|
التنمية البشرية يختص ببناء الانسان و توسيع قدراته التعليمية للارتقاء بنفسه و مجتمه |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
خصائص وأهداف النظام الاجتماعي في الإسلام
ورقة عمل مقدمة للمشاركة في ندوة
مقرَّرات الثقافة الإسلامية بين واقعها والمتغيرات التي تنظمها كلية التربية بجامعة الملك فيصل بالأحساء خلال الفترة 27 - 28 / شوال 1426 هـ الموافق 29 - 30 / نوفمبر 2005 م د. عبدالمحسن بن عبدالعزيز الصويغ المقدمة: إن الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على محمدٍ عبدِ الله ورسولِهِ، أرسله الله بالهدى ودين الحق، خاتمًا للرسالات السماوية الكريمة، ومُتِمًّا علينا النعمةَ العظيمة، وهادينا إلى التي هي أقوم في كل أنظمة الحياة ومجالاتها، ومنها النظام الاجتماعيُّ؛ حيث إن الحياة لا يصلح أن تكون فرطًا بلا نظام، ولا أن تكون عبثًا بلا هدف ولا غاية: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، وفي هذا البحث سنتبين خصائص النظام الاجتماعي وأهدافه في الإسلام، وهو مرتب على مبحثين: المبحث الأول: خصائص النظام الاجتماعي في الإسلام. المبحث الثاني: أهداف النظام الاجتماعي في الإسلام. وهذا البحث يؤكِّد أهمية المادة المقدمة لطلاب جامعة الملك سعود (102سلم) (الإسلام وبناء المجتمع)؛ حيث إن هذا الموضوع يهدُف إلى تأكيد ما اهتمَّت به اللائحة الرئيسة للتعليم في المملكة؛ حيث نصت على أن الثقافة الإسلامية مادة أساسية في جميع سنوات التعليم في الجامعة، وأكدت على تأهيل الشباب لشؤون الحياة، ومن ذلك الحياة الأسرية والاجتماعية. المبحث الأول خصائص النظام الاجتماعي في الإسلام إن الإسلام العظيم الذي اختاره الله صبغةً للمؤمنين، فيه من جوانب العظمة والرحمة واليُسر ما لا يمكن حصرُهُ، وفي الجانب الاجتماعي منه خصائصُ عدَّةٌ، سنقف على تفصيلها بما يُبَيِّن ويُوضِّح مميزاتِ النظام الاجتماعيّ في الإسلام، مع العلم بأن الحياة في الإسلام مترابطة لا انفصال فيها، ولا تضارُب بين جوانبها؛ بل هي بكل جوانبها متداخلة، ومتكاملة، ومتناسقة مع الفِطرة التي فطر الله الناس عليها، وهذا التناسق والانسجام مع الفطرة يُكسِب الحياة إشراقًا ونورًا، وبهجةً لا تتأتَّى إلا في هذا المنهج العظيم، والصِّبْغَةِ الكريمة، والسبيل القويم الذي أنزله الخالق الرحيم؛ ولذا فإن أول خصائص النظام الاجتماعي في الإسلام ما يلي: أولاً: أنَّه نِظامٌ رباني: نظام ربَّانيٌّ بكلياته وجزئياته، قد شرع الله فيه للإنسان كلَّ جوانب الخير، وهو أعلم وأحكم، فالذي أحكمَ الخلق وأتمَّه، أنزل التشريع وأتمَّه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وفي النظام الاجتماعي في الإسلام جاءت التوجيهات الإلهية، والرعاية الربَّانيَّةُ لكل جوانب حياة الفرد والأسرة، والجماعة والأمة؛ قد سمع الله سبحانه مناجاة امرأة مؤمنة، ومجادَلَتَها في حاجة من حوائجها، فكيف بحاجات المجتمع والأمة؟! ففي هذا النظام الاجتماعي تتجلى رحمة الله، ويظهر لُطفه بخلقه، وفي الآيات القرآنية التي تُبَيِّنُ القواعد والآداب الاجتماعية وغيرها، تكتمل النعمة والمِنَّة الإلهية على البشرية بالهداية لها في سبيل حياتها، بعد نعمة الخلق والإكرام. وكم هي الخسارةُ للإنسانية إذا أبعدت عن هذه النعمة!! وكم هي الشقاوة الاجتماعية والنفسية إذا أعرضت عن خالقها العالم بها، واللطيف بها!! {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. وذلك أن الناس فقراءُ إلى ربهم، إلى فضله ورِزقه، وإلى هَدْيه وشرعِهِ؛ فلا غِنى لنا عن رِزقه، ولا غنى لنا عن شرعِهِ وهَدْيه، وفي اتباع هَدْيه سعادةُ الدنيا والآخرة، وفي الاستمتاع برزقه تَنَعُّم في الدنيا، لا يتم إلا باتباع هَدْيه، الذي يحقق الغاية التي من أجلها خُلِقْنَا، وبها كرامتُنا. ولذا ربطتِ الآياتُ الكريمة بين الأمرين في قول الله - جل وعلا -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذريات: 56 - 58]. وقال - جل وعلا -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] فما أعظَمَ مِنَّةَ الخالق علينا بالخلق والإبداع! وما أعظَمَ المِنَّةَ علينا بالوحي الكريم! فلم يَكِلْنا إلى أنفسنا؛ بل أنزل علينا هَدْيَهُ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] والناس اليوم في شؤون حياتهم لا يتَّجِهون فيما صنعوا إلا إلى الخُبراء بتلك الأجهزة، فلا يتوجَّهون بالسؤال عن مشاكل السيارات إلا إلى وَكالات تلك السيارات، والمتخصصين فيها، ولا يتَّجهون بأبدانهم إلا إلى الأطباء المتخصِّصين، ولا يرجعون إلا إلى الكُتُب والكتالوجات التي أصدرها المصنع الرئيس، وهم يُقِرُّون بأن الله هو الخالق وَحْدَهُ، فما لهم لا يرجعون إليه، وهو العالم بما صنع وأبدع؟! وكم هو التخبُّط والفساد المتوقَّع في بُعدهم عن خالقهم ومبدِعهم سبحانه! أما الملاحدة الذين ينكرون وجود الخالق سبحانه -: فإن وجودهم يَرُدُّ عليهم، وفِطرتهم تَرُدُّ عليهم، وعقولهم وأرواحهم وأبصارهم التي لا يرونها تَرُدُّ عليهم، فما كل شيء يُرَى، وما كُلُّ شيء يُحكَم عليه بحاسَّة النظر؛ بل هناك حواسُّ أخرى نتعرَّف بها، ونُثبت في كُلِّ حاسَّة ما هو دليل موصِّل إليه، فالرائحة الجميلة نثبتها عن طريق الشَّمِّ، وليس المقام قابلاً للتوسُّع في رَدِّ باطلهم. والناس إذا أَهْدَى لهم مُحبٌّ ناصح هديَّةً تشرَّفوا بها، فما أعظَمَ الشَّرَفَ بهَدِيَّة رب العالمين الكريمِ الرحيم! وما أعظَمَ الإفسادَ ممن يصُدُّ عن ذلك، ويدعو إلى مناهجَ بشريةٍ، وقوانينَ وضعيةٍ لا تخلو من التعسُّف، ولا تحمى حق المغفَّلين من كَيْد الماكرين والمبطِلين! وفي ربانية النظام الاجتماعيّ في الإسلام تتحقق الطُّمأنينة من جوانبها المتعددة، الطمأنينة المنبعثة منَ الثقة بالله، والاستغناءِ به عن كل ما سواه، فما أعظَمَ سُكونَ القلوب إلى الله! وما أكثَرَ وَحْشَتَها في البُعد عنه! الطُّمأنينة المنبعثة منَ الحق، وأنها على الحق المبين، بلا تَرَدُّد ولا شكٍّ ولا حَيْرة، والحقُّ في النظام الاجتماعي في الإسلام، وفي التشريع كلِّه لا يُلابِسُه باطلٌ، وليس له ضحايا، وليس فيه تفريط بالحق بأي جُزْئيَّة من جُزْئيَّاته: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1] {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43]، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، وأما ما كان من عند غير الله، فلا يَسْلَم منَ الباطل والنقص البشريِّ، ولا ينفصل عنه ذلك. فالطمأنينةُ المنبثقة من هذه الخاصّيَّة طمأنينةٌ راسخة على أصولٍ ثابتة؛ كشجرة طيبة، أصلها ثابت، وفرعها في السماء. ثانيًا: أنَّه نظامٌ تَعَبُّدِيٌّ: تتمّ فيه الأعمال الصالحة استجابةً لأمر الله، وتكون فيه المبادرة إلى الإحسان لوجه الله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان: 9]، ولا تكون مبادَلَةُ المنافعِ المادّيَّة العاجلة هي الدافعَ؛ بل هي من فضل الله الذي يمتزج مع العبادة بمعناها الشامل، إن الإسلام لا يَعُدُّ العبادة فيه مجرَّدَ إقامة الشعائر؛ إنما الحياة كلُّها خاضعة لشريعة الله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163]. فالحياة بكل أنظمتها ونشاطاتها متوجِّهة إلى الله، ومن ثَمَّ فإن كلَّ خدمة اجتماعية، وكلَّ عمل من أعمال البِرِّ والصلة والخير عبادةٌ لله سبحانه. وفي هذه الخَاصّيَّة يتحقَّقُ في النّظام الاجتماعيِّ لذَّةُ الاحتساب الذي يجدها كل مخلِصٍ، ويَسْعَدُ بها كُلُّ تَقِيٍّ، وتُكْسِب الأعمال سُمُوَّ الأهداف فوق مطامع الدنيا المحدودة، إلى ابتغاء الدار الآخرة، وهي خيرٌ وأبْقَى، التعبُّد لله وحده لا شريك له يُضفي على الأعمال الاجتماعية كلِّها رُوحًا لا تجدها في غير الإسلام، فلا تجد في الرأسمالية مكانًا للإحسان، وهذه الخاصية تدعو إلى الاستمرار في العمل، مهما كانت ردود الفعل عند المحسَن إليهم؛ فالمقاصد سامية، ولا تقف عند حدود المجازاة والمكافأة من البشر؛ لأن المحسِن يرجو ما هو أكبر مما عند البشر، يرجو رضوان الله والجنة، فما أعظم الغاياتِ! وما أسْمَى النّيَّاتِ المتَّجِهَةَ إلى الله! وتِلك هي الغاية العظيمة التي حدَّدها الله سبحانه للحياة بكل جوانبها، وخاصيَّة التعبُّد الذي يحقِّق الأمان في الدّنيا بكلِّ معانيه على النفس، وعلى الدين، وعلى الأموال، وعلى العقول، وعلى الأعراض، وعلى كُلِّ ما يؤثِّر على المجتمع، وعلى الأحياء. ثالثًا: أنه نظام متوازن: فالنظام الاجتماعيّ في الإسلام تَتَوازَنُ فيه حقوقُ المرأة وحقوق الرجل، حقوق الفرد وحقوق الجماعة، وحقوق المجتمعات فيما بينها:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، تتوازن فيه متطلَّباتُ الإنسانِ العاطفيَّةُ والعقليَّةُ، ومُيُولُهُ ورغباتُه الجسديةُ والروحيةُ، فلا يطْغَى جانبٌ على حِساب جانب، فَتَبَارَك اللَّهُ رَبُّ العالمين، الذي أنعم علينا بهذا التشريع الميسَّر، والنظام الاجتماعي الكريم. وكم وَجَدْنَا ورَأَيْنا في تجارِب البشر من طُغيانِ جانبٍ على غيره! ففي الرأسمالية يَكْدَحُ العُمَّالُ والمجتمَع؛ ليجْنِيَ أصحابُ رَأْسِ المال، ويشقَى الأكثرُ ليَسْعَدَ الأقلُّ، وفي ظِلِّ الشُّيُوعيَّة يُكبَت الفرد بدعوى مصلحة الجماعة، وتُحجَب عنه معظم تطلُّعاتِه، ويُسحق في إرادته للجماعة، وما الجماعة إلا الأفراد! فالنّظام الاجتماعي في الإسلام نظامٌ مُتوازنٌ في مصالحه كلها؛ فلا يسحق الفرد باسم الجماعة، ولا تُهدر مصالح الجماعة لمصلحة فردٍ أو حِزْبٍ أو فِئَةٍ، ومتوازِنٌ في متطلبات الإنسان الرُّوحيَّة والعقليَّة والجسميَّة؛ فلا إهدار فيه ولا إفراط، ولديَّ الشواهدُ الكثيرة على هذا التوازن في النظام الاجتماعي في حياة الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، والأُمَّة المسلمة؛ لكن الاختصار المطلوب في هذه الورقة يَحُول دون تَفْصِيلها، وسوف نَبْسُطُ فيها القول في كتاب مفصَّل بهذا العنوان، إن شاء الله تعالى. ومن ذلك قول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228]، وقول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] وغير ذلك من الآيات الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، التي تمثل قواعدَ اجتماعيةً تُحَقِّق التوازُن في الحياة الإنسانية، توازُن متقن، ولا غرابة في إتقان هذا التوازن، وهو من عند خالق السماء، التي لا ترى فيها نقصًا مهما أَعَدْتَ النظر وكررته، فهكذا النظام في الإسلام مهما أَعَدْتَ النظر، فلن تجد فيه من نقصًا ولا فطورًا، لا في نظامه الاجتماعي، ولا السياسي، ولا الاقتصادي، فالذي قَدَّر كلَّ شيء، وأتقن في الخلق، قَدَّر وأكمل التقدير في النظام الذي حدده لهذا الخلق وهذه الحياة، فتبارك الله رب العالمين، وفي هذه الخاصية يتحقَّق العدل الذي تتطلع إليه البشرية دائمًا، العدل الحقيقي بأبعاده الشاملة، وتطبيقاته الكاملة في حضارة الإسلام الخالدة من حياة الصحابة - رضي الله عنهم - والسلف الصالح، ومَنْ بَعْدَهُم. رابعًا: أنه نظام متكامل: النّظام الاجتماعي في الإسلام يقوم على التَّكامُل بين الأفراد، الذَّكَر والأنثى كلٌّ له رسالة محدَّدة يُكمِّل بعضهم بعضًا، والناس بمجموعهم تقوم حياتهم على التكامل لا على الصراع، تقوم على أن يُحِبَّ الفرد المسلمُ لأخيه ما يحب لنفسه، فهم كالبُنيان، وكالجسد الواحد يُكمِّل بَعْضُهم بعضًا، الغَنِيُّ مع الفقير تقوم حياتهم على التكامل والتكافل؛ لا على الحسد والتباغض والصراعِ الطبقيِّ المَقِيت الذي يظهر في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة، وأيضًا التكامل في المهمات المتعدِّدَة، والمناشِط والمواهب الإنسانية التي يُكمِّل بعضها بعضًا، فلا يمكن للفرد أن يصنع لنفسه كلَّ حاجاته؛ ولكن الجماعة في الإسلام يتحقَّق في رحابِها جميعُ معاني التكامل في الحياة، والتكافل الذي يحقِّق مصالح الدنيا والآخرة. والتَّكامُل في هذا الجانب يُمَيِّز النظامَ الاجتماعيَّ في الإسلام، ويحقِّق قُوَّة الترابط بين أفراد المجتمَع، على أساسٍ من التقوى التي تُزكِّي علاقة المسلم بربِّه، وتُنَمِّى علاقة المسلم بأخيه المسلم، وبمجتمعه وأُمَّته. ومن هذه الخاصية تتحقَّقُ الأُخُوَّة، التي هي رابطة المؤمنين الوثيقةُ؛ كما قال - جل وعلا -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وفَضْل الأخوة والتفصيل فيه مبسوط في كتاب "فقه الأُخُوَّة في الإسلام" للدكتور علي عبدالحليم محمود، والأُخُوَّة في الله هي اللَّبِنَة الأولى في بناء المجتمع؛ كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تأسيس المجتمع المسلم في المدينة المنورة، وهي الطريق الواضح لبناء المجتمع المسلم في كل وقْتٍ وحين، الأُخُوَّة الإيمانيةُ التي لا يعرف ذاتها إلا مَن عايشها، ولا يعرف أبعادَها إلا مَن سابَقَ فيها، كيف لا وهي تقوم على الحُبِّ في الله، بِجَمالِه وعاطفته وبَهائِهِ، مع سُمُوِّ القصد فيه؟! الحبُّ القائم على الإيمان بالله ما أَجْمَلَهُ وما أصفاه! خامسًا: أنه نظام شامل ميسَّر: فالنظام الاجتماعيّ في الإسلام نظام شامل لمصالح المسلم؛ مِن خَلْقه جنينًا في بطن أُمِّه إلى مماته وما بعد مماته، يحفظ الحق له، ويرتب المصالح المتعددة بتناسُق وتضافُر. شامل في إحسانه لجميع جوانب الحياة، وما خلق الله فيها من الكائنات؛ ففي كل كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ، شاملٌ لكل الأحوال التي تطرأ في حياة الفرد والأسرة والمجتمع، فلكل حال حُكْمها المناسب لها، سواء كان ذلك الشمول بنصٍّ مباشر من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو بقاعدة كليَّةٍ من قواعد التشريع المعتبَرَة، شاملٌ بروحه الميسرة وبعده عن الحَرَج، ونماذجُ هذا الشمول كثيرة وواسعة، نذكر منها الابتسامة المشرِقة في وجه أخيكَ إلى الإيثار والتضحية بأكمل معانيها، نذكر منها إماطة الأذى عن الطريق إلى تحريم كلِّ أذًى من الغِيبة والنميمة، وغيرها من المؤثرات على الحياة الاجتماعية. قال أبو الأعلى المودوديُّ - رحمه الله -: "وهذه الأحكام المتعلِّقة بالمعروف والمنكَر شاملة لجميع شُعَب حياتنا من العبادات الدينية، وأعمال الأفراد ومسيرتهم، وأخلاقهم وعاداتهم، وآدابهم في الأكل والشرب، والجلوس والقيام، واللِّباس والكلام، والشؤون العائلية والصِّلات الجماعية..." وذكر بقية شؤون الحياة الاقتصادية والسياسية والإدارية، فما هناك شُعبة من شُعَبِ الحياة إلا تناولتها الشريعة، وأوضحَتْ لنا فيها الخير منَ الشر، والطاهر منَ الخبيث، والصحيحَ منَ الفاسد، فهي تُعْطِينا صورةً كاملة لنظام صالح للحياة، وتبيِّن لنا بكل تفصيلٍ ما هي الحسنات التي يجب أن نُقِيمَها ونحرِصَ عَلَيْها، وما هي السيئات التي يجب أن نعمل على مَحْوِها، وهي صورة متكاملةٌ مُتشابِكَةٌ مُترابِطة، لا يصح أن يؤخذ بعضها ويُتركَ البعض، ولا أن يُمزَجَ معها ما ليس منها، وما هو غريب عنها. فلابد من أن تقيموها كاملةً متعانقة، ولم يرسُمها لتأخذوا أيَّ جزء أعجبكم من أجزائها وتقيموه حيث أردتم، سواء كانت معه بقية أجزائها أو لم تكن، إن كل جزء من هذه الصورة للحياة في الإسلام مرتبطٌ بسائر أجزائها. ("نظرية الإسلام وهديه" ص: 158 - 160). يتبع |
#2
|
||||
|
||||
ورقة عمل مقدمة للمشاركة في ندوة مقرَّرات الثقافة الإسلامية بين واقعها والمتغيرات التي تنظمها كلية التربية بجامعة الملك فيصل بالأحساء خلال الفترة 27 - 28 / شوال 1426 هـ الموافق 29 - 30 / نوفمبر 2005 م د. عبدالمحسن بن عبدالعزيز الصويغ المبحث الثاني أهداف النظام الاجتماعي في الإسلام بعد أن تعرَّفْنَا على خصائص النظام الاجتماعي في الإسلام، وأنه منهج ربَّانيٌّ تَعَبُّدِيٌّ، متوازِن، متكامِل، شامل، ميسَّر، قد جاءت فيه الأحكام لكل تفاصيل الحياة الأسرية والاجتماعية بأحوالها العادية، وأحوالها الطارئة –: لا بد من معرفة أهداف النظام الاجتماعي ومقاصده؛ حتى تتضح الغايات العامَّة، والغايات الخاصَّة من كليات هذا النظام وجزئياته. ومعرفة الأهداف لها أهميَّة بالغة في التطبيق، ولها أهميَّة بالغة في الوقاية، وفي المبادرة، وفي الرعاية لكل المصالح التي تهدُف إليها، الوقاية من كل المخاطر التي قد يتعرض لها المجتمَع، والمبادرة إلى المقاصد التي عُنِيَ بها الإسلام، والرعاية لكل جزئيات المصالح التي قَصَدَها في تشريعه، وقد استقرأتُها واستقصيتُها، وهي كما يلي: أولاً: تحقيق السكن: السَّكَن النفسيّ والحسيّ وال***يّ والعاطفيّ، السَّكَن بكلِّ معانيه التي امتَنَّ الله بها فكان ذلك آيةً: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]. هذا السَّكَن الذي لا يتحقق أبدًا في العلاقات المحرَّمَة، الممزوجةِ دائمًا بالخوف والقلق، وسوء العاقبة؛ فمشاعِرُ الزُّناةِ والزواني متضاربة ساقطة، ومشاعر الأزواج ساكنة منسجمة سامية. ("الزواج في ظل الإسلام"، ص26). السَّكن الَّذي يَلُمُّ شَعَثَ النفس، ويحقق لها الاستقرار، ويحقِّق لها السِّتْرَ الكامل؛ كستر اللِّباس للجسد {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]، فحاجة النفس إلى الزواج كحاجتها إلى السكن واللباس الظاهر. وبدون نظام الإسلام تتحقَّق الفوضَى ال***يَّةُ، التي تُسَبِّبُ ال*** غالبًا، وتُسَبِّب التَّشَرُّد الأُسْرِيَّ والاجتماعيَّ؛ فتَعُمُّ الفوضى في الحياة كلها. وبِهذا السكن يُكمِّل كل واحد من الزوجين الآخَرَ، ويكمل شَطْرَ دِينه، فلْيتقِ اللهَ في الشطر الآخَر، فالرجل لا يبلغ كماله الإنسانيَّ إلا في ظل الزواج، وكذلك المرأة؛ فلا رَيْب أن الزواج فيه من سكينة النفس إلى شريك الحياة، ما يُعِين على العِفَّة والحصانة الخُلُقِيَّة، وما يتَّفِق مع الفِطرة، ويُحَصِّنُها ويقيها من مزالق الشهوات والشبهات. ثانيًا: تحقيق المودة: المودَّة التي تنمِّي في النفس مكارم الأخلاق، المودة الَّتي تهيئ المحْضِنَ السليم لتربية الأجيال، المودَّة التي تصنع الأبطال، فمن الأُسَر المؤمنة والنساء الصالحات تخرَّج الأفذاذ في حضارة الإسلام الممتدَّة عبر الأزمان، وليس مثلُ الزواج والبناء في تحقيق هذه المودة بين الزوجين وبين العوائل وبين القبائل {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، كما أن المودة بين جميع أفراد المجتمع المسلم هدفٌ كريم كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ، كمَثَلِ الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاعَى له سائرُ الجَسَد)). المودَّة التي ينبثق منها السلام في الحياة، والسلام مطلبٌ مهمٌّ؛ بانبساطه وانتشاره يتحرك الإنسان، ويسعى في ابتغاء فضل الله، وبانعدامه تضعف العلاقات. ثالثًا: تحقيق الرحمة: الرحمة التي تتعطَّش لها النفس، الرحمة التي كتبها الله على نفسه سبحانه، الرحمة التي جَمَّلَ بها الحياةَ كلها، حياة الإنسان وحياة الحيوان، الرحمة التي اشتق منها الرَّحِم، الذي يتواصل به البشر، الرحمة التي لا غِنَى لِلفَرْدِ عنها من أُمِّه الحنون في طُفولَتِه وصِغَرِه، إلى الرحمة له في شَيْخُوخَتِه وكِبَرِه مِن كلِّ مَن حَوْلَه من أبنائِه وبناتِه وأحْفَادِه، ومَن فَقَدَ الرحمةَ فَقَدْ حُرِم شيئًا لا يُعوِّض عنه غيرُه. وتحقيق الرحمة بين المسلمين سبيلٌ إلى رحمةِ الله الكبرى لهم يوم القيامة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الراحمون يَرْحَمُهُمُ الرحمنُ))، الرحمة التي تكون بين الزوجين، وتتفرَّع بعد ذلك في أبنائهم وشؤون حياتهم، فَمَشاعِرُ الزَّواج تُورِث الرحمةَ والحبَّ، وسُمُوَّ النفس، وحياةَ الضمير والقلب، فهي مشاعر فيَّاضة في العطاء والنماء. ومشاعر الأُبُوَّة والأُمُومة تُورث الرحمة التي تفيض من الفطرة، وتَسقي الحياة كلها بالدفء والحنان للأجيال؛ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]. الرحمة التي تُكسِب الحياة بهجة، وتمنحها انطلاقة وحيوية وسعادة. رابعًا: تحقيق الحق: الحقُّ الذي لا معنى للحياةِ بِدُونِه، حقُّ الله - سبحانه وتعالى - وحدَهُ لا شريك له، وحقّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ومحبَّته وما جاء به، وحق الوالدين ووصية الله فيهما، وحقّ الزوجة، وحقّ الزوج، وحقّ الأبناء، وحقّ ذوي القربى، وحقّ الجار، وحقّ المسكين، وحقّ ابْنِ السبيل، وحقّ الصديق، وحقّ الأخوة في الله لكل المؤمن، وحقّ الضيف، وحقّ كل ذي حقّ، والتَّواصي على الحقّ والصبر عليه {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]، وقد شَمِل النظام الاجتماعيّ في الإسلام جميعَ جوانِبِ الحَقّ، وحثَّ على جميع الوسائل الموصِّلة إليه، في ما لا يتَّسع المقام لبَسْطِهِ هنا؛ ومثالُ ذلك: الحقّ بين الزوجين، عليه تقوم العِشْرَةُ بالمعروف بين الزوجين؛ كما نصَّتْ عليه الآية الكريمة: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228]، وقوله - جل وعلا -: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، فالحق والمعروف هو أساس العِشْرة في حياة المجتمع الحقّ، ومجتمع التقوى، وعلى التقوى يكون البناء الأقوى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109]، فالحق هو الحياة، والباطل هو الهلاك. خامسًا: تحقيق التكافل الاجتماعي: فمن خلال اللَّبِنات الأُسْرِيَّة، ومن خلال العلاقات القوِيَّة يتكوَّن المجتمَع، وأقوى رابط يَرْبِط هذه اللَّبِنات هو التَّكافُل والتعاون على البِرِّ كلِّه، وعلى الخير كلِّه، وعلى تحقيق غاية الخلق، وهي تقوى الله وطاعته، فالتكافل الاجتماعي هدف في النظام الاجتماعي والاقتصادي في الإسلام، به تَقْوَى العلاقات وتنمو الحياة، فهناك تكافل بين الفرد وأسرته، وبين الأسرة والأسرة غيرها، وبين الأسرة والجماعة، وتكافُل بين الجماعات، وتكافُل بين الشعوب والأمم، وكل ذلك في جهد تَعَبُّدِيٍّ يَرْتَقِى بِالفَرْدِ والجَماعَةِ، فالفَرْدُ حارِسٌ لِمَصْلَحَتِه ومصلحة الجماعة، والجماعة حريصةٌ على كُلِّ المصالح العامَّة والخاصَّة، فَهُمْ في سفينةٍ واحدة؛ بل هم كالجسد الواحد، وقد جاءَتْ تفصيلاتُ ذلك مُرَتَّبَةً ومُوَضَّحة في هذا النظام، ومن ذلك أن ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائمِ الليل، الصائمِ النهار))؛ متفق عليه. ومظاهر التكافل الاجتماعي في الإسلام كثيرة، لا يتَّسع المَجالُ هُنا لتَفْصِيلِها؛ ولكن من ذلك ركن الإسلام الثالث الزكاة، ومصارفها الثمانية، والنفقة الواجبة للوالدَيْنِ، والزوجة، والأبناء، وحقّ ذَوِي القُرْبَى، ورعاية الجار، وإكرام الضَّيْفِ، وَقَدْ جاءَتِ النُّصوصُ النَّبَوِيَّة الكريمة مؤكدة على ذلك. ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيّما أهل عَرْصَةٍ أصبح فيهمُ امرؤٌ جائعًا؛ فقد برئتْ منهم ذِمَّةُ الله تبارك وتعالى))، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن نَفَّس عن مؤمن كُرْبَةً نَفَّس اللهُ عنه كُرْبَةً من كُرَبِ يومِ القيامة، واللَّه في عَوْنِ العبد ما دام العبد في عَوْن أخيه)). والتكافل في النظام الاجتماعي والاقتصادي في الإسلام منه ما هو فرض وواجب، ومنه ما هو مستحَبٌّ، وكل صوره تَسُرُّ الناظر، وتُبْهِجُ الخاطر، وينطلق المسلم في رحابه، وهو يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والجميع يجد نفع هذا التكافل، الغنيُّ والفقير، الصغير والكبير، الراعي والرعية، وكل فرد مسؤول عن هذا التكافل، وحريص عليه؛ لما يرجوه من فضل الله الذي أعده للمحسنين. ومنافع هذا التكافل تَصِلُ إلى الفقير والمسكين، والمريض، والأرملة، واليتيم ومَن في حُكْمهم، وتصل أيضًا إلى الغَنِيِّ في حالاتٍ طارئة؛ كسَفَرٍ، وغُرْمٍ ونحوِهِ، كما أن أجر عمله وعطائه نعمة من الله عليه، وسلامة أمواله وسط مجتمع طاهر، مترابطٍ، متحابٍّ لا تكلِّف كما تكلِّف وسط مجتمعِ الجريمةِ والشحناءِ، فما أروَعَ الطهارةَ! وما أَجْمَلَ الأمْنَ في مجتمع الإيمان والزكاة! {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. سادسًا: التعارُف: وبعد تحقيق التكافل بين أعضاء المجتمع المسلم، يهدُف النظام الاجتماعيّ في الإسلام إلى التعارُف بين الشعوب والقبائل، ومدِّ جُسور التواصُل النافع، والتعاون على البِرِّ حتى مع مَن يخالف في الدِّين إذا رَضِيَ بذلك، ولم يَكِدْ للإسلام والمسلمين: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، وذلك جزء من هدف التعارف الذي أراده الله سبحانه لبَنِي البَشَر؛ حيث قال - جل وعلا -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، فليستْ هذه الشعوبُ والقبائل لتتفاخر، وتتناكر وتتحارب؛ وإنَّما لتتعارف وتتآلف، والكرامة لها عند الله بتقواها؛ لا فضل لأبيضَ على أحمرَ، ولا لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لغَنِيٍّ على فقيرٍ، وأوَّل التقوى الإسلام لله وحده، الذي ختم به رسالاته وهدْيه للبشر: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 38 - 39]، وأحد صور هذا التعارُف تظهر في الحجِّ ومنافعه العظيمة. قال أبو الأعلى المودودي: "لم يعرض نظام الإسلام الاجتماعيّ، الذي يضع البشر جميعًا على قَدَمٍ سواء من حيث إنسانيَّتُهُم، وبالتالي فهو لا يرتضى التمييز بينهم على أساس أمور لا دَخْلَ لهم بها ولا اختيار؛ كال***، واللون، والوطن، واللغة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، ومن ثَمَّ يفتح المجتمع الإسلامي ذراعيه للبشر كافَّةً ليكونوا أعضاءً فيه، بلا أدنى تفريق في الحقوق والواجبات؛ أي: إنه مجتمع عالميٌّ إنسانيّ عقائديّ". ("نظام الحياة في الإسلام" ص: 12 – 13). سابعًا: حفظ الضروريات الخمس: يهدف النظام الاجتماعي في الإسلام إلى حفظ الضرورات التي تقوم عليها الحياة، وهي خمس: 1- الدِّين، وبه تستقيم علاقة الإنسان مع ربه، وتتحقق به الغاية من وجوده. 2- العقل، وهو مناط التكليف، ومحل التميز والتكريم. 3- النفس، وبها استمرار الحياة للغاية العظيمة التي أرادها الله سبحانه. 4- العِرض والنَّسل، وبه تكاثُر البشر، وعفَّة وطهارة الأصل. 5- المال، وبه قوام الحياة، والعون على أداء الواجبات والطاعات. والنّظام الاجتماعيُّ إلى جانب النظام الاقتصاديّ والسياسيّ في الإسلام، قدِ اعتبر المحافظة على هذه الضَّرُورات وصِيانتها، وتحريمَ كل ما يؤثِّر عليها مقصدًا من مقاصد التشريع، وهدفًا من أهدافه. وفي الزواج وبناء الأسرة على المنهج الإسلامي الكريم، وعلى الميثاق الغليظ -: حفظٌ وتحقيق للمصالح الكبرى في الدين، والعقل، والنفس والنسل، والعِرض، والمال وذلك ما أثبته الصادق المصدوق في قوله: ((يا معشَرَ الشبابِ مَنِ استطاع منكم الباءة فلْيتزوجْ؛ فإنه أَغَضُّ للبصر، وأحصَنُ للفرْج))، وفي ذلك حفظٌ للدين من مزالق الشهوات، وحفظٌ للنفس والعقل من الشبهات، فما هناك فتنٌ أشد من فتن النساء، وفي الزواج وقاية وعلاج؛ فقد نظم العلاقة بين الرجل والمرأة ولم يمنعها، ولم يطلقها فيترتب على إطلاقها مفاسدُ وفوضى في نواحي الحياة، وهو خير عاصمٍ لِلشباب في كل وقت، وفي وقتنا المعاصر من المآسي التي تعاني منها المجتمعات الفاجرة، وهو خَيْرُ دافع إلى حياة الاستقرار والبناء، ومن مقاصد الزواج وغاياته النسلُ والذرِّية الصالحة {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]. وقد حَثَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُمته على ذلك في أحاديثَ كثيرةٍ؛ منها: ((تزوجوا الودود الولود؛ فإنّي مكاثِرٌ بكمُ الأُمَمَ يوم القيامة))، وقد امتنَّ الله علينا بذلك في قوله سبحانه وبحمده: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل:72] فكلُّ مَيْل عن طريق الزواج هو ميل وعدوان على النفس، وعلى البشرية، وعلى نعمة الله العظيمة، وجنايةٌ عظميةٌ يعاني منها المجتمع الغربي المعاصر أشد المعاناة؛ من اللُّقَطاء، ومن الإجهاض، ومن ال***، وغير ذلك من الجرائم والجنايات المتلاحقة، والأمراض ال***ية المهلكة. والنظام الاجتماعي في قِيَمِهِ الاجتماعيةِ، وربطِهِ بين الأُسَرِ والمجتمعات -: يحافظ على هذه الضرورات، ولا يحمل الأسرة وحدها، ويترك الأمر بعدها فرطًا أو جهدًا متضاربًا متناقضًا؛ بل شَرَعَ من الآداب الاجتماعية ما يُعِين الأسرة على عِفَّتها وكرامتها، وما يقوِّيها على رسالتها، ومن ذلك الأمر بالمعروف وإشاعته، والنهي عن المنكر وأبوابه، ومن ذلك تحريم المحرمات كلها، التي تهدم الدين، وتُهْلِك النفس، وتُتْلِفُ العقل، وتُهْدِرُ الشَّرَف، وتُهلِك النسل، وتُبَذِّر المال؛ فهو نظام أخلاقي متكامل، جاء بالخير الذي يحفظ المصالح، ويمنع المفاسد، تتلاحم فيه قوة التشريع مع قوة التنفيذ، وسعادة الدنيا مع سعادة الآخرة، وتتضافَرُ فيه جهود كل أفراده الذين يعيشون في سفينته؛ حتى لا تنخَرِمَ السفينة فيكون الهلاك. والإنسان لا يعيش وحدَه؛ بل حياته مع مجتمعه وبمجتمعه، وهذا المجتمع لا يملِك الحياة كلها؛ بل هو حلْقة مترابطة في حركة الأجيال، فعليه أن يُسلِّم الأمور سليمةً لمَن بعده، ولا يُظهِر الفساد في الأرض {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]. والحِفاظ على الضروريات الخمس وغيرها لا يأتي من باب الروادع والزواجر والنواهي فقط؛ بل يأتي من باب الإحسان، الذي يتسابق فيه المؤمنون؛ فإن الله قد كتب الإحسان على كل شيء، والله يحب المحسنين. والإحسان والمعروف أساس في العشرة الزوجية، وفي بناء اللَّبِنَة الأساسية في المجتمع، ولا يخرج المعروف إلا معروفًا، ولا يُنبِت الطيِّب إلا طيبًا؛ فالبشرية كلها بحاجة إلى الأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، والأمَّة المسلمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. الخـاتمة: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والحمد لله الذي جعلنا مسلمِين، والحمد لله الذي أنعم علينا بكتابه المبين، والحمدُ لِلَّه الذي بعث فينا خاتَمَ المرسلين، محمدِ بنِ عبدِالله الرسولِ الأمين، بذلك النور المبين الذي ندعو الناسَ جميعًا إليه؛ لأنه الحق من رب العالمين {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 170] ندعو الناس إليه ونحن على ثقة من أنَّ فيه الوِقايةَ والعلاجَ لكل ما تُعانيه المجتمعات من الأزمات، وفيه الرحمة المهداة من رب رحيم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. وصلى الله وسلم على المبعوث بالرحمة والهدى، والحجة على كل الورى، وعلى آله وصحبه وسلم. المراجـع: 1- الإسلام وبناء المجتمع، د. أحمد محمد العسال، دار القلم. 2- الإسلام وبناء المجتمع، عدد من المؤلفين، الرشد. 3- التكافل الاجتماعي في الشريعة، د. محمد أحمد الصالح، جامعة الإمام محمد بن سعود. 4- الزواج في ظل الإسلام، عبدالرحمن عبدالخالق، الدار السلفية. 5- العدالة الاجتماعية في الإسلام، سيد قطب، دار الشروق. 6- المجتمع الإسلامي، د. مصطفى عبدالواحد، مكتبة المتنبي بالقاهرة. 7- منهج السنة في الزواج، د. محمد الأحمدي أبو النور، دار السلام. 8- نظام الحياة في الإسلام، أبو الأعلى المودودي، الدار السعودية. 9- نظرية الإسلام، أبو الأعلى المودودي. |
العلامات المرجعية |
|
|