اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > قصر الثقافة > المواضيع و المعلومات العامة

المواضيع و المعلومات العامة قسم يختص بعرض المقالات والمعلومات المتنوعة في شتّى المجالات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 22-01-2014, 01:08 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,986
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الرابع

ثقافة العصر الحجري الحديث

فضلات المطبخ - سكان البحيرة - ظهور الزراعة - استئناس الحيوان - الأساليب الفنية - النسيج في العصر الحجري الحديث - صناعة الخزف - البناء - النقل - الدين - العلم - موجز لما تم فيما قبل التاريخ من تمهيد للمدنية

حدث في فترات مختلفة من القرن الأخير أن وُجِدت أكداس هائلة مما يرجح أنها من فضلات ما قبل التاريخ ، وجدت في فرنسا وساردينيا والبرتغال والبرازيل واليابان ومنشوريا ، ثم وُجدت فوق ذلك كله في الدانمركه حيث أطلق عليها هذا الاسم العجيب "فضلات المطبخ" التي أصبحت تعرف به أمثال هذه الأكداس من آثار القديم ؛ وتتألف أكداس الفضلات هذه من قواقع ، خصوصاً قواقع المحار وبلح البحر وحلزون البحر ، ومن عظام كثير من الحيوانات البرية والبحرية ، ومن آلات وأسلحة صنعت من العظم والقرن والحجر غير المصقول ، ومن بقايا أرضية مثل الفحم والرماد والخزف المكسور ؛ وهذه الآثار التي لا تأخذ العين بجمالها - دلائل واضحةُّ على ثقافة تكونت في تاريخ يقع حول سنة ثمانية آلاف ق.م ؛ وهو تاريخ أَحدث من العصر الحجري القديم بالمعنى الدقيق ، لكنه كذلك لا يبلغ من الحداثة أن يكون من العصر الحجري الحديث ، لأنه لم يكن قد وصل بعد إلى عصر استخدام الحجر المصقول ؛ ولا نكاد نعلم شيئا عَمَّن خَلفَّوُا لنا هذه الآثار ، سوى أن ذوقهم كان أصيلا إلى حدٍ ما ؛ ويمكن اعتبار "فضلات المطبخ" - بالإضافة إلى ثقافة "مادزيل" Mas dazil في فرنسا ، وهي أقدم من الفضلات قليلا ممثلة لعصر حجري وسيط ، هو بمثابة مرحلة انتقال بين العصرين الحجريين القديم والحديث.

وفي عام 1854 حيث كان الشتاء من الجفاف بدرجة خارقة للمألوف ، هبط مستوى الماء في البحيرات السويسرية ، فكشف عن عصر آخر من عصور ما قبل التاريخ ؛ فوجدت أكوام فيما يقرب من مائتي موضع في هذه البحيرات ؛ ووجد أن هذه الأكوام ظلت مكانها تحت الماء زمنا يتراوح بين ثلاثين قرنا وسبعين ؛ ولقد كانت تلك الأكوام مصفوفة على نحو يبيّن أن قد شيدت فوقها قُرَّى صغيرة ، وربما شيدت هناك رغبة في العزلة أو في الدفاع ؛ وأن كل قرية كانت تتصل باليابس بجسر ضيق لم تزل أساس بعضها في أماكنها ؛ وكانت قوائم المنازل نفسها ما تزال باقية هنا وهناك ، لم تُزِلِها الأمواج بفعلها الدءوب وبين هذه الخرائب الباقية وجدت آلات من العظم والحجر المصقول الذي أصبح في رأي علماء الآثار علامة مميزة للعصر الحجري الجديد الذي ازدهر حول سنة 000ر10 ق.م في آسيا ، وحول سنة 5000 ق.م في أوربا : وشبيه بهذه الآثار ما تركه ال*** البشري العجيب الذي نسميه باسم "بُنَاة الجبال" من بقايا هائلة ضخمة في وديان المسسبي وفروعه ؛ ولسنا ندري عن ذلك ال*** من أجناس البشر إلا أنه في هذه الجبال التي بنوها وتركوها على هيئة مذابح القربان أو على أشكال هندسية مختلفة أو على هيئة حيوانات الطوطم ، وجدت أشياء صنعوها من حجر وقوقع وعظم ومعدن مطروق ، مما يضع هؤلاء الناس الملغزين في خاتمة العصر الحجري الجديد .

فلو حاولنا أن نلفّق صورة من هذه الأشتات الأثرية عن العصر الحجري الجديد ، لرأينا في الصورة على الفور خطوة جديدة خطاها الإنسان ، تثير فيك الدهشة عند رؤيتها ، ألا وهي الزراعة ؛ إنك تستطيع أن تقول إن التاريخ الإنساني كله - بمعنى من معانيه - يدور حول انقلابين : الانقلاب الذي حدث في العصر الحجري الحديث فنقل الإنسان من الصيد إلى الزراعة ، والانقلاب الذي حدث أخيراً فنقله من الزراعة إلى الصناعة ؛ ولن تجد فيما شهد الإنسان من ضروب الانقلاب ما هو حقيقي أساسيّ كهذين الانقلابين ؛ فالآثار تدلنا على أن "سكان البحيرة" كانوا يأكلون القمح والذرة والجويدار والشعير والشوفان ، فضلا عن مائة وعشرين نوعاً من أنواع الفاكهة ، وأنواع كثيرة من البندق ؛ ولم نجد في هذه الآثار محراثاً ، ويجوز أن تكون علة ذلك هي أن سنان المحاريث كانت تصنع من خشب ، فيُدَقَّ جذع شجرة إلى فرع بمسمار من حجر الصَّوان ؛ لكن نقشا محفورا على الصخر من العصر الحجري الحديث يدل دلالة لا يأتيها الشك على أنها صورة فلاح يسوق محراثاً يَشُدُّه ثوران وهذا يحدد لنا اختراعا جاء بمثابة بداية لعصر جديد من عصور التاريخ ؛ إن الأرض قبل أن تدخلها الزراعة كان في مستطاعها أن تهيئ أسباب العيش لما يقرب من عشرين مليوناً من الأنفس البشرية " في تقدير سير آرثر كيث غير الدقيق " ، وحياة هؤلاء الملايين العشرين كانت معرضة لمـوت سريع بسبب الصيد والحـرب ، أما بعد الزراعة فقد بدأ تكاثر الناس تكاثراً أيَّدَ سيادة الإنسان على الأرض سيادة مكينة لا شك فيها .

وفي الوقت نفسه كان أهل العصر الحجري الحديث يقيمون أساسا آخر من أسس الحضارة ، وهو استئناس الحيوان وتربيته ؛ ولا شك أن قد استغرق هذا العمل حينا طويلا من الدهر ، قد تكون بدايته أسبق تاريخاً من العصر الحجري الحديث ؛ فحب الإنسان بغريزته للاجتماع بغيره ربما كان عاملا مساعدا على اتصال الإنسان والحيوان ، كما لا نزال نرى علائم ذلك واضحة في فرحة البدائيين بتدريب الوحوش المفترسة ، وفي ملء أكواخهم بالقردة والببغاوات وأمثالها من سائر الزملاء وأقدم العظام في آثار العصر الحجري الحديث ( حوالي 000ر8 ق.م ) هي عظام الكلب - الذي هو أقدم زملاء ال*** البشري عهداً وأشرفها خلقاً ؛ ثم جاءت بعد ذلك ( حوالي 6000 ق.م ) الماعز والخروف والخنزير والثور وأخيرا جاء الحصان الذي لم يكن عند أهل العصر الحجري القديم إلا حيوانا يصاد ، إذا حكمنا من الرسوم التي في الكهوف ؛ أما في هذا العصر الحجري الحديث فقد أخذه الناس إلى حيث يسكنون واستأنسوه وجعلوا منه عبداً محبباً إلى نفوسهم إذ استخدموه على شتى العصور ليزيد من ثروة الإنسان وفراغه وقوته ؛ وهكذا أخذ هذا الإنسان الذي بسط سيادته على الأرض آخر الأمر ، في الإكثار من موارد طعامه بتربية الحيوان إلى جانب صيده له ؛ وربما عرف الإنسان كذلك - في هذا العصر الحجري الحديث - كيف يستخدم لبن البقرة طعاماً .

وأخذ المخترعون في العصر الحجري الجديد شيئاً فشيئاً يوسّعون ويحسنون آلاتهم وأسلحتهم ، فها هنا ترى بين مخَلفّاتهم بَكَرات ورافعات ومُرهِفّات ومغارز وملاقط وفؤوساً ومعازيق وسلالم وأزاميل ومغازل ومناسج ومناجل ومناشير وأشصاص السمك وقباقيب للانزلاق على الثلج وإبرا ومشابك صَدر ودبابيس ثم هاهنا فوق هذا كله ترى العجلة ، وهي مخترع آخر من مخترعات الإنسان الأساسية ، وضرورة متواضعة من ضرورات الصناعة والمدنيَّة ؛ فهي في هذه المرحلة من العصر الحجري كانت قد تطورت إلى قرص وإلى أنواع أخرى من العجلات ذوات الأقطار؛ وكذلك استعملوا كل صنوف الحجر في هذه المرحلة - حتى العِصِيّ منها كالحجر الزجاجي الأسود - فطحنوه وثقبوه وصقلوه ، واحتُفِرت الصَّوانات على نطاق واسع ؛ فوجدت في أحد محافر العصر الحجري الحديث ، في مدينة براندُن بإنجلترا ، ثمان حافرات من قرن الغزال ، ورؤيت على أسطحها المعفّرة بصمات العمّال الذين وضعوها هناك منذ عشرة آلاف من السنين ؛ وفي بلجيكا كشف عن هيكل عظمي لعامل من عمال المناجم في العصر الحجري الحديث ، سقط عليه حجر فأرداه ، كُشف عنه ولا تزال الحافرة في قبضة يده فعلى الرغم من مائة قرن تفصلنا عنه ، نحسّ كأنه واحد منا ونشاطره بخيالنا الضعيف فَزَعَه وآلامه ؛ فكم من آلاف السنين قضاها الإنسان وهو يمزق أحشاء الأرض يستخرج الأسس المعدنية التي قامت عليها المدنية ! فلما أن صنع الإنسان الإبر والدبابيس ، بدأ ينسج ، أو إن شئت فقل إنه لما بدأ ينسج حَرَّكَتْه الضرورة إلى صناعة الإبر والدبابيس ؛ ذلك أن الإنسان لم يعد يرضيه أن يدثّر نفسه بفراء الحيوان وجلوده ، فنسج صوف خرافه وألياف النبات أردية كانت هي أساس الثوب الذي يلبسه الهندوسيّ ، والشَملة التي كان يلبسها اليوناني ، والثوب الذي يغطي أسفل الجسم الذي كان يرتديه المصري ، وسائر الصنوف الخلابة التي تراها في الثياب عند الإنسان ، ثم اصطنع الناس صبغة استخرجوها صنوفا من أخلاط عصير النبات أو مستخرجا الأرض ، وصبغوا بها الثياب لتكون علامة ترف ينفرد بها الملوك ؛ والظاهر أن الإنسان أو ما نسج جعل يضفر الخيوط على نحو ما يضفر القشَّ بأنه يجدل خيطا مع خيط ؛ ثم انتقل بعد ذلك إلى ثَقب جلود الحيوان وربطها من هذه الثقوب بألياف غليظة تتخللها ، كالمِشدَّات التي كان يستعملها النساء حديثاً ، وكالأحذية التي نلبسها اليوم ؛ ثم أخذت الألياف تتهذب تدريجياً حتى أصبحت خيط ، وعندئذ أصبحت الحياكة من أهم الفنون عند المرأة ؛ فالمغازل التي بين آثار العصر الحجري الحديث تكشف عن أصل من الأصول العظمى للصناعة الإنسانية بل أنك لتجد في هذه الآثار حتى المرايا ، وإذن فقد اصبح كل شيء مُعَدًّا للمدنيَّة .

ولم نجد آثاراً خزفية في قبور الجزء الأول من العصر الحجري العظيم ، وإنما ظهرت منه قِطَع قليلة في آثار الثقافة المجدلية في بلجيكا ؛ لكنه في العصر الحجري الحديث الذي خَلَّفَ لنا "فضلات المطبخ" هو الذي نجد في آثاره خزفاً على شيء من التقدم في الصناعة ؛ ونحن بالطبع لا نعلم كيف نشأت هذه الصناعة ؛ فيجوز أن قد لاحظ الإنسان البدائي أن الفجوة التي تصنعها قدمه في الطين ، كانت تحتفظ في جوفها بالماء دون أن يتسرب ؛ ويجوز أن قد شاءت المصادفة أن تلقى قطعة من الطين إلى جانب نار موقدة فتجف ، فتوحي بجفافها هذا إلى الإنسان الأول بالفكرة التي أفرزت في النهاية هذا المخترع ، وكشفت له عما يمكنه استغلاله من هذه المادة التي توجد بكثرة ، والتي تطاوع يده في تشكيلها ، والتي يسهل تجفيفها في النار أو في الشمس ؛ ولا شك في أن الإنسان قد لبث آلاف السنين يحفظ طعامه وشرابه في آنية طبيعية كهذه ، إلى جانب كؤوس القَرع وجوز الهند وقواقع البحر ؛ ثم صنع لنفسه أقداحاً ومغارف من الخشب أو الحجر ؛ كما صنع السلال والمقاطف من الحلفاء والقش ، وهاهو ذا قد صنع لنفسه كذلك آنية أدوم بقاء من الطين المجفف وبه ابتدع مخترعاً جديداً يُعَدُّ من أعظم الصناعات التي عرفها الإنسان ، لكن إنسان العصر الحجري الجديد لم يعرف عجلة الخزَّاف ، فيما تدل الآثار الباقية لنا ؛ إنما صنع بيديه هذا الطين أشكالا ذات جمال ونفع في آن معاً ؛ وزخرفة الآنية برسوم ساذجة وهكذا جعل صناعة الخزف منذ بدايتها تقريباً لا تقف عند حد كونها صناعة فحسب ، بل جعل منها فنًّا كذلك .

وهاهنا كذلك نجد العلامات الأولى لصناعة أخرى من كبُرى الصناعات الأولى : صناعة البناء؛ فإنسان العصر الحجري القديم لم يخلّف لنا أثراً كائناً ما كان لمسكن غير الكهوف ؛ حتى إذا ما بلغنا العصر الحجري الحديث ، ألقينا بعض وسائل البناء مثل السلمّ الخشبّي والبكرة والرافعة والمقصلة ؛ فقد كان "سكان البحيرة" نجارين مهرة يربطون أعمدة الخشب إلى أساس البناء بخوابير ثابتة من الخشب ؛ أو يصلونها وهي موضوعة رأساً لرأس ، أو يزيدونها قوة بدقّ عوارض تتطلب معها على الجوانب ؛ وكانت أرضيَّة الغرفة عندهم من الطين ، وجدرانها من الغصون المجدولة مغطاة بطبقة من الطين ، والسقف من اللحاء والقش والحلفاء والغاب ؛ ثم بمعونة البكرة والعجلة استطاع الإنسان أن ينقل مواد البناء من مكان إلى مكان ، وبدأ في وضع أسس ضخمة من الحجر لقُراه ؛ وكذلك أصبح النقل صناعة من الصناعات ، فصُنِعت الزوارق التي لا بد أن تكون قد ملأت البحيرات حركة ؛ ونُقِلت التجارة عبر الجبال وإلى القارات البعيدة ، وأخذت أوربا تستورد من البلاد النائية أحجاراً نادرة كالعنير والبَشم والحجر الزجاجي الأسود وأنك لتجد في أصقاع مختلفة من الأرض تشابها في كلمات أو حروف أو أساطير أو خزف أو رسوم ، مما يدلك على ما كان بين جماعات البشر قبل التاريخ من اتصال ثقافي .

ولو استثنيت الخزف ، وجدت أن العصر الحجري الجديد لم يخلّف لنا فنا نستطيع مقارنته إلى ما كان عند إنسان العصر الحجري القديم من تصوير وصناعة تماثيل ؛ فهنا وهناك بين مشاهد الحياة في هذا العصر الحجري الحديث ، من إنجلترا إلى الصين ، ترى أكواما مستديرة من الحجر ، أو أعمدة قائمة أو آثاراً ضخمة من البناء لا نعرف الغاية من بنائها ، كالتي تراها في "ستوُنهِنج" أو "موربهان"، والراجح أننا لن نعرف معنى هذه الآثار البنائية أو وظائفها ، وربما كانت بقايا مذابح للقرابين أو معابد ذلك لأن إنسان العصر الحجري الجديد لابد أن قد كانت له ديانات وأساطير يصوّر بها ما يعتور الشمس كل يوم من مأساة ونصر ، وما تصيب التربة من موت وبعث ، كما يصور بها تأثير القمر تأثيراً عجيباً على الأرض ؛ إنه ليستحيل علينا أن نفهم عقائد الإنسان في عصور التاريخ بغير افتراض أصول كهذه تمتد إلى ما قبل التاريخ ؛ ويجوز أن يكون ترتيب الأحجار في هذه الأبنية نتيجة لاعتبارات فلكية ، ويدل على معرفتهم بالتقويم- كما يظن "شنيدر" Shneider ؛ وكان للناس في ذلك العصر أيضاً بعض المعرفة العلمية ، لأن بعض الجماجم من العصر الحجري الجديد وجدت بها آثار تَربَنَة ، وبعض الهياكل العظيمة فيها أعضاء يظهر أنها كُسِرَت ثم جُبِرَت .

ليس في وسعنا أن نقدر ما أداه الإنسان فيما قبل التاريخ تقديراً تاماً ، لأننا من جهة لا ينبغي أن ننساق وراء الخيال في تصوير حياتهم بحيث نجاوز ما تبرره الشواهد ، ولكننا قد نشك من جهة أخرى أن الدهر قد محا آثاراً لو بقيت لضيَّقَت مسافة الحُلف بين الإنسان الأول والإنسان الحديث ؛ ومع ذلك فما قد بقى لنا من أدلة على خطوات التقدم التي خطاها إنسان العصور الحجرية ، يكفي وحده لتقديره : فحسبنا ما تم في العصر الحجري القديم من صناعة الآلات واكتشاف النار وتقدم الفنون ، وحسبنا ما ظهر في العصر الحجري الحديث من زراعة وتربية حيوان ونسج وخزف وبناء ونقل وطب . وسيادة الإنسان على الأرض سيادة لم يَعُد منازَعاً فيها ، والتوسع في عمرانها بأبناء ال*** البشري ؛ هكذا وُضعت للمدنية كل أساسها ؛ كل شيء قد تم إعداده للمدنيات التاريخية إلا المعادن " فيما نظن " والكتاب والدولة ؛ فهيأ للإنسان سبيلا لتسجيل أفكاره وأعماله ، بحيث يمكن نقلها كاملةً آمنة من جيل إلى جيل ، تبدأ له المدنية .
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 14-05-2014, 06:42 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,986
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الخامس

مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية

1- ظهور المعادن

النحاس - البرونز - الحديد

متى وكيف بدأ الإنسان استخدام المعادن؟ لسنا ندري ، نقولها هنا مرة أخرى؛ وكلما نستطيعه هو أن نقول على سبيل الظنّ إنه بدأ بفعل المصادفة، ونفترض أن قد كانت بداية ذلك في نهاية العصر الحجري الحديث، ويؤيدنا في ذلك عدم ظهوره فيما وجدنا من آثار العصور السابقة لذلك التاريخ؛ فلو حددنا هذا التاريخ بسنة 4000 ق.م أو نحوها ، أبصرنا أمامنا صورة لعصر المعادن " والكتابة والمدنية" لا تمتد إلى أكثر من ستة آلاف عام، تراها بمثابة الذيل الصغير الذي أعقب عصراً حجرياً امتد على وجه الدهر أربعين ألف عام على أَقل تقدير، أو أعقب عمراً طويلا عاشه الإنسان مداه مليون عام ؛ إلا ما أحدث العهد الذي يدونّه لنا التاريخ .
كان النحاس أول معدن يلين لاستخدام الإنسان فيما نعلم؛ فنجده في مسكن من "مساكن البحيرة" عند "روبتهاوزن" في سويسره، ويرجع ذلك إلى سنة 6000 ق.م تقريباً ونجده أيضاً في أرض الجزيرة "بين دجلة والفرات" من عهد ما قبل التاريخ، ويرجع إلى سنة 4500 ق.م تقريبا؛ ثم نجده في مقابر البداري في مصر، ويرجع عهده إلى ما يقرب من سنة 4000 ق.م، ونجده كذلك في آثار "أور" التي ترجع إلى سنة 3100 قبل الميلاد تقريباً ، وفي آثار "بناة الجبال" في أمريكا الشمالية، التي ترجع إلى عصر لا نستطيع تحديده وليست تقع بداية عصر المعادن عند تأريخ اكتشافها بل يبدأ ذلك العصر بتحوير المعادن بواسطة النار والطَّرق بحيث تلائم غايات الإنسان؛ ويعتقد علماء المعادن أن أول استعدان للنحاس من مناجمه الحجرية جاء بفعل المصادفة حين أذابت نارُ أوقدها الناس ليستدفئوا، نحاساً كان لاصقا بالأحجار التي أحاطوا بها النار؛ ولقد لوحظت أمثال هذه المصادفة مراراً في اجتماعات البدائيين حول نارهم في عصرنا هذا؛ ومن الجائز أن تكون هذه الحادثة العابرة هي التي أدت بالإنسان الأول في نهاية الأمر- بعد تكرارها مرات كثيرة- ذلك الإنسان الذي لبث أمداً طويلا لا يساوره القلق في استعمال الحجر الأصم الصليب، أن يجعل من هذه المادة المرنة عنصراً يتخذ منه آلاته وأسلحته، لأنها أيسر من الحجر صياغة وأدوم بقاء ؛ والأغلب أن يكون المعدن قد استعمل بادئ ذي بدء بالصورة التي قدمته عليها يد الطبيعة، وإنها لَيَدٌ فيها سخاء وبها إهمال في آن واحد؛ فكان نقيا حينا، مشوبا في معظم الأحيان ثم حدث بعد ذلك بزمن طويل- وربما كان ذلك حول سنة 3500 ق.م - في المنطقة التي تحيط بالطرف الشرقي من البحر الأبيض المتوسط ، أن وقع الناس على فن صهر المعادن واستخراجها من مناجمها؛ ثم بدءوا في صبهّا نحو سنة 1500 ق.م "كما تدل على ذلك النقوش البارزة في مقبرة رخ- مارا في مصر) ؛ فكانوا يصبّون النحاس المصهور في إناء من الطين أو الرمل ، ثم يتركونه يبرد على صورة يريدونها، مثل رأس الرمح أو الفأس ؛ فلما أن كشف الإنسان عن هذه العملية في النحاس، استخدمها في مجموعة منوَّعة من المعادن الأخرى؛ وبهذا توفر للإنسان من العناصر القوية ما استطاع به أن يبني أعظم ما يعرف من ضروب الصناعة، وتهيأ له الطريق إلى غزو الأرض والبحر والهواء؛ ومن الجائز أن تكون كثرة النحاس في شرقي البحر الأبيض المتوسط هي التي سبَّبَت قيام ثقافات جديدة قوية في الألف الرابع من السنين قبل الميلاد، في "عيلام" و "ما بين النهرين" ومصر، ثم امتدت من هاتيك الأصقاع إلى سائر أجزاء المعمورة فبدّلتها حالا بعد حال .

غير أن النحاس وحده ليّن، فهو على الرغم من شدة صلاحيته للتشكيل مما ينفع في تحقيق طائفة من أغراضنا "ماذا كان يصنع عصرنا الكهربائي بغير نحاس؟" إلا أنه أضعف من أن يحتمل مهام السلم و الحرب التي تتطلب معدنا أقوى؛ لهذا كان لابد من عنصر آخر يضاف إلى النحاس ليشدّ من صلابته؛ ورغم أن الطبيعة قد أشارت إلى الإنسان بما عسى أن يضيفه إلى النحاس لهذه الغاية من مواد كثيرة الأنواع، بل إن الطبيعة كثيراً ما قدمت له نحاسا تم بالفعل خلطه واشتدت صلابته بما فيه من قصدير وزنك، مكونّةً بذلك برونزاً طبيعيا أو نحاسا أصفر، على رغم هذه المعونة من الطبيعة، فقد لبث الإنسان- فيما نظن- قرونا قبل أن يخطو الخطوة الثانية في هذا الصدد؛ وأعني بها خلط معدن بمعدن خلطا مدبرَّا مقصودا للحصول على مركبات أصلح لأغراضه، وعلى كل حال فهذا الكشف قد اهتدى إليه الإنسان منذ خمسة آلاف عام على أقل تقدير لأننا وجدنا البرونز بين الآثار الكريتية التي ترجع الى سنة 3000 ق.م، وفي الآثار المصرية التي ترجع إلى سنة 2800 ق.م ، وفي ثاني مدن طروادة سنة 2000 ق.م ، فلم يعد- إذن- في وسعنا أن نتحدث عن "عصر البرونز" بمعنى الكلمة الدقيق، لأن هذا المعدن قد ظهر لشعوب مختلفة، في عصور مختلفة ، وإذن فعبارة "عصر البرونز" ليس لها معنى زمني تؤديه أضف إلى أن بعض الثقافات الإنسانية قد عَبَرَ مرحلة البرونز لم يَخطهُا، بل وثب رأسا من عصر الحجر إلى عصر الحديد، كما هي الحال في ثقافات فنلندة وشمال روسيا وبولنيزيا وإفريقية الوسطى وجنوب الهند وأمريكا و واستراليا واليابان ؛ بل إن الثقافات التي ظهرت فيها مرحلة البرونز لم يحتل فيها هذا المعدن إلا مكانة ثانوية، باعتباره ترََفاً يتمتع به الكهنة وعلِيَةُ الناس والملوك، على حين ظل غمار الشعب مرغما على الوقوف عند مرحلة الحجر لا يجاوزها وحتى عبارتا "العصر الحجري القديم" و "العصر الحجري الحديث" فهما نسبيتان إلى حد كبير، وتصفان صورا من الحياة أكثر مما تحددان أزماناً وعصورا فإلى يومنا هذا يعيش كثير من الشعوب البدائية في عصرنا الحجري "مثل الإسكيمو وسكان جزاير بولنيزيا" لا يعرفون الحديد في حياتهم إلا على أنه ترَفّ يجيئهم به الرحالة المستكشفون من خارج ؛ فعندما أرسى "الكابتن كوك" سفنه في زيلندة الجديدة سنة 1778، اشترى بضعة خنازير بمسمار ثمنه ستة بنسات "قرشان ونصف قرش"، ووصف رحالة آخر سكان "جزيرة الكلب" بأنهم "في حاجة نهمة للحديد، حتى لتحدثهم أنفسهم أن ينتزعوا المسامير من السفن" .

ولئن كان البرونز قوياً شديد الاحتمال، إلا أن النحاس والقصدير اللازمين لصناعته لم يكونا من الكثرة في الكمية أو في أماكن وجودهما بحيث يجد الإنسان حاجته من أجوده صنفاً لشئون الصناعة والحرب؛ فكان لابد للحديد أن يظهر عاجلا أو آجلا؛ وإنه لمن متناقضات التاريخ ألا يظهر الحديد- على وفرته- إلا بعد أن ظهر النحاس والبرونز؛ وربما بدأ الناس استخدام الحديد بصناعة الأسلحة من حديد الشهُب، كما قد صنع "بُناةُ الجبال"- فيما يظهر- وكما يفعل بعض البدائيين حتى يومنا هذا؛ ويجوز أن يكون الناس قد عقبوا على ذلك بإذابة المعدن من منجمه بواسطة النار، ثم طرقوه إلى حديد مشغول؛ ولقد وجدنا ما يشبه أن يكون حديداً شهابياً في المقابر المصرية قبل عهد الأسرات المالكة؛ وتذكر النقوشُ البابليةُ الحديدَ على أنه سلعة نادرة ثمينة في عاصمة حمورابي (2100 ق.م) وكشفنا عن مَسبَك للحديد قد يرجع عهده إلى أربعة آلاف عام، في روديسيا الشمالية، كما أن استنجام الحديد في جنوب أفريقيا ليس وليد العصور الحديثة؛ وأقدم حديد مشغول مما نعرف، مجموعةُّ من المُدَى وُجِدَت في "جيرار" في فلسطين ، حَدَّدَ "بترى" تاريخها بسنة 1350 ق.م؛ ثم ظهر الحديد بعد ذلك بقرن كامل في مصر، في عهد الملك العظيم رمسيس الثاني؛ وبعد ذلك بقرن آخر من الزمان، ظهر في جزر بحر إيجه؛ وأما في غرب أوربا فقد ظهر في "هولستات" Holistatt بالنمسا حوالي سنة 900 ق.م، كما ظهر في صناعة مدينة "لاتين" La Tene في سويسرا حول سنة 500 ق.م؛ وقد عرفته الهند حين أدخله فيها الإسكندر، وعرفته أمريكا على يد كولمبس، كما عرفته أوشيانيا بفضل "كوك" ؛ وبهذه السرعة الوئيدة الخطى، طفق الحديد، قرناً بعد قرن، يطوف بالعالم ليغزوه .
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 14-12-2014, 09:59 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,986
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الخامس

مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية


2- الكتابة

أصولها الخزفية الممكنة - "رموز البحر الأبيض المتوسط" - الكتابة الهيروغليفية - أحرف الهجاء

لكن أوسع خطوة خطاها الإنسان في انتقاله إلى المدنية هي الكتابة؛ ففي قطع من الخزف هبطت إلينا من العصر الحجري الثاني، خطوط مرسومة بالألوان فَسرَّها كثير من الباحثين على أنها رموز ؛ وقد يكون هذا موضعاً للشك، لكنه من الجائز أن تكون الكتابة - بمعناها الواسع الذي يدل على رموز من رسوم تعبّر عن أفكار- قد بدأت بعلاماتٍ مطبوعة بالأظفار أو بالمسامير على الطين وهو ليّن؛ بغية زخرفته أو تمييزه بعد أن تتم صناعته خزفاً ؛ ففي أقدم كتابة هيروغليفية في "سومر" توحي صورة الطائر بأوجُه شبه بينها وبين الزخارف الطائرية الموجودة على أقدم الآثار الخزفية عند "سوزا" في "عيلام" كذلك أقدم صورة للغلال مما استُخدم في الكتابة التصويرية ؛ نُقلَت رأساً من الزخارف الغلالية الهندسية الأشكال في "سوزا" و "سومر" ؛

والأحرف المستقيمة الخطوط التي ظهرت بادئ الأمر في "سومر" حول سنة 3600 ق.م إن هي - فيما يظهر - إلا صورة مختصرة من الرموز والرسوم المصورة أو المطبوعة على الخزف البدائي في الجزء الأدنى من بلاد ما بين النهرين أو في "عيلام" ؛ وإذن فالكتابة - شأنها شأن التصوير والنحت - قد تكون في نشأتها فناً خزفياً إذ بدأت ضرباً من ضروب النقش والرسم ؛ وبذلك تكون الطينة نفسها التي استحالت في يد الخزّاف آنية ، وفي يد النحات تماثيل ، وفي يد البناء آجُرًّا ، قد هيأت للكاتب مادته التي يخط عليها كتابته ؛ وطريق التطور من هذه البداية إلى الكتابة المسمارية في بلاد ما بين النهرين ، منطقي المراحل مفهوم التدرّج .
وأقدم الرموز التصويرية المعروفة لدينا هي تلك التي وجدها "فِلِندَرز بتِرى" Flinders Petrie على قطع الفخار وآنيته وعلى قطع من الحجر ، مما كَشَفَ عنه في مقابر ما قبل التاريخ ، في مصر وإسبانيا والشرق الأدنى ، ولقد حَدَّدَ عمرها بسخائه المعهود في تقدير الأعمار، بسبعة آلاف عام ؛ وهذه الرموز الكتابية التي وجدت في حوض البحر الأبيض المتوسط، تبلغ ما يقرب من ثلاثمائة رمز ، معظمها متشابه في جميع الأرجاء ، مما يدل على علاقات تجارية قامت بين طرفي البحر الأبيض المتوسط في عهد يرجع في التاريخ إلى سنة 5000 ق.م ؛ ولم تكن هذه الرموز صوراً ، بل كان معظمها علامات تجارية - علامات تدل على الملِكية والكمية أو غير ذلك من معلومات يقتضيها التبادل التجاري ؛ فلئن كان هذا الأصل المتواضع مما يؤذي الطبقة الوسطى من الأغنياء ، فإن لهم ما يعزيهم في أن الأدب قد اشتقَّ أصوله من "فواتير" الحساب ومن شحنات المراكب ؛ ولم تكن العلامات حروفاً، لأن العلامة الواحدة كانت كلمة كاملة أو فكرة بأسرها ، ومع ذلك فمعظمها كان شديد الشبه بأحرف الهجاء الفينيقية ؛ ويستنتج "بترى" من ذلك أن "مجموعة كبيرة من الرموز قد استخدمت شيئاً فشيئاً في العصور الأولى لأغراض شتى، فقد تبودلت مع التجارة ، وانتشرت من قطر إلى قطر ... حتى كتب النصر لنحو ستة رموز ، فأصبحت مِلكا مشاعاً لطائفة من هيئات التجارة ، بينما أخذت سائر الأشكال التي اقتصر استعمالها على قطر واحد دون بقية الأقطار ، تموت في عزلتها شيئاً فشيئا " والنظرية القائلة بأن هذه العلامات الرمزية هي أصل الأحرف الهجائية ، جديرة بالاهتمام ، وهي نظرية امتاز الأستاذ "بتري" بأنه يعتنقها دون سائر العلماء .

ومهما يكن من أمر تطور هذه الرموزية التجارية الأولى، فلقد سايرها جنبا إلى جنب ضرب من الكتابة كان فرعاً من الرسم والتصوير ، وكان يعبر بالصور عن فكر متصل ؛ ولا تزال صخور بالقرب من البحيرة العليا " بحيرة سوبيرير" تحل آثارا من الصور الغليظة التي استخدمها هنود أمريكا في روايتهم لقصة عبورهم هذه البحيرة الجبارة رووها للخلف ، أو ربما رووها لزملائهم ، روايةً يعبرون فيها عن زهوهم بما صنعوا ؛ كذلك يظهر أن تطوراً كهذا نَقَلَ الرسم إلى كتابة في أرجاء حوض البحر الأبيض المتوسط عند نهاية العصر الحجري الحديث ؛ ويقيناً أنه ما جاءت سنة 3600 ق.م - وقد يكون قبل ذلك التاريخ بزمن طويل - حتى كانت "عيلام" و"سومر" ومصر قد طوَّرت مجموعة من الصور التي يعبرون بها عن أفكارهم ، وأطلقوا عليها اسم "الكتابة الهيروغليفية" لأن معظم من قام بها كان من الكهنة وظهرت مجموعة أخرى من هذه الصور شبيهة بتلك ، في كريت حول سنة 2500 ق.م ؛ وسنرى فيما بعد كيف استحالت هذه الكتابة الهيروغليفية التي تمثل كلُّ صورة منها فكرة ، كيف استحالت بخطأ الاستعمال ، ثم بما تناولها من تنسيق وتنظيم عرفي ، إلى مقاطع . أعني إلى مجموعة من الرموز يدل كل منها على مقطع ؛ ثم كيف استخدمت العلامات آخر الأمر لا لتدل على المقطع كله ، بل على أول ما فيه من أصوات . وبهذا أصبحت حروفاً ؛ وربما كان تاريخ هذه الكتابة الهيروغليفية يرتد في التاريخ إلى سنة 3000 ق.م في مصر ، وأما في كريت فقد ظهرت حول سنة 1600 ق.م ؛ إن الفينيقيين لم يخلقوا أحرف الهجاء ، ولكنهم اتخذوا منها سلعة للبيع والشراء ؛ فقد أخذوها - فيما نظن- من مصر وكريت وأدخلوها جزءاً جزءاً في "صور" و "صيدا" و "بيبلوس" Byblos ، ثم أصدروها إلى كل مدينة من مدن البحر الأبيض المتوسط؛ وهكذا كانوا سماسرة لأحرف الهجاء يأخذونها من أصحابها ليذيعوها ، ولم يكونوا مبدعيها حتى إذا ما كان عصر هومر ، كان اليونان يأخذون هذه الأحرف الفينيقية - أو قُل الأحرف التي اتحد في خلقها الآراميون جميعاً - وكانوا يطلقون عليها الاسمين الساميَّين الحرفين الأولَّين "وهما : ألفا، بيتا ؛ وبالعبرية ألفِ، بيت .

فالظاهر أن الكتابة من نتائج التجارة ، وهي إحدى وسائل التجارة المسهلة لأمورها ، فها هنا أيضا ترى الثقافة كم هي مدينةّ للتجارة ؛ ذلك أنه لما اصطنع الكهنة لأنفسهم مجموعة من رسوم يكتبون بها عباراتهم السحرية والطقوسية والطبيّة ، اتحدت الطائفتان : الدنيوية والدينية ، وهما طائفتان متنازعتان عادة ، اتحدتا مؤقتاً لتتعاونا على إخراج أعظم ما أخرجته الإنسانية من مخترعاتها منذ عرف الإنسان الكلام ؛ نستطيع أن نقول إن تطور الكتابة هو الذي كان يخلق الحضارة خلقاً ، لأن الكتابة هيأت وسيلة تسجيل المعرفة ونقلها كما كانت وسيلة ازدهار العلم وازدهار الأدب ، وانتشار السلام والنظام بين القبائل المتنافرة ، لكنها متصلة على تنافرها ، لأن استخدام لغة واحدة أخضعتها جميعاً لدولة واحدة ؛ إن بداية ظهور الكتابة هي الحدُّ الذي يُعَيّن بداية التاريخ ، تلك البداية التي يتراجع عهدها كلما اتسعت معارف الإنسان بآثار الأولين .
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 11:43 PM.