اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > محمد نبينا .. للخير ينادينا

محمد نبينا .. للخير ينادينا سيرة الحبيب المصطفى بكل لغات العالم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-06-2015, 06:04 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي القرآن المصدر الأول للسيرة


القرآن المصدر الأول للسيرة(1)
مصادر السيرة (القسم الثالث)


د. محمد بن لطفي الصباغ




سبَقَ أنْ ذكرْنا أنَّ مصادر السيرة ثلاثة، هي: الكتاب، والسُّنة، وكُتب السِّيرة، وما زِلنا نتحدَّث عن المصدر الأول.وفي الكتاب الكريم ذِكرٌ لبشريَّة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو بَشرٌ مثلُنا، ولكنَّه يوحَى إليه؛ يَمْرض ويُعَافَى، وينام ويَصْحو، ويَحزن ويفرَح، ويَغضَب ويَرضى؛ قال - تعالى -: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴾ [الكهف: 110].وقال - تعالى - يأمرُه أن يقولَ للمشركين الذين طلبوا منه أن يأتيَ بأمور: ﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 93]، ذلك في الآيات التالية:﴿ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء : 90 - 93].وذَكَر كتاب الله أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - شهيدٌ على هذه الأُمَّة؛ قال - تعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41].وذَكَر كتابُ الله أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يعلم الغيبَ ولا يعلم ما يُفْعَل به، وأنَّه لا يَملِك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا؛ قال - تعالى -: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 188].وأمَرَه الله أنْ يُقرِّرَ للناس أنَّ شأْنَه شأن الرُّسل من قَبْله؛ لا يدري ما سيكون، ولا يدري ما يُفْعَل به ولا بالآخرين، وأنه نذيرٌ مُبين؛ قال - تعالى-: ﴿ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الأحقاف: 9].وذَكَر كتابُ الله أنَّ فضْلَ الله على رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عظيمٌ؛ فقد أنْزَلَ عليه الكتاب والْحِكْمة، وعَلَّمه ما لَم يكنْ يعلم؛ قال - تعالى -: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113].وهذه الحقيقة يعرفها قومُه الذين عاشَ بينهم، فما كان يعرِف شيئًا ممَّا أوحَى الله به إليه؛ قال - تعالى -: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 49].وذَكَر كتابُ الله أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان حريصًا على أنْ يستجيبَ الناس لدعوته، وأنَّه كان يتألَّم من إعراضهم عن دعوته، وكانت الآيات تتنزَّل لمواساته والتخفيفِ من حُزنِه، من نحو قوله - تعالى -: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6].ومن نحو قوله - سبحانه -: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 3].ومن نحو قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾ [المائدة: 41].ومن نحو قوله: ﴿ وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [لقمان: 23 - 24].ومن نحو قوله: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33].ومن نحو قوله - تعالى -: ﴿ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ﴾ [الأنعام: 35]؛ أي: فافعلْ، والمعنى: أنَّك لا تستطيع ذلك، فاصبرْ حتى يَحكُم الله.وذَكَر القرآن أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - كان مأمورًا بالدعوة إلى الله، وأنَّه كان قائمًا بها؛ قال - تعالى -: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ﴾ [الرعد: 36].وقال - سبحانه -: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94].وقال: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المؤمنون: 73].وقال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [الأحزاب : 45 - 48].وذَكَر كتاب الله أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد يتعرَّض للنسيان، فهو بشرٌ: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 68].وقال - سبحانه -: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ [الكهف: 24].وقد ذَكَر كتابُ الله - تعالى - أمورًا كثيرة عن حياته البيتيَّة والعائليَّة، فقد قرَّر القرآنُ إبطالَ نظام التبنِّي الذي كان معمولاً به في الجاهليَّة، بل إنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تبنَّى مولاه زيدًا، فصار يُدعَى: "زيد بن محمد"، وأَبَى أنْ يفارِقَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى أهله في قصَّةٍ رائعة وردتْ في كُتب السُّنَّة؛ إذ اختار زيدٌ أنْ يبقَى مع سيده محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولَم يرضَ أن يكونَ مع أبيه وعمِّه، فعندئذٍ أعتقَه وظلَّ يُدْعَى بزيد بن محمد، حتى نزل قولُه - تعالى -: ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ﴾ [الأحزاب: 4 - 5].وقوله - سبحانه -: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 40].وأرادَ الله أنْ يُبْطِل التبنِّي إبطالاً عمليًّا، فزوَّج رسولَه زينبَ مُطلَّقة زيدٍ؛ لكيلا يكون على المؤمنين حَرَجٌ في أزواج أدعيائهم إذا انقَضتْ عِدَّتهنَّ؛ قال - تعالى -: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37].


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 02-06-2015, 06:06 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

القرآن المصدر الأول للسيرة(2)
د. محمد بن لطفي الصباغ



مصادر السيرة (القسم الرابع)

وقد ذكَر كتابُ الله آياتٍ كثيرةً في موضوع الجهاد، وفي جهاده - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - سيِّد المجاهدين، وذكَر القرآن عددًا من غزواته.
ومن المفيد أنْ أنقل إلى القرَّاء الكرام الفصلَ الذي كتَبَه الإمام ابن القيِّم - رحمه الله - في "زاد المعاد"[1] قال:
"أوَّل ما أوحى إليه ربُّه - تبارك وتعالى - أنْ يقرأ باسمِ ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمرْه إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1 - 2] فنبَّأه بقوله: ﴿ اقْرَأْ ﴾ [العلق: 1]، وأرسله بـ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴾ [المدثر: 1].
ثم أمَرَه أنْ يُنذِرَ عشيرتَه الأقربِين، ثم أنذَر قومَه، ثم أنذرَ مَن حَوْلَهُم مِن العرب قاطبةً، ثم أنذَرَ العالَمِين، فأقام بِضْعَ عشرة سنة بعد نبوَّته يُنذِرُ بالدعوة بغير قِتال ولا جِزية، ويُؤمَر بالكفِّ والصبرِ والصَّفح.
ثم أُذِنَ له في الهجرة، وأُذِنَ له في القتال، ثم أمَرَه أنْ يُقاتِلَ مَن قاتَلَه، ويَكُفَّ عمَّن اعتَزَله ولم يُقاتله، ثم أمَرَه بِقتالِ المشركين حتى يكونَ الدِّينُ كُلُّه لله.
ثم كان الكفارُ معه بعد الأمرِ بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صُلح وهُدنة، وأهل حرب، وأهل ذمَّة، فأُمِر بأنْ يتمَّ لأهل العهد والصُّلح عهدَهم، وأن يُوفِي لهم به ما استَقامُوا على العهد، فإنْ خافَ منهم خِيانةً، نبَذَ إليهم عهدَهم، ولم يُقاتِلْهم حتى يُعْلِمَهم بِنَقْضِ العهد، وأُمِرَ أنْ يُقاتِل مَن نقَض عهده.
ولَمَّا نزَلتْ سورة "براءة" نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمره فيها أنْ يُقاتِلَ عدوَّه مِن أهل الكتاب حتى يُعطوا الجزيَة، أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجِهَادِ الكُفَّارِ والمنافقين والغِلظة عليهم، فجاهَدَ الكفار بالسيفِ والسِّنانِ، والمنافقين بالحُجَّةِ والبَيان.
وأمره فيها بالبراءة من عُهُود الكفَّار، ونبذ عُهودهم إليهم، وجعَل أهلَ العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قِسم أمَرَه بقتالهم، وهُم الذين نقضُوا عهدَه، ولم يستقِيموا له، فحاربهم وظهر عليهم، وقسم لهم عهد مُؤقَّت لم يَنقُضُوه، ولم يُظاهِروا عليه، فأمَرَه أنْ يُتِمَّ لهم عهدَهم إلى مدَّتهم، وقسم لم يكن لهم عهدٌ ولم يُحارِبُوه، أو كان لهم عهدٌ مطلق، فأمر أنْ يُؤجِّلهم أربعة أشهر، فإذا انسَلخَتْ قاتلَهُم...
فقاتَل الناقضَ لعهده، وأجَّل مَنْ لا عهد له، أو له عهدٌ مطلق أربعة أشهر، وأمَرَه أنْ يُتمَّ للموفي بعهده عهدَه إلى مدَّته، فأسلَمَ هؤلاء كُلُّهم، ولم يُقيموا على كُفرهم إلى مدَّتهم، وضَرَبَ على أهل الذِّمة الجِزية".
ثم قال ابن القيِّم:
"فاستقرَّ أمرُ الكفَّار معه بعد نزول "براءة" على ثلاثة أقسام: محارِبينَ، وأهلِ عهد، وأهلِ ذِمة، ثم آلَتْ حالُ أهل العهد إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محارِبين، وأهل ذِمَّة، والمحاربون له خائفون منه"[2].
عن عبدالله بن عمر - رضِي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أُمِرت أنْ أُقاتِل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إلهَ إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، ويُقِيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعَلُوا ذلك عصَمُوا مني دِماءهم وأموالهم إلا بحقِّها وحسابهم على الله - تعالى))؛ رواه البخاري برقم 25، ومسلم برقم 32.
فهذا نصٌّ قاطعٌ على أنَّ الجهادَ شُرِع لتبليغ رسالة الله - جلَّ جلاله - لا لشيءٍ آخَر.
هذا، وقد وقَفتُ على كلامٍ في هذا الموضوع، كلام جيِّد للعلاَّمة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن بن باز - رحمه الله - يحسن أنْ أورد مُقتَطفات منه، قال - رحمه الله -:
"... ثم أنزَلَ الله بعد ذلك آية السيف في سورة براءة، وهي قوله - جلَّ وعلا -: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 5].
قال العلماء - رحمة الله عليهم -: إنَّ هذه الآية ناسخةٌ لجميع الآيات التي فيها الصَّفحُ والكفُّ عن المشركين، والتي فيها الكف عن قتال مَن لم يُقاتِل، قالوا: فهذه آية السيف، هي آية القتال، آية الجهاد، آية التشمير عن ساعد الجد وعن المال والنفس لقتال أعداء الله؛ حتى يَدخُلوا في دين الله، وحتى يَتُوبوا من شِركِهم ويُقِيموا الصلاة ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعَلُوا ذلك فقد عصَمُوا دماءَهم وأموالهم إلاَّ بحقِّ الإسلام.
هذا هو المعروف في كلام أهل العلم من المفسِّرين وغير المفسِّرين، كلهم قالوا - فيما علمنا واطَّلعنا عليه من كلامهم -: إنَّ هذه الآية وما جاء في معناها ناسخةٌ لما مضى قبلَها من الآيات التي فيها الأمرُ بالعفو والصَّفح وقتال مَن قاتل والكف عمَّن كفَّ.
ومثلها قوله - جلَّ وعلا - في سورة الأنفال: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39]، ومثلها قوله - جلَّ وعلا - في سورة براءة بعد ذلك: ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 36].
ومثلها قوله - جلَّ وعلا -: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29]"[3].
وقال الشيخ ابن باز أيضًا:
"أَّما قول مَن قال بأنَّ القتال للدِّفاع فقط، فهذا القول ما علمتُه لأحدٍ من العُلَماء القُدامى، أنَّ الجهاد شرع في الإسلام بعد آية السيف للدِّفاع فقط، وأنَّ الكفار لا يُبدَؤون بالقتال، وإنما يشرع للدِّفاع فقط!"[4].
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على عَبدِه ورسولِه محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] "زاد المعاد" 3/158 وما بعدها من الطبعة التي حقَّقها الأرناؤوطيانِ.
[2] "زاد المعاد" 3/160.
[3] "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" 3/188-189.
[4] مجموع فتاوى الشيخ ابن باز 3/196.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 02-06-2015, 06:07 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

القرآن المصدر الأول للسيرة(3)
د. محمد بن لطفي الصباغ


مصادر السيرة (القسم الخامس)


وممَّا يتَّصل بسِيرة رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع أزْواجه ذكَر كتاب الله عِتابًا رقيقًا للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إشارةً إلى حادثةٍ وقعت، ونتَج عن ذلك أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - حرَّم على نفسه ما أحلَّ الله ابتِغاءَ مَرضاة أزواجه.
واختَلفَت الرِّوايات في هذا الذي حرَّمَه على نَفسِه: أهو شُرب العسل عند إحدى الزَّوجات، أو تحريم سَرِيَّته مارية؟
روى البخاري ومسلم[1] عن عائشة - رضِي الله عنها - أنها قالت: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يشرَبُ عسَلاً عند زينب بنت جحش ويمكث عندها، فتَواطَأتُ أنا وحفصة على أيَّتنا دخَل عليها فلتَقُل: أكَلتَ مَغافِير[2]، إنِّي أجد منك ريح مغافير، قال: ((لا، ولكنِّي كنتُ أشرب عسَلاً عند زينب بنت جحش فلن أعود له، وقد حلَفتُ فلا تُخبِري به أحدًا)).
فهذا ما حرَّمَه على نفسه وهو حلالٌ له، لأنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يشتدُّ عليه أنْ يُوجَد منه الريح، كما جاء في حديث عائشة عند مسلم.
وهناك رواية أخرى[3] فَحواها أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أصاب مارية في بيت حَفصَة، فلمَّا علمتْ بذلك وجَدتْ وغَضِبتْ غضبًا شديدًا، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألاَ ترضين أنْ أحرمها فلا أقربها؟))، قالت: بلى، فحرَّمها وقد استَكتَمها ذلك، ولكنَّها حدَّثَتْ عائشة، فأنزل الله: ﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ﴾ [التحريم: 3 - 5].
وذكَر كتاب الله عناية الله برسوله ورعايته له وتأديبه له؛ فقد أدَّبَه ربُّه فأحسَنَ تأديبه، والله أعلمُ حيث يجعَلُ رسالته، وأمَرَه - سبحانه - بالتواضُع لِمَن اتَّبَعَه من المؤمنين والاستِغفار لهم، وبالعفو عنهم، وأمَرَه باستِشارتهم وبالتوكُّل عليه، وأمَرَه بالصبر على ما يَلقَى في سبيل الدَّعوة إلى الله، وأمَرَه بتلاوة القرآن، وبعِبادة الله وحدَه، وبالتقوى، وحذَّرَه من طاعة الكفار والمنافقين.
قال - تعالى -: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴾ [الشعراء: 214 - 217].
وقال - سبحانه -: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
وقال - جلَّ جلالُه -: ﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [النمل: 91 - 92].
وقال - تعالى -: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
وقال - سبحانه -: ﴿ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 58 - 60].
وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [الأحزاب: 1 - 3].
وقال - تعالى -: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الأحقاف: 35].
وقال - تعالى -: ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يونس: 109].
وقال - جلَّ جلاله -: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 127 - 128].
وقال: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ [الطور: 48].
[1] البخاري برقم: 4912، ومسلم برقم: 1474.
[2] المغافير: صمغ حلو الطعم كريه الرائحة.
[3] انظر في هذا: "تفسير الطبري"، و"الدر المنثور" 6/239-240.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 02-06-2015, 06:08 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

القرآن المصدر الأول للسيرة(4)
د. محمد بن لطفي الصباغ


مصادر السيرة - القسم السادس


وقد ذكَر كتابُ الله آياتٍ كثيرةً في موضوع الجهاد، وفي جهاده - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - سيِّد المجاهدين، وذكَر القرآن عددًا من غزواته.
ومن المفيد أنْ أنقل إلى القرَّاء الكرام الفصلَ الذي كتَبَه الإمام ابن القيِّم - رحمه الله - في "زاد المعاد"[1] قال:
"أوَّل ما أوحى إليه ربُّه - تبارك وتعالى - أنْ يقرأ باسمِ ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمرْه إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1 - 2] فنبَّأه بقوله: ﴿ اقْرَأْ ﴾ [العلق: 1]، وأرسله بـ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴾ [المدثر: 1].
ثم أمَرَه أنْ يُنذِرَ عشيرتَه الأقربِين، ثم أنذَر قومَه، ثم أنذرَ مَن حَوْلَهُم مِن العرب قاطبةً، ثم أنذَرَ العالَمِين، فأقام بِضْعَ عشرة سنة بعد نبوَّته يُنذِرُ بالدعوة بغير قِتال ولا جِزية، ويُؤمَر بالكفِّ والصبرِ والصَّفح.
ثم أُذِنَ له في الهجرة، وأُذِنَ له في القتال، ثم أمَرَه أنْ يُقاتِلَ مَن قاتَلَه، ويَكُفَّ عمَّن اعتَزَله ولم يُقاتله، ثم أمَرَه بِقتالِ المشركين حتى يكونَ الدِّينُ كُلُّه لله.
ثم كان الكفارُ معه بعد الأمرِ بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صُلح وهُدنة، وأهل حرب، وأهل ذمَّة، فأُمِر بأنْ يتمَّ لأهل العهد والصُّلح عهدَهم، وأن يُوفِي لهم به ما استَقامُوا على العهد، فإنْ خافَ منهم خِيانةً، نبَذَ إليهم عهدَهم، ولم يُقاتِلْهم حتى يُعْلِمَهم بِنَقْضِ العهد، وأُمِرَ أنْ يُقاتِل مَن نقَض عهده.
ولَمَّا نزَلتْ سورة "براءة" نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمره فيها أنْ يُقاتِلَ عدوَّه مِن أهل الكتاب حتى يُعطوا الجزيَة، أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجِهَادِ الكُفَّارِ والمنافقين والغِلظة عليهم، فجاهَدَ الكفار بالسيفِ والسِّنانِ، والمنافقين بالحُجَّةِ والبَيان.
وأمره فيها بالبراءة من عُهُود الكفَّار، ونبذ عُهودهم إليهم، وجعَل أهلَ العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قِسم أمَرَه بقتالهم، وهُم الذين نقضُوا عهدَه، ولم يستقِيموا له، فحاربهم وظهر عليهم، وقسم لهم عهد مُؤقَّت لم يَنقُضُوه، ولم يُظاهِروا عليه، فأمَرَه أنْ يُتِمَّ لهم عهدَهم إلى مدَّتهم، وقسم لم يكن لهم عهدٌ ولم يُحارِبُوه، أو كان لهم عهدٌ مطلق، فأمر أنْ يُؤجِّلهم أربعة أشهر، فإذا انسَلخَتْ قاتلَهُم...
فقاتَل الناقضَ لعهده، وأجَّل مَنْ لا عهد له، أو له عهدٌ مطلق أربعة أشهر، وأمَرَه أنْ يُتمَّ للموفي بعهده عهدَه إلى مدَّته، فأسلَمَ هؤلاء كُلُّهم، ولم يُقيموا على كُفرهم إلى مدَّتهم، وضَرَبَ على أهل الذِّمة الجِزية".
ثم قال ابن القيِّم:
"فاستقرَّ أمرُ الكفَّار معه بعد نزول "براءة" على ثلاثة أقسام: محارِبينَ، وأهلِ عهد، وأهلِ ذِمة، ثم آلَتْ حالُ أهل العهد إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محارِبين، وأهل ذِمَّة، والمحاربون له خائفون منه"[2].
عن عبدالله بن عمر - رضِي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أُمِرت أنْ أُقاتِل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إلهَ إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، ويُقِيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعَلُوا ذلك عصَمُوا مني دِماءهم وأموالهم إلا بحقِّها وحسابهم على الله - تعالى))؛ رواه البخاري برقم 25، ومسلم برقم 32.
فهذا نصٌّ قاطعٌ على أنَّ الجهادَ شُرِع لتبليغ رسالة الله - جلَّ جلاله - لا لشيءٍ آخَر.
هذا، وقد وقَفتُ على كلامٍ في هذا الموضوع، كلام جيِّد للعلاَّمة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن بن باز - رحمه الله - يحسن أنْ أورد مُقتَطفات منه، قال - رحمه الله -:
"... ثم أنزَلَ الله بعد ذلك آية السيف في سورة براءة، وهي قوله - جلَّ وعلا -: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 5].
قال العلماء - رحمة الله عليهم -: إنَّ هذه الآية ناسخةٌ لجميع الآيات التي فيها الصَّفحُ والكفُّ عن المشركين، والتي فيها الكف عن قتال مَن لم يُقاتِل، قالوا: فهذه آية السيف، هي آية القتال، آية الجهاد، آية التشمير عن ساعد الجد وعن المال والنفس لقتال أعداء الله؛ حتى يَدخُلوا في دين الله، وحتى يَتُوبوا من شِركِهم ويُقِيموا الصلاة ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعَلُوا ذلك فقد عصَمُوا دماءَهم وأموالهم إلاَّ بحقِّ الإسلام.
هذا هو المعروف في كلام أهل العلم من المفسِّرين وغير المفسِّرين، كلهم قالوا - فيما علمنا واطَّلعنا عليه من كلامهم -: إنَّ هذه الآية وما جاء في معناها ناسخةٌ لما مضى قبلَها من الآيات التي فيها الأمرُ بالعفو والصَّفح وقتال مَن قاتل والكف عمَّن كفَّ.
ومثلها قوله - جلَّ وعلا - في سورة الأنفال: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39]، ومثلها قوله - جلَّ وعلا - في سورة براءة بعد ذلك: ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 36].
ومثلها قوله - جلَّ وعلا -: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29]"[3].
وقال الشيخ ابن باز أيضًا:
"أَّما قول مَن قال بأنَّ القتال للدِّفاع فقط، فهذا القول ما علمتُه لأحدٍ من العُلَماء القُدامى، أنَّ الجهاد شرع في الإسلام بعد آية السيف للدِّفاع فقط، وأنَّ الكفار لا يُبدَؤون بالقتال، وإنما يشرع للدِّفاع فقط!"[4].
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على عَبدِه ورسولِه محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] "زاد المعاد" 3/158 وما بعدها من الطبعة التي حقَّقها الأرناؤوطيانِ.
[2] "زاد المعاد" 3/160.
[3] "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" 3/188-189.
[4] مجموع فتاوى الشيخ ابن باز 3/196.
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 02-06-2015, 06:09 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

القرآن المصدر الأول للسيرة(5)
د. محمد بن لطفي الصباغ


الجهاد بالقرآن


سلسلة مصادر السيرة - القسم السابع


أمَر الله - عزَّ وجلَّ - عبدَه ورسولَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالجهاد في سبيله بالقُرآن، وبالحجَّة والبَيان، وبالسيف والسِّنان، وأمَرَه أيضًا أنْ يُحرِّض المؤمنين على القِتال في سبيل الله.
قال - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [التوبة: 73، التحريم: 9].
وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً ﴾ [النساء: 84].
أي: فقاتِلْ يا محمدُ في سبيل الله، لا تُكلَّف إلا نفسك؛ أي: فلا تهتم بتخلُّفهم عنك، قاتِلْ ولو وحدَك، فإنَّك موعودٌ بالنصر، وحرِّض المؤمنين وحثهم على القتال[1]؛ فهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُكلَّف بالقتال ولو كان وحدَه، وقال - عزَّ مِن قائل -: ﴿ فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52].
قال سيد قُطب - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: "وإنَّ في هذا القُرآن مِن القوَّة والسُّلطان، والتأثير العميق، والجاذبية التي لا تُقاوَم - ما كان يهزُّ قلوبهم هزًّا، ويُزَلزِل أرواحَهم زلزالاً شديدًا؛ فيُغالِبون أثره بكلِّ وسيلةٍ، فلا يستَطِيعون إلى ذلك سبيلاً.
ولقد كان كُبَراء قريش يقولون للجماهير: "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلَّكم تغلبون"، وكانت هذه المقالة تدلُّ على الذُّعر الذي تضطرب به نُفُوسهم ونفوسُ أتباعهم من تأثير هذا القُرآن؛ وهم يرَوْن هؤلاء الأتْباع كأنما يُسحَرون بين عشيَّة وضُحاها مِن تأثير الآية والآيتين، والسورة والسورتين، يتلوهما محمد بن عبدالله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتَنقاد إليه النُّفوس، وتهوى إليه الأفئدة.
ولم يقلْ رُؤَساء قريش لأتْباعهم هذه المقالة، وهم في نجوةٍ من تأثير هذا القُرآن، فلولا أنهم أحسُّوا في أعماقهم هزَّة روعتهم، ما أمروا هذا الأمر، وما أشاعُوا في قومهم بهذا التحذير، الذي هو أدلُّ من كلِّ قولٍ على عُمقِ التأثير!
وإنَّ في القُرآن من الحقِّ الفطري البسيط لما يَصِلُ القلبَ مباشرةً بالنبع الأصيل، فيَصعُب أنْ يقفَ لهذا النبع الفوَّار، وأنْ يصدَّ عنه تدفُّق التيَّار، وأنَّ فيه من مشاهد القيامة، ومن القصص، ومن مشاهد الكون الناطقة، ومن مصارع الغابِرين، ومن قوَّة التشخيص والتمثيل - لما يهزُّ القلوب هزًّا لا تملك معه قَرارًا، وإنَّ السورة الواحدة لَتهزُّ الكيان الإنساني في بعض الأحيان، وتأخُذ على النفس أقطارها ما لا يأخُذه جيشٌ ذو عدَّة وعَتاد!
فلا عجب مع ذلك أنْ يأمُر الله نبيَّه ألاَّ يطيع الكافرين، وألاَّ يَتزحزَح عن دَعوته، وأنْ يُجاهِد بهذا القرآن، فإنما يُجاهِدهم بقوَّة لا يقفُ لها كيان البشر، ولا يثبت لها جِدال أو محال"[2].
وفي سورة بَراءة أمَر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنْ يُجِير مَن يستَجِيره من المشركين حتى يَسمَع كلام الله؛ قال الله - تعالى -: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 6].
وإنَّ قصَّة الطُّفَيل بن عمرو الدوسي[3] دليلٌ على أثَر هذا القُرآن في نُفُوس مَن يَعِيه ويتدبَّره.
إنَّ علينا أنْ نُقدِّم هذا القُرآن المؤثِّر للناس جميعًا بالأُسلوب الموصل إلى الهداية، وهذه مهمَّةٌ تُواجِه العُلَماء المتذوِّقين للبَيان القرآني السامي، وللكُتَّاب الموهوبين، أنْ يُقدِّموا هذا القرآن للناس؛ فما أشدَّ حاجةَ الإنسانيَّة إليه!
هذا، وفي القرآن ذكرُ عددٍ من الغزوات التي ندرسها في السِّيرة النبويَّة التي أوردت تفاصيلها، ولا شكَّ أنَّ أوثق مصادرها وأهمها كتاب الله، الذي لا يَأتِيه الباطل من بين يديه ولا من خَلفِه.
وسأشير في هذه الدراسة إلى بعض ما ورَد في القرآن بشأن هذه الغزوات المباركات التي كانت سببًا في نشْر هذا الدِّين العظيم، حتى عمَّ الكون كلَّه، وساد حكمُه الدنيا المعمورة.
ومعلومٌ أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما كان يُقاتِل قومًا إلا بعد أنْ يدعوهم فيأبوا.
لقد كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدعوهم إلى ما كان يُحيِيهم ويُسعِدهم في الدنيا والآخرة، يدعوهم إلى كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله)، وإلى الإيمان بهذا الدِّين العظيم، وفي استِجابتهم مصلحتُهم وإنقاذُهم من العيش في ظُلُمات الشِّرك والشقاء، والبؤس والظُّلم، يدعوهم إلى إقامة حياة قائمة على العدل والتوحيد والسعادة، يدعوهم إلى ما ينقذهم في الآخِرة من عذاب الجحيم المقيم؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴾ [الانفطار: 13 - 16].
لقد أُمِرَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالجهاد، فامتَثَل أمرَ ربِّه، وجاهَد في سبيل الله حقَّ الجهاد، وبلَّغ رسالةَ ربِّه بإخلاصٍ وصدقٍ وتَفانٍ، ودخَل الناسُ في دِين الله أفواجًا، وتابَع حمل الأمانة خُلَفاؤه الراشدون من بعده، وانتَشَرَ الإسلامُ في العالم المعمور.
﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ [التوبة: 120].
فالمؤمنون مُطالَبون أنْ يكونوا عَوْنًا لإمامهم، وفَّقَنا الله إلى ما يُرضِيه، والحمدُ لله ربِّ العالَمين.

[1] انظر: "تهذيب الجلالين"؛ لمحمد بن لطفي الصباغ في تفسير هذه الآية.
[2] "في ظلال القرآن" 5/2571 - 2572، ط الشروق.
[3] انظرها في: "سيرة ابن هشام" 2/22 - 24، وفي رسالة "من صفات الداعية" ص 14 - 17.



رد مع اقتباس
  #6  
قديم 02-06-2015, 06:10 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

القرآن المصدر الأول للسيرة(6)
د. محمد بن لطفي الصباغ


مصادر السيرة (القسم الثامن)


إنَّ غزوة بدر[1] كانتْ فُرقانًا بين الحقِّ والباطل، وكانت المعركة التي تحقَّقت بها العِزة للإسلام ولِحَمَلته وأتباعه، لقد انتصرتْ فيها القلَّة المؤمنة على الكثرة الكافرة بإذن الله، ويَنطبق عليها مضمون ما ذكرَتْه الآية الكريمة الآتية:
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 12- 13].
نعم، إنَّ في ذلك لعِبرةً لأولِي الأبصار والبصائر.
فلننظُر خبرَ هذه الغزوة العظيمة في كتاب الله - عزَّ وجلَّ - قال الله - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 123 - 126].
قال ابن إسحاق[2]:
"فلمَّا انقضَى أمرُ بدرٍ، أنزَل الله - عز وجل - فيه من القرآن الأنفال بأسْرها، فكان مما نزَل منها في اختلافهم في النَّفْل حين اختلفوا فيه: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 1].
فكان عُبادة بن الصامت - إذا سُئِل عن الأنفال يقول: فينا - معشر أهل بدر - نزلتْ حين اختلفنا في النَّفْل يوم بدر، فانتزَعه الله من أيدينا حين ساءتْ فيه أخلاقُنا، فردَّه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقسَمه بيننا عن بَوَاء - يقول على السواء - وكان في ذلك تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وصلاح ذات البَيْن.
وقد ذكَر الله - سبحانه - مسيرَ القوم مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين عرَف القوم أنَّ قريشًا قد ساروا إليهم يريدون الحرب والقضاءَ على الرسول ودينه، وهم خرجوا يريدون العِير طمعًا في الغنيمة، فقال: ﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴾ [الأنفال: 7].
وتُصوِّر السورة حالَ المسلمين في قوله - تعالى -: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 9 - 10].
وجاء في السورة أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رمَى المشركين بالحَصْباء من يده، فقال - تعالى -: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17].
وفي السورة أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأى في مَنامه أنَّ الكفار قليلون، وهذا من لُطف الله بنبيِّه؛ ﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ﴾ [الأنفال: 43].
ومرَّة أخرى أراكَهم عند اللِّقاء قليلين؛ ليَقضِي الله أمرًا فيه الخير؛ قال - تعالى -: ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ﴾ [الأنفال: 44].
وفي السورة ذكرٌ للأَسْرى ومُفاداتهم، فقد استشارَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أصحابه فيما يفعل بالأسرى، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يا رسول الله، قد كذَّبوك وقاتَلوك وأخرجوك، فأرى أنْ تُمَكِّنني من قريبي فلان، فأضرب عُنقه، وتُمكِّن حمزة من أخيه العباس، وعليًّا من أخيه عَقيل... وهكذا؛ حتى يعلمَ الناس أنَّه ليس في قلوبنا مودَّة للمشركين، أرى أن تضرب أعناق هؤلاء الأسرى؛ حتى لا يُدبِّروا المخَطَّطات لقتالك.
وقال أبو بكرٍ - رضِي الله عنه -: يا رسول الله، هؤلاء أهْلك وقوْمك، قد أعطاك الله الظَّفرَ والنَّصر عليهم، أرى أنْ تستبقيَهم وتأخذ الفِداء منهم، فيكون ما أخذْنا منهم قوَّةً لنا على الكفَّار، وعسى الله أنْ يهديَهم بك، فيكونوا لك عَضُدًا.
فمالَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى رأْي أبي بكرٍ - رضي الله عنه - وشرَع أقارب الأسرى يسارعون في مُفاداة الأسرى، ومَن لَم يكنْ معه فِداء - وهو يُحسن القراءة والكتابة - أعطاه المسلمون عشرة من غِلمان المدينة يُعلِّمهم، وكان ذلك فِداءه؛ رواه الإمام أحمد[3]، فنَزَل قوله - تعالى -: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنفال: 67 - 69].
والسورة كما قُلنا كلها نزلتْ في هذه الغزوة، وفيها أحكام عِدَّة، والحمد لله ربِّ العالمين.
[1] انظر رسالتنا "يوم الفرقان يوم بدر"، طبع المكتب الإسلامي، 1410هـ/ 1989م.
[2] سيرة ابن هشام، 2/322.
[3] "المسند"، 4/ 247 بإسنادٍ صحيح، وانظر: "البداية والنهاية"، ط هجر، 5/256، وانظر كتابنا: "الحديث النبوي"، ص41.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 02-06-2015, 06:11 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

القرآن المصدر الأول للسيرة(7)
د. محمد بن لطفي الصباغ




مصادر السيرة (القسم التاسع)

ذكَر كتاب الله غزوة أُحدٍ في سورة آل عمران مُفصَّلة ممزوجة بتعليقات وتوجيهات[1]، وقد خصَّها الكاتب الإسلامي سيد قطب في كتابه "الظلال" بحديثٍ رائع يدلُّ على تذوُّقٍ لحديث القرآن عنها، وقد استَغرَق حديثُه عنها ثمانين صفحة من طبعة دار الشروق من ص454 إلى صفحة 534 من القطع الكبير.
ذكَرت السورة كيف كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُبوِّئ المؤمنين مقاعدَ للقتال: ﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 121].
وذكرتْ كيف همَّتْ طائفتان من المسلمين أنْ تجبُنا عن القتال، وتتَّبعَا عبدالله بن أُبَي بالرجوع عندما رجَع بثُلُث الجيش، وهما: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، ولكنَّ الله - تبارك وتعالى - ثبَّتهما وبَقِيَتا مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 122].
وقد ذكَّر الله المسلمين بنصره إيَّاهم يومَ بدر، فقال: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران: 123].
وذكَّر رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله للمسلمين في يوم بدر: ﴿ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 124 - 126].
وبيَّن - تبارَك وتعالى - أنَّ المؤمنين هم الأعلون؛ سواء انتصروا أو هُزِموا، فأنزَل بمناسبة هزيمة المسلمين في أُحدٍ قولَه - سبحانه -: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 139، 140].
وبيَّن - جلَّ جلاله - أن الهزيمة كانتْ بسببٍ من عندهم؛ قال - تعالى -: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 165].
كانت بسبب مخالفة فريق من الرُّماة وصيَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ألاَّ يَبْرحوا مكانهم، ولكنَّهم لَمَّا رأوا انتصار المسلمين واندحار المشركين، ذهبوا لجمْع الغنائم، فنَهاهم أميرُهم، وذكَّرهم بوصية رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم يرجِعوا؛ قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 152].
أقول: إنَّ هذه المعصية التي قامَ بها فريقٌ من الصحابة مُتأوِّلين، وكانتْ عن اجتهاد؛ إذ رأوا النَّصر بأعينهم، فغادَرُوا المكان، ولَم تكنْ عن تعمُّدٍ للمعصية، ومع ذلك فقد كانت العقوبةُ، وعمَّ أثرُها جميع المسلمين، فماذا نقول عن العُصاة الآن الذين يعصون مُجاهرين متعمِّدين؟
وذكَر كتاب الله مقولةَ المنافقين المنسحِبين من المعركة، الذين قال لهم المؤمنون: تعالَوا قاتِلوا في سبيل الله، فقالوا: لو نعلم قتالاً لأتيناكم:
﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴾ [آل عمران: 166، 167].
وأشارتْ آية في سورة آل عمران إلى أنَّ أجْر الذين استجابوا لدعوة الرسول عظيمٌ، وذلك عندما دعا إلى ملاحقة المشركين بعد انتهاء المعركة، والآية هي كما جاء في صحيح البخاري 4077 عن عائشة - رضي الله عنها -: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 172].
قالت لعُروة: يابن أختي، كان أبَوَاك منهم - الزبير وأبو بكر - لَمَّا أصابَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما أصاب يومَ أُحد، وانصرَف عنه المشركون، خافَ أنْ يرجعوا، فقال: ((مَن يذهب في إثرهم))، فانتدبَ منهم سبعون رجلاً، قالت: كان فيهم أبو بكر والزبير.
وذكر أصحاب السِّيَر في تفصيل هذا الحديث أنَّ أبا سُفيان ومن معه أجمعوا الرَّجعة إلى المدينة، فلمَّا عَلِم بذلك رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لمعبد الخزاعي الذي أسْلمَ حديثًا: ((الْحَقْ أبا سفيان وخَذِّله عنَّا))، فلَحِق به بالرَّوْحاء، ولَم يعلمْ بإسلامه، فقال أبو سفيان: ما وَراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه، قد خرجوا في جمعٍ لَم يخرجوا في مثله، وقد نَدِم مَن كان تخلَّف عنهم من أصحابهم، فقال أبو سفيان: والله لقد أجْمعنا الكرَّة عليهم؛ لنستأصلَهم، فقال معبد: فلا تفعلْ؛ فإنِّي لك ناصح، فرَجعوا على أعقابهم إلى مكة.
وذكَر كتاب الله كيف فرَّ عددٌ من المسلمين والرسولُ يدْعوهم، وهم ماضون في الفرار؛ قال - تعالى -: ﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ﴾ [آل عمران: 153].
ولَمَّا أشاعَ الكفار أنَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد قُتِل وفَزِع المسلمون وتفرَّقوا، نزَل قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144].
وأودُّ أنْ نمرَّ مرورًا سريعًا على بعض ما جاء في كتاب الله من الحديث عن بعض الغزوات الأخرى:
غزوة بني النضير: كانتْ في السنة الرابعة للهجرة، فقد كان بين المسلمين وبين يهود بني النضير معاهدة يأمَن بها كلٌّ منهم الآخَر، ولكنَّ بني النضير غدروا وحاوَلوا قتْلَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندما جاء إليهم، فلمَّا اطَّلَع - صلَّى الله عليه وسلَّم - على قصْدهم، رجَع وتَبِعه أصحابه، وأمرَ اليهود بالخروج من هذا البلد؛ بسبب الغَدْر الذي ظهر منهم، فلمَّا تهيَّؤوا للخروج، قال لهم المنافقون: لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم؛ قال - تعالى -: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [الحشر: 11 - 12].
فجلسوا في بيوتهم، وتحصَّنوا في حصونهم، وظنُّوا أنها مانِعَتهم من الله، فحاصَرهُم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسألوه أنْ يُجليهم ويكفَّ عن دمائهم، وأنَّ لهم ما حملتِ الإبل إلاَّ آلة الحرب، فوافَق - صلَّى الله عليه وسلَّم - على طلبهم، ثم نزَل في هذه الغزوة حُكم الفيء: ﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ... ﴾ [الحشر: 7].
وفي غزوة بني المصطلق - وكانت في السنة الخامسة -: نزلتْ سورة المنافقين التي ذَكرتْ قول رأس النفاق: ﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 7 - 8].
وفي هذه الغزوة كانتْ حادثة الإفك التي نزَل فيها قرآن يُبرِّئ أمَّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها وأرضاها.
وغزوة الأحزاب - وكانتْ في السنة الخامسة -: سُمِّيَتْ سورة من القرآن باسمها، وفي هذه السورة تفصيل لأحداث الغزوة، فمن ذلك قوله - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مسؤولاً * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ [الأحزاب: 9 - 27].
وغزوة الحديبية - وكانتْ في السنة السادسة -: ذكَرَتْها سورة الفتح، ومن ذلك: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18].
وغزوة حُنين - وكانت في السنة الثامنة -: وكانتْ بعد فتْح مكة، وجاء ذكرُها في سورة براءة؛ قال - تعالى -: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ* ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 25- 27].
وهكذا يتبيَّن لنا أنَّ كتاب الله هو المصدر الرئيس لسيرة هذا النبي الكريم، وهو أوْثق المصادر وأَوْلاها بالتقديم.
نسأل الله أنْ ينفعنا بقراءة القرآن وتدبُّر آياته، والعمل بها، والدعوة إلى معانيه، والحمد لله ربِّ العالمين.


[1] انظر: "دروس من غزوة أُحد"؛ للدكتور عبدالعزيز كامل.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 02-06-2015, 03:03 PM
الصورة الرمزية عبدالرازق العربى
عبدالرازق العربى عبدالرازق العربى غير متواجد حالياً
مشرف عام ادارى للمرحلة الابتدائية
 
تاريخ التسجيل: May 2010
المشاركات: 4,454
معدل تقييم المستوى: 19
عبدالرازق العربى is on a distinguished road
افتراضي

جزاكم الله خيرا
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 01:06 PM.