#1
|
||||
|
||||
من قضاة الإسلام.. أبو عبدالله ابن الأزرق
من قضاة الإسلام.. أبو عبدالله ابن الأزرق
فؤاد عبدالمنعم أحمد بعدَهم، ومنهم مَن نالَ الذِّكر في حَياته وبعد مَماته، ومنهم مَن طوَى الموتُ ذِكرَه إلى أنْ شاء الله أنْ يَظهَر بعض تراثه؛ فبان مكانُه من الدين والدنيا، من هؤلاء: الإمام أبو عبدالله ابن الأزرق. مَعالِم حياته: وُلِدَ أبو عبدالله ابن الأزرق، وكامل اسمه محمد بن علي بن محمد بن علي بن قاسم بن الأزرق الأصبحي في 832هـ - 1427م بمالَقة (مدينة بالأندلس المفقود)، من أسرةٍ يبدو لنا أنَّها لم تكن من أهل العِلم ولم تَحْظَ بالشُّهرة، وشغلَتْها أعباء الرِّزق عن طلَب العِلم، فمَراجِع المكتبة الأندلسيَّة وكتب التراجم التي بين أيدِينا لا تُعِيننا على إلقاء الضَّوء على تلك الأسرة، بيد أنَّ هذه الأسرة بغير شكٍّ تُغايِر أسرة الأزرق التي اشتَهرَتْ في المشرِق بالدِّراية بعِلم الحديث وأخبار التاريخ، فلم يَثبُت لدَيْنا انتقالُ أيِّ أفرادها إلى الأندلس أو المغرب، ويبدو لنا أنَّ "الأزرق" لصفةٍ جسديَّة فيه أو في أحد أصوله. استَظهَر ابن الأزرق منذ الصِّغَر القُرآن الكريم ووعى تفسيرَه، وخاصَّة تفسيرَ الإمام ابن كثير المتوفَّى سنة 774هـ؛ الذي يُعَدُّ من أطيب التفاسير وأكثرها إشارةً إلى ما ينقله مؤلِّفه من مصادر، واعتِمادًا على البَيان القرآني بالقُرآن وصَحِيح السنَّة، والتَّعوِيل على رأي أهل السَّلَف، وقد تلا ابن الأزرق هذا التفسير على ابن إسحاق إبراهيم بن أحمد البدري، وفقًا لما ذكَرَه السخاوي في "الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع". كما حفظ ابن الأزرق كثيرًا من أشعار العرب، وتفقَّه في النحو والمنطق والفقه على يد مُعلِّمه الكبير الذي كان له أثرُه الكبير فيه، وكثر انتِفاعُه من علمه وهو مفتي غرناطة أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن فتوح (المتوفَّى سنة 867هـ)، وقد كان هذا الأستاذ العظيم يُعوِّد تلاميذَه على الرُّجوع إلى المصادر، وأنْ يُعمِل الطالبُ فيها عقلَه وفِكرَه بالتحليل والتحقيق؛ ليصل إلى وجْه الحقِّ في المسألة المعروضة بالدَّليل، وليكون للباحث لديه شخصيَّة مستقلَّة، يقول لنا المقري في "نفح الطيب" عنه: "كان يُفسِح لصاحب البحث مَجالاً رَحبًا، ويوسع المراجع له رحبًا وقبولاً، بل يُطالِب بذلك ويقتضيه، ويَختار طريق التعليم به ويرتَضِيه، توفيقًا على ما خلص له وتحقيقه، ووضح له في مِعيار الاختِيار توفيقه...". كما زاد تفقُّه ابنِ الأزرق في الفقه المالكي على أحفظ الناس لمذهب مالك في عصره، وهو الإمام محمد بن محمد السرقسطي المتوفَّى عام 865هـ، ودرس الأدب على يد الإمام محمد بن زكريا بن الجبير الحصيبي الذي كان يُعَدُّ من أهل السنَّة والجماعة، وشديد الانتِقاد للمعتزلة عامَّة وللزمخشري خاصَّة. عندما بلَغ ابن الأزرق أشُدَّه واستَوَى على العِلم بالفقه، وشُهِد له بالوَرَع - عُيِّن قاضِيًا لغرب مالَقة، وكان عمرُه قرابة السابع والثلاثين هجريَّة، وظَلَّ ينتَقِل في عمله القَضائي ويرتَقِي فيه حتى وصَل إلى قاضي القُضاة بغَرناطَة، ومكَث في القَضاء بالأندلس المفقود قرابة عشرين عامًا مُشتَهِرًا عنه أنَّه من قُضاة العَدل والإنصاف، وكان سُلطان بني نصر يُؤثِره بسِرِّه ويستَشِيره فيما يلمُّ به من المُعضِلات لما تلمَّس فيه من فقهٍ للواقع، وذَكاء وقُدرة على وضْع الأمور في نصابها، وكثيرًا ما بعَثَه رسولاً عنه لحلِّ مَشاكِله مع الملوك النصريِّين، بَيْدَ أنَّ الخِلاف والقتال بينهم قد وصَل مَداه، ما مكّن لطاغية الإسبان من دُخولها. وقد حدا ذلك بابن الأزرق أنْ يتوجَّه إلى المشرق ليحثَّ ملوك الإسلام وأمراءَهم على نجدة صاحب غَرناطة، يقول لنا المقري عنه تلك الفَترة: "واستَنهَض عَزائم السُّلطان قايتباي لاستِرجاع الأندلس، فكان كمَن يطلب بَيْضَ الأَنُوق"، فقد كان السُّلطان مشغولاً بقِتال سُلطان الرُّوم، فتوجَّه ابن الأزرق إلى مكَّة المكرمة، وجاوَر فيها مُدَّة، وزار النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. رجَع ابن الأزرق إلى مصر في سنة ستٍّ وتسعين وثمانمائة، وأصبح في حاجَةٍ إلى أنْ يُسنَد إليه عمل يكتَسِب به رِزقًا، وقد نفدَتْ موارده الماليَّة، فأسند إليه ما هو أهلٌ له من تولِّي قَضاء المالكيَّة بالقُدس الشَّريف في رابع رمضان تلك السَّنة، فوصَل القُدس في سادس عشر من شوال سنة ستٍّ وتسعين، وأقام نحو شهر يُنزِل الأحكامَ على مُقتَضى الشَّرع بعفَّةٍ ونَزاهةٍ. ثم مَرِضَ واستمرَّ في مرضه إلى أنْ تُوفِّي في يوم الجمعة بعدَ فَراغ الصلاة سابع عشر ذي الحجَّة الحرام سنة ستٍّ وتسعين وثمانمائة، وصُلِّى عليه في يومه بعدَ صلاة العصر بالمسجد الأقصى، وكثُر أسَف الناس على فقْده. ابن الأزرق والقَضاء: لم نَقِفْ على نماذج من أحكام ابن الأزرق القضائيَّة لنقوم بتحليلها، ولكن ما كتَبَه ابن الأزرق عن القَضاء والعدل يُعِينُ على فهْم الرَّجل وبَيان آرائه القضائيَّة. فهو يرى أنَّ القَضاء من أجَلِّ المناصب؛ لأنَّه دخولٌ بين الخالق والمخلوق ليُؤدِّي فيهم أوامره وأحكامه بواسطة الكتاب والسنَّة، وبه يُقمَع الظالم ويُنصَر المظلوم، ويُحفَظ النِّظام، ويُدفَع الضَّرر العام، وأنَّه واجبٌ أنْ يكون بين الناس قَضاءٌ وقُضاة، وأنَّ على الإمام (رئيس الدولة) اختيارَ القُضاة من الكُفاة من أهل العِلم والورَع، وأنْ يُوسع عليهم أرزاقَهم من بيت مال المسلمين، وأنْ يتفقَّد أحوالَهم، ومَن غلب جورُه وكان في بَقائه مَفسَدةٌ عزَلَه، بَيْدَ أنَّه لا يعزل لمجرَّد الشَّكوى، بل عليه أنْ يتثبَّت ويستَقصِي حتى لا يفسد أمرُ القَضاء والقُضاة. ويقول: إنَّ غاية القَضاء والحُكم تحقيق العَدل بين الناس، والعَدل أساسُ الشريعة، به يتولَّى الأُمَناء والأكفاء في كافَّة الولايات، وتُحفَظ الأنفُس والأموال والأعراض. ويحثُّ القُضاةَ على بذْل الجُهد وتَحقِيق العَدل، وأنَّ المسابقة فيه تُقرِّب صاحبه من التقوى ومحبَّة الله له بإجابة دُعائه، ويتحقَّق له الأمنُ والطمأنينة النفسيَّة، ويملك به سَرائِر الناس، ويَدُوم به الملك والرَّخاء. ويُؤخَذ برأي ابن قيِّم الجوزيَّة الحنبلي في شأن تَحدِيد اختِصاصات القَضاء وموضوعاته بأنها تختَلِف باختِلاف الأزمنة والأمكنة، وتُستَفاد بما جرَتْ به العادة واقتضاء العرف في كلِّ قُطر. آثار ابن الأزرق: لم يَظهَر من مُصنَّفات ابن الأزرق حتى الآن سوى كتابه "بدائع السلك في طبائع الملك"، وهو كتاب في عِلم الاجتماع السياسي يدلُّ على أصالة ابن الأزرق العلميَّة وسَعة ثقافَتِه، وقد قام بتَحقِيق الكتاب الأستاذُ الدكتور علي سامي النشار، أستاذ الفلسفة الإسلاميَّة المصري، والذي يُشارِك بِجُهدِه بالمغرب حاليًّا، ويقَع الكتاب في قرابة ألف صفحة، ويحتَوِي علي مقدمتين وأربعة كتب على النحو التالي: الكتاب الأول: في حقيقة الملك والخلافة وسائر أنواع الرِّئاسة. والكتاب الثاني: في أركان الملك وقواعد مَبناه؛ ضرورةً وكمالاً. والكتاب الثالث: فيما يُطالَب به السلطان تشييدًا لأركان المملكة. والكتاب الرابع: في عَوائِد الملك وعَوارِضه. ويرى المقري في "نفح الطيب" أنَّ هذا الكتاب لَخَّصَ فيه ابن الأزرق كلامَ ابن خَلدون وأضاف إليه زِيادات كثيرة، وكلمة "زيادات كثيرة" تُعادِل في عصرنا أنَّه قدَّم جديدًا للعِلم يُسنَد إليه ويُحتَجُّ له به، فإنْ كان ابن الأزرق يتَّفق مع ابن خَلدون في اتِّخاذ المنهج الاستِقرائي الأصولي في تفسير التاريخ واستِخلاص المبادئ التي تحكمه، وقد تعرَّض من خِلاله إلى أطوار الدَّولة، وانتهى فيها إلى حتميَّة أطوارها، بينما غاية ابن الأزرق بَيان أخلاقيَّة الحاكم وأخلاقيَّة المحكوم، ويرى ابن الأزرق أنَّ الدَّولة تعيش أبدًا إذا تحقَّقت القِيَم بين الحاكم والمحكوم، ولم يحدث النِّزاع والصراع بينهما؛ ولذلك يتعرَّض في كتاب "بدائع السلك" لمسؤوليَّة الحاكم تجاه رعيَّته، وتجاه جنده، وأنَّ فَساد المجتمع الذي عاصَرَه راجعٌ إلى ما أصابَه من فَساد خلقي ومادي وانحِلال اقتصادي؛ لانعِدام الثقة بين الحاكم والمحكوم. ويتميَّز ابن الأزرق عن ابن خَلدون بأنَّه قد أشار في كتابه إلى غالب مصادر مَن سبَقَه على عكس ابن خَلدون الذي كان يُخفِي جُلَّ مصادر مادَّته العلميَّة، وهو بذلك قد ألقى الضوء على المصادر التي استَقَى منها ابن خَلدون مادَّته العلميَّة، بل إنَّ تنوُّع مصادر ابن الأزرق ظاهرةٌ جديرةٌ بالإعجاب؛ فقد فاقَ ابنَ خَلدون ومُعظَمَ كُتَّاب الفِكر الإسلامي، فاستند إلى كتب متنوِّعة: في علم السياسة الخالص، والبعض في التاريخ، والآخَر في الجغرافيا وفي كتب الرحلات، وكتب الأدب، وكتب الفقه وأصوله، ولم يكن يفعَل هذا لبحْث الموضوعات الجزئيَّة لهذه العلوم المختلفة في ذاتها؛ بل لتَدعِيم نظريَّته ورؤيته في الاجتِماع السياسي، ويدلُّ هذا الكتاب بوضوحٍ على أنَّ ابن الأزرق استَوعَبَ ثقافة سابِقيه ومُعاصِريه، واستَطاع منها أنْ يُقدِّم جديدًا للعِلم. حقيقة كتاب "الإبريز المسبوك في كيفيَّة آداب سير الملوك": أأشار خير الدين الزركلي في كتابه "الأعلام" عند ترجمة ابن الأزرق أنَّ له كتابًا باسم "الإبريز المسبوك في كيفية أدب الملوك"، وأنَّ الكتاب ما زال مخطوطًا، وقد استَقَى ذلك من المستشرق الألماني بروكلمان في "ذيله على تاريخ الأدب العربي"، وقد تابَع بروكلمان جورجي زيدان في "تاريخ الآداب العربية"، وقد كتَب الأستاذ محمد عبدالله عنان مَقالاً بعنوان: "كتب تأثَّرت بابن خَلدون"، في "مجلة العربي" في يناير 1974، أشار فيه إلى أنَّ كتاب "الإبريز المسبوك" تأثَّر بابن خَلدون، وأنَّ ابن الأزرق ألَّف هذا الكتاب قبل كتاب "بدائع السلك". وأنكَر الدكتور النشار وجودَ هذا الكتاب، واستَنَد إلى أنَّه لم يَعثُر عليه، وأنَّ ابن الأزرق لم يُشِر إلى كتاب "الإبريز المسبوك" في كتابه "بدائع السلك". وقد أتاحَتْ لنا فرصة الإعارة للتدريس بالجامعات الجزائريَّة منذ بضع سنوات، أنْ نقف على مخطوطةٍ لابن الأزرق بعنوان "الإبريز المسبوك في كيفية آداب سير الملوك" بالمكتبة الوطنيَّة بالجزائر العاصمة، وقد أُتِيح لنا فُرصةُ الاطِّلاع عليها وتصوير أجزاءٍ منها، وقد تبيَّن لنا من الاطِّلاع على هذه المخطوطة أنها ناقصة من البداية، وكُتِب في أولها: "الحمد لله، هذا أوَّل ما وُجِد من هذا التأليف الجليل المسمَّى بـ"الإبريز المسبوك في كيفية أدب الملوك"؛ للإمام الأعلى القاضي الأكمل العلاَّمة الأجل: أبي عبدالله محمد بن علي بن قاسم بن الأزرق الأصبحي". وافتتَحَه بالكلام عن الجِباية، وأنها حبس تُوزَّع على القَبائل وذَوِي العصبيَّة، ثم تكلَّم بعد ذلك عن الرُّكن الخامس: وهو تَكثِير العمارة، والسادس: إقامة العدل، والسابع: تولية الخطط الدينيَّة من: إمامة الصلاة، والفتيا، والتدريس، والقَضاء، والعدالة، والحسبة، والسكَّة، والرُّكن الثامن: ترتيب المراتب السلطانيَّة؛ وهي: الحجابة، والكتابة، وديوان العمل، والحجابة، والشرطة، والرُّكن التاسع: رعاية السياسة، والعاشر: مشورة ذوي الرأي والتجربة، والحادي عشر: بذْل النصيحة، والثاني عشر: أحكام التَّدبير، والثالث عشر: تقديم الوُلاة والعُمَّال، والرابع عشر: اتِّخاذ البِطانة أهل البساط، والخامس عشر: تنظيم المجلس وعَوائِده، السادس عشر: تقرير الظُّهور والاحتِجاب، والركن السابع عشر: رعاية الخاصَّة والبِطانة، والثامن عشر: ظُهُور العِناية بِمَن له حقٌّ أو فيه مَنفَعة، والركن التاسع عشر: مُكافَأة ذوي السوابق، والعشرون: تَخلِيد مَفاخِر الملك ومَآثِره. ثم تعرَّض للباب الثاني: في الصفات التي تصدر بها تلك الأفعال على أفضل نِظام وهي: العقل، العلم، الشجاعة، العفَّة، السَّخاء، الجود، الحلم، كظْم الغَيْظِ، والغضَب، العفو، الرفق، اللين، الوَفاء بالوَعد، الصِّدق، كتْم السر، الحزم، الدَّهاء، والتغافُل، التواضُع، سَلامة الصدر من الحقد والحسد، الصَّبر، الشُّكر. ثم تعرَّض الكتاب الثالث لمقدِّمة في التحذير من مَحظُورات تُخِلُّ بذلك المطلوب شَرعيًّا في بابين: الأول: في جَوامِع ما به السياسة المطلوبة من السُّلطان ومَن يَلِيه، والثاني: في واجبات يَلزَمُ السُّلطان سياسة القيام بها وفاءً بعُهدَةِ ما تحمَّلَه. وتكلَّم في الكتاب الرابع عن عَوائِق الملك وعَوارِضه في بابين: الأول: في عَوائِق الملك المانعة من دَوامِه، والثاني: في عَوارِض الملك اللاحقة لطَبِيعة وُجوده، ويُشِير في الباب الثاني أنَّه أتى بها مُلخَّصة من كلام ابن خَلدون - رحمه الله -. وتعرَّض لخاتمة في سياستي المعيشة والناس. وانتهى الكِتاب بقولٍ للإمام عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - ناعِتًا له - أي: الرسول، - صلى الله عليه وسلم -: لم أرَ قبلَه ولا بعده مثله - صلى الله عليه وسلم -. ويبدو لنا أنَّ ابن الأزرق أهدَى الكتابَ لسُلطان بني نصر؛ فالثابت أنَّه سماه "الإبريز المسبوك في كيفية أدب سير الملوك". واستَمحَنتُه لهذا المَقام العلي نَصرًا بتَخلِيد الأثر الحميد وافيًا، وللصُّدور على الدَّوام من تعاقُب الشُّهور والأعوام شافيًا، ثم يدعو له بقوله: "اللهم افتَح له فتحًا مُبِينًا، وأره نور الهدايات لنهاية البِدايات مستبينًا، اللهم أصلِح برعايَتِك أحوالَه، وسَدِّد باهتِدائه العالم اقتدائه أفعاله وأقواله، اللهم حقِّق به صَلاح العِباد والبِلاد، وأيِّده على طُغاة الكفَّار بسيوفه الماضية الشفار في مواقف الطَّعن والجِهاد، اللهم كُنْ له ناصرًا ومُعِينًا، وشرع به للملك الحميد الخِلال مَوارِد عَذبة الذلل مَعِينًا، اللهم اجعَل ذِكرَه على مرِّ الدَّهر باقيًا، وسعده إلى أرفع مَعارِج الظهور راقيًا، واللهم خُصَّ وزيره الحميد المذاهب، المخصوص بمواهب الكمال وكمال المذاهب، بتوفيقٍ يَسُود آراءه وينجحها". وثابِتٌ أنَّ ابنَ الأزرق انتَهَى من تبييض الكتاب في يوم الأحد السابع من رجب عام ثلاثة وثمانين وثمانمائة، وكان الفَراغ من تصنيفه يوم السبت الرابع عشر من محرم العام المذكور، وذلك بمدينة وادي آش المحروسة، وتبيَّن من المقارنة بين مخطوطة "الإبريز المسبوك في كيفيَّة أدب سير الملوك" وكتاب "بدائع السلك في طبائع الملك" أنَّ الأوَّل هو الأصل الذي أهداه إلى حاكم عصره في سنة 883هـ. كتاب "روضة الأعلام بمنزلة العربية من أعلام الإسلام": يقول المقري في هذا الكتاب: إنَّه "مجلد ضَخم فيه فَوائِد وحِكايات لم يُؤلَّف في فَنِّه مثلُه، وأنَّه قد وقَف عليه - المقري - بتلمسان"، وتُوجَد أكثر من نسخةٍ له مخطوطة بمكتبات المغرب. والكتاب موسوعةٌ أدبيَّة كبيرة تتضمَّن موضوعات شتَّى من التُّراث العربي الإسلامي، وهو يُشابِه كتاب "عيون الأخبار"؛ لابن قُتَيبة، و"الأخبار الطوال"؛ للدينوري. ولقد تعمَّدنا أنْ نَعرِض لرُؤوس الموضوعات وعَناوِين الكتاب؛ ليَتسنَّى للمُقارِن بين كتاب "الإبريز المسبوك" و"بدائع السلك" أنْ يصل إلى أنهما كتابٌ واحد، ولا يعدوان أنْ يكون العنوان الأوَّل هو النسخة المُهداة من ابن الأزرق لحاكم عصره سُلطان بني نصر. وتتميَّز هذه المخطوطة عن المخطوطات التي حقَّق عليها الدكتور النشار "بدائع السلك" بما يلي: أولاً: كشفت عن تاريخ تصنيف الكتاب "بدائع السلك" أو "الإبريز المسبوك". فالثابت من نهاية مخطوطة ابن الأزرق فرَغ منها في 14 من المحرم سنة 833هـ بمدينة وادي آش؛ أي: إنَّ سنَّ ابن الأزرق كان قد جاوَز الخمسين من عُمره، وهي فترة تمام النُّضوج وكماله. ثانيًا: يتبيَّن من الدعاء لحاكم عصره أنَّه في حالة حرْب وجِهاد مع الأعداء، كما تتَّضِح الظُّروف التي كُتِبَ فيها الكتاب والحالة التي كانت عليها الأندلس وقتذاك، والأمل المعقود في ذلك الحاكم فهو يقول: "واستَمحنتُه". كتاب "شفاء الغليل شرح مختصر الخليل": وهو في شرح الفقه المالكي يقول فيه صاحب "نفح الطيب": إنَّه رأى ثلاثة أسفار منه، وقد قرأ خطبة الكتاب، "وقد أتى فيها ابن الأزرق بالعجاب"، فيقول: "هذا الشَّرح لم يُؤلَّف على "مختصر الخليل" مثله إقناعًا ونقلاً وفَهمًا، وقد رأيتُ منه نحو الأسفار الثلاثة، ولا أدري هل أتَمَّه أم لا، وتمامُه يكون في نحو العِشرين سفرًا، وقد كتب بتلمسان خطبةً في كراسة وقد أتى فيها بالعجاب". تناوَل في هذه المقدمة أهميَّة "مختصر الخليل" في الفقه المالكي، وتصدَّى لبَيان أصول المذهب المالكي، وبَيان منهجه ومصادره في شرح هذا المختصر، ويوجد مخطوطات لهذا الشرح بالمغرب. ونختَتِم مقالتنا بثَناء أئمَّةٍ التَقَوْا بابن الأزرق وعاصَرُوه، فيقول السخاوي المؤرِّخ الثِّقة فيه وقد التقى به في مصر: "رأيتُه من رجال الدهر"؛ أي: إنَّ ابن الأزرق في نظَرِه كان عبقريًّا. ويقول قاضي القُضاة أبو اليمن العليمي (الحنبلي) في "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل": "كان من أهل العلم والصَّلاح، حسن الشكل، مُنوَّر الشيبة، عليه الأُبَّهة والوَقار، من قُضاة العدل، باشَر الحكم بعفَّة وتقوى وسِيرة محمودة، ثم لَحِقَ بالله - سبحانه - والناس عليه راضُون". ولا يسَعُنا إلاَّ أنْ نقول: رَحِمَ الله ابنَ الأزرق بما قدَّم من علمٍ يُنتَفَع به، ووفَّق المهتمِّين بإبراز التُّراث الإسلامي إلى تَحقِيق ونشْر باقي التراث، والله الموفِّق، والحمد لله ربِّ العالمين. |
العلامات المرجعية |
|
|