#1
|
|||
|
|||
مظاهر التلاؤم في التراكيب القرآنية
مظاهر التلاؤم في التراكيب القرآنية إن دراسة الآية القرآنية تتصل اتصالاً مباشرًا بدراسة اللفظة المفردة؛ لأن هذه أساس تلك، ونعد في دراستنا هذه كل آية من القرآن قائمة مقام الجملة، وذلك إيثارًا للإيجاز؛ أي: إننا نعد الآية وحدة السورة، غير غافلين عن معنى الجملة في علم العربية. وإذا عرضنا لدراسة التراكيب وتلاؤمها في سورة "الرعد" فإنما نعرض لدراسة الآية، مستوضحين كيف أحكمت أدق تنسيق، بحيث لا نحس فيها بكلمة يضيق بها مكانها، أو تنبو عن موضعها، أو لا تعيش مع أخواتها، متبينين في كل آية مما نختاره شاهدًا على التلاؤم في التركيب، عن كون تلك الآية مكملة لما قبلها، وتلك مستقلة، ثم المستقلة، ما وجه مناسبتها لما قبلها وما سيقت له؟ بالإضافة إلى تلاؤم الجمل داخل الآيات. فالصلة بين كل آية وأخرى هي مظهر التلاؤم في التراكيب، وقد عرضت سورة الرعد في جميع آياتها لجمل كثيرة جاءت آية في الإحكام والترابط والتلاؤم الذي جعل أجزاء الكلام بعضها آخذًا بأعناق بعض، فصار البناء المحكم المتلائم الأجزاء. خذ مثلاً قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ﴾ [الرعد: 16] إلى قوله - تعالى -: ﴿ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الرعد: 16]. تأمَّل كم جملة اشتملت عليها هذه الآية، فهي تسع جمل، كل جملة وثيقة الاتصال بما قبلها، وما بعدها، وقبل أن نوضح مظاهر التلاؤم بين تلك الجمل يجب أن نبحث عن صلة تلك الآية بما قبلها، فذلك مُعِين لنا على التعرف على مظاهر التلاؤم بين أجزاء جملها. إن وجه صلتها بما قبلها: "هو أن سابقتها تضمنت أن كل من في السموات والأرض ساجد لله، فلزم الإنكار على عبدة الأصنام، والتوجه إليهم بـ: "قل" "يا محمد": ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الرعد: 16]؟ الآية[1]. ويوضح وجه الصلة أن الآية السابقة على تلك هي قوله - تعالى -: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ [الرعد: 15] فجاء التلاؤم المحكَم بين الآيتين. والآن لندخل في تفصيل ذلك التلاؤم والترابط بين جمل تلك الآية، أعني قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾. إن أول جملة تطالعنا في الآية الكريمة هي تلك الجملة المركبة من فعل الأمر "قل"، وفاعله الضمير المستتر وجوبًا والعائد على محمد - صلى الله عليه وسلم. إنها جملة آمرة تترك النَّفْسَ بعد انقضاء زمن التكلم مشرئبة متطلعة إلى ما سيُلقَى إليها، وإلى ما ستؤمر به، وقد حصل مفهوم ذلك الأمر في جملة: ﴿ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾. والذي يستدعي النظر في هذا التركيب هو التعبير بلفظة "رَبُّ" دون "موجد أو خالق"؛ إذ في لفظة "رَبُّ" من معنى الألوهية ما هو أعم وأكمل، فيدخل تحتها معنى الخالق المُوجِد المتصرف، رب كل شيء. ثم تمضي الآية في سرد تلك التراكيب والجمل المحكمة، فيأتي الجواب في جملة ﴿ قُلِ اللَّهُ ﴾، "ولما كان هذا الجواب جوابًا يقرُّ به عبدة الأصنام، ويعترفون به ولا ينكرونه - أمَر اللهُ نبيَّه بأن يكون هو الذاكر لهذا الجواب، تنبيهًا على أنهم لا ينكرونه ألبتة". ولما بين - سبحانه - أنه الرب لكل المخلوقات قال: قل لهم: "فلِمَ اتخذتم من دون الله أولياء"، وهي جمادات لا تملِك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا، فعبادتكم إياها محض العبث والسفه، ولما ذكر - سبحانه - هذه الحجة الظاهرة بيَّن أن من يمثلها يكون كالأعمى، والعالم بها كالبصير، وأن الجهل بها كالظلمات، والعلم بها كالنور. وكما أن كل أحد يعلم بالضرورة أن الجاهل بهذه الحجة لا يساوي العالِمَ بها، فكذلك كل أحد يعلم بالضرورة أن الأعمى لا يساوي البصير، وأن الظلمة لا تساوي النور، وقد أكد الله - سبحانه - هذا البيان بالجمل المتساوقة في قوله: ﴿ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ﴾ [الرعد: 16][2]، ثم جاء ما يتلاءم مع هذا التوكيد، وهو قوله: ﴿ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الرعد: 16] فالتوكيد في الجمل الأولى أُتبع بتوكيد آخر من خلال الأمر، والجملتين الاسميتين. أما قوله: ﴿ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ فيستوجب أن يأتي بعده في السياق قوله: ﴿ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾، وقد حصل؛ لأن خالق كل شيء تلائمه وتثبُت له صفة الوحدانية، والقهر والقوة، إن هذا النظم لمن براعة الاتساق والتلاؤم في تركيب كل جملة وصلتها بأختها. وهذا شاهد آخر من قوله - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ﴾ [الرعد: 20، 21] إلى شأن الكفار: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [الرعد: 25]. في هذا النص ست آيات، كل آية اشتملت على أكثرَ من جملة، وكل جملة اشتملت على تركيب جاء آية في الإحكام والتناسق؛ إذ كل آية بُنيت على صلة وثيقة بما قبلها وما بعدها، ففي الأولى نلحظ أنه سبقها آية تشيد بذكر أولي الألباب ذوي التفكر والتدبر والإيمان على حد قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الرعد: 19]. ومن هنا جاءت الآيات الخمس الأولى مرتبطة في تراكيبها بما سبقها متلائمة في النسق؛ إذ لما انتهى نفس الآية السابقة عليهن عند قوله ﴿ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ شرعت الآية الأولى من الخمس المذكورة في صفات ذوي الألباب، وأنهم السعداء؛ لمحافظتهم على العهد المطلق، والميثاق المطلق، والعهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان، والميثاق الأكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان. هكذا يمضي التركيب في الآية مقررًا أن وفاء هؤلاء البشر من الناس بالعهد الإلهي، والميثاق الرباني داخل تحته الوفاء بالعهود والمواثيق مع الناس كافتهم. ثم يمضي التركيب مقررًا في إجمال صفات أولئك السعداء، وأنهم أهل طاعة كاملة واستقامة واصلة، وسير على السنَّة بلا انحراف ولا التواء[3]. بعد ذلك تتوالى التراكيب مقررة جزاء هؤلاء الناس على صنيعهم، وأنه الجنة التي هي مطمع كل مؤمن؛ ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾ [الرعد: 22، 23]. ♦ ♦ ♦ ♦ ومظاهر التلاؤم واضحة في سبق صفات السعداء "وما ترتب على هذه الصفات من الأصول الشريفة، والجزاء الحسن، ثم في العطف ببيان حال الأشقياء، وما يترتب عليها من الأصول المخزية المكروهة، فجاء التركيب مُتْبِعًا الوعدَ بالوعيد، والثوابَ بالعقاب؛ ليكون البيان في غاية الكمال[4]". ♦ ♦ ♦ ♦ ولعلك تسأل عن وجه صلة قوله: "مثل جنة" الآية، بما قبله، وبيان ذلك هو أن وجهَ صلة هذا التركيب، مجيءُ الآية الأولى مبينةً عذاب الكفار في الدنيا وفي الآخرة، فأتبع التركيب بذكر ثواب المتقين[5]". وإن شئت تفصيلاً في تلاؤم تركيب الآيتين فتأمل قوله: ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ﴾ [الرعد: 34]، وانظر إلى تلاحم الأجزاء وتلاؤمها، جاءت الآية بتركيبات ثلاثة: أولها في ذكر عذاب الكفار في الدنيا، وثانيها في ذكر عذابهم في الآخرة، وثالثها في أن هؤلاء لا مفرَّ لهم من عذاب الله في الحالين، فأي تلاؤم أبين وأدق من ذلك. [1]انظر تفسير الرازي، الجزء 19، ص 31، ط الأولى 1357هـ، المطبعة البهية بمصر. [2] انظر تفسير الرازي، ص 31 الجزء 19، الطبعة الأولى 1357هـ، المطبعة البهية بمصر. [3] انظر ظلال القرآن لسيد قطب، جـ 13 ص 89، طبعة بيروت. [4] تفسير الرازي، ص 46 الجزء 19. [5] المصدر السابق ص 8.
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|