الآلهة - والتي بطبيعةِ الحال - لا تَمنح الإنسانَ كرامته اللائقة به، إنَّما تستعبِده بشهواته فتحيله حيوانًا، فيستذل، ويفقِد مِن كرامته بقدْر خضوعه للطاغوت، وينقلب الناسُ إلى سادةٍ وعبيد، والسادَة والعبيد جميعُهم في غير الوضعِ اللائق بالإنسان[1]، وهذا تقسيمٌ مخالِف لأصولِ الإسلام وقواعِده.
نقول ذلك؛ لأنَّ للجاهليةَ قانونًا عامًّا ينضوي تحتَ لِوائه كافَّة النُّظُم الظالِمة؛ إذ هي منظومةٌ متَّسقة تَرَى الناس مِن خلالها مغلوبةً على أمرها، ومقهورةً ومضطهدة.
ولم تكُن مكة - باعتبارِها الشرعي - بعيدةً عن هذا القانون العام - والذي نذَهب إليه كحقيقةٍ قدرية أنَّها هي التي أنشأتْه بالجزيرة بحُكم مكانتها الدينيَّة المرهوبة؛ ولأنَّها كانت قوميَّة عِرقيَّة تقدس الوثنيَّة كشكلٍ مِن أشكال التديُّن، والتي كانتْ في زعْمهم هي ملة إبراهيم.
2- قضايا الجاهلية: للجاهليةِ قضايا متشعِّبة أصلها واحِد وفُروعها شتَّى، ولكنَّها جميعًا تنطلِق مِن بوتقةٍ واحِدة وَفقَ منظومة عالميَّة تجمعها في قضية أساسية جامِعة هي قضيةُ ارتباط الحُكم الجاهلي للعالَم بظهورِ جميعِ الفواحِش والمعاصي والمنكَرات، كالتبرُّج والاختلاط والغِناء، وتلك هي أخطرُ قضايا الجاهلية مُطلقًا، وهذا الثالوثُ هو أخبثُ عناصرها، وارتباط الحُكم الجاهلي بهذا الثالوث الملوّث، إنَّما هو ارتباطُ هدف ذاتي؛ لأنَّ بينهما رباطًا وثيقًا انبثق مِن كيفية الحُكم، ولعلَّ السرَّ الحقيقي وراءَ انتشار تلك الموبقات يكمُن خلفَ ذلك الحُكم الجاهلي.
ولذلك نجِد الصحابيَّ الجليل عثمانَ بن عفَّان - رضي الله عنه - والذي يُمثِّل لنا في مرحلة الفتنة المعنَى الفِعلي لقيمة السلطة الشرعيَّة - قد فَهِم تلك القضية بإيمانٍ عميق حين قال كلمته الخالدة: "إنَّ اللهَ يَزَعُ بالسُّلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن"، وهي كلمةٌ تدلُّ على فِقهه لتلك القضية.
ولا نكون مبالِغين إذا قلنا: إنَّ تلك القضيةَ كانت في حسِّ القرون الفاضِلة تمثِّل قوام الدِّين والدنيا، وعليها مدارُ الاستقرار والأمان والهدوء، أمَّا في العصور التي زعَم فيها أهلُها التحضُّرَ والتمدُّنَ، فقد ظُنَّ أنها قضيةٌ مهمَلَة مهمَّشة، وليستْ من شأنِ العوام، إنَّما هي مِن خصائص النُّخبة الفاعِلة، والواقِع أنها ليستْ كذلك؛ لأنَّها هي لُبُّ حياة المسلمين، ورغمَ كونها كذلك إلاَّ أنَّنا غفَلْنا عنها أو ابتعدنا عنها بطريقةٍ أو بأخرى.
إنَّنا قد نسأل سؤالاً ساذجًا يتبادر إلى ذِهن أيِّ إنسان مراهقًا كان أو شيخًا، جاهلاً كان أو عالِمًا، ألاَ وهو: مِن أين اكتسبتْ هذه الفتاةُ المتبرِّجة - المسلمة أو المتأسلِمة - هذه الجرأةَ لتسيرَ في شوارعِ المسلمين وهي كاسيةٌ عاريةٌ ترتدي (بنطالاً وباضي) يُظهر مُفصِّلاً كلَّ جزء مِن أجزاء جسدها؟! مِن أين اكتسبتْ هذه الجرأة؟! هل لأنَّها فقدتْ حياءها؟!
الإجابة: لا؛ لأنَّه يصعُب جدًّا أن نقول: إنَّ غالبية فتياتِ الأمة بلا حياء؛ لأنهنَّ متبرِّجات، القضيةُ أعمقُ مِن ذلك بكثيرٍ، وهي ارتباطُ هذا العُرِّي بالحُكم الجاهلي ذاته تَبعًا لاختلافِ العصرِ ونمط حياةِ كلِّ دولة.
إنَّ الحكومة المصريَّة حين أصدرتْ قرارًا بمنع التدخين في الأماكنِ العامَّة - كالمترو - وفرضتْ على المدخِّن دفعَ غرامة مالية فوريَّة، هنالك ما استطاع (رجل) أن يُخرِج سيجارة مِن جيبه ويلوي عنقَ القانون شاهرًا سيفَ العصيان، قِس على ذلك بقيةَ القرارات والقوانين، وهنا يصلح قولُ عثمان - رضي الله عنه - للتطبيق، فإذا ما أصدرتِ الدول الإسلاميَّة قرارًا (خياليًّا) بمنْع المتبرِّجات من دخول الجامِعة - مع ملاحظةِ أنَّ العكس هو الذي يحدُث - وشيَّدت جامعاتٍ خاصةً للفتيات - كما في أمريكا الآن التي يتبعها المسلِمون حذوَ القُذَّة بالقُذة - وجامعات خاصَّة للشباب، ما رأينا المجاهرةَ بالمعصية بلا خجلٍ مع نِسيان قول الله تعالى: ﴿ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33] ، والتي يريد بها عهدَ الإباحة وسقوط الأخلاق وانحلالِ ربْط الآداب[2]؛ ولذلك كان فضيلةُ الشيخ/ عبدالحميد كشك - رحمه الله رحمةً واسعة - يقول: كانتِ الجاهلية الأولى أخفَّ ضررًا مِن الجاهلية الحديثة[3].
وأمَّا قول الحقِّ - جل شأنه -: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ [المائدة: 50]، فيدلُّ على أنَّ تيسير فِعل التبرُّج له ارتباطٌ بالحُكم الجاهلي، لذلك فإنَّ التركيز الشديد مِن الجاهلية مُنصبٌّ على المرأة المسلمة التي بزيِّها الشرعي تُعلِن الحربَ والتحدي على حُكم الجاهليَّة؛ ولأنَّ غيرها مِن الملل الأخرى قدِ انتهى من أمرهنَّ شياطينُ الإنس منذُ عصور مضَتْ.
إنَّ الله - جلَّ وعلا - لَمَّا ذكَر في كتابه الحكيم أمرَ الجاهلية تلك القضية الشائِكة، ذكرَها في أربعةِ مواضع مِن كتابه الكريم، هي:
الأول: قوله تعالى: ﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ [آل عمران: 154]، يُريد بها تهجينَ فِعل المثبِّطين عن نصرةِ الحق[4].
الثاني: قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33].
الثالث: قوله تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ [المائدة: 50].
الرابع: قوله تعالى: ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ [الفتح: 26]، يُريد بحميةِ الجاهلية نزعتَها في عدمِ الإذعان للحقِّ، فأنزل الله سكينتَه على رسولِه وعلى المؤمنين؛ أي: طُمأنينتَه وهدوءَه؛ لتبيّن الحق واتباعه.
يقول الأستاذ/ محمد فريد وجدي: هكذا يميِّز الله عهدَ الجاهلية بجميعِ سيِّئاته وشُروره، ويَدعو الناس إلى التخلُّص مِن آثاره، ودعوته هذه مستمرَّة في جميعِ الأجيال، وموجهة إلى العالَم كافَّة؛ لأنَّه الدِّين العام، ومَن يستقرئ أحوالَ الأمم اليوم يجِد أنها جميعًا في حاجةٍ ماسة إلى الاستفادة مِن هذه الدعوة، فإنَّ آثار الجاهلية لا تَزال موجودةً حتى في أبعدِ الأمم شأوًا في المدنيَّة الماديَّة[5].
فهذه قضايا أربعٌ ركَّز عليها القرآن تركيزًا شديدًا؛ لأهميَّتِها وارتباط بعضها ببعض، فتبرُّج النساء له عَلاقة وثيقة بحُكم الجاهلية الذي يرَى الزِّنا تَقدُّمًا والفجور حضارةً، فارتباط الحكم بالتبرُّج في سورة المائدة والأحزاب له عَلاقة ومناسبة، وحميَّة الجاهلية وظنّ الجاهلية لهما عَلاقة ومناسبة.
فهاتانِ الآيتان - مِن سورة المائدة والأحزاب - بينهما عَلاقة يؤكِّدها الواقعُ وعلى مدارِ التاريخ كله، فإذا تأملتَ واقعَ الجاهليات القديم وجدتَ فسادَ الحُكم يقابله فسادُ المرأة؛ ولذلك فهُم اليوم يُكثرون الحديثَ عن المرأة.
يقول د/ عمر عبدالكافي: الذين يتحدَّثون عن حريَّة المرأة يتحدَّثون زُورًا وبهتانًا عن حريةِ المرأة، هُم يتحدَّثون حقيقةً عن حرية الوصول إلى المرأة[6].
وإذا تأملتَ واقعَ الجاهلياتِ المعاصِر في البلاد الكافِرة وجدتَ نفس الصورة تمامًا، وهذا ما فعَله الغرب الآن ببعضِ فتيات المسلمين، وأوضحُ الأمثلة على ذلك انشغالُ فتياتنا بما يُسمَّى بموضة العام، ولنا في واقعِنا المعاصر آثارٌ لتلك العلاقة بيْن الحُكم الجاهلي والتبرُّج، مع أنَّ الحضارة- أي: حضارة - لا عَلاقة لها بالعُري.
مثال قرآني واضح:
قال تعالى على لسانِ سليمان - عليه السلام -: ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا ﴾ [النمل: 44]، ففي هذه الآية إشارةٌ دَلاليَّة على أنَّه مِن الحضارة والرُّقي أنَّ ساق المرأة غيرُ مكشوفة، أمَّا البربرية والهمجيَّة والتخلُّف ففيها العُري أصلٌ، وهذه مَلِكة سبأ التي لها مِن الحضارة والتقدُّم والرقي ما جعَل القرآن يُفرِد لها سورة كاملة.
إنَّنا ندرس فترةَ الجاهلية بما فيها تلك الفترة مِن فترات حياته - صلَّى الله عليه وسلَّم - قَبل البعثة؛ لبيانِ كيف عاش النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - طاهرًا مُطهرًا في بيئة تعجُّ بالمنكرات لم تؤثِّر فيه - صلَّى الله عليه وسلَّم، ولبيان أنَّ أهمَّ خصائصِ هذه الفترة أمانتُه وصِدقُه - عليه الصلاة والسلام - "وعلو منصبه، ومكانته العظيمة عندَ الله؛ إذ آتاه الله جميعَ صفات الكمال والجلال، وهو رجلٌ أمِّيٌّ لم يمارسِ العلم ولم يطالعِ الكتب، ولم يسافرْ قطُّ في طلبِ علم، ولم يزلْ بين أظهُر الجهَّال مِن الأعراب يتيمًا، ضعيفًا، مستضعفًا، فمِن أين حصل له محاسنُ الأخلاق والآداب، ومعرفةُ مصالِح الفقه مثلاً فقط دون غيرِه مِن العلوم فضلاً عن معرفةِ الله تعالى وملائكته، وكُتبه، وغير ذلك مِن خواصِّ النبوة؟ لولا صريحُ الوحي"[7].
إنَّنا نتعلَّم ذلك وندرُسه لا لنردَّ به على المشكِّكين المنحرفين الضالِّين، بل ندرسه لنزدادَ حبًّا له - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتمسكًا بهديه، والسَّير على طريقِه وتتبُّع خُطواته؛ ولذلك فإنَّه يجب علينا معرفةُ أحوال الجاهلية، والتوسُّع في إيضاح ذلك لندركَ قيمة الإسلام وما جاءَ به مِن الهَدي العظيم، ونُدرك عظمةَ نبيِّنا محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقِيمة رِسالته التي بعثه الله بها لنعيَ معني قوله - تعالى -: ﴿ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [إبراهيم: 1]، ونحن بالطبْع لن نُحيطَ علمًا بهذه الظلماتِ التي ذُكرتْ في الآية على سبيلِ - الإجمال - إلاَّ مِن خلال دِراسة السيرة النَّبويَّة، ولن نُدرك هذا النورَ الذي جِيء به بصِيغة - الإفراد - إلاَّ مِن خلالِ دراسة حقيقيَّة متأنية لواقِع الجاهلية.
فالسرُّ في جمع الظلمات: أنَّ الباطل متعدِّد، وله شُعَب متفرِّقة كثيرة، والسرُّ في إفراد النور: أنَّ للحقِّ طريقًا واحدًا هو ما جاءتْ به الرسل، كما قال الحقُّ - جلَّ وعلا -: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].
وقوله - تعالى -: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي ﴾ [يوسف: 108]، جعَل سبيلَ الحق واحدًا، والجاهلية طُرقًا متفرقة.
يقول صاحب الظِّلال - رحمه الله -: "والجاهلية كلُّها ظلمات، ظلمة الشُّبهات والخرافات والأساطير والتصورات، وظلمة الشهوات والنَّزعات والاندفاعات في التِّيه، وظُلمة الحيرة والقلق والانقطاع عنِ الهُدى، والوحشة مِن الجناب الآمِن المأنوس، وظُلمة اضطرابِ القِيم وتخلخُل الأحكام والقِيَم والموازين[8]؛ ولذلك بعَث الله الرسلَ بالنور لدفْع هذه الظلمات، وبثِّ الأمن والأمانِ في القلوب، فإنَّ الظلمة تُرهِب البشر وتُخيفهم.
إنَّ التغير الجذري الذي يجِب أن يَحدُث وتنشده الأمَّة هو وجوبُ معرفة المسلمين كيفيَّة الاستفادة مِن حياة نبيِّهم، وتلك مشكلة انفِصال الأمَّة عن نبيِّها، وهذه هي المعضلة الكُبرى التي يَحياها المسلمون؛ إذ ليس مِن السهل القيامُ بالتغيُّر الجذري دفعةً واحدة، وإنْ كان الأمر ليس عسيرًا، لكن لا بدَّ مِن بذل الجهد لنرَى واقعَ حياة المسلمين يُحاكي نمطَ الجيل الأوَّل للنهوضِ مِن الكبوة الضخمة التي تَحياها الأمَّة، ومِن ثَمَّ التخلُّص مِن رواسب الجاهلية، وقِيمها، بل ومِن أسْرها الذي استذلَّ الجميع - إلا مَن رحِم ربك - فَقيَّد الأمَّة وشلَّ حركتها بأشكالٍ متنوِّعة مِن الأسْر.
ولذلك "فإنَّ رسالة الإسلام لم تصلْ إلى البشرية وتُصلح أحوالها وتُرشدها إلى النور، بمقالاتٍ في صحيفة، أو كلماتٍ في الإذاعة، أو محاضرات إعلاميَّة، وإنَّما بتقديم نموذجٍ واقعي لفضائلِ الإسلام وقِيَمه ومُثُله ومبادئه وأخلاقياته، نموذج رآه الناس رأيَ العين فتأثَّروا به، فصلحتْ أحوالهم بمقدارِ ما تأثَّروا به.
والطريقُ هو الطريق، والرِّسالة هي الرِّسالة، والجهد المطلوبُ هو الجهدُ المطلوب، فلا منقِذَ اليوم للبشريةِ مِن ظَلامها الكريه الذي تعيش فيه إلا الإسلام، إلاَّ ذلك النور الربَّاني الذي فيه هذه الخاصية؛ خاصية إخراج النَّاس مِن الظلمات إلى النورِ حين يتَّبعون تعاليمه[9]، فما أشبهَ أيامَنا تلك بما كان يَحياه الناسُ قبل بعثةِ النبي الخاتم - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع وجودِ الفارق المعلوم.
يقول الأستاذ/ العقاد: كان عالَمًا متداعيًا قد شارَف النهاية، خلاصة ما يقال فيه: إنَّه عالَم فقَدَ العقيدة، كما فقَدَ النظام؛ أي: إنه فقدَ أسباب الطُّمأنينة في الباطِن والظاهِر: طمأنينة الباطن التي تنشأ مِن الركون إلى قوَّةٍ في الغيب تبسُط العدْل، وتَحمي الضعيف، وتَجزي الظالم، وتختار الأصلحَ الأكْمل من جميعِ الأمور، وطُمأنينة الظاهِر التي تنشأ من الركونِ إلى دولةٍ تَقضي بالشريعة، وتفصِل بيْن البغاة والأبرياء، وتحرُس الطريق، وتُخيف العائثين بالفساد.
بيزنطة قد خرجتْ مِن الدِّين إلى الجدل العقيم الذي أصبح بعدَ ذلك عَلَمًا عليها، وتضاءلت سطوتها في البَر والبحر حتى طمِع فيها مَن كان يحتمي بجوارها، وفارس قد سخِر فيها المجوس مِن دِين المجوس، وكمنتْ حولَ عرشها كوامنُ الغيلة وبواعث الفِتن ونوازع الشهوات، والحبشة ضائعة بيْن الأوثان المستعارة مِن الحضارة تارةً ومِن الهمجية تارةً، وبين التوحيد الذي هو ضرْب مِن عبادة الأوثان، ثم هي بعدَ هذا التشويهِ في الدِّين ليست بذات رِسالة في الدُّنيا ولا بذات طورٍ مِن أطوار التاريخ، فليس لها عملٌ باق في سجِّل الأعمال الباقيات، عالَم يتطلَّع إلى حالٍ غير حاله، عالَم يتهيَّأ للتبديل أو للهدْم، ثم للبناء[10].
وبناءً على ذلك نُريد أن نؤكِّد على أنَّنا لن نفهمَ السيرة النَّبويَّة فَهمًا دقيقًا إلا إذا درسْنا فترة الجاهليَّة دراسةً وافية متأنية؛ ولذلك كان سببُ حديثنا ها هنا عن الجاهلية أمرين:
الأول: هو ما نراه ونُشاهده من انحصارِ معنَى عظمة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندَ الناسِ، ووضعه في قوالبَ جامِدةٍ لا تحرِّك المشاعر ولا يَنتبه لها الوجدان.
الثاني: هذا الجهلُ الواضح بمدَى الجهد الذي بذَله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليغيِّر عالَمًا بلَغ الاستخفاف مداه بالدِّين، ونُزعتْ منه الرحمة، عالَمًا يغشاه الانحطاط، ويحكُمه الفساد، ويُحيطُ به الشرُّ مِن جميع جوانبه.
يُتبع...


[1] كيف نكتب التاريخ الإسلامي، الشيخ محمد قطب، (ص: 58) بتصرف.
[2] مهمَّة الإسلام في العالم - محمد فريد وجدي -كتاب الأزهر عدد شهر شوال 1422هـ، (ص: 90).
[3] نقلاً مِن شريط/ الرحمن على العرش استوى، لفضيلة الشيخ/ عبدالحميد كشك - رحمه الله.
[4] مهمة الإسلام في العالم (1/ 91).
[5] السابق نفسه.
[6] نقلاً من برنامج صفوة الصفوة، الحلقة (رقم: 31).
[7] إحياء علوم الدين، للشيخ/ أبو حامد الغزالي (2/595).
[8] في ظلال القرآن (2/863).
[9] من قضايا الفِكر الإسلامي المعاصر، الشيخ محمد قطب، (ص: 107)، بتصرف تقديم وتأخير.
[10] عبقرية محمد، للعقاد (ص: 17).
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 13-06-2015, 09:03 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

السيرة ووجوب معرفة أحوال الجاهلية (6)



وليد بن عبدالعظيم آل سنو

أسباب عودة مظاهر الجاهلية وانتشارها (ب)





3- الأسباب والعوامِل المساعدة على عودة وانتشار المظاهر الجاهلية وأسرار تمكنها في الأرض:
للحقِّ قوَّة ذاتية كامِنة فيه وإنْ ظهر ضعيفًا ومستكينًا، وكذلك للشرِّ قوَّة مكتسَبة تظهَر بعواملَ كامنةٍ فيه، ولكنَّها تظهر في غيابِ قوَّة الحق التي ضعُفتْ بفعل عواملَ شتَّى، لعلَّ أهمها ضعفُ مَن يحمله وتهميشه بل وتَغييبه، ووجود منهج مُغايرٍ تَحميه قوَّة غاشمة تُسمَّى الجاهلية، وللجاهلية مع الحقِّ صراع تختلف فيه القِيَم والموازين، ولكن صراع الجاهلية مع بعضِها البعض صِراع لا يُغير شيئًا من القِيَم والمُثل والأخلاق، وإنما يقلب موازين القُوى مرجحًا قوَّة جاهلية على مثلها: "فالصراع بيْن قوَّتين جاهليتين هو صِراع شخصي، هدفه أن تفوزَ إحدى القوَّتين على الأخرى وتدمِّر الثانية، أو تخضعها لسلطانِها، ولكن حياة البشريَّة لا تتغيَّر كثيرًا؛ سواء انتصرتْ هذه القوة أو تلك.

أمَّا حين يقَع الصِّراع بين قوَّة الإيمان وقوَّة الكُفر، فإن شيئًا كثيرًا يتوقَّفُ على نتيجة الصِّراعِ، هو حال الإنسان: أفكاره ومشاعِره وسلوكه، قِيَمه وأخلاقه واهتماماته، والمجالات التي يَبذُل فيها جهدَه ونشاطاتِه، وتِلك هي القِيمة التي يُمثِّلها ظهورُ الإسلام في الأرْض في جميع أطواره منذُ آدم ونوح إلى قِيام الساعة.

ويُمثِّلها في أبرز صُوَرها ظهورُ الأمَّة الإسلاميَّة، أمَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما قدمت للبشرية مِن خير وما أحدثتْ في واقعها من تغيير"[1]، هذا هو حال الصِّراع الجاهلي الذي يمثِّل التدافُع بيْن الحقِّ والباطِلِ، ولكن "لماذا يَقَعُ الصِّراعُ في الأرض بيْن الجاهلية وبيْن لا إله إلا الله؟ وما الآثارُ المترتِّبة على ذلك الصِّراع؟

إنَّ أسبابَ الانحراف عن عبادةِ الله الواحِدِ التي هي أصلُ الفِطرةِ إلى عبادة الآلهةِ الأخرى الزائفة، كثيرة ومتشعِّبة، لعلَّ مِن بينها:
1- هُبوط البشَرِ حين تنتكِس فِطرتُهم - من المستوى الراقي الذي خلَقَهم الله عليه، مستوى الإيمان بالغيب، إلى الانحصارِ في العالم الذي تُدرِكُه الحواس فحسبُ، فيتطلَّعون إلى آلهةٍ حِسيَّةٍ يعبدونها بدلاً مِن الله الذي لا تُدرِكُه الأبصار، كما قال الله عن بني إسرائيل: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ [الأعراف: 138].

2- ومنها التعظيمُ الزائد عن الحدِّ لأشخاصٍ صالحين، حتى ينقلبَ التعظيمُ إلى تقديسٍ وعِبادة، كما عَبَد قومُ نوح وَدًّا وسُواعًا، ويَغُوثَ، ويَعُوقَ، ونَسْرًا.

3- ومنها تَجبُّر أفرادٍ مِن البشر على أقوامِهم بالسلطانِ الطاغي، فيَستعبدونهم، ويجعلونَ أنفسَهم أربابًا، ويَطلُبونَ مِن أقوامهم أن يُقدِّموا لهم فروضَ العبادة، ويُرهبونهم بالسلطة الطاغية التي يَملكونها في أيديهم، حتى يرغموهم على عبادتِهم، سواء اتَّخذتِ العبادة صورةَ تقديم الشعائر والقرابين لهم كما كان يفعل الفرعون وكِسْرى وقَيصر، أو صورة التشريع مِن دون الله، وإخضاع العبيد لشَرْع السادة، كما هو الحالُ في جميعِ جاهلياتِ التاريخ: في الرِّقِّ والإقطاع والرأسماليَّة والشيوعيَّة، وكل نِظامٍ لا يَحكُمُ بما أنزل الله.

وحين يحدُث هذا الشرك بأيٍّ من أنواعه الثلاثة: شِرك الاعتقاد، أو شرك العبادة، أو شرك الاتباع في غيرِ ما أنزل الله أو بها جميعًا، فإنَّ الله برحمتِه كان يُرسِلُ رسلاً لهدايةِ البشريَّة إلى الله الواحد، وترْك الشِّرك بأنواعه، وإخلاصِ العبودية لله وحده، فيقول الرُسل لأقوامهم: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59].

وهنا يَحدُثُ الموقفُ المتكرِّر الذي حدَثَ مع كلِّ رسولِ قَبل محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحدَثَ معه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما حدَثَ مع إخوته مِن قبل - صلاة الله وسلامه عليهم جميعًا -: الرَّفْض، والإصرار، والعِناد، لماذا يَحدُثُ ذلك؟

ما دام الأمرُ ظاهرةً بشريَّةً متكرِّرة، فلا نستطيع أن نردَّه إلى سبب خاص في كلِّ مرة؛ ولذلك فإنَّ قولنا: إنَّ قريشًا وقفتْ هذا الموقفَ من دعوة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لخوفِها على سلطانها، هو قولٌ مدخول، يُضلِّل الدارس، ما لم نبيِّنْ له حقيقةَ هذا السلطان، ونبيِّن له كذلك أنَّ هذا الموقف لم يكُنْ خاصًّا بقريش، إنَّما هو موقف الملأ - كل ملأ في التاريخ - من دعوةِ لا إله إلا الله؛ ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴾ [الأعراف: 59 - 60].

﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [الأعراف: 65 - 66].

ذلك هو الباعِث الرئيسي الذي يَبعَثُ - الملأ - في كلِّ جاهلية أن يرفضوا لأوَّلِ وهلةٍ كلمةَ (لا إله إلا الله)، ويقفوا موقفَ العداوةِ مِن النبي الذي جاء بهذه الكلمة مِن عند الله.

ولقدْ كانتْ قريش هي- الملأ - بالنسبة للجزيرةِ العربيَّة كلها؛ ومِن أجْلِ ذلك - بالإضافة إلى ملابسات القرابةِ لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانتْ هي أوَّلَ المعاندين وأشد المعاندين!

فإنَّنا حين نقول للدَّارسينَ: إنَّ قريشًا كانت تُعارِض رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خوفًا على سُلطانها، فيجب أن نبيِّنَ لهم حقيقةَ هذا السلطان بالضبط، فإنَّ هناك لبسًا دقيقًا يمكن أن يَقعَ فيه الدارسُ حين نترك هذه الكلمة بغيرِ تحديد.

إنَّ السلطان السياسي لقريش - سلطان الرياسة - وسلطانها التِّجاري كذلك ليسا هما اللذين حَرَّكَا قريشًا لتقفَ ضدَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إنَّما السلطان الذي خشوا عليه لم يكُنْ ذلك! إنما هو السلطان المغتصَب مِن الله، والذي كَرِهوا أن يردُّوه إلى الله، فيعودوا بَشَرًا كبقية البشر، خاضعين كلُّهم لسلطان أعلى منهم، ليستْ مقاليدُه في أيديهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [غافر: 56].

وتلك هي حقيقة القضيةِ التي يَنبغي أن نوضِّحها للدارس؛ ليعرفَ حقيقةَ السلطانِ الجاهلي الذي يأتي الإسلامُ لتحطيمه، وليعرفَ حقيقة الدور الذي تؤدِّيه - لا إله إلا الله - في حياة البشريَّة، وهو رفع العبودية عن البشَر، وتحريرهم مِن كلِّ عبودية زائفة مذلَّة لكرامة الإنسان، برد العبودية كلها لله الواحِد صاحِب الأمْر وصاحِب السلطان، وهى العبودية التي يكتسب الإنسان منها الكرامةَ والعِزَّة في الدنيا والآخِرة سواء.

أمَّا الباعث الآخَر - وهو متَّصل بالباعِث الأوَّل ومِن مستلزماته - أنَّ الملأ يكونون غارقين في التَّرَف الفاجِرِ إلى أذقانهم، حريصين على الاستمتاعِ بهذا التَّرَفِ الذي حصَلوا عليه مِن ابتزازِ حقوقِ العبيدِ، واستغلالِ كدْحهم وجهدهم، فيكرهون تحرُّرَ أولئك العبيد مِن سُلطانهم، كما يكرهون تذكيرَ الرسولِ لهم أنَّ المال ليس مالَهم في الحقيقة، إنَّما هو مالُ الله، وأنَّ عليهم أن يَسيروا فيه بمقتضَى أوامرِ الله: ﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [هود: 87][2]؛ ولذلك تشترك الجاهلياتُ - القائمةُ منها على الوثنيَّة منها وغير القائِمة - في أسرار انتشارها، فهناك أُسس وقواعد تجمَعها في بوتقةٍ واحدة، وأيدلوجيَّة عربيَّة واحِدة حسبَ المكان والزمان وطبيعة أهلِ الجاهلية.

فالجاهليةُ الأوربيَّة القائِمة بيْن ظَهرانينا الآن على سبيلِ المثال تختلِف في مظاهرِها عنِ انتشار مظاهِر الجاهليَّة في الأمَّة المسلِمة، ثم يختلف انتشارُ تلك المظاهِر في الأمَّة المسلِمة بيْن بيئة وأخرى، وبيْن فرْد وآخَر، ولكن السِّمة المشترَكة بيْن كلِّ ذلك هو الرِّضا بهذه المظاهِرِ الجاهليَّةِ كواقِعِ حياةٍ على مستوى الفَرْد صعودًا وهبوطًا، وعلى مستوى العالَم بأسْرِه، فإذا ما التمسْنَا أسبابَ ظهور تلك المظاهِر الجاهليَّة في واقِع الأمَّة المسلِمة، أو ما هو سرُّ انتشار المظاهِرِ الجاهليَّةِ بعدَما ظهَر فجْر الإسلام، ولماذا عادَ أغلب الناس إليها؟ هلِ الهوى والرغبة في التخلُّصِ مِن قيود الشريعة (الأوامر والنواهي)؟ أم الجنوح إلى رَغباتِ النَّفْس وما يَميل إليه الطبعُ مِن التحرُّرِ مِن هذه القيود؟ مع الأخْذِ في الاعتبار أنَّ هذه القيودَ في أصلها الشرعي ليستْ قيودًا تتحكَّم في الفرد؛ إذ لو كان الأمرُ كذلك ما استطاع إنسانٌ أن ينفكَّ بإرادته عنها؛ إذ هو مجبورٌ عليها لا يستطيع منها فكاكًا، ولكنَّ الأمرَ بخلاف ذلك؛ إذ القصدُ منها هو حمايةُ الفرْد ذاته مِن نفْسه ومِن غيره؛ ليعيشَ الجميعُ في سلام، فالعاقِل يَستطيع أن يَعُدَّ المحرَّماتِ التي حرَّمها الله عدًّا فلا يخرم منها بندًا واحدًا، بل ولا يَغيب محرَّم حرَّمه الله عن الناس مُطلقًا في أذهانهم، فإنَّ الله قد بيَّن لهم الحرامَ؛ لئلاَّ يفعلوه، ولأجْل تلك العِلَّة أوجب الله على نفسه بيانَ جميع المحرَّمات، فقال - جلَّ شأنه -: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 151]، وفي المقابِل لا يستطيع هذا العاقلُ نفْسُه أن يَعُدَّ ما أباحه الله ولو جلس ألفًا مِن الأعوام، ولتوضيحِ ذلك نسأل: ما عددُ الأشجار التي أباحَها الله لآدَم؟ وما عددُ الأشجار التي حرَّمها الله على آدَم؟

ومِن هنا لا بدَّ مِن: "تَبيين أنَّ التاريخ البشريَّ كلَّه يُمثِّل صراعًا بين الحقِّ والباطِلِ، والإيمانِ والكُفر، ودَور الأنبياء وأتباعهم يُمثِّل في تاريخ البشريةِ كلِّها خطًّا مُستقلاًّ ومرتبطًا بعضه مع بعضٍ مِن آدَمَ إلى محمَّد، وتقِف بإزائه الجاهلياتُ على تعدُّد أنواعِها واختلافِ عصورها، فالجاهليات تُشكِّل أُمَّةً واحدةً وحزبًا واحدًا في مقابلِ أمَّة الإسلام، ودعوةِ الحقِّ، وحزْب الرحمن وأتباع الرُّسل والأنبياء، وما مِن فترةٍ سيطرتْ فيها الجاهلياتُ إلاَّ وأُصيبتِ البشريةُ بالشَّقاءِ والتَّعاسة وسادَها الظُّلم، ولا أظلمَ مِن الشِّركِ بالله"[3].

وقبل أن نَذكُرَ أسبابَ عودة مظاهِرِ الجاهليَّة وانتشارها نتساءَل: لماذا قُلنا: الأسباب الظاهريَّة لتمكُّنِ الجاهليةِ في الأرض؟


نقول - وبالله التوفيق -: كثيرٌ مِن الناس يَعيش وهمًا اسمُه القُوى الأولى الكُبْرَى، والقوَّة الغالبة القاهرة، وأنَّ العالم لا يحكُمُه إلا الفَساد، ولا يُسيطرُ عليه إلا أهلُ الأهواء، وتَغشَى العالَم مَوجةٌ من التَّرَف الفاجِر فلا يُرى إلا الفساد وأهلُه، والدَّمار والخراب بسببِ تسلُّطِ ذوي الأهواء، بل ولا يَرى هؤلاء الناس أيَّ علاماتٍ مضيئة على الطريق للهُداة وأصحاب العقيدة الراسِخةِ والفِكرِ النيِّر الرَّشِيد، وهذا وإنْ كان واقعًا نحياه إلاَّ أنَّ المعادلة َغير صحيحة، وأنَّ ذلك الواقِعَ لن يدوم، ومِن ثَمَّ يأتي هذا الظنُّ للأسبابِ الآتية:
1- الغُرْبة الشديدة للقلَّة المؤمِنة التي أخْبَر عنها رسولُنا - صلَّى الله عليه وسلَّم.

2- عدَم حبِّ الظهورِ والشُّهرةِ لتلك الفِئة والذي يُقابله تسلُّط مِن السلطة الجاهليَّة عليهم.

3- انتشار الفسادِ كانتشارِ النارِ في الهَشيم، فتناوله سهلٌ ميسور بخلافِ تحصيلِ الطاعة والصَّبر عليها، فطريق الجنَّة مليء بالعَقَباتِ وطريق النار ممهَّد بالورود.

يتبع...


[1] كيف نكتُبُ التاريخ الإسلامي، محمد قطب، (ص: 74).

[2] السابق، (ص: 74 - 79)، (ص: 77) بتصرُّف تقديم وتأخير.

[3] قواعد تاريخية لمنع تزييف الوعي، د. سعيد عبدالعظيم، (ص: 15- 16).







رد مع اقتباس
  #9  
قديم 13-06-2015, 09:06 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

السيرة ووجوب معرفة أحوال الجاهلية (7)



وليد بن عبدالعظيم آل سنو


أسباب عودة مظاهر الجاهلية وانتشارها




أما أسباب عودة مظاهر الجاهلية وانتشارها فهي:

1- الحُكم بغيرِ ما أنْزلَ الله وتَعطيل العمَل بالشريعة وعدَم تطبيقها على مستوَى الأُمَّةِ:

فأمَّا جاهلية المجتمَع فمردُّها إلى أنَّ هناك (مظلَّة جاهليَّة) تُظلِّل المجتمَع، هي الحُكمُ بغير ما أنْزَلَ الله، وهي مَظلَّة تُظلِّل كلَّ الناس الواقفين تحتَها، بما في ذلك الدُّعاة إلى الله! أمَّا الناس الواقِفون تحتَ المظلَّةِ فالحُكم عليهم - كما بيَّن رسول الله - مستمَدٌّ مِن موقفِهم هم مِن المظلَّة! فمَن رضِي بها فهو منها، ومَن أنكرها فله حُكمه الخاص: ((.. فمَن جاهَدَهم بيدِه فهو مؤمِن، ومَن جاهَدَهم بلسانِه فهو مؤمِن، ومَن جاهَدَهم بقلْبِه فهو مؤمِن، وليس وراءَ ذلك مِن الإيمانِ حَبَّةُ خَرْدَل))، ((فمَن كَرِه فقد بَرِئ، ومَن أنْكَر فقد سَلِم، ولكن مَن رضِي وتابع))[1].



2- محارَبة التديُّن على مستوَى الأفراد والأُسَر: لأنَّ موقِفَ الجاهليَّة مِن دعوة لا إله إلا الله لم يكُنْ مسألةً شخصيَّةً ولا فرديَّةً، إنَّما هي ظاهِرةٌ بَشريَّةٌ متكرِّرة حيثما وُجدتْ جاهلية ووُجدتْ دعوة للا إله إلا الله في أيِّ مكان في الأرض، وفي أيِّ زمان في التاريخ، فلا تدَعُ الجاهلية دعوةَ الله تتمكَّن في الأرض وهي قادرةٌ على خنقها وإبادتها! لم يحدُثْ ذلك في التاريخ كله، ولا يُمكن أن يحدُث إلا أن يشاءَ الله ذلك؛ ﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [يونس: 98][2].



3- عدَم السَّعي للنخبة الفاعلة (رُؤساء وحكَّام الأمَّة - إلاَّ مَن رحِم ربك) لانتشارِ دِين الله في الأرض.



4- عدَم فَهْم أحداثِ السِّيرة النَّبويَّة فَهمًا صحيحًا والتأسِّي بالنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعدَم تنزيلِ كلِّ حدَثٍ من أحداثها في فِقه الواقع - مهَّدَ لانتشارِ تلك المظاهِر الجاهليَّة.



5- تَعطيل الجهادِ وتغييب الغاية الشرعيَّة له:

وهو عنصرٌ غايةٌ في الأهمية؛ لأنَّ الذلَّ الذي تعيشه الأمَّة إنما حدَث بسببِ تغييب الجهاد، والأحاديث في ذلك كثيرة.



يقول الشيخ محمد قطب: لم يكُنِ الجهاد من أجلِ فَرْض العقيدة على الناس، إنَّما كان الجهادُ مِن أجْل أمرٍ آخَر، هو إزالةُ العَقَبات التي تحول بيْن الناس وبيْن الاستماعِ إلى الحقِّ كما هو حقيقته، ومتمثِّلة تلك العقبات في نُظُمٍ جاهليَّةٍ تَحميها جيوشٌ جاهليَّة وحكوماتٌ جاهليَّة، فإذا أُزيلت هذه العقبات فالناس أحرارٌ يختارون لأنفسِهم ما يَقتنعون به بغيرِ إكراه؛ ولأنَّه جرَى تشويه متعمَّد لحقيقة الجهاد مِن قِبل أعداء هذا الدِّين، فلا بدَّ مِن شرْح هذه القضية، وما يترتَّب عليها.



إنَّ الحقَّ لا يصِل للناس مجردًا بمجرَّد أن يُلقَى به إليهم في بيانٍ أو كتابٍ، أو درسٍ أو محاضرةٍ أو إعلان، فإنَّما تنكسِر الأفكار كما ينكسِر الضوءُ حين يخرُج من وسطٍ ذي كثافة معيَّنة إلى وسطٍ آخَرَ ذي كثافة مختلفة، فلا يصِل شعاعُ الحق مستقيمًا إلى الناس حين يكونون محاطين بغِلافٍ معيَّن من الأفكار والنُّظُم، التي تَحميها قوَّةٌ ذات ثِقل، فأمَّا إذا زالتِ القوة التي تَحمي تلك الأفكارَ والنُّظم، فالناس أحْرى يومئذٍ أن يروا ما في واقعِهم من زيف، وما في الدعوةِ التي يُدعَوْن إليها من حق؛ ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 1 - 3]، فإنْ دخَلوا في الحقِّ فبِها ونِعمت، وإنِ اختاروا الباطلَ وأصرُّوا عليه فلهُم ذلك، على مسؤوليتهم! تلك هي حقيقةُ الجهاد في الإسلام[3].



إنَّ الرِّضا بهذا الذلِّ الذي تستشعره الأمَّة ويَسرِي في أعماقِها يجعلها تَرضَى بقوانين الجاهليَّة، فما الذي تستطيع أن تفعلَه الأمَّة وهي تشعُر بالخنوع والذلِّ من تغيُّر؟ فإذا فُرِض قانونٌ جاهلي عالَمي، فإنَّنا كأذلاء مقهورين نَرضَى ولا نستطيع أن نغيِّر فنمشي في رِكاب القوم مختارين لقِيَمهم ومفاهيمهم!



6- سيطرة القُوى الكافِرة على العالَم وتحكُّمها في مصيرِه وفي قراراتِه ما دقَّ منها وما عظُم.



7- انتشار الفواحِش بصورةٍ لم يسبقْ لها مثيلٌ في التاريخ، وحدِّثْ عن ذلك دون حرَج، فالأمثلة أكثرُ مِن أن تُحصَى في الميادين كافَّة.



ولكن ما السرُّ في انتشارِ تلك الفواحش؟ لعلَّ السرَّ الأكثر خُطورةً هو ضمانُ الجاهلية لعدَم المعارضة، فالذي يَعشق الانحرافَ أَنَّى له أن يَستعلي بآرائه، وقِيمه ومُثُله العُليا؟! فعملتِ الجاهلية على أن تغمسَ هذا الانحراف في النفوس.



8- أنَّ الجاهلية محبَّبة إلى نفوس أهلِ الكفر وأهلِ الأهواء والبغي والظُّلم؛ إذ لا فروضَ تُقيِّدهم ولا واجبات تُكبِّلهم، إنَّما الأمر كله مُباح، فعمِلوا على انتشار ما تهواه نفوسُهم، بل وحطَّموا جميعَ القيود لوصولِ ما تهواه نفوسُهم من الرذيلة إلى الفِئة المؤمنة؛ لضمانِ نجاح المسيرةِ الجاهلية في طريقِها الحالِمِ الذي تَبغِي نشرَه وانتشاره، ولك في أنظمةِ العالَمِ خيرُ مثال كالشيوعيَّة مثلاً، فالجاهليُّ يفرُّ فرارَه مِن الأسد ويتضرَّر إذا سمِع مَن يقول: إنَّ الزنا والخمر والرِّبا حرام، فيستكبر على تلك القواعدِ ويأباها؛ لأنَّ نفسَه مُقيمةٌ على المعصية، ولا يُقيمُ العبدُ على معصيةٍ إلا وجميع أعماله مقترِنة بالهوى.



9- عُكوف أهلِ التقاليد والعادات الباطِلة عليها:

إنَّ سلطانَ الأعراف والتقاليد والعادات على الحياةِ الاجتماعيَّة كبير؛ ولذا كان على الرسولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يُلغِيَ منها ما يَتعارَضُ مع الإسلام إلغاءً عمليًّا؛ حتى يثبتَ المعنى الإسلاميّ الجديد مكانَ العُرفِ الجاهلي المُلغَي[4].



فالعُرْف في الجاهليَّة بلَغ مبلغَ العبادة في المهابَة والرِّعايةِ وتسخيرِ النُّفوس لحِكمهِ بما يفرِضه عليها مِن العادات، وما هي في الواقعِ إلا ضَرْبٌ من العبادات يملك الإنسانَ في جميعِ أوقاته وعلاقاته، حيث تتراخَى عنه أحيانًا سطوةُ العبادات الدِّينيَّة، ولعلَّ العباداتِ الدِّينيةَ لم يكُن لها مِن سطوةٍ في عصور الجاهليَّة وما شابَهها؛ إلا لأنَّها تستمدُّ تلك السطوةَ مِن العادات[5].



10- محاولة أهلِ العقلانيَّة البشريَّة التصدِّي لطريقِ التلقِّي:

فحيثُما حاولَ العقلُ البشري أن يسلكَ طريقًا غير (طريق التلقِّي من المصدرِ الربَّاني بدونِ مقرَّراتٍ سابقةٍ له فيما يتلقَّى)، جاء بالخبْطِ والتخليط الذي لم يسبقْ قطُّ في تاريخ الفِكر البشري، يَستوي في الخبطِ والتخليط تلك الجاهلياتُ الوثنيةُ التي انحرَفتْ عمَّا جاء به الرسلُ - صلوات الله وسلامه عليهم - والجاهليات اللاهوتية التي أدخلتْ على الأصلِ الربَّاني الإضافاتِ والتأويلاتِ التي اصطنعَها العقلُ البشري وَفقَ مقولاته الذاتيَّة، أو اقتبسها مِن الفلسفة وهي مِن مقولاتِ هذا العقل أصلاً، والجاهليات الفلسفيَّة التي استقلَّ الفكرُ البشريُّ بصُنعِها، أو أضافَ إليها تأثيراتٍ مِن الدياناتِ السماويَّة[6].



يقول فضيلة الشيخ/ محمد قطب: إنَّ الجاهليةَ حالةٌ وُجدت كثيرًا في التاريخ البشريِّ مِن قَبلُ، في الجزيرة العربية وغيرها، وإنَّها قابلةٌ للعودة حيثما وُجِدتْ عناصرها ومقوِّماتها في أيِّ عصرٍ وفي أي قرنٍ من القرون!



ولا بأس - بل ربَّما يَنبغي من أجْلِ توضيح هذا المعنى وتعميقه - أن ندرسَ نماذجَ من الجاهليات البشريَّة الأخرى غير الجاهليَّة العربيَّة؛ كالجاهليَّة الفرعونيَّة، والهنديَّة، واليونانيَّة، والرومانيَّة، والفارسيَّة، وكلها جاهلياتٌ حفِظ التاريخُ وقائعَها، ولدينا بياناتٌ كافية عنها، على أن نُبرزَ نُقطتين هامتين تزيلانِ الغبشَ مِن نفْس الدارس وفكره ومشاعره.



الأولى: أنَّ مظاهرَ الجاهلية تختلِف اختلافًا بيِّنًا من بيئة لبيئةٍ، ومِن عصر لعصر، ولكنَّها تستوي جميعًا في أنَّها كلَّها تجهَل حقيقةَ الألوهيَّة وتتَّبع غيرَ ما أنزل الله.



والثانية: أنَّ أي جاهلية من جاهليات التاريخ لم تخلُ مِن - براعات - بشريَّة في مختلف نواحي الحياة، ولم تخلُ مِن تحقيقِ بعض الخيرِ للناس، ولكن هذا الخير الجُزئي لا يُؤتِي ثمارَه الكاملة في حياةِ الناس، ويَضيع أثرُه في النهاية؛ بسببِ الشرِّ الجوهريِّ الأكبر، وهو رَفْض الهُدى الربَّاني، واتِّباع منهجٍ للحياة غيرِ منهجِ الله، وذلك حتى لا يُفتنَ الدارسُ بمظاهرِ التقدُّمِ العِلمي والعمراني الموجودة في بعضِ الجاهليَّات فيظنَّ مِن أجل ذلك أنَّها ليستْ جاهليَّات! وهذه الفتنة حادثةٌ بالفعل، وبصِفة خاصَّة بالنسبة للجاهليَّة الفِرعونيَّة، والجاهليَّة اليونانيَّة، والجاهليَّة الرومانيَّة، وجاهليَّة القَرن العشرين! بسببِ أنها تُدرَس دائمًا على أنَّها "حضارات"، ولا يُذكَر عنها في أيِّ مرة أنها جاهليَّات! وبسببِ التركيزِ في تلك الدِّراساتِ على جانبٍ واحد مِن حياة الإنسان، هو المتعلِّق بعمارةِ الأرض، دون التنبيهِ إلى المهمَّة الرئيسيَّة للإنسان، وهي عبادة الله؛ ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].



﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162 - 163]، وأنَّ عمارةَ الأرض هي جزءٌ مِن نشاط الإنسان في الأرْض وهدفٌ مِن أهداف حياته؛ ﴿ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61].



ويجب أن نوضِّح: أنَّ الجاهليَّةَ ليستْ محصورةً في عبادة الأصنام ووأدِ البنات، وشُرب الخمر، ولعب الميسِر، وغارات السَّلْبِ والنَّهْب... إنما هذه كلها كانتْ (مظاهر) الجاهليَّة في الجزيرةِ العربيَّة قبلَ الإسلام، أمَّا الجاهليَّة ذاتها فهي الجوهرُ الذي تصدُر عنه هذه المظاهِر، وقد تصدر عنه مظاهرُ مختلفةٌ تمامًا في مكانٍ آخَرَ أو زمان آخَر كما حدَث بالفعلِ خلالَ التاريخ، ولكن الجوهر هو الجوهرُ في جميع الحالات: الجهل بحقيقةِ الأُلوهية، واتِّباع غير ما أنزل الله.



هذا الجوهر هو:

أولاً: حالة عقلية تجهل وتتمسَّك بالخرافة.

ثانيًا: وحالة نفسيَّة ترفُض الاهتداءَ بهُدى الله.

ثالثًا: ووضْع تَنظيميّ سلوكيّ يرفُض اتباعَ منهجِ الله، وهو ظاهرةٌ بشريةٌ تحدُث للبشَرِ في أيِّ مكانٍ أو زمانٍ لا يكون الإسلامُ هو الحَكم في تصوُّرات الناسِ ومشاعرهم وواقِع حياتهم، وليس منحصرًا في زمانٍ ولا مكانٍ ولا بيئةٍ، ولا وضْعٍ اقتصاديٍّ أو اجتماعيٍّ أو سياسيٍّ أو حضاريٍّ معيَّن، فكما أنَّ الإسلامَ يمكِن أن يوجدَ في أي زمان ومكان وبيئة حين يَعبُد الناسُ اللهَ حقَّ عبادته ويتَّبعوا شريعتَه - كما حدَث في واقعِ الأرض على يدِ آدمَ ونوح والنبيِّين من بعده - فكذلك الجاهلية يُمكِن أن توجدَ في أيِّ زمنٍ أو مكان أو بيئة أو وضْع، حين يرفُض الناس الاهتداءَ بهُدى الله ويتَّبعون غيرَ منهج الله[7].



11- كثرة الباطِل وتفشِّيه.



12- الرُّكون إلى الظالمين.



13- مَيل السلطة الدِّينيَّة - إنْ صحَّ التعبير - في كثيرٍ من بلدانِ المسلمين لأهواءِ الحكَّام.



14- التخلُّص منِ ربقة الأوامرِ؛ إذ لا نواهي للجاهليَّة مطلقًا تُنافي هوَى العبد.



15- الضَّرْب على وترِ الحريَّة وما ترغبه النفسُ وتتمنَّاه وتشتهيه.



16- قلب الحقائق:

مثال: في تونس أصْدَر أبو رقيبة الهالك سنة 1421هـ قانونًا بمنْعِ الحجاب وتجريمِ تعدُّد الزوجات، ومَن فعَل فيُعاقب بالسجن سنةً وغرامة مالية! كما أصدر قراراتٍ عدوانيةً على الشريعة، منها: إطلاق الحريَّة للمرأة إذا تخطَّتِ العشرين مِن عُمرها أن تتزوَّجَ بدون موافقةِ والديها، ومعاقبة مَن يتزوَّج ثانيةً بالحلالِ وتَبرئة مَن يُخادن عشرةً بالحرام! وفي مجلَّة العربي نُشِر استطلاع عن تونس وفيه صورةٌ للوحات الدِّعاية المنصوبة في الشوارع في كلِّ ميدان لوحتان، إحداهما تمثِّل أسرة تَرتدي الزيَّ المحتشِم مشطوبةً بإشارة (X)، والأُخرى تمثِّل أسرةً متفرنجةً متبرِّجة ومكتوب عليها (كوني مِثل هؤلاء)؛ ولذا قال الشاعر العراقيُّ محمد بهجت الأثري المتوفَّى سنة 1416هـ - رحمه الله -:




أَبُو رُقِيبَةَ لاَ امَتَدَّتْ لَهُ رَقَبَهْ

لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ يَوْمًا لاَ وَلاَ رَقَبَهْ" [8]








وبناءً على مفهومِ العلمانية فإنَّ التبرُّجَ حضارة، والعُري تقدُّم، والفاحِشة والجِنس حريَّة، أما السِّتر والعفاف فتخلُّف ورجعيَّة!



17- أنَّ العامَّةَ تَنخدِع بمنتهَى البساطة:

وكما تكونُ البساطة أساسًا في أسلوبِ عَرْض قضايا الدعوةِ كذلك تفعَلُ الجاهليةُ في مواجهةِ قضايا الدعوة[9].



فعندَ الصِّراع بيْن الحقِّ والباطل وانتفاشِ الباطل وظهورِه تَنخدِع العامَّةُ بمنتهى البساطة، فالجماهير في ظلِّ الجاهليةِ تتحمَّس لمواقفَ وهميةٍ لزعيمها؛ مما يؤدِّي إلي تضاعُفِ رموز السيطرة في إحساسِ الجماهير، وحقيقة هذا الإحساس الجماهيري في ظلِّ الوضع الجاهلي يكون ممتزجًا بالسذاجةِ المغلَّفة بالمنطق العقلاني، ومِن خِلاله تنطلق دلائلُ نظرية عقليَّة يُمكن نقضُها، ولنضربْ لذلك مثالين:

المثال الأول:قضية النمرود مع إبراهيم - عليه السلام -: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258].



المثال الثاني:قضية فِرعون مع موسى - عليه السلام -: ﴿ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ﴾ [غافر: 36]، وكِلاهما قضيةٌ عقلانيَّة منطقيَّة مطروحة أمامَ الجماهير.



18- انسحاب المسلمين مِن الميدان وتنازلهم عن قيادةِ العالَم:

يقول الإمام/ أبو الحسن الندوي - رحمه الله -: لأسبابٍ تاريخيَّة عقلية، طبيعيَّة قاسِرة، تحوَّلتْ أوربا النصرانيَّة جاهليَّة ماديَّة، تجرَّدتْ مِن كلِّ ما خلَّفته النبوةُ مِن تعاليمَ رُوحية، وفضائل خُلُقيَّة، ومبادئ إنسانيَّة، وأصبحتْ لا تؤمِن في الحياة الشخصيَّة إلا باللذَّةِ والمنفعة الماديَّة، وفي الحياة السياسيَّة إلا بالقوَّة والغَلبة، وفي الحياة الاجتماعيَّة إلا بالوطنيَّة المعتدية وال***يَّة الغاشمة، وثارتْ على الطبيعة الإنسانيَّة، والمبادئ الخُلُقية، وشُغِلتْ بالآلات، واستهانتْ بالغايات، ونَسِيتْ مقصدَ الحياة، وبِجهادها المتواصِل في سبيلِ الحياة وبسعيِها الدائبِ في الاكتشاف والاختبارِ مع استهانتِها المستمرَّةِ بالتربيةِ الخُلُقيَّة وتغذية الرُّوحِ وجُحودها بما جاءتْ به الرسل، وبإمعانها في الماديَّة، وبقوَّتها الهائلة مع فقدان الوازعِ الدِّيني، والحاجِز الخُلُقي، أصبحتْ فيلاً هائجًا، يدوس الضعيف، ويُهلِك الحرث والنسل، وبانسحابِ المسلمين مِن مَيدان الحياةِ وتنازلهم عن قيادةِ العالَم وإمامة الأمَّة، وبتَفريطِهم في الدِّين والدنيا، وجِنايتهم على أنفسِهم وعلى بني نوعهم، أخذتْ أوربا بناصيةِ الأُمم، وخَلَفتهم في قيادةِ العالَم، وتسيير سفينةِ الحياة والمدنية التي اعتزل ربَّانُها، وبذلك أصبح العالَم كلُّه - بأممه وشعوبه ومدنياته - قِطارًا سريعًا تسير به قاطرةُ الجاهليَّة والماديَّة إلى غايتها، وأصبح المسلمون - كغيرهم مِن الأمم - رُكَّابًا لا يَملِكون من أمرهم شيئًا، وكلَّما تقدَّمتْ أوربا في القوَّة والسرعة، وكلَّما ازدادتْ وسائلها ووسائطها، ازدادَ هذا القطار البشريُّ سرعةً إلى الغاية الجاهليَّة حيث النار والدمار والاضطراب والتناحُر والفوضَى الاجتماعي، والانحطاط الخُلُقي، والقَلَق الاقتصادي، والإفلاس الرُّوحي، وها هي أوربا تَستبطئ الآن أسرعَ قِطار، وتُريد أن تصلَ إلى غايتها بسرعة الطائرة، بل بسرعة القوَّة الذريَّة.



وليس على وجهِ الأرض اليوم أُمَّة أو جماعة تُخالِف الأممَ الغربيَّة في عقائدِها ونظرياتها وتُزاحمها في سَيْرها وتُعارِضُها في وجهتِها وتُناقِشها في مبادئها وفلسفتها الجاهليَّة، ونِظام حياتها الماديِّ لا في أوربا ولا في أمريكا، ولا في إفريقية وآسيا، والذي نرَى ونسمع مِن خلاف سياسي ونزاعٍ بيْن الأمم، فإنَّما هو تنافُس في القِيادة، وتنازُع فيمَن يكون هو القائِد إلى هذه الغاية المشترَكة، فدلَّ المحورُ أنها إنما كانت تكره أن يبقَى الحلفاءُ مستبدين بالقيادة العالميَّة منذُ زمَن طويل، مستأثرين بمواردِ الأرْض وخيرتها وأسواقها ومستعمراتها، وبشرَفِ السِّيادة على العالَم وحْدَهم، مع أنَّها لا تقلُّ عنهم في القوَّة والعِلم، والنِّظام والنبوغ والذكاء، بل ربَّما تفوقهم، أما إنَّها كانت تُريد أن تسيرَ إلى غايةٍ أخرى وأن تَقومَ بدعوةِ المسيح، وتُقيم في الأرض القسط، وأن تقودَ الأمم إلى الدِّين والتقوى وتنصرِف بها وتتَّجه من الماديَّة إلى الرُّوحانيَّة والأخلاق، فهيهات هيهات!



أمَّا رُوسيا الشيوعيَّة فليستْ إلا ثَمرَةَ الحضارة الغربية، قد أينعتْ وأدركت، ولا تمتاز عن الشُّعوبِ والدول الأوربيَّة إلا أنَّ روسية قد خلعتْ جلباب النِّفاق والزُّور ونفَّذت ما تزوِّره وتبطنه الأممُ الغربية منذُ زمن طويل، وتَعتقده منذُ قرون في الأخلاق والاجتماع، وقد استبطأتْ روسية سيرَ هاتيك الأمم والدول في سبيلِ الإلحاد واللادينيَّة وال*****َّة والماديَّة البهيميَّة، فهي تُريد أن تتولَّى قيادةَ العالَم، وتسير بالأمم الإنسانيَّة سيرًا حثيثًا إلى ما وصلتْ إليه[10].



ويَجِب تجليةُ حقيقة أنَّ أوربا الجاهلية برزتْ حين ضعُفتِ الأمَّةُ الإسلاميَّةُ وتَخلَّفت عن حقيقةِ الإسلام، وهنا نُقطتان تحتاجانِ إلى إبرازٍ في ذِهن المسلم المعاصر:

1- أنَّ أوربا أُمَّة جاهليَّة بالمصطلح القُرآني مهما بلغتْ مِن التقدُّم العِلمي والقوَّة الماديَّة؛ لأنَّها لا تَعبُد الله حقَّ عِبادته، ولا تُطبِّق المنهج الربَّاني في واقِع حياتها.



2- أنَّ قوةَ أوربا ذات صِلة عكسيَّة بقوَّة الأمَّةِ الإسلاميَّة.



إنَّ هناك وهمًا يسيطر على الأذهان بسببِ قوَّة أوربا الحالية، مفاده: أنَّ أوربا أمَّة حضاريَّة بذاتها متفوِّقة بذاتها، عبقريَّة بذاتها، غلاَّبة بذاتها، وأنَّها كانت قَمينةً أن تبرز وتسيطر وتتمكَّن في الأرض بمزاياها الذاتيَّة بصَرْفِ النظر عن قوَّةِ الأمَّة الإسلاميَّة أو ضعفها!



إنَّ هذا الوهمَ يُنشِئه في نفسِ أوربا الغُرورُ الأوربي المشهور، أمَّا ما يُنشِئه في نفوسِ المسلمين المغلوبين على أمرِهم فهو الهزيمة الداخليَّة تُجاهَ الغرْب، والانبهار الذي تُحدِثه الهزيمةُ الداخليةُ في النفوس، وبمراجعةِ وقائعِ التاريخ يتبيَّن فسادُ هذا الوهم، فماذا كانتْ أوربا قبلَ احتكاكها بالمسلمين؟ وماذا كانتْ قبلَ أن تضعُفَ قوةُ المسلمين وتنقضَّ على العالَم الإسلامي وتنهَب خيراتِه؟!



إنَّ قوةَ أوربا الحالية قد نَشَأتْ مِن هذين الأمرين معًا: فمِن احتكاكها بالمسلمين اكتسبتِ الرغبة في الوجودِ والحياة والحرَكة والعِلم والنهوض، بعدَ أن ظلَّتْ غافيةً غافلةً في ظلِّ الكَنيسة بِضعةَ قرون، ولو كانتْ راقية بذاتها، حضاريَّة بذاتها، عبقريَّة بذاتها، غلاَّبة بذاتها ما قَبِلَتِ الدين المزيَّف الذي قدَّمه لها بولس ابتداءً، ولا استساغتْه، ولا خضعَتْ لظلم الإقطاع وطغيان الكنيسة عشرةَ قرون!! ومِن ضعْف المسلمين- بعد أن تقوَّتْ أوربا بما أخذتْه عنهم مِن عِلم وحَضارة - بدأتْ أوربا تستعمِرُ العالَمَ الإسلامي وتنهبُ خيراتِه، فتضخَّمت ثرواتها، واستطاعتْ بهذه الثرواتِ المنهوبة أن تزدادَ تمكُّنًا في الأرض، وأن تتقدَّم في الأبحاثِ العِلميَّة التي زادتْها بدورها قدرةً على السيطرة والتمكين، وليستِ القوةُ صفةً نابعةً من ذاتها ولا مِن مزاياها الذاتية[11].



هذه بعضُ أسباب انتشارِ مظاهِر الجاهليَّة التي تُخالِف مهمةَ الإسلام وتصادِمه، فمهمَّة الإسلام أن يُحرِّر الناسَ مِن قيودِ الجاهليَّة وجوهرها، نعمْ، مجرَّد التحرير وتلك عمليَّةٌ ضخْمةٌ وشاقَّة، ثم يتركهم يختارون ما يشاؤون، فكان الإسلام يُبيِّن الحقَّ والهدى للناس ويكسِر الحاجزَ الذي أقامتْه الجاهليَّةُ وشيَّدتْه بينهم وبيْن الحقِّ والنور، هذا التحرُّر الكامِل مِن رِبقة الوثنيَّة؛ لكي يختارَ الناسُ بعدَ ذلك بكاملِ حريَّتهم مَن الإله الذي يعبدونه، فإذا بالفطرة تعمل عملَها في النفس البشرية، فتتَّجه مباشرةً إلى الله - جل جلاله - طائعةً مختارة؛ ﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]، فليس في الإسلام ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ﴾ [غافر: 29]، وإنما ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159].



وكما كانتِ الدُّنيا ملأَى بالظلامِ هنالك، فأرسل الله محمدًا فنشَر الضياءَ فمحَى به الظلمةَ، فإنَّ عالَمَنا وإنْ كان فيه صلاحًا فإنَّه يخطو خطواتٍ مسرعةً؛ كي يُملأَ بالفساد كما أخْبَر الصادقُ المعصوم، وعلينا أن نُؤمِنَ بأننا في خيرٍ، ولكن خير فيه دخَن كما قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكذلك الإيمانُ بأنَّنا لسْنا الجيلَ الذي سيأتي النصرُ على يديه وهذا ليس تشاؤمًا ولا بثًّا للتخاذُلِ ولا مسوِّغًا لعدمِ النهوض، ولا تَعجيزًا، ولا إفشاءً للسلبيَّة، وإنَّما هي الحقيقةُ عارية مِن الأحلام الخادِعة، وهذا هو الألَم الذي يعتصِرنا ويَجعلنا نندفِع دفعًا قويًّا للسعي لإنشاءِ جيلِ التمكين.



إنَّ أجيال مرحلةِ القَصْعةِ لا يحقُّ لها أبدًا أن تيئسَ رغمَ مرارةِ الإحساس، وقسوةِ الشعور الرهيبِ الذي يملأ مشاعرَنا بالأسى بأنَّنا نحن جيلٌ مِن أجيال مرحلةِ القصعة، ولا بدَّ أن نكتُبَ هذا حتى يعتصرَ الألَم قلوبَ الأجيال القادمة؛ ليَعملوا على تحقيقِ ما بدأتْه الأجيالُ الماضية، والفارق واضح جدًّا بيْن هذه الأجيال الحالية وبيْن الجيل الذي سيحمل العقابَ في زمَنِ خروجِ المهديِّ، إنَّه المهديُّ الذي سيجيء بالهُدَى يحمل رايةَ العقاب، وتلك هي الإشكالية التي ستبقَى أبدًا، وهي حملُ الناس على الهُدى ولكن بلا إكراهٍ؛ ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256]، فكيف سيحدُث ذلك؟



إنَّ الإجابة عنِ الكيفيةِ سيُجيب عنها الجيلُ الذي ****ِرُ القصعةَ؛ كي يفضَّ الجمعَ مِن حولها ويقتُلَ الخِنزيرَ ويُحطِّمَ الوثنَ ويدقَّ الصليبَ ولا يَقبل إلا الإسلام.



فانظرْ لهذه الغربةِ الشديدة، والوحشة الرَّهيبة التي كان يَحياها العالَم، إذا تأمَّلتها وجدتَ السببَ أنَّ ظلامَ الجاهليَّةِ قد أرْخَى سُدولَه على الدنيا بأسْرِها، ولكن وفي هذه الحِقبة من الزَّمان "والدنيا يسودها ظلامٌ دامس" ولكنَّه ظلامٌ يحمل في طِيَّاته نورًا مرتقَبًا، وأصداء تحمل بُشرى ظُهورِ نبيٍّ جديد، وتتسرَّب أصداءُ هذه البُشرى، وتطرق الأسماعَ والقلوب، حتى بدأَ الكثيرُ مِن أهل مكة يتحدَّثون عن هذا النبيِّ المرتقَب، ويُوصي بعضهم بعضًا: عليكم أن تُسرعوا إلى هذا النبيِّ حالَمَا يظهر، أسرِعوا إليه وآمِنوا به، كلُّ القلوب واجِفة، فالآمال جميعها معقودةٌ عليه.. على خاتمِ المنقِذين"[12].



نعمْ! إنَّه خاتم المنقِذين، فهل عرَفْنَاه وقدرْناه؟ أم أنَّنا ما زِلنا نهتِف بحياته كنوعٍ مِن صدَى المحبة التي تعتمِل في صُدورِنا وتختلج في قلوبنا من غيرِ توقيرٍ حقيقي له؟



لقد كَثُرتِ النبوءات قبلَ بعثة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان الرُّهبان يتشوَّفون، والأحبار يَنتظِرون بشغف بالِغ ذلك القادِمَ الذي سيغيِّر الله على يديه هذا العالَمَ المتصدِّعَ - كما هو الحالُ الآن - الجميع يَنتظر ذلك القادِم الذي يحمل مشعلَ العِزَّةِ والأنَفَة والنخوةِ التي ضاعَتْ في زمنِ الزَّيف والبهتان؛ ليعيدَ مجدًا ضائعًا، وحقًّا مغتصبًا، وليسمع حينَها لنداءِ المؤمنات: أغِثْنَا، ولصرخات الثَّكالى: وإسلاماه!



يقول الشيخ/ أحمد جاد المولى - رحمه الله -: "وقدِ امتازت الفترةُ السابقة لظهورِ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأنَّ العالَم جميعَه قد غشيتْه سحابةٌ كثيفة مِن الشرك والجهل، والرذيلة والظلم، فحلَّ المنكر محلَّ المعروف، وقبَض أهلُ السوء على ناصيةِ الأُمم، وبهذا تجلَّتِ الضرورةُ القاهرة إلى ظهورِ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ مِن سنن الله في الكائنات أن يأتيَ النور بعدَ الظُّلمة، وبالمطر بعدَ المحل، وجرَتْ سُنة الله أيضًا أن يَبعَثَ رسولاً متَى وصَل الانحطاطُ البشريُّ إلى غايته؛ رحمةً بعباده، ورأفة بخَلْقِه"[13]، فكان نبيّ الرحمة ونبيّ الملحمة، خير مِن وطِئ الثَّرَى، وأعزّ مَن مشَى على الأرض، وأشرف مَن أظلَّتِ السماء، حبيب الحقِّ وخليل الرَّحمن، إنَّه محمَّد بن عبدالله - صلَّى الله عليه وسلَّم.



فإذا كان الأمرُ على ما ذكَرْنا، "وكان الإلمامُ بوضعِ العالَم إذ ذاك ضروريًّا، فإنَّ الإلمام بوضعِ الجَزيرة العربيَّة وتصوُّر الحياة فيها من كافَّة نواحيها أكثرُ ضرورةً، بوصْفِها مهدَ الإسلام الأوَّل من جِهة، ومَرْكزَ التجمُّعِ والانسياح مِن جهة أخرى"[14].



وأخيرًا:

فإنَّ الجاهليَّةَ في أصلها مُعاديةٌ للشرائع السماويَّة، ونابذةٌ للدِّين مِن كلِّ وجه، تَصنع منه وقتَ اللزوم وعندَ الحاجة كما قيل مُخدِّرًا للشعوب، وهذا القول يُساوي بيْن الشرائع جميعًا - سماوية وأرضية - وهذا التعميم خطأٌ، ويظهر منه سوءُ القصد وفساد النيَّة، في حين أنَّ تاريخ الدِّينِ الحقِّ كان هو الباعث على نزعاتِ الخير، وهو الذي قاد الإنسانيةَ في تاريخها الطويلِ نحو المُثُل العُليا والمعاني السامية والقِيَم الرفيعة، التي يقوم عليها أيُّ بناء حضاري.



وإلى هنا نكون قدْ وصلنا بتلك المقالاتِ إلى نهايتِها على ما فيها مِن بِضاعة مُزجاةٍ وقِلَّة عِلم، وجُرأة على نشْره، ولكنَّه جهد المقل.



وهذا آخِر الجَمْع في تلك المسألة الهامَّة، فما كان مِن توفيقٍ فمِن الله وحْدَه، وما كان مِن نقْص أو خلل أو تقصير فمنِّي ومِن الشيطان، والله ورسوله منه بَراء، وما أَبرأُ إليكم مِن العثرة والزلَّة، وما أستغني منكم إنْ وقَفْتُم على شيءٍ عن التوجيه والدلالة، ولا أستنكِف مِن الرجوع إلى الصوابِ عن الخطأِ وقد تَعلمتُ أنْ أدورَ مع الحقِّ حيث دار، وأَقيل معه حيث قال، وفوق كلِّ ذِي عِلم عليم.



وآخِر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد الصادق الوعد الآمين، وجزَى الله خيرًا القائمين على (شبكة الألوكة) إذ سمحوا لمِثْلِي أن ينالَ شرفَ الكتابة في هذا الموقِع الرَّفيع القدْر، العظيم الشأن، الكثير النَّفْع، ومِن ثَمَّ إتاحتهم الفرصةَ لظهور مِثل هذه المقالات التي وُلدتْ أشبهَ ما تكون بولادةٍ قيصريَّة عنيفة والتي لم تكُن لترَى النور أبدًا في مكانٍ آخَر في زمنٍ يمهَّد فيه لمظاهرِ الجاهليَّة أن تعودَ وتسود. انتهى.





[1] واقعنا المعاصر، د/ محمد قطب، (ص: 485)، والحديثان رواهما مسلم.




[2] كيف نكتب التاريخ الإسلامي، (ص: 98).




[3] كيف نكتب التاريخ (ص: 64- 65)، بتصرف.




[4] أضواء على دراسة السيرة (ص: 24)، نقلاً من: السيرَة النَّبويَّة للدكتور/ فالح بن محمد بن فالح الصغير، المشرِف العام على شبكة السنة وعلومها.




[5] التفكير فريضة إسلامية، العقاد، (ص: 25).




[6] مقومات التصوُّر الإسلامي، الشيخ/ سيد قطب، دار الشروق، ط3، 1988م، (ص: 46) بتصرُّف وما بين () مِن كلام الشيخ سيد رحمه الله، والأفضلُ أن نقول: الشرائع السماوية.




[7] كيف نكتب التاريخ، (ص43 - 44)، (ص: 45).




[8] حراسة الفضيلة، د/ بكر أبو زيد، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1/ 1427هـ، (ص: 104- 105).

ولنا مثال مشاهد: يَرمي الرويبضةُ مَن يحافظ على صلاةِ الفجر بالتشدُّد لأسبابٍ معروفة! مع أنَّ الأصل الشرعي أن التغيُّبَ عن صلاة الفجر بلا عُذر يُعدُّ نفاقًا، في حين أنَّه في إحدى مسابقاتِ كُرة القدم كانتِ المباريات تظلُّ لقُبيل الفجر بقليل، والجماهير محتشِدة حتى إذا أطلق الحَكَم صفارتَه معلنًا انتهاء المباراة قام الناس أفواجًا، فُرادى وجماعات كل متَّجه إلى بيته، والمؤذِّن يقول: (حي على الصلاة)، أفلا يُعدُّ هذا مغالاةً في التشدد وإمعانًا فيه؟!




[9] التصور السياسي للحركة الإسلامية، رفاعي سرور، (ص: 68 -69).




[10] ماذا خسر العالم بانحطاط المسلين، (ص: 247 - 248).

ملحوظة: يُرجَى الرجوع إلى كتاب - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين - فإنَّه كتاب ماتع، فرِيدٌ في بابه جديرٌ بأن يقرأَه كلُّ مسلم غيور على دِينه محبٍّ له يعمَل على نشْرِه.




[11] كيف نكتب التاريخ، (ص: 219- 220)، يُنظر في تلك المسألة كتاب "رؤية إسلاميَّة لأحوال العالم المعاصر".




[12] النور الخالد (1/21).




[13] محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - المثل الكامِل، الشيخ/ أحمد جاد المولى، (ص: 68) بتصرف.

قلت (أبو شعيب): وهذا الكتاب مِن الكتب القيِّمة التي لم تأخذْ حقَّها في النشر.




[14] في التاريخ فكرة ومنهاج، للأستاذ/ سيد قطب (ص: 49).








رد مع اقتباس
  #10  
قديم 23-06-2015, 09:33 PM
الصورة الرمزية العشرى1020
العشرى1020 العشرى1020 غير متواجد حالياً
مسئول الأقسام العامة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 18,483
معدل تقييم المستوى: 34
العشرى1020 has a spectacular aura about
افتراضي

اللهم صل وسلم وبارك عليه
شكرا جزيلا وبارك الله فيك
رد مع اقتباس
  #11  
قديم 28-06-2015, 12:13 PM
Nourymaya Nourymaya غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Feb 2015
المشاركات: 25
معدل تقييم المستوى: 0
Nourymaya is on a distinguished road
افتراضي

بارك الله فيك يا اخي
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 01:07 AM.