#1
|
|||
|
|||
معنى المحكم والمتشابه
معنى المحكَم والمتشابه تمهيد الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا، وبعد: فهذا موضوع طريف يتعلَّق بحياة الإنسان ومصيره في الدنيا والآخرة، تبيِّنه لنا الوصايا العشر من سورة الأنعام في القرآن الكريم، وتوضِّح لنا الطريق السوي لنسلكَه على بصيرة، متبعين ما أنزل الله في كتابه، ومتمسكين بما وصَّانا به من وصايا نافعة مفيدة، سائرين على هَدْيِ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بخطًى ثابتة، وقلب واعٍ مستنير. قال الله تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 151 - 153]. هذه الآيات الكريمة من سورة الأنعام من الآية 151 - 153، وسورةُ الأنعام تُعَد من السور الطويلة التي نزَلَت في مكة؛ لذا فلها أهمية خاصة، فهي أصلُ محاجَّة المشركين وغيرهم من المبتدعين، ومن كذَّب بالبعث والنشور. أما الآيات التي نحن بصدد شرحها، فقد قال عنها بعض أهل العلم: "إنها مدنية"؛ أي نزَلت بالمدينة، قال الثعلبي: "سورة الأنعام مكية إلا ستَّ آيات نزلت بالمدينة، وهي: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الأنعام: 91] إلى آخرِ ثلاث آيات؛ أي من الآية: 91 وحتى الآية 93، و﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 151] إلى آخر ثلاث آيات؛ أي من الآية 151 وحتى الآية 153"، وقال ابنُ عطية عن هذه الآيات الثلاث: "هي الآيات المحكمات"، وورَد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "أنزلت سورةُ الأنعام بمكة ليلاً جملةً وحولها سبعون ألف ملك يجأَرون بالتسبيح". وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت سورةُ الأنعام ومعها موكبٌ من الملائكة يسدُّ ما بين الخافقين، لهم زَجَل بالتسبيح والتقديس، والأرض ترتجُّ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سبحان الله العظيم، سبحان الله العظيم))"، وقد ورَدَت أخبار كثيرة في هذا المعنى يقوِّي بعضها بعضًا، كما وردت أحاديثُ عن فضل تلاوتها، فليراجعها من شاء في التفاسير المطولة، مثل: "تفسير ابن كثير - وفتح القدير...". أما التحقيقُ حول ما ورد في الأحاديث من أنها نزلت جملةً واحدة في مكة؛ أي إن كل آياتها مكِّية، فلا يمنع أن يُحمَل هذا على الأكثر؛ فآياتها مائة وخمس وستون آية، والآيات الست أو الثلاث قليلة إذا قِيست بالعدد الكلي، وعليه فما ورد من أحاديثَ تفيد بنزولها جملة واحدة لا يعدو أن يكون للتغليب، وذكر النحاس في تاريخه عن ابن عباس قال: "سورة الأنعام نزلت بمكة جملةً واحدة؛ فهي مكية إلا ثلاثَ آيات منها نزَلْن بالمدينة: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ﴾ [الأنعام: 151] إلى تمام الآياتِ الثلاث". أهمية هذه الآيات وما قيل فيها: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "في الأنعام آياتٌ محكَمات هن أم الكتاب، ثم قرأ: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 151]" الآيات، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "من أراد أن ينظرَ إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتَمُه، فليقرأ هؤلاء الآيات: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 151] إلى قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153]"، ويروي الحاكم من حديث يزيد بن هارون عن عبادةَ بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أيُّكم يبايعني على ثلاث؟))، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 151] حتى فرَغ من الآيات، ((فمن وفَّى، فأجرُه على الله، ومن انتقص منهن شيئًا، فأدركه اللهُ به في الدنيا، كانت عقوبته، ومن أُخِّر إلى الآخرة، فأمرُه إلى الله، إن شاء عذَّبه، وإن شاء عفا عنه"، وقال: صحيح الإسناد. وجاء في تفسير الكشاف للزمخشري: "وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الآيات محكَمات لم ينسَخْهن شيء من جميع الكتب، وقيل: إنهن أمُّ الكتاب، مَن عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار، وعن كعب الأحبار: والذي نفسُ كعب بيده، إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة"؛ فهي وصيةُ الأنبياء لأمَمِهم، وقد ذكر الشوكاني في فتح القدير هذا: "لم يزَلْ كل نبي يوصي بها أمَّتَه"، وعن كعب الأحبار قال: أول ما أنزل في التوراة عشرُ آيات، وهي العشر التي أنزلت من آخر الأنعام: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 151]، قال الشوكاني: هي الوصايا العشرُ التي في التوراة، وأولها: "أنا الربُّ إلَهُك، الذي أخرجك من أرض مِصْرَ من بيت العبودية، لا يكُنْ لك إلهٌ آخرُ غيري، ومنها: أكرِمْ أباك وأمك؛ ليطولَ عمرك في الأرض التي يعطيك الربُّ إلَهُك، لا ت***، لا تَزْنِ، لا تسرق، لا تشهد على قريبك شهادة زُور، لا تشتهِ بِنْتَ قريبك، ولا تشتهِ امرأة قريبك، ولا عبدَه، ولا أمَتَه، ولا ثورَه، ولا حماره، ولا شيئًا مما لقريبك"، فلعل مراد كعب الأحبار هذا، ولليهود بهذه الوصايا عنايةٌ عظيمة، وقد كتبها أهل الزَّبور في آخِر زَبورهم، وأهل الإنجيل في أول إنجيلهم". معنى المحكَم والمتشابه: ورَد قبل قليل أن هذه الآيات محكَماتٌ، فما معنى المحكَم في القرآن الكريم؟ جاء في سورة آل عمران: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ [آل عمران: 7]. المحكَم: اسم مفعول من أحكَم، والإحكام: الإتقانُ. وفي تفسير المحكَم والمتشابِه أقوال: 1- المحكَم: ما عُرِف تأويلُه، وفُهِم معناه وتفسيره، والمتشابه: ما لم يكن لأحدٍ إلى عِلمه سبيلٌ. 2- المحكَم: ما لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، والمتشابه: ما يحتمل وجوهًا. 3- المحكَم: الناسخ، والمتشابِه: المنسوخ. 4- المحكَم: الذي ليس فيه تصريفٌ ولا تحريف عما وُضِع له، والمتشابه: ما فيه تصريفٌ وتحريف وتأويل. 5- المحكَم: ما كان قائمًا بنفسه لا يحتاج إلى أن يُرجَعَ فيه إلى غيره، والمتشابه: ما يُرجَع فيه إلى غيره. 6- وهذا قولُ الشوكاني الذي لخص فيه ما سبق، المحكَم: هو الواضح المعنى، الظاهر الدلالة، إما باعتبار نفسِه، وباعتبار غيره، والمتشابه: ما لا يتَّضح معناه، أو لا تظهرُ دلالته لا باعتبار نفسِه ولا باعتبار غيره[1]. لذلك وصَف الله تعالى الآيات المحكمات: بأنهن أم الكتاب؛ أي أصلُه الذي يعتمد عليه، ويُرَد ما خالفه إليه. وأما المتشابه: فهو الذي يحتاج إلى أهلِ العلم لتأويله وردِّه إلى المحكم إن كان ممكنًا، وإلا فأمره موكول إلى الله، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "تلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7] قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا رأيتِ الذين يتَّبعون ما تشابَه منه، فأولئكِ الذين سمى اللهُ، فاحذروهم)). وفي لفظ: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى اللهُ عز وجل، فاحذَروهم. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كان الكتاب الأولُ ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزَل القرآن على سبعة؛ زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكَم، ومتشابه، وأمثال، فأحِلُّوا حلاله، وحرِّموا حرامه، وافعلوا ما أُمِرتم به، وانتهوا عما نُهِيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكَمه، وآمِنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنَّا به كلٌّ من عند ربنا)). ومن المتشابهِ الذي يُرَد تأويله إلى الله: أمرُ الروح والساعة، وكذلك فواتح السور، مثل: الم، المر، حم، طس، طسم، كهيعص... إلخ. وقد يتبادر إلى الذهن سؤال عن وجود المتشابه في القرآن الكريم، لِمَ كان علمُه إلى الله ولا يعلم تأويله أحد؟ فقَبْل الإجابة على هذا السؤال علينا أن نعلمَ حقيقة راسخة بشأن القرآن الكريم وردَتْ في الحديث الشريف؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن وراء حجرتِه قومٌ يتجادلون بالقرآن، فخرج محمرَّةً وجنتاه، كأنما يقطران دمًا، فقال: ((يا قومِ، لا تجادلوا بالقرآنِ؛ فإنما ضل مَن كان قبلكم بجدالهم، إن القرآن لم ينزِلْ ليكذِّبَ بعضُه بعضًا، ولكن نزل ليصدِّقَ بعضُه بعضًا، فما كان من محكَمه، فاعملوا به، وما كان من متشابِهِه فآمِنوا به))؛ ولذا فإن من فوائد وجود المتشابه في القرآن الكريم امتحاننا به؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 7]، وهم الذين يؤوِّلونه حسب أهوائهم بلا دليل، ومن فوائد المتشابه أيضًا: أن يُعمِل العلماء الراسخون في العلم فِكرَهم لاستنباط الحُكم منه، والوصول إلى الحق بعد مشقةٍ وجُهد؛ ليكون بين الناس صفوة يؤتَمنون على إصدار الأحكام، فلا يستطيع أحدٌ أن يدَّعي الفهم إن لم يكن من أئمة العلم، ويكون المتشابه بمثابة اختبار يمتاز به العالِم عن الجاهل؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: "تفسير القرآن على أربعة وجوه: 1- تفسير يعلَمُه العلماء. 2- وتفسير لا يُعذَر الناس بجهالته من حلال أو حرام. 3- وتفسير تعرِفه العربُ بلُغتِها. 4- وتفسير لا يعلَمُ تأويله إلا الله، من ادَّعى عِلمه، فهو كاذب"؛ رواه ابن جرير. وأما ورد من آيات تبين أن القرآن كلَّه محكَم، فمعناه في غير هذا التقسيم؛ قال الله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ﴾ [هود: 1]، والمراد بالمحكَم هنا: أنه صحيحُ الألفاظ، قويم المعاني، فائق البلاغة والفصاحة على كلِّ كلام آخَر، وكذلك ما ورد من أنه متشابِه كله، فكذلك في غير التقسيم السابق؛ قال الله تعالى: ﴿ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ﴾ [الزمر: 23]. وهو هنا أنه يشبِه بعضُه بعضًا من حيث الصحة، والفصاحة، والبلاغة، والحُسن، فهل ينبغي لإنسان أن يخوضَ في المتشابه الذي اختص اللهُ نفسَه بعلمه؛ ليدل بذلك على عجز أهل العلم وفصحاء العرب، بأنهم قاصرون مهما بلغوا من العلم، وأن لعلمهم حدًّا يقفون عنده؟ فكما ميَّزهم بعلمهم عن مَن هم أدنى منهم؛ بحيث جعل لهم متشابهًا من القرآن يصِلون إلى معرفته، فكذلك خص اللهُ نفسَه جل شأنه بنوع من المتشابه لا يصل لمعرفته أحدٌ إلا هو سبحانه؛ لذلك فالخوض في هذا النوع ممنوعٌ؛ لأنه خوض في تأويل المستحيل، ومَن ادعى أنه استنبط منه علمًا ومعرفة - سوى الله - فقد كذَب، وعند الدارمي: "أن رجلاً يقال له صَبيغٌ قدِم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمرُ وقد أعدَّ له عراجين النخل، فقال عمر: مَن أنت؟ قال: أنا عبدُ الله صبيغ، فقال: وأنا عبدُ الله عمرُ، فأخذ عمرُ عرجونًا من تلك العراجين فضرَبه به حتى دَمِي رأسُه، فقال: يا أمير المؤمنين، حسبُك، قد ذهب الذي كنتُ أجِدُ في رأسي"، ومع ذلك فقد كتب عمرُ إلى أهل البصرة أنْ لا يجالسوا صبيغًا. [1] انتهى ملخصًا عن تفسير فتح القدير للإمام الشوكاني. د. محمد منير الجنباز
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
|
العلامات المرجعية |
|
|