|
حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
|||
|
|||
![]()
من آثار المحبة الإلهية ومظاهرها
أن يكون قريبًا مما يقرِّب من الله تعالى بعيدًا ونافرًا مما يبعد عنه سبحانه وهذا مناسبٌ للمظهر الذي قبله، وهو محور كلام العلماء السابق؛ أي العمل بمراضي الرب ومحابِّه، والابتعاد عن مبغوضاته ومكروهاته تعالى. فأخصُّ علامات محبة الله لعبدِه أن يتولى الله تعالى أمرَه.. ظاهرَه وباطنَه، سرَّه وجهرَّه، فيكون هو المشير عليه، والمدبِّر لأمره، والمزيّن لأخلاقه، والمستعمل لجوارحِه، والمسدِّد لظاهره وباطنه، والمؤنِسَ له بلذِّة المناجاة في خلواته، والكاشف له عن الحجب بينه وبين معرفته. وقد روى أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-: "إذا أحبَّ الله عبدًا جعل له واعظًا من نفسِه، وزاجرًا من قلبِه، يأمره وينهاه"[1]. وهو مناسب للدليل الذي قبله؛ فحديث "كنت سمعه... الخ" مناسبٌ هنا أيضًا، وبعضُ الأوجه السبعة المذكورة هناك أوفَق لهذا المظهر؛ فهذا كما يعني النُّجْح والسداد، يعني أيضًا القرب من الله ومما يحبُّه سبحانه، والنفور من غيره مما يغضِبُه تعالى. وهل يسمى العبد مسدَّدا وناجحًا إلا إذا كان يفعل ما يرضي الرب تعالى وينفر مما يغضبُه؟! إذ المطلوبُ النهائي والهدف الختامي رضاه سبحانه ودخول جنَّته، ولا يبلغُ ذلك إلا من فعل الطاعات واجتنب المنهيات، فيسمى مسدَّدا لأنَّه نال مبتغاه، ويسمى متقرِّبا لأنه فعل ما يُتقرَّب به، وهكذا فالصراط المستقيم واحدٌ ومعالمه واحدة.. فرائض ونوافل، والفرائض صلاةٌ وزكاةٌ وصوم وحج وجهاد وغيرها، والنوافل ما زاد على الفرض مما ندَب الشرع إليه، وأحسنُه ما واظبَ عليه إمامُ الأولياء وسيد المتقرِّبين وأنجح الناجحين - صلى الله عليه وسلم -. وعن قتادة بن النعمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أحبَّ الله عبدًا حماه الدنيا كما يظلُّ أحدُكم يحمي سقيمَه الماء"[2]. قال المباركفوري: قوله "إذا أحبَّ الله عبدًا حماه الدنيا"؛ أي حفِظه من متاع الدنيا ومناصِبِه؛ أي حال بينه وبين ذلك بأن يُبعدَه عنه ويعسِّر عليه حصولَه، "كما يظلُّ أحدكم يحمي سقيمه الماء"؛ أي شربَه إذا كان يضرُّه والأطباء تحمي شربَ الماء في أمراضٍ معروفة[3]. وقال المناوي: "إذا أحبَّ الله عبدًا حماه"؛ أيْ حفِظه من متاع "الدنيا"؛ أي حالَ بينه وبين نعيمِها وشهواتها ووقاه أن يتلوَّث بزهرتها لئلا يمرض قلبُه بها وبمحبَّتِها وممارستها ويألفها ويكره الآخرة، "كما يحمِي" أي يمنع "أحدُكم سقيمَه الماء"؛ أي شربَه إذا كان يَضُرُّه، وللماء حالةٌ مشهورة في الحماية عند الأطباء؛ بل هو منهيٌّ عنه للصحيح أيضًا إلا بأقلِّ ممكن، فإنَّه يبلِّد الخاطر ويضعِفُ المعدة[4]؛ ولذلك أمروا بالتقليل منه وحمَوْا المريضَ عنه، فهو جلَّ اسمُه يذُود من أحبّه عنها حتى لا يتدنَّسَ بها وبقذارتها ولا يَشْرَق بغصَصِها، كيف وهي للكبار مؤذيةٌ وللعارفين شاغلةٌ وللمريدين حائلةٌ ولعامة المؤمنين قاطعة، والله تعالى لأوليائه ناصرٌ ولهم منها حافظٌ وإن أرادوها؟![5]. [1] قال الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء": أخرجه أبو منصور الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أم سلمة بإسناد حسن بلفظ "إذا أراد الله بعبد خيرا". • لكن أورده الألباني في "الضعيفة" (5/143 ح2124)، وعزاه للديلمي (ص93 "زهر الفردوس" للحافظ)، وهناد (1/290 ح506)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/264) من حديث أم سلمة. [2] [صحيح] أخرجه الترمذي (ح2036)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (ح1728)، والطبراني في "الكبير" (ح15360)، والطبري في "تهذيب الآثار" (ح 2534)، وصححه ابن حبان (ح671)، والحاكم (ح7571 و7968 و8360)، والبيهقي في "الشعب" (ح10059)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (ح 5186). جميعًا من طريق: عمارة بن غزية عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن قتادة بن النعمان، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال، فذكره. قال أبو عيسى الترمذي: "وهذا حديث حسن غريب". قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وقال الدارقطني في "أطراف الغرائب" (4/267): "تفرد به عمارة بن غزية عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود عنه". • وأخرجه مرسلا: ابن أبي شيبة (8/320)، والترمذي (ح2036)، وأحمد (5/427 ح24021) و(5/428 ح24027)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (ح10061) من حديث محمود بن لبيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا. قال أبو عيسى الترمذي: "وقتادة بن النعمان الظفري هو أخو أبي سعيد الخدري لأمه، ومحمود بن لبيد قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورآه وهو غلام صغير". • وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (ح4174)، والطبري في "تهذيب الآثار" (ح 2535)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (ح10060)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (ح2364 و2365) من حديث محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجعله من مسند رافع بن خديج. قال الهيثمى (10/285): "إسناده حسن". • وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (ح6716) عن محمود بن لبيد، عن عقبة بن رافع، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث، من مسند عقبة بن رافع. قال الهيثمى (10/285): "إسناده حسن". [3] انظر: "تحفة الأحوذي" (ج6 ص159). [4] في هذا نظرٌ يرجَع فيه إلى الأطباء، ولا يحمل جزمًا على حديث رسول الله، فليس هذا من معاني الحديث ضرورة. [5] انظر: "فيض القدير" (ج1 ص246).
__________________
![]() |
#2
|
|||
|
|||
![]()
من آثار المحبة الإلهيّة ومظاهرها
أن يفقهه الله تعالى في دينه ويعلمه عن معاوية - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يرِد اللهُ به خيرًا يُفقِّهْهُ في الدِّين"[1]. قال الحافظ: هذا الحديثُ مشتمِلٌ على ثلاثة أحكام.. أحدها: فضل التفقُّه في الدين. وثانيها: أن المعطي في الحقيقةِ هو اللهُ. وثالثها: أن بعضَ هذه الأمة يبقى على الحقِّ أبدًا. فالأول لائقٌ بأبواب العلم، والثاني لائق بقَسْم الصدقات.. والثالث لائقٌ بذكر أشرَاط الساعة.. وقد تتعلق الأحاديثُ الثلاثة بأبواب العلم.. خاصةً من جهة إثبات الخير لمن تفقَّهَ في دين اللهِ، وأن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط بل لمن يفتَحُ اللهُ عليه به، وأن من يفتح اللهُ عليه بذلك لا يزال ***ُه موجودًا حتى يأتي أمرُ الله، وقد جزَم البخاريُّ بأن المراد بهم[2] أهل العلم بالآثار، وقال أحمدُ بن حنبل: إن لم يكونوا أهلَ الحديث فلا أدري مَنْ هُم، وقال القاضي عياض: أرادَ أحمدُ أهلَ السنة ومن يعتقدُ مذهبَ أهلِ الحديث، وقال النووي: يحتمل أن تكون هذه الطائفة فِرقةً من أنواع المؤمنين ممن يقيمُ أمْرَ الله تعالى من مجاهدٍ وفقيهٍ ومحدِّثٍ وزاهدٍ وآمرٍ بالمعروف وغير ذلك من أنواعِ الخير، ولا يلزم اجتماعُهم في مكانٍ واحد؛ بل يجوزُ أن يكونوا متفرِّقين. قوله "يفقِّهْه"؛ أي يُفَهِّمه.. يقال: فَقُهَ -بالضم- إذا صار الفِقْه له سجيَّة، وفَقَهَ - بالفتح - إذا سبَق غيرَه إلى الفهم، وفَقِهَ -بالكسر- إذا فَهِمَ، ونكَّر "خيرًا" ليشمَل القليلَ والكثيرَ والتنكيرُ للتعظيم؛ لأنّ المقام يقتضِيه، ومفهوم الحديث أنَّ من لم يتفقه في الدين أي يتعلَّم قواعدَ الإسلام وما يتصل بها من الفروعِ فقد حُرِمَ الخير. وقد أخرج أبو يعلى حديثَ معاوية من وجهٍ آخر ضعيفٍ وزاد في آخره "ومن لم يتفقَّهْ في الدين لم يُبالِ اللهُ به"[3]، والمعنى صحيحٌ؛ لأن من لم يعرِف أمورَ دينِه لا يكون فقيهًا، ولا طالبَ فِقه، فيصح أن يوصف بأنه ما أريدَ به الخير، وفي ذلك بيانٌ ظاهرٌ لفضل العلماء على سائر الناس ولفَضْل التفقُّهِ في الدين على سائر العلوم[4]. وقالَ الإمامُ النَّوَوِيُّ: فيه فضيلةُ العلم والتفقُّه في الدين، والحثّ عليه، وسببُه أنه قائِدٌ إلى تقوى الله تعالى[5]. [1] [متفَقٌ عليه] أخرجه البخاري في العلم (ح71)، ومسلم في الزكاة (ح1037) من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. [2] أي بالطائفة المنصورة الذين لا يضرُّهم من خالفَهم ولا من خذَلهم. [3] [ضعيف] كما قال الحافظ هنا، ولم أقف عليه عند أبي يعلى، ولكنني وجدته عند ابن عدي في "الكامل" (7/73) في ترجمة (الوليد بن محمد الموقري القرشي) وهو ضعيف، ورواه الوليد عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن معاوية مرفوعًا بلفظ "إن المؤمن لا يغلب ولا يخلب ولا يتنبأ بما لا يعلم، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، ومن لم يتفقه لم يبال به". [4] انظر: "فتح الباري" (ج1 ص164-165) مختصرا. [5] انظر: "شرح النووي على مسلم" (ج7 ص128).
__________________
![]() |
#3
|
|||
|
|||
![]()
من آثار المحبة الإلهية ومظاهرها
أن يكون منشغلًا بربه عما سواه تعالى - أن يكونَ مُنْشَغِلاً بربِّه عمَّا سِوَاه تعالى - ذكر البَيْهَقِيُّ -في الشُّعب، عن إبراهيم بن علي المريديّ- يقول: من المحالِ أن تعرفَه -أي ربُّ العالمين جلَّ ذكرُه- ثم لا تحبّه، ومن المحُال أن تحبَّه ثم لا تذكره، ومن المحال أن تذكره ثم لا يوجدكَ طعمَ ذكره، ومن المحال أن يوجدك طعم ذكره ثم لا يشغلك به عمّا سواه[1].وذكر أبو نعيم -في الحِلْية، عن جابر الجعفيّ- قال: قال لي محمد بن عليٍّ: يا جابر، إني لمحزونٌ، وإني لمشتغِل القلبِ، قلتُ: ولم حُزْنُك وشغلُ قلبك؟ قال: يا جابر إنه من دخل وقلبُه صافٍ خالصٌ دينَ اللهِ شغلَه عما سواه[2]. وهذا مع أنه ليس من الوحي المنزل إلا أنه موافقٌ له، فقد نقلنا كثيرًا من النصوص الدالة على أنَّ من مظاهر محبة الله سبحانه لعباده أن يكونوا منشغلين به سبحانه عمَّا سواه، ومن ذلك الجزء الذي أوردناه بشروحه قريبًا من حديث «من عادى لي وليًّا» بمختلف رواياته. نعم فبقدر محبِّة الله للعبد ينشغل العبد به سبحانه، وليس العكس فقط، فإن المحبَّتين اللتين من الله ومن العبد تعتوِران الإنسان حتى لتأخذانِه من نفسه بالكُلِّيَّة، فضلاً عن أنهما تأخذانِه من محيطِه المعيشي الذي يصبح إطارًا ضيَّقا يراه يَحُول بينَه وبين آفاقٍ أرحب ومُثُلٍ أسمى وأعلى، ومن ثم كان الحلم بالجنِّة والتفكُّر في آلاء الله وغيرهما من المتممات التي منطلقها ومنتهاها محبّة الله، والتي هي مخرج المحبوب من قبل ربِّه من ضنك وكبد الحياة المكتوبين على *** بني آدم.. قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾ [طه: 124]. ومع ذلك فهذا المظهر الظاهر لكل ذي عينين ليس في حاجةٍ إلى دليل؛ لأنه ليس محلاًّ للاعتراض إلا من قِبَل ملحدٍ أبعده الله.. أنَّى يُنادى؟!! [1] ذكره البيهقي في «شعب الإيمان» (1/370). [2] ذكره أبو نعيم في «حلية الأولياء» (3/182).
__________________
![]() |
#4
|
|||
|
|||
![]()
من آثار المحبة الإلهيّة ومظاهرها
أن يسدِّد الله تعالى خُطاه فيكون النجاح دائمًا حليفَه عن أبي هريرة - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى قال:... فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسمع به، وبصَره الذي يُبصر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجله التي يمشي بها، ولَئِن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه"[1]. وعن أبي أُمامة يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: "فأكون سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانَه الذي ينطق به، وعقله الذي يعقِلُ به، فإذا دعاني أجبتُه، وإذا سألني أعطيتُه، وإن استنصرني نصرْتُه"[2]. قال الحافظ: فمن والى أولياءَ اللهِ أكرمَه اللهُ، وقال الطوفي: لما كان وليُّ الله من تولَّى اللهَ بالطاعة والتقوى تولاَّه الله بالحفظ والنصرة.. وقد استُشْكِل كيف يكون البارِي جلَّ وعلا سمعَ العبْد وبصرَه الخ، والجواب من أوجه.. أحدُها: أنه ورد على سبيل التمثيل، والمعنى كنت سمعه وبصره في إيثارِه أمري، فهو يحبُّ طاعتي ويؤثر خِدمتي، كما يحبُّ هذه الجوارح. ثانيها: أن المعنى كليَّتُه مشغولةٌ بي؛ فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرتُه به. ثالثها: المعنى أجعَلُ له مقاصدَه كأنَّه ينالها بسمعه وبصره.. الخ. رابعها: كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويدِه ورجله في المعاونة على عدوِّه. خامسها: قال الفاكهاني، وسبقه إلى معناه ابنُ هبيرة: هو فيما يظهر لي أنه على حذف مضافٍ، والتقديرُ كنتُ حافظَ سمعِه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحلّ استماعه، وحافظ بصرِه كذلك.. الخ. سادسها: قال الفاكهاني: يحتمل معنى آخر أدقَّ من الذي قبله، وهو أن يكون معنى سمعه مسموعَه؛ لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول؛ مثل فلان أمَلي بمعنى مأمولي، والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكري ولا يلتذُّ إلا بتلاوة كتابي، ولا يأنَس إلا بمناجاتي، ولا ينظرُ إلا في عجائب ملكوتي، ولا يمدُّ يدَه إلا فيما فيه رضاي، ورجله كذلك، وبمعناه قال ابنُ هبيرة أيضا. وقال الطوفي: اتفق العلماء ممن يُعتَدُّ بقوله أن هذا مجازٌ وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها، ولهذا وقع في رواية "فبي يَسمع، وبي يُبصر، وبي يَبطِش، وبي يمشي"[3]. وقال الخطابي: هذه أمثال، والمعنى توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، وتيسير المحبَّة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصِمه عن مُواقعة ما يكرَه اللهُ؛ من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره، ومن البطش فيما لا يحلُّ له بيدِه، ومن السعي إلى الباطل برجله، وإلى هذا نحا الداودي ومثله الكلاباذي وعبر بقوله: أحفظُه فلا يتصرَّف إلا في محابِّي؛ لأنه إذا أحبَّه كرِهَ له أن يتصرف فيما يكرهه منه. سابعها: قال الخطَّابي أيضًا: وقد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجح في الطلب، وذلِك أن مساعيَ الإنسان كلَّها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة، وقال بعضُهم، وهو منتزَع مما تقدم: لا يتحرَّك له جارحةٌ إلا في اللهِ ولله؛ فهي كلُّها تعمل بالحقِّ للحق، وأسند البيهقي في الزهد عن أبي عثمان الجيزي أحد أئمة الطريق قال معناه: كنت أسرَع إلى قضاء حوائجِه من سمعه في الإسماع وعينه في النظر ويدِه في اللمس ورجلِه في المَشْي. • قوله: "أعطيته"؛ أي ما سأل. • قوله "ولئن استعاذني".. المعنى أعذته مما يخافُ، وفي حديثِ أبي أُمامة "وإذا استنصر بي نصرتُه"، وفي حديث أنس "نصحَني فنصحتُ له"[4]. وقد استشكل بأن جماعةً من العُبَّاد والصُّلَحاء دعَوْا وبالغُوا ولم يجابوا، والجواب أن الإجابة تتنوع؛ فتارةً يقع المطلوب بعينه على الفور، وتارةً يقع ولكن يتأخَّر لحكمةٍ فيه، وتارة قد تقع الإجابة ولكن بغير عين المطلوب؛ حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة وفي الواقع مصلحة ناجزة أو أصلح منها. وفي حديث حذيفة من الزيادة "ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جارِي مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة"[5]. قال الطوفي: هذا الحديث أصلٌ في السلوك إلى الله والوصول إلى معرفتِه ومحبَّته وطريقِه؛ إذ المفترضات الباطنة وهي الإيمان، والظاهرة وهي الإسلام، والمركَّب منهما وهو الإحسان فيهما، كما تضمَّنه حديثُ جبريل، والإحسان يتضمن مقامات السالكين من الزهد والإخلاص والمراقبة وغيرِها، وفي الحديث أيضًا أن من أتى بما وجب عليه وتقرب بالنوافل لم يُرَدَّ دعاؤه لوجود هذا الوعد الصادق المؤكَّد بالقسم، وقد تقدَّم الجواب عما يتخلَّف من ذلك وفيه أن العبد، ولو بلغ أعلى الدرجات حتى يكون محبوبًا لله، لا ينقطع عن الطلب من الله لما فيه من الخضوع له وإظهار العبودية، وقد تقدَّم تقرير هذا واضحًا في أوائل كتاب الدعوات[6]. وقال المناوي - رحمه الله تعالى -: "فإذا أحببته"؛ لتقرُّبه إليَّ بما ذكر حتى قلبه بنور معرفتي، "كنت"؛ أي صرت "سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده الذي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها".. يعني يجعَلُ الله سلطان حبِّه غالبًا حتى لا يرى ولا يسمع ولا يفعل إلا ما يحبُّه الله، عونًا له على حماية هذه الجوارح عما لا يرضاه، أو هو كنايةٌ عن نصرة الله وتأييده وإعانته له في كلِّ أموره، وحماية سمعه وبصره وسائر جوارحه عما لا يرضاه، وحقيقة القول ارتهان كلية العبد بمراضي الرب على سبيل الاتساع؛ فإنهم إذا أرادوا اختصاص شيءٍ بنوعِ اهتمام وعناية واستغراق فيه ووَلَه به ونزوعٍ إليه سلكوا هذا الطريق.. قال: جنوني فيك لا يَخفَى ![]() وناري فيك لا تخبو ![]() وأنت السمْع والناظـ ![]() ر والمُهْجَةُ والقلبُ ![]() والحاصل أن من تقرّب إليه بالفرض ثم النفل قرّبه فرقّاه من درجة الإيمان مقامَ الإحسان، حتى يصِير ما في قلبِه من المعرفة يشاهده بعين بصيرته وامتلاء القلب بمعرفته (يمحو) كلّ ما سواه، فلا ينطق إلا بذكره ولا يتحرَّك إلا بأمره، فإن نظر فيه[7] أو سمع فيه أو بطش فيه وهذا هو كمال التوحيد. "وإن سألني لأعطينه" مسؤولَه؛ كما وقع لكثيرٍ من السلف، "وإن استعاذ بي" -روي بنونٍ وروي بموحدة تحتية والأول الأشهر- "لأعيذنَّه" مما يخاف، وهذا حال المحبِّ مع محبوبه، وفي وعدِه المحقق المؤكد بالقسم إيذانٌ بأنَّ من تقرب بما مر لا يُرَدّ دعاؤه[8]. فالأقوال الثالث والرابع والسابع من ردِّ ابن حجرٍ الاستشكال الأوَّل على حديث أبي هريرة، وكذلك قول الطوفي والخطابي والداودي والكلاباذي، والتفسير الثاني للمناوي، كل ذلك صريح في أن المقصودَ توفيقُ الله وإعانتُه عبدَه المحبوبَ منه، وذلك ما عنينا به تسديدَ اللهِ تعالى خُطا عبدِه وأن يكونَ النجاحُ حليفَه. وأما إحالتُهم هذا النجاحَ والتسديدَ إلى الائتمار بأوامر الدين والانتهاء عن نواهيه فلا يعني أن العبد لا يكون موفَّقًا ومسدَّدًا إلا في ذلك، بل وفي كل عملٍ يعمله ما لم يكن حرامًا، فإن كان حرامًا فليس توفيقًا من الله لمحبوبه أن ينجزه، بل هو عقابٌ على معصِيَةٍ اقترفها أو لأمرٍ آخَر، والله أعلم. كما لا يُجْزَم بأن كلَّ من لم تُقْضَ حوائجُه غيرُ محبوبٍ لله؛ لأن عدم التوفيق هذا قد يكون لأمورٍ عارِضة، أو لمصلحةٍ علِمها اللهُ ولم نعلمْها، وفي ذلك جوابُ الاستشكال الثاني الذي أورده ابن حجر على حديث أبي هريرة، وكذا آخر كلام الطوفي. [1] أخرجه البخاري وقد تقدم تخريجه. [2] أخرجه الطبراني في "الكبير" (12/145)، وقال الحافظ في الفتح: وزاد عبدالواحد في روايته "وفؤاده الذي يعقل به، ولسانه الذي يتكلم به"، ونحوه في حديث أبي أمامة، وفي حديث ميمونة "وقلبه الذي يعقل به"، وفي حديث أنس "ومن أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدًا ومؤيِّدا". [3] قال الألباني -رحمه الله تعالى- في "السلسلة الصحيحة" (2/384 ح1640): "أورد شيخ الإسلام ابن تيمية الحديث في عدة أماكن من "مجموع الفتاوي" (5/511 و10/58 و11/75-76 و17/133-134) من رواية البخاري بزيادة "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي". ولم أر هذه الزيادة عند البخاري ولا عند غيره ممن ذكرنا من المخرجين، وقد ذكرها الحافظ في أثناء شرحه للحديث نقلا عن الطوفي، ولم يعزها لأحد". اه. [4] لم أقف على الحديث من طريق أنس. [5] [إسناده جيد] أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6/116) من حديث حذيفة - رضى الله عنه - مرفوعًا، ولفظه: "يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى أوحى إليّ يا أخا المرسلين ويا أخا المنذرين أنذر قومك أن لا يدخلوا بيتا من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة، فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي يصلي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها، فأكون سمعه الذي يسمع به، وأكون بصره الذي يبصر به، ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة"، قال أبو نعيم: "غريب من حديث الأوزاعي عن عبدة، ورواه علي بن معبد عن إسحاق بن أبي يحيى العكي عن الأوزاعي مثله". وعزاه ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص360) للطبراني، ثم قال: "سنده جيد". [6] انظر: "فتح الباري" (ج11 ص343-345) باختصار شديد. [7] أي ففيه نظر وفيه سمع.. إلخ، أي خالصًا لوجهه الكريم لا يشركه أحدٌ في شيءٍ من ذلك. [8] انظر: "فيض القدير" (ج2 ص240) مختصرا.
__________________
![]() |
#5
|
|||
|
|||
![]()
من آثار المحبة الإلهية ومظاهرها
أن يكون راضيًا عن ربّه سبحانه (أي بقضائِه فيه وتقْدِيرِه عليه) قال الله تعالى: ﴿ قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [المائدة: 119]، وقال سبحانه: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [التوبة: 100]، وقال تعالى: ﴿ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22]، وقال: ﴿ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 8]. قال الإمام الطبري - رحمه الله تعالى -: ورضُوا هم عن الله تعالى ذِكرُه في وفَائه لهم بما وعدَهم على طاعتهم إيّاه فيما أمرَهم ونهاهم من جَزيل ثوابه، ﴿ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ هذا الذي أعطاهم الله من الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها مرضيًّا عنهم وراضين عن ربهم، هو الظفر العظيم بالطّلْبة وإدراك الحاجة التي كانوا يطلبونها في الدنيا، ولها كانوا يعملون فيها، فنالوا ما طلبوا وأدركوا ما أمَّلُوا[1]. وقال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: وفي قوله تعالى ﴿ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ سرٌّ بديع؛ وهو أنه لمَّا سخطوا على القرائِب والعشائر في الله تعالى عوَّضهم الله بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم والفوز العظيم والفضل العميم[2]. وقال القرطبي - رحمه الله تعالى -: ﴿ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾؛ أي عن الجَزاء الذي أثابهم به[3]. وقال: ﴿ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ فرحوا بما أعطاهم[4]. وقال الشوكاني - رحمه الله تعالى -: ﴿ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ﴾؛ أي قَبِل أعمالهم وأفاض عليهم آثارَ رحمته العاجلة والآجِلة، ﴿ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾؛ أي فرِحوا بما أعطاهم عاجلاً وآجلا[5]. وقال البغوي: وقيل الرضا ينقسم إلى قسمين: رضا به ورضا عنه؛ فالرضا به: ربًّا ومدبِّرا، والرضا عنه: فيما يقضي ويُقدِّر. قال السدي - رحمه الله تعالى -: إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تسألُه الرضا عنك؟[6]. وقال البيضاوي: ﴿ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ﴾ بطاعتِهم، ﴿ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ بقضائه أو بما وعدَهم من الثواب[7]. وقال السيوطي: ﴿ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا لأمَّتي كلِّهم وليس بعد الرضا سخط"[8]. وقال النسفي: ﴿ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ بثوابِه الجسيم في الآخرة، أو بما قضى عليهم في الدنيا[9]. والرضا يتضمَّن المحبة، أو هو كالمقدِّمة لها، أو هو أوَّل مراتبِها، فمحالٌ أن يحِبَّ أحدٌ ما لا يرضى به أو عنه؛ ولذا استنبط العلماء - من الآيات السابقِ ذكرُها ونصوصٍ أخرى - أن الرضا بالله ربًّا وبقضائه وقدره وحُكمه سببٌ لمحبته تعالى من رضِيَ بذلك... والله أعلم. [1] انظر: "تفسير الطبري" (ج9 ص142-143). [2] انظر: "تفسير ابن كثير" (ج4 ص421). [3] انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (ج6 ص350) ط2 دار الكتب - مصر. [4] انظر: المصدر السابق (ج17 ص260)، وفيهما تفسير رضى العباد بحالٍ قريبةٍ منه، لكن الأوجَه أن معناه أنهم رضوا به تعالى ربًّا لهم، وفي حديث مسلم وغيره "رضيت بالله ربًّا"، وفي البخاري أن عمر قال أمام رسول الله: "رضينا بالله ربًّا". [5] انظر: "فتح القدير" (ج5 ص272). [6] انظر: "معالم التنزيل" (ص497). [7] انظر: "تفسير البيضاوي" (ص315). [8] في "الدر المنثور" (4/272): "أخرج ابن مردويه من طريق الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير والقاسم ومكحول وعبدة بن أبي لبابة وحسان بن عطية، أنهم سمعوا جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون: لما أنزلت هذه الآية ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ ﴾ إلى قوله ﴿ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا لأمتي كلهم، وليس بعد الرضا سخط". [9] انظر: "تفسير النسفي" (ج4 ص228).
__________________
![]() |
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|