|
#1
|
||||
|
||||
![]() فضل حملة القرآن عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ(1) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « للهِ فِي النَّاسِ أَهْلُونَ». قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: « أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ»(2). وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّ للهِ أَهْلِينَ». قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: « أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ». وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: « يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اقْرَأْ وَارْقَ فِي الدَّرَجَاتِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ كُنْتَ تَقْرَأُهَا»(3). وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: « يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُهَا»). قال محمد بن الحسين: (وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ(4) أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَمَّنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ مِمَّنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ: مَا فَضْلُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَقْرَأْهُ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ عَدَدَ دَرَجِ الْجَنَّةِ بِعَدَدِ آيِ الْقُرْآنِ، فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ مِمَّنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ(5). وَعَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « تَعَلَّمُوا هَذَا الْقُرْآنَ وَاتْلُوهُ؛ فَإِنَّكُمْ تُؤْجَرُونَ عَلَى تِلاَوَتِهِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، أَمَا إِنِّي لاَ أَقُولُ: "الم" حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ. إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَةِ اللهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللهِ، هُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، وَنَجَاةُ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَعِصْمَةُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، لاَ يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلاَ يَخْلَقُ مِنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ»(6). عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَاتْلُوهُ؛ فَإِنَّكُمْ تُؤْجَرُونَ بِهِ؛ إِنَّ بِكُلِّ اسْمٍ مِنْهُ عَشْرًا، أَمَا إِنِّي لاَ أَقُولُ: بِـ (آلم) عَشْرٌ، وَلَكِنْ بِأَلِفٍ عَشْرٌ، وَبِاللاَّمِ عَشْرٌ، وَبِالْمِيمِ عَشْرٌ(7). وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فَقَدْ حَمَلَ أَمْرًا عَظِيمًا، لَقَدْ أُدْرِجَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُوحَى إِلَيْهِ، فَلاَ يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَجِدَّ مَعَ مَنْ يَجِدُّ، وَلاَ يَجْهَلَ مَعَ مَنْ يَجْهَلُ؛ لأَنَّ الْقُرْآنَ فِي جَوْفِهِ(8). وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ(9) يَرْفَعُهُ، قَالَ: « مَنْ قَرَأَ رُبُعَ الْقُرْآنِ فَقَدْ أُوتِيَ رُبُعَ النُّبُوَّةِ، وَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَدْ أُوتِيَ ثُلُثَ النُّبُوَّةِ، وَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَيِ الْقُرْآنِ فَقَدْ أُوتِيَ ثُلُثَيِ النُّبُوَّةِ، وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَقَدَ أُوتِي النُّبُوَّةَ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُوحَى إِلَيْهِ»(10)). بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي تتابعت علينا نعمه، وترادفت لدينا مننه، بواضح البيان، وبَيِّنِ البرهان، مَنَّ فأكرم، وأعطى فأجزل، وأنعم فتكرم، لا معقب لحكمه، ولا مبدل لكلماته، وهو سريع الحساب. والصلاة والسلام على مَن أرسله الله رحمة للعالمين، ومنة للمؤمنين، ومحجة للسالكين، وحجة على المعاندين؛ ﴿ لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾(11)، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القبر، وفتنة العمل. هذا هو الباب الأول في هذا الكتاب، في فضل حملة القرآن، ذكر المؤلف عددًا من الأحاديث المخرجة في كتب السنن، في فضل حملة القرآن الكريم، ومنها حديث أنس(12)، وهو مخرج في مسند الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه، وفي هذا الحديث بيان فضل أهل القرآن الكريم، حينما قال -عليه الصلاة والسلام: « للهِ مِنَ النَّاسِ أَهْلُونَ». قيل: مَن هم يا رسول الله؟ قال: « أَهْلُ الْقُرْآنِ، هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ»(13). فالأهل هنا بمعنى الأولياء، أي: أولياء الله -تعالى، الذين اصطفاهم مِن خلقه وعباده، هم أهل القرآن، كما قال -تعالى: ﴿ أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(14). وقال -تعالى: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ﴾(15). فالذين آمنوا وعملوا الصالحات هم أولياء الله، وأهلون هنا بمعنى: الأولياء، وعبر بالأهل هنا؛ لأنهم قريبون من الله -تعالى، فأهل الرجل هم أقرب الناس إليه، وأقرب الناس إلى الله -تعالى- هم أهل الطاعة والاستجابة لأمره -تعالى، وأعظم أمرٍ يقرب إلى الله -جل وعلا- هو قراءة القرآن الكريم، والمداومة على قراءته، آناء الليل وأطراف النهار، فالذي يقرأ القرآن، ويداوم عليه قريب من الله، وقريب من رحمته، وقريب من إحسانه، وقريب من ثوابه -جل وعلا- وقد قال الله -تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾(16). وكل عمل صالح فإنه يقرب إلى الله -تعالى، فالإحسان يقرب إلى الله: ﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(17). والصلاة تقرب إلى الله: ﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾(18). فكل عمل صالح جاءت به الشريعة في القرآن أو السنة، فإنه العمل الذي يقرب إلى الله -تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾(19). وأنبياء الله -جل وعلا- هم أقرب الناس إلى ربهم، كما أخبر الله -تعالى- عن أنبيائه، وقال -تعالى- عن عيسى -عليه السلام: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾(20). ففي هذه الآية قال الله -تعالى- عنه: وجيهًا في الدنيا، ووجيهًا في الآخرة، وأيضًا من المقربين، فالوجاهة عند الله -تعالى- بالعمل الصالح، وهي في الحياة الطيبة، كما أخبر الله -تعالى- في سورة النحل: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾(21). |
#2
|
||||
|
||||
![]() فالحياة الطيبة في هذه الدنيا في السعادة، وفي طمأنينة النفس، وفي القناعة، وفي الزهد، وفي الآخرة بدخول الجنة، ورؤية الرب -جل وعلا، فهذا النبي عيسى -عليه السلام- وصفه الله -تعالى- بأنه وجيه في الدنيا، ووجيه في الآخرة، وأنه من المقربين، وهكذا أنبياء الله –تعالى؛ لأنهم المصطفون من عباده، فنَفْهَم من قوله -عليه الصلاة والسلام: « للهِ أَهْلُونَ». أو في الرواية الأخرى: « إِنَّ للهِ أَهْلِينَ». لما سُئِل -عليه الصلاة والسلام: مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: « أَهْلُ الْقُرْآنِ، هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ». وأكد ذلك بالخصوصية أيضًا بأنهم يظهرون كلام الله -جل وعلا- ويقرؤونه وينشرونه؛ إما بتلاوته، أو بالدعوة إليه، أو بالعمل بأحكامه، أو بالسير على منهاجه، فكل هذا العمل داخل في هذه القربة إلى الله -تعالى.
إذن نفهم من قوله: « إِنَّ للهِ مِنَ النَّاسِ أَهْلِينَ». أن أهل القرآن هم أولياء الله -تعالى، وهم أقرب الناس إلى ربهم وخاصته، اختصهم الله -تعالى- من بين سائر الناس؛ لأن الناس في هذه الحياة الدنيا يلهون ويسرحون ويمرحون وينخدعون بزخارفها ومتاعها وشهواتها، فمنهم العاصي من المؤمنين، ومنهم الكافر الذي كفر بربه، فهؤلاء بعيدون عن القرآن؛ فأهل الكفر بعيدون كلَّ البعد، وأهل المعاصي يتركون القرآن تارة ويبتعدون عنه تارة. ولكن أهل الطاعة هم أهل الإيمان، وهم أهل القرآن، وهم أهل الخاصة، وهم خاصة الناس المقربون إلى الله -جل وعلا- في كل شؤونهم وأحوالهم، فلا تنفك حياتهم ولا أعمالهم عن القرآن، فكما يأكلون ويشربون وينامون ولا يتخلون عن هذه الأمور، فإنهم لا يتخلون عن القرآن؛ لأن مَن دَاوم على القرآن الكريم حصلت له طمأنينة النفس وسعادتها وفلاحها ونجاحها في هذه الدنيا، وحصل له الخير العظيم في الدنيا وفي الآخرة؛ لأنه يعمل بهذا القرآن ويتلوه. والمؤمن عليه أن يخصص لنفسه دائمًا وقتًا يقرأ فيه القرآن؛ حتى ينال هذا الوصف العظيم الذي جاء من النبي -عليه الصلاة والسلام- أن أهل القرآن هم أهل القرب من الله -جل وعلا، وهذه الصفة لا تكون إلا للعاملين بالقرآن، كما تقدم في الآيات: ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾(22)، أي: يعملون به حق العمل، فالعاملون بالقرآن المتبعون له المتدبرون لآياته المستجيبون لأوامره، هؤلاء هم أهل القرآن، وهؤلاء هم أولياء الله، وهؤلاء هم المقربون من الله -جل وعلا، قد عصمهم الله من الموبقات، ومن وساوس الشيطان. فالْمُقْدِم على الله -تعالى- بالطاعة والعبادة -ومن أعظمها تلاوة القرآن- لا يستطيع الشيطان أن يأتيه، أو يوسوس له، أو يضله، أو يغويه: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾(23). وقال: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً﴾(24). أي: عبادي الْخُلَّص من هؤلاء المؤمنون حق الإيمان، التالين لكتاب الله -تعالى. وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص جاء أيضًا في بيان ثواب قارئ القرآن في الآخرة، كما أنه نال الثواب في الدنيا، وصبر واحتسب، وانقطع عن زخارف الدنيا، ومتاعها وشهواتها، وأقبل على القرآن يتلوه ويتعلمه، ويتدبر ما فيه؛ لذلك ستكون النتيجة يوم القيامة، وستكون الثمرة العظمى؛ لأنه صبَر واحتسب، وسهر الليل، وداوم على القراءة آناء الليل وآناء النهار، فسوف يجد هذا العمل -إذا اقترن بالإخلاص لله -تعالى- في يوم القيامة، في ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، لأهل القرآن فيه خصوصية على غيرهم، ومن هذه الخصوصية: أنه يُنَادَى حينما يدخل الجنة، ويقال له: اقرأ القرآن، وارقَ هذه الدرجات التي أعدها الله -تعالى- لأهل القرآن العاملين به: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾(25). فمَن حفظ القرآن -كله أو بعضه- وعمل بما فيه، وتأدب بآدابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، وتخلق بأخلاق القرآن الكريم، واتصف به - هو الذي ينطبق عليه حينئذ الوصف العظيم؛ ولهذا كان من صفات النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يتخلق بأخلاق القرآن الكريم، فما من خلق جاء في القرآن الكريم إلا وقد فعله النبي -عليه الصلاة والسلام. وفي صحيح مسلم: جاء رجل إلى عائشة -رضي الله عنها- يسألها عن الأخلاق، التي كان يتصف بها -عليه الصلاة والسلام- حتى يتعلمها؛ فأوجزت له العبارة، وقالت: أولست تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قالت: كان خلقه القرآن(26). أي: كان يتأدب بآدابه، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويأتمر بأمره، فالقرآن كله أوامر ونواهٍ وأخبار عن الله -تعالى، فمن كان كذلك في حياته فقد تخلق بأخلاق القرآن، وسوف يجد هذه الثمرة غدًا يوم القيامة، ﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾(27). في يوم يكون الإنسان مرتهن بعمله، فلا ينفعه فيه أحد من الناس، لا من البعيد ولا من القريب، إلا ما قدم من العمل: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾(28). أي: بعملها، فلا تظن أنك حينما تقبل على هذا القرآن أنك تفرط في الوقت، وتضيع عليك أمور، بل إنك تجمع خيرات وحسنات عظيمة، إذا كانت مقرونة بالإخلاص لله -جل وعلا. وهكذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يرغب أمته، ويرغب أصحابه، فيرغب أمته بالإقبال على القرآن الكريم بهذه الأجور العظيمة المترتبة على تلاوة القرآن، كما ورد: « يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ، كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا». فحينما يقول -عليه الصلاة والسلام- هذا الكلام العظيم لأصحابه، فإن نفوسهم تنطلق إلى القرآن الكريم، ويقبلون عليه، ويحفظونه، ويتدارسونه فيما بينهم؛ لأنهم سمعوا هذا الأجر والثواب من الصادق، الذي وعده لا يُخْلف؛ وهو ربنا -جل وعلا- على لسان نبينا -عليه الصلاة والسلام. وفي هذا أيضًا بيان لأن الإنسان سوف يرى أثر عمله في الآخرة، وسوف يرى أثر هذا العمل، وقراءة القرآن عمل، فإذا قرأ الإنسان القرآن الكريم، ودوام على ذلك، وكانت أغلب حياته وأغلب أوقاته مشغولة بالقرآن الكريم، فسوف ينال هذا الثواب العظيم الذي جاء في هذا الحديث، حتى إنه يقال له: « كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ». فليس هناك فرق بين ما كنت تقرأ في الدنيا، وما ستقرأ في الآخرة، فاقرأ كقراءتك في الدنيا. وهذا يعطينا أيضًا فائدة، وهي أن الترتيل أفضل من غيره من أنواع القراءة، أو مراتب القراءة -كما تقدم في الأربع- وأن الترتيل هو أفضلها، فالذي يرتل في الدنيا سوف يرتل في الآخرة، فهذه الصفة -صفة التلاوة- بهذا النوع ستكون معه أيضًا في الآخرة، فكانت -من هذا الوجه- له أفضلية هذا الكلام، فيقال لقارئ القرآن: اقرأ. حينما يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ويتوجه العاملون إلى مراتبهم في الجنة، لكن صاحب القرآن من بين هؤلاء العاملين خُصَّ بخاصية عظيمة، وهي أنه في هذه الدرجات لا يتوقف إلا عندما تنتهي قراءته، فالذي يحفظ القرآن الكريم كاملاً يقف عند آخر آية، والذي يحفظ النصف كذلك، أو الربع، أو الثلث، أو أقل من ذلك، فهذا الفضل متفاوت حينئذ. فمَن كان حافظًا للقرآن كله، عاملاً به، مقتديًا به، متأدبًا بآدابه، فهو أفضل ممن حفظ النصف، أو حفظ الربع، أو حفظ أقل من ذلك، فسَجِّل بنفسك هذه الحسنات، وادخر لنفسك هذا الثواب العظيم بقراءة القرآن الكريم، ومعنى قوله: « ارْقَ». أي: اصعد درجات هذه الجنة التي أعدها الله -تعالى- لأوليائه، على قدر ما تحفظه من هذه الآيات المصحوبة بالعمل، فإن كان حافظًا للقرآن كله كان في أعلى الدرجات، وإن كان أقل من ذلك كان أقل درجة أيضًا. وأما حديث عبد الله بن عمرو أيضًا، وهو ملحق بالحديث السابق، وقد أخرجه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود(29)، وهذا من الثواب العظيم الذي يُضَمُّ إلى الآية السابقة التي وردت في أول الكتاب، وذكرها المؤلف، وهي آية عظيمة في سورة فاطر: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾(30). فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾. أكدها بحرف (إن) المؤكدة، ثم أيضًا باسم الموصول (الذين)، ثم بصفة التلاوة: (يتلون) القرآن الكريم، ثم بوصف القرآن بـ (كتاب الله)، ثم بالإضافة (يتلون كتاب الله)، أي: يتلون هذا القرآن تلاوة -كما تقدم- مصحوبة بالعمل والتدبر والاتباع. أما القراءة المجردة عن هذه الأمور، فإنها لا تدخل في هذه الآية، وربما تكون وبالاً على صاحبها؛ كما جاء في الحديث الآخر عند مسلم: « وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»(31). يكون حجة لك إذا تلوته، وعملت بما فيه، وطبقت أحكامه، ووقفت عند حدوده، وما أحوج الإنسان لهذه الحجة يوم القيامة التي تدافع عنه، وهناك حجج مقبولة وقوية، ويظهرها الله -تعالى- يوم القيامة، وهناك حجج واهية وباطلة لا تنفع أصحابها يوم القيامة، كما قال -تعالى- عن الكفار: ﴿ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾(32). أما أصحاب الحق والإيمان، والعمل الصالح، وأهل القرآن فحجتهم ظاهرة وقوية ونافعة في الدنيا وفي الآخرة، فإن الذين يتلون كتاب الله مع العمل بما فيه، فإن ذلك يثمر المحافظة على الصلاة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ﴾(33). وأثمر الإنفاق في سبيل الله، والإنفاق على القربى، وعلى المساكين، وعلى الفقراء، وعلى المحتاجين من هذا الرزق الذي رزقه الله -تعالى- لهم، فأنفقوا منه ولو كان قليلاً، فلا يعنى أن الإنسان إذا كان تاجرًا ثريًّا أنفق، ولو كان فقيرًا لا ينفق. إذن، انظر إلى القرآن الكريم الذي هو أساس عقيدة المسلمين، ماذا أثمر؟! أثمر العبادة الصالحة، والعبادة ماذا أثمرت؟ أثمرت الأخلاق، وما هي الأخلاق؟ الأخلاق: التعاون والإنفاق والرحمة والإحسان... فالعقيدة الصحيحة المأخوذة من القرآن والسنة تثمر العبادة، وهذه العبادة هي: الصلاة والزكاة والصيام والحج... وهذه عبادات مفروضة، والعبادات المفروضة ماذا تثمر؟ تثمر الأخلاق وحسن التعامل، وانظر مثلاً إلى الصلاة في قول الله -تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾(34). فإذا كانت تنهى عن الفحشاء، فمعنى ذلك أنها تأمر بالخير، وهذا الأمر من الأخلاق. كذلك الزكاة: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بهَا﴾(35). فهذه هي الثمرة، والحج ماذا يثمر؟ ﴿ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾(36). والصيام ماذا يثمر؟ يثمر التقوى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(37). وآخر آية ذكرت التقوى، فكأن الصيام محافظ لسياج التقوى في أول آية وآخر آية، قال -تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾(38). وفي الآية الأولى قال: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. فالصوم يثمر التقوى، والتقوى لها منافع متعددة على حياة العبد، قال -تعالى: ﴿ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً﴾(39). أي: في الخفاء وفي العلن، ومع ذلك يكرمهم الله -تعالى، ويزيدهم أجورًا على أجور، قال -تعالى: ﴿ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ﴾(40). أي: يزيدهم على ذلك، ويزيدهم من فضله، والذي يقول هذا الكلام هو الذي وعده حق وصدق: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾(41). ﴿ وَيزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾(42). غفور لسيئاتهم وذنوبهم، يشكر الله أعمالهم هذه، فهذه أعظم آية جاءت في ثواب أهل القرآن الكريم؛ ولهذا سماها بعض السلف: آية القُرَّاء. فهذه من الآيات الملَقَّبَات، كما جاء في آية الكرسي، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- سماها آية الكرسي، وسميت آية الدين آخر سورة البقرة وسميت آخر آية في سورة الإسراء: آية العز: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾(43). فسماها النبي -عليه الصلاة والسلام- كما عند ابن كثير(44) آية العز. ثم جاء الحديث الذي بعده، وهو رواية عن أم الدرداء، وأم الدرداء زوجة أبي الدرداء، وأبو الدرداء له زوجتان: صغرى وكبرى، الصغرى هي التي تذكر لنا هذا الأثر، قيل: إن اسمها هجيمة أو جهيمة. وكانت أم الدرداء من فضليات النساء وعقلائهن، وكانت ذات رأي وعبادة ونسك، تُوفِّيت في خلافة عثمان -رضي الله عنه، ولما تُوفِّي زوجها خطبها معاوية(45) -رضي الله عنه- فأبت وامتنعت، واحتجت عليه بحديث رواه الطبراني(46) بسند صحيح، وقالت له: المرأة بآخر زوجها لا أتزوجك. فاحتجت بهذا، وكانت فقيهة وعالمة، وقالت: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: « الْمَرْأَةُ لآخِرِ أَزْوَاجِهَا»(47). وقد أحببتُ أبا الدرداء؛ ولا أتزوج بعده. |
#3
|
||||
|
||||
![]() وبعض النساء الآن إذا كانت محبة لزوجها فإنها لا تتزوج بعده، ولو مكثت سنين طويلة، هذا يكون من الوفاء، لكن ليس من السنة، فأم الدرداء هذه كانت عالمة وفاضلة، وذات عبادة ونسك وطاعة، وقد وثقها أهل العلم، وهي ثقة كما ذكر ذلك ابن حجر.
أما الكبرى فاسمها خِيرة أو خَيِّرة، لكن المقصودة في هذا الأثر هي أم الدرداء الصغرى، وقد سألت عائشة -رضي الله عنها- عمن دخل الجنة ممن قرأ القرآن، ما فضله ممن لم يقرأ؟ فقالت عائشة -رضي الله عنها: إن عدد درج الجنة بعدد آي القرآن، فمن دخل الجنة ممن قرأ فليس فوقه أحد. وعدد آيات القرآن ستة آلاف ومئة وستة عشر آية، كما يذكر العادون، لكن تتفاوت بين علماء العدد، والعلماء مختلفون في العدّ؛ فبعضهم يقول أقل، وبعضهم يقول أكثر، وهناك العد المكي، والعد المدني، والعد البصري، والعد الكوفي، كما هو مقرر في علم القراءات، فعلماء العدد يختلفون في عدد الآيات، لكن عائشة تقول: إن عدد درج الجنة بعدد آي القرآن. وفي حديث صحيح ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في الصحيحين، من حديث أبي سعيد الخدري(48) أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: « إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ؛ أَعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، مَا بَيْنَ كُلَِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»(49). وعائشة تقول هنا: بعدد آي القرآن الكريم، وليس في هذا تعارض، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح ذكر الدرجات العامة في الجنة، وما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، فالأمر واسع، فما بين الدرجتين رتب ومراتب يتفاوت الناس فيها، مثل أن يكون الإنسان عنده عمارة عشرة أدوار، وفي كل دور أجنحة وغرف، وأماكن متفاوتة، كما يحصل الآن في الفنادق، ففي الدور الواحد غرف متباينة، فهذه الغرفة أرقى من تلك، وهذا الجناح أرقى من ذلك الجناح... وهكذا، حتى السعر يتفاوت في التأجير في هذه الغرف، بحسب ما فيها من تسهيلات وراحة. فدرجات الجنة عظيمة، وعلمها عند الله؛ لأن هذه من غيب الآخرة، ومن أصول أهل السنة والجماعة الإيمان بهذه الأخبار التي ترد في أوصاف الجنة ونعيمها ودرجاتها، وهذه الدرجات قد ذكر الله -تعالى- أنه أعد فيها درجة عالية للمجاهدين في سبيله، كما قال -تعالى- في سورة النساء: ﴿ لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾(50). وقال -تعالى: ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا﴾(51). فالدرجة معناها: المنزلة الرفيعة العالية؛ ولهذا جاء في الفرق ما بين الرجال والنساء، قال -تعالى: ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾(52). فالدرجة هذه التي تكون للرجال دون النساء، وذلك بما آتى الله -تعالى- الرجالَ من القوة والعقل والسياسة، ومعرفة تدبير الأحوال، وهي جزء من القوامة التي قال الله -تعالى- فيها: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ﴾(53). فهذه القوامة هي التي تفرق بين الرجل وبين المرأة. وقد فسر ابن عباس الدرجة هنا بتفسير لطيف، فقال: الدرجة: العفو، كيف تكون بمعنى العفو؟ قال: إن المرأة كثيرة الغلط والخطأ، والإنسان لا يؤاخذها دائمًا في كل ما تقول(54)، قال -تعالى: ﴿ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾(55). وقال: ﴿ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾(56). وقد أخذها ابن عباس من الآية بالدلالة التي فيها، فقال: الدرجة بمعنى العفو؛ لأن الرجل لا يؤاخذ المرأة، ولا يجعل عقله كعقلها في كل شيء، قد يوافقها في بعض الأمور، لكنه ليس في كل شيء، وهذه الدرجة هي العفو. فقد تخطئ المرأة في حق زوجها، وقد ترفع صوتها، أو قد يحصل منها كلمات نابية، أو سب.. أو غير ذلك، كما هو الواقع في بعض البيوت الآن، فالرجل لا يؤاخذها، والبعض -نسأل الله السلامة والعافية- يبادر بالطلاق فورًا، بعدما يسمع منها هذا الكلام، ويقول: أنا رجل وترفع عليَّ الصوت؟! فهذا نوع من التأمل في آيات القرآن، فتأخذ تفسير الآية من الآية، وكلمات قريبة تدل على المعنى فخذها منها، وهذا ما يسهل أصحاب الاستنباط وأصحاب التأمل في القرآن الكريم، كما كان ابن عباس، وابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، إذا فسر فتفسيره معول عليه، يقول مجاهد: وإذا جاءك التفسير عن ابن عباس فحسبك به(57). هذا إذا صح الأثر عن ابن عباس، وصحت الرواية عنه، فإذا صحت الرواية فحسبك بها، فإنها جاءت من حبر وعالم، ومفسر ضليع في التفسير، وهذا الأثر الذي جاء عن أم الدرداء رواه ابن مردويه(58) والبيهقي(59) والحاكم(60). إذن تبين لنا الفرق ما بين الدرجة التي ذكرتها عائشة، والتي جاءت في الحديث، فالدرجة ما بين الدرجتين في الجنة، وقد يكون هناك تفاوت في المراتب أيضًا في البقاء في هذه الدرجة في الجنة -نسأل الله أن نكون منهم، فكل درجة تأخذ مساحة كبيرة كما نشاهد، وما بين السماء والأرض -كما جاء في الحديث الآخر: مسيرة خمسمئة عام، وهذا فضل من الله يعطيه من يشاء من عباده، كما قال –تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾(61). أما الحديث الأخير، فرواه الدرامي(62) والحاكم وهو حديث عبد الله بن مسعود(63)، وهو أيضًا يحث على تعلم القرآن وتلاوته، والله -تعالى- قال لنبيه -عليه الصلاة والسلام: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾(64). وقال: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ﴾(65). وقال: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ﴾(66). وفي قوله -تعالى: ﴿ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾(67). فتلاوة القرآن هي تعلمه وقراءته، وتعلم القرآن لا تكون إلا من شيخ قارئ حاذق، حتى يقيم الحروف ويبينها ويوضحها، وتكون قراءة صحيحة سليمة لها معانٍٍ عظيمة؛ لأن القراءة المصحوبة بالتأمل والتدبر والضبط والإتقان لها أثر حقيقة على النفس، وعلى السامع، وعلى القارئ. وفي صحيح البخاري أن رجلاً قال لابن مسعود -رضي الله عنه: يا أبا عبد الرحمن، إني قرأت المفصل البارحة في ركعة. فأنكر عليه عبد الله ابن مسعود، وقال: أهَزٌّ كهز الشعر؟!(68) فكأنه أنكر عليه هذا، وكما تقدم: لا تهزوه هز الشعر. فالقراءة المتأنية المضبوطة في ألفاظها وحروفها تأثر حقيقة؛ ولهذا فالنبي -عليه الصلاة والسلام- هو أقرأ هذه الأمة، فكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يتأثرون بتلاوته، كان -عليه الصلاة والسلام- يصلي المغرب بسورة الطور، وقرأ: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾(69). فسمعها الجبير -كما في الصحيح- فأسلم(70)، من حسن الأداء التي كان يقرأ بها النبي -عليه الصلاة والسلام، فالأداء تام، والضبط متقن، فأثرت في نفس السامع، كما أثرت في القارئ، ونقلت هذا السامع من الكفر إلى الإسلام، كما في بعض الروايات أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما سمع أول سورة طه(71). والفضيل بن عياض(72) -كما يذكر ابن قدامة(73) في كتاب: (التوابين)(74)- كانت توبته عندما سمع آية فكان من قطاع الطريق، فتسلق ذات مرة جدار، وسمع قارئًا يقرأ: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾(75). فتاب من هذا العمل، وصار من أعلام الأمة، وأعلام الإسلام؛ لأن ذلك القارئ قرأها بنية خالصة، فأثرت في نفسه، وأثرت في غيره. |
#4
|
||||
|
||||
![]() فانظر إلى بركة القرآن؛ ولذلك وصفه الله -تعالى- بأنه مبارك، فقال: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾(76). فالبركة فيه عامة في كل شيء.
فأخلص لله –تعالى، واطلب الأجر من الله، ينفعك الله بهذا القرآن وينفع غيرك حينما تتلوه، كما مرَّ من قصص التي ذكرها العلماء في كتبهم، وكما يذكر ابن الجوزي في قصص كثيرة حينما يُتْلى عليهم القرآن الكريم، فالقرآن مؤثر، بليغ التأثير في نفس الإنسان إذا أقبلت عليه؛ لأن الله –تعالى- قال: ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾(77). فالنفس البشرية إذا أقبلت تأثرت، وإذا أعرضت وأدبرت حُرِمت هذا الأجر العظيم، فهنا يقول: تعلموا هذا القرآن واتلوه. أي: أكثروا من تلاوته؛ فإنكم تؤجرون على تلاوته، ليس أجرًا عامًّا، بل أجر مفصل -كما جاء في هذا الأثر، وهو أيضًا مخرج عند الترمذي بسند صحيح من حديث عبد الله بن مسعود(78). لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: « مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ؛ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ: الـمْ حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ»(79)، فمَن يستشعر هذه المعاني العظيمة وهذا الأجر الدقيق المفصل؟! يُضَم إلى هذا الأجر الوارد في سورة فاطر الآنف الذكر، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- في هذا الأثر وفي غيره يحث أصحابه وأتباعه إلى تلاوة هذا القرآن الكريم، ثم جاء وصف آخر فقال –صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ وُالشِّفَاءُ النَّافِعُ»(80)، فبدأ يبين أوصاف القرآن الكريم وأنه هو حبل الله الممدود العباد، كما قال -تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾(81). وحبل الله هو القرآن كما فسرها غير واحد من الصحابة والتابعين، والقرآن هو النور، قال -تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾(82)، هو النور المبين والشفاء، قال -تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾(83)، وهو النجاة لمن اتبعه، قال -تعالى: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى﴾(84)، وهو النجاة والعصمة، قال -تعالى: ﴿ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(85)، ومن تمسك به لا يعوج فيقوم؛ ولهذا قال الله –تعالى- لنبيه: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾(86)، والذي أوحي إليه هو القرآن. وهو صراط الله، قال -تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾(87)، قالوا: هو القرآن، والصراط المستقيم هو الذي لا اعوجاج فيه، بل هو مستقيم لا يزيغ بصاحبه عن الحق، ولا يحتاج إلى مَن يقوِّمه؛ لأنه على الصراط والحق، لكن المعرض العاصي هو الذي يحتاج إلى تقويم. وعجائب القرآن لا تنقضي؛ فلا يقف المسلم عند تفسير آية بقول واحد إلا ما ثبت في القرآن الكريم أو عن النبي -عليه الصلاة والسلام- لأنه لا ينطق عن الهوى لا يقول إلا حقًّا، فإذا ثبت التفسير عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في آية ما فحسبك بها ولا تعدوها إلى تفسير آخر، وكذلك إذا وجدت التفسير في القرآن فلا تعدوه إلى غيره؛ ولهذا لا تنقطع عجائبه، فأما الآيات التي ليس لها تفسير في القرآن ولا السنة ولا أقوال الصحابة فهذه نعود إلى استنباط أهل العلم من المفسرين الذين يستخرجون معانيه ودقائقه، كما قال الله -تعالى: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾(88). فالعلماء فسروا القرآن واستخرجوا هذه المعاني والاستنباطات العجيبة، كما فعل الشنقيطي(89) في تفسيره "أضواء البيان" في دقائق تفسيرية عجيبة قد لا تجدها في كتب التفسير المتقدمة، وهو ما يُسمَّى بالتفسير بالرأي المحمود المنطلق من الضوابط والقواعد الشرعية، هذا هو التفسير الصحيح، ومن دقائقه مثلاً في قوله -تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ﴾(90)، يقول أهل التفسير: يمكن أن يكون السياق بالمعية بدون التحتية، أي: كانتا مع عبدين صالحين لكن التحتية هنا لا تعني الذلة والهوان والازدراء وإنما تعني الرحمة، كما قال –تعالى- في آية أخرى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾(91)، هذه هي المودة والرحمة، وفيها أيضًا: لا يمكن أن تعلو على الرجل في بعض الأحيان وفي بعض القضايا والأمور، وهذه ولاية الزوج، وإن لم يكن لها زوج فإنها تحت ولاية الأب أو الابن أو الأخ أو العم.. أو غير ذلك، فلها ولِيٌّ يتولى أمورها وشئونها؛ ولهذا قال: ﴿ تَحْتَ عَبْدَيْنِ﴾، والتحتية هنا تعني الرأفة والرحمة بها. وَلاَ يَخْلَقُ عن كثرة الرد، فالقرآن لا يخلق مهما كررته بل تتجدد لك المعاني، ويقول بعض أهل العلم: إنك إذا قرأت الآية من القرآن أو السورة ثم رجعت إليها مرة أخرى، فستخرج لك معانٍ أخرى غير المعان السابقة إلى ذهنك، مثل حبات الماس، فعندما تلفها تعطيك لونًا أحمر أو أخضر أو أصفر.. وهي حبة واحدة، لكن لها ألوان كثيرة، كذلك الآية مليئة بالمعاني والعجائب والعبر والعظات؛ ولهذا قال: « لاَ تنقطعُ عَجائبَه ولا يَخْلَقُ عن كثرةِ الردِّ»(92)، أي: لا يبلى لو رددت الآية؛ ولهذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- كما عند ابن ماجه، يمكث ليلة يردد آية في آخر سورة المائدة، وهي: ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(93)(94). فالإنسان إذا قرأ القرآن ومر بآية فيها رحمة تأمل: ماذا فيها؟ ماذا أعد الله؟ وتمنى أن يكون منهم، وإذا مر بآية عذاب سأل الله العافية وأن يبعده عن هذا الطريق، ويتأمل أحوال الكافرين فيها، وإذا مر بآية فيها خلق السماوات والأرض فإنه يتأمل ويتفكر، والله –تعالى- قال: ﴿ قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾(95)، وقال -تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ﴾(96) فالأمر ليس مجرد تلاوة فحسب، بل ينبغي أن نربي أنفسنا وأطفالنا الصغار على التدبر والتأمل والتذكر على حسب عقولهم ومستوياتهم العقلية؛ حتى ينشأ الصغير وهو يحب القرآن، ويحب البحث والتأمل فيه. لأن الطفل إذا حفظ القرآن بدون تدبر فإنه يكون معرضًا للنسيان، وهذا حال الصغار في الغالب، لكن إذا اجتمع التدبر مع التلاوة التدبر والتذكر والتفكر ثبت هذا، وتعلم الصغير حب القرآن الكريم، وجاء في الحديث الثالث عشر، وقد أخرجه الدارمي والحاكم، وفيه بيان للفضل المترتب على قراءة القرآن، والأثر والرابع عشر فيه بيان الفضل والثواب، وقد أخرجه البيهقي في الشعب وابن الأنباري في الوقف، فيه بيان أيضًا لفضل قراءة القرآن وتحذير لقارئ القرآن أن يعبث مع العابثين أو يهزل مع الهازلين، أو يلعب مع اللاعبين، أو يضيع الوقت فيما لا يفيد ولا ينفع، ولا يجهل مع الجهال الذين يذهبون لفعل المعاصي والمخالفات والمنكرات، وإنما قد منحه الله –تعالى- هذا القرآن وكأنها نبوة أتاه الله إياها؛ لأنه عندما قال: « مَنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ فَقَدِ اسْتَدَرَجَ النُّبُوَّةَ بَيْنَ جَنْبِيْهِ - أَوْ بَيْنَ كَتِفَيِهِ»(97)، كما في الحديث؛ وذلك لأن القرآن وحي من الله -تعالى، والوحي نزل على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وهذا القرآن هو وحي من الله -تعالى، قال -تعالى: <A href="javascript:void(0)">﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾(98)، وهو النبي -عليه الصلاة والسلام- فكأن الذي جمع القرآن وعمل بما فيه وتأمله فكأنما شارك في فضل النبوة وثوابها وأجرها، وفضل هذه النبوة يكون على قدر حفظه للقرآن. |
#6
|
||||
|
||||
![]() فضل من تعلم القرآن وعلمه عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ(1) قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ(2) يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ(3) عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ شُعْبَةُ(4): قُلْتُ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: « خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»(5)، قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَذَلِكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا، فَكَانَ يُعَلِّمُ مِنْ خِلاَفَةِ عُثْمَانَ إِلَى إِمْرَةِ الْحَجَّاجِ(6)، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»(7)، وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ(8) عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»(9)، قَالَ: وَأَخَذَ بِيَدِي فَأَقْعَدَنِي فِي مَجْلِسِي أُقْرِئُ، وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِر(10) قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ: « أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى بُطَحَانَ أَوِ الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ كُلَّ يَوْمٍ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ فَيَأْخُذَهُمَا فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلاَ قَطْعِ رَحِمٍ؟»، قَالَ: قُلْنَا: كُلُّنَا يَا رَسُولَ اللهِ يُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: « فَلأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلاَثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاَثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ»(11)). فهذا باب في فضل مَن تعلم القرآن وعلمه، وقد ساق المؤلف عددًا من الأحاديث الواردة في هذا الفضل، ومنها حديث علقمة، وعلقمة هو علقمة بن مرثد الحضرمي، وقد وثقه أهل العلم وابن حجر(12) كما في التقريب، وقال الإمام أحمد: هو ثبت في الحديث، قال: سمعت سعد بن عبيدة السلمي أبا حمزة الكوفي وهو أيضًا ثقة عن عبد الرحمن السلمي وهو عبد الله بن حبيب الكوفي المقرئ مشهور عند أهل العلم بكنيته ثقة ثبت، تصدر للتعليم، وتعلم على يديه عدد كبير من الطلاب وصاروا من أهل الإقراء؛ لأنه قرأ على وعثمان -رضي الله عنه- وتوفي سنة ثلاث وسبعين من الهجرة.
والحديث الأول: أخرجه أحمد وأبو داودوالترمذي والبيهقي، وحديث عليٍّ أخرجه أحمد والدارمي والترمذي، وحديثمصعب بن سعد بن أبي وقاص وهو أيضًا ثقة توفي سنة مئة وثلاثة، وأبوه هو سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهذا الحديث أخرجه أيضًا الدارمي وابن ماجه، أما حديث عقبة بن عامر ففي صحيح مسلم وعند أحمد وأبي داود، وأصله في صحيح البخاري من حديث عثمان -رضي الله عنه: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»(13)، وجاء في بعض الروايات: « أَفْضَلُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ»(14). ولما سمععبد الله بن حبيب أبو عبد الرحمن السلمي هذا الحديث أثَّر في نفسه تأثيرًا بالغًا، وكان سببًا في جلوسه في المسجد لإقراء القرآن الكريم كما جاء في هذا الأثر، وأنه مكث من خلافة عثمان إلى إمرة الحجاج، أي: ما يزيد على ثلاثين عامًا، كلها في إقراء القرآن الكريم رغبة في الحصول على هذه الخيرية وهذا الثواب العظيم الذي أعده الله -تعالى- لمن علَّم القرآن. والقرآن الكريم أنزله الله –تعالى- وجعل فيه الخير والبركة، أنزله الله –تعالى- رحمة لهذه الأمة وهداية لها، كما قال -تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(15)، وجعله صراطًا مستقيمًا لمن أراد الاستفادة منه وأراد اتباعه، وأخرج الله بهذا القرآن الكريم الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم به إلى الصراط المستقيم، فمن أحب أن يكون قريبًا من الله –تعالى- دائم الصلة به مذكورًا عنده فعليه أن يداوم على هذا قراءة القرآن، ولا ثمة سبيل ولا طريق إلا من طريق القرآن الكريم، ولأجل هذا نال قارئ القرآن ومقرؤه هذه الخيرية الواردة في هذا الحديث. وقوله -عليه الصلاة والسلام: « خَيْرُكُمْ»، خير هنا بمعنى أفعل التفضيل، بمعنى: أخيركم أو أكثركم نفعًا وأرفعكم منزلة، وقد تأتي خير أحيانًا ولا يقصد بها التفضيل؛ لأنه قد يقصد بها بيان مكانة شيء وإظهاره، كما جاءت الآية في سورة الفرقان حينما قال الله -تعالى: ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾(16)، فلا مفاضلة بين الجنة والنار أبدًا، وكما جاء في البيت لحسان حينما قال: أتهجوه ولست له بكفء *** فشركما لخيركما الفداء فلا يمكن أن يفاضل بين النبي -عليه الصلاة والسلام- وبين غيره، كما أنه لا يصح أن يفاضل بين الجنة والنار، وإنما أراد الله –تعالى- أن يبين مكانة هذه الجنة ويرد على المشركين وعلى الكفار حينما كذبوا بذلك اليوم؛ لأن الله –تعالى- قال قبلها: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾(17)، ثم قال: ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾. وقوله –صلى الله عليه وسلم: « خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»، تعلم القرآن يدخل فيه حفظه وتجويده وإقامة حروفه وإعرابها ومدارسته وفهم معانيه وتدبر آياته ومعرفة المقاصد العظيمة التي من أجلها نزل هذا القرآن العظيم ومعرفة أحكامه وحلاله وحرامه وعبره ومواعظه وزواجره وأوامره ونواهيه، هذا هو تعلم القرآن، وليس المقصود القراءة فحسب، إنما القراءة المصحوبة بالعمل والعلم، والعلم لا يكون إلا من التدبر كما تقدم، ولا بد من تعلم آياته وحفظها وإتقانها وضبطها وتعلم الأحكام التي فيها والآداب التي اشتملت عليها، هذا يدخل في تعلم القرآن. ثم يتعدى هذا النفع إلى الآخرين ولا يقتصر على نفسه فحسب، بل يسعى في تعليم غيره من الناس، فهذا من النفع المتعدي إلى الآخرين، وأشرف ما يتعلمه الإنسان ويعلمه هو القرآن الكريم، ويدخل في هذا الحديث أيضًا الذي يسعى في تعلم القرآن أو في تعليم القرآن؛ لأنه يقول: « وَعَلَّمَهُ»، وقد ذكر العلماء منهم ابن حجر وغيره أن الذي يسعى إلى توفير أسباب تعلم القرآن من: المكان والتهيئة والطعام والشراب والمصاحف وكل الوسائل المتعلقة بذلك تشمله هذه الخيرية وهذه الرفعة حسب ما يقدمه وحسب ما يعمله، مع التفاوت في هذا الخير والفضل، لكن الذي يسعى في جمع الناس على القرآن الكريم، وإن لم يكن متعلمًا القرآن الكريم، لكنه سعى ودل الناس عليه، وحث الناس على حفظه، وهيأ المكان وأمَّن الوسائل التي يحتاجها المعلم والمتعلم فهو -إن شاء الله- داخل في هذه الخيرية، كما ذكر ذلك أهل العلم؛ لأن مَن دل على خير فله مثل أجره. وهذا الحديث دل على فوائد منها، أولاً: حصول الخيرية لمن تعلم القرآن وعلمه، واقترن ذلك بالإخلاص لله -تعالى. الثاني: فضل العلم المتعدي نفعه للآخرين؛ لأنه قال: « وَعَلَّمَهُ»، والفعل المتعدي النفع لا شك أنه أفضل من العمل القاصر، فالذي يتعبد الله لنفسه كأن يكثر من النوافل أو من الصيام أو من قراءة القرآن هذا عمل خير، ويثاب عليه، لكن إذا كان هذا العمل يتعدى إلى الآخرين فإن الفضل أكثر؛ ولهذا الله -تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(18). وقال النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: « أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ»(19)، وحثَّ على السعي على الأرملة والمسكين والضعيف هذه أعمال متعدية النفع للآخرين، والصحابة والتابعون -رضوان الله عليهم- يسعون إلى تعليم غيرهم ممن لم يتعلم القرآن الكريم، كما فعل عبد الله بن حبيب أبو عبد الرحمن السلمي؛ حيث مكث في هذا المكان أكثر من ثلاثين عامًا في المسجد يعلم فيه القرآن ليحصل على هذا النفع المتعدي؛ لأنه يعلم أنه إذا علم هذا الإنسان القرآن سوف يعلم غيره، وهذا يعلم غيره، حتى وصل إلينا، فالخير ينال هؤلاء كلهم، فهؤلاء نظروا نظرة بعيدة إلى المنفعة والمصلحة العامة للمسلمين، فقدموا هذا العمل على غيره من الأعمال. ومما دل عليه الحديث أيضًا من الفوائد: الترغيب في تلاوة القرآن والحث على المداومة على تلاوته، يضم هذا الفضل إلى الآيات التي وردت في القرآن الكريم، ومن الفوائد كذلك: أن القرآن أشرف العلوم على الإطلاق؛ لأن الله وعد بهذا الأجر والثواب على لسان نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- لمن قرأه، ومن الفوائد أيضًا: أن شرف العلم بتعليم الآخرين لهذا القرآن؛ لأن من علم غيره يستلزم منه أن يكون عالمًا، كما قال الله -تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(20). |
#7
|
||||
|
||||
![]() فلا يدعو إلى الله إلا مَن تعلم وعلم وتفقه، فإذا تفقه وتعلم وعلم غيره دخل في هذه الآية، بعكس الكافر الذي هو على كفره ويصد الناس عن دينهم بهذا الكفر، كما قال الله - تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ﴾(21).
وهنا ينشأ سؤال: إذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»(22)، فهل يلزم من هذا الحديث أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه المتفقه في الدين الذي يعلم الناس أمور دينهم؟ قال ابن حجر: لا يلزم من ذلك؛ لأن المخاطبين بذلك -يعني بالحديث- كانوا فقهاء، وهم أهل اللسان، فكانوا يعلمون معاني القرآن بالسليقة أكثر من غيرهم بالاكتساب؛ فكان الفقه لهم سجية، ومن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك؛ لأن مَن كان قارئًا أو مقرئًا ومتقنًا وضابطًا لكنه لا يفهم معاني القرآن ولا يفهم أحكامه ولا يفهم الدلائل لا يستطيع أن يستنبط هذا، نقول: إن له ثواب وأجر التلاوة، ويناله من الخير والخيرية والفضل والمنزلة بحسب حفظه وتعلمه للقرآن، فإذا وجد إنسان لا يعرف شيئًا من أمور الدين إلا ما يتعبد الله –تعالى- به، ولكنه متقن للقرآن وحافظ، فهذا على أجر عظيم ويناله من الخيرية بقدر ما عنده من هذا الحفظ، ومَن كان قارئًا ومقرئًا وهو يخالف نصوص القرآن في الفهم فهذا وَبَال عليه، كما كان الخوارج يفعلون ذلك والنبي -عليه الصلاة والسلام- قد حذر منهم؛ حيث قال: «يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ»(23)، أو قال: « لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهِمْ»(24)، فهم لا يعملون بالقرآن، وإن عملوا به عملوا على خلاف الهدي الصحيح والسنة الصحيحة، كما فعلوا على مدار تاريخ الإسلام منذ أن نبتت نبتتهم وإلى يومنا هذا، فهم يفهمون القرآن فهمًا معكوسًا على غير فهم السلف الصالح لهذا القرآن العظيم، حتى إنهم كما يقول ابن عباس -رضي الله عنه- عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فنزَّلوها على المسلمين، واستباحوا بذلك دمائهم وأعراضهم و***وهم وأثاروا الفتن. فمثل هؤلاء لا يشملهم هذا الأثر ولا الآثار التي وردت في فضل القرآن، لكن الذي يتعلم القرآن ويعلمه على قدر طاقته واستطاعته فنقول: إنه ينال من الأجر والخيرية والثواب بقدر ما يحصله من علم وعمل، والصحابة -رضوان الله عليهم- هم المخاطبون بهذا الحديث، ولكنه شامل، فهو يشملهم ويشمل مَن بعدهم. قالابن حجر: ومَن كان في مثل شأنهم شاركهم في هذه الخيرية الموعود بها، وإلا فالأمة بمجموعها موصوفة بالخير؛ كما قال الله -تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾(25). فأهل القرآن العاملون به المتدبرون لآياته وأحكامه العاملون بها هؤلاء هم صفوة الناس، وهم قريبون من الله –تعالى- كما تقدم في الحديث السابق: « إِنَّ للهِ أَهْلِينَ». قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: « أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ»(26)، فينبغي أن نفهم هذا المعنى وألا ننزله إلا على مَن يستحقه. وقد جاء هذا الوصف لمن قرأ القرآن وعلمه؛ لأن القرآن خير الكلام والعلوم؛ فتعلمه وتعليمه خير من تعلم غيره من سائر العلوم؛ لأنه مشتمل على علوم شتى؛ مثل: علوم الاعتقاد والفقه والتفسير والتاريخ... فهو أفضل العلوم بالنسبة إلى غيره من العلوم الأخرى. والحديث الثامن عشر -حديث عقبة بن عامر- عند مسلم(27) وأحمد(28) وأبي داود(29)، يقول: خرج إلينا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ونحن في الصُّفة -المراد بالصفة هنا الموضع المظلل في مؤخرة المسجد النبوي بالمدينة، يسكنه مَن لم يكن له منزل من الفقراء والمحتاجين ومن قدم إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- من ضواحي المدينة ليتعلموا العلم ويقرؤوا القرآن- وقال: « أَيُّكُمْ يَغْدُو»، أي: يذهب في وقت الغدو وهو أول النهار، وبطحاء مكة هو موضع قرب المدينة مكان موضع قرب المدينة « إِلَى بُطْحَانَ أَوِ الْعَقِيقِ»، والعقيق وادٍ مشهور من أودية المدينة، « فَيَأْتِيَ كُلَّ يَوْمٍ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ»، كوماوين: تثنية كومة أنثى أكوم، والأكوم نوع من أنواع البعير الضخم الجسم والسنام رفيع السنام -يعني أنفسُها وأحسنها- « زَهْرَاوَيْنِ»، تثنية زهراء، والزهر هو الحسن والبهجة، قال: « بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ»، يعني: أنها من أنفس النوق وأجملها وأحسنها وأسمنها، فمن كانت كذلك من النوق فهي ذات قيمة نفيسة عند العرب. وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يضرب الأمثلة للصحابة بما كانوا يعايشونه ويفتخرون به ويحبونه، وكانت العرب في ذلك الوقت يحبون الإبل ويتنافسون في تربيتها وشرائها، كما قال الله –تعالى- مذكرًا لهم بها: ﴿أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾(30)، مع أنه يوجد شيء أكبر من الإبل في الخلقة، لكنه ذكر الإبل لأنها مشتهرة عندهم ومعروفة، وكما جاء في الحديث الآخر: «خُيْرٌ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ»(31)، فالتمثيل بالإبل كثير في السنة النبوية؛ لأنها من أنفس الأشياء عندهم من بهيمة الأنعام، فيضرب لهم المثل بهذا الأمر ليتحفزوا لهذا العمل الذي سيقدمون عليه ويفعلونه. قال: « فَيَأْخُذُهُمَا فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلاَ قَطْعِ رَحِمٍ»(32)، يعني: في غير معصية، قال: قلنا: كلنا يا رسول الله يحب ذلك، أي أنهم يحبون أن يأخذوا هذا الشيء وأن يتحصلوا عليه، ثم دلهم على ما يشابه ذلك أو أفضل منه ليشجعهم ويحفزهم عليه فقال: « فَلأَنْ يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلاَثٌ خَيْرٌ مِنْ ثَلاَثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ مِنْ أَرْبِعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ»، أي: من خمس ومن ست.. إلخ، وهذا من باب المتقدم من باب التمثيل والتقريب للصحابة -رضوان الله عليهم- حتى يقبلوا على هذا الخير، وأن ما سيذهبون إليه في تعلم القرآن الكريم أو جزء منه وهو آيات فقط، وهو خير من هذا الذي أنتم تظنون والذي تحبون؛ لأنهم قالوا: كلنا يحب ذلك يا رسول الله. وقد مثَّل لهم النبي –صلى الله عليه وسلم- بالآية وليس بالسورة ولا بالجزء؛ وذلك ليقربهم من تلاوة القرآن الكريم، وإلا فإن الدنيا كلها حقيرة أمام كتاب الله -جل وعلا- ولا تقابل بشيء من معرفة أمر وارد في كتاب الله، وهذا من باب الحث والترغيب في تلاوة القرآن الكريم، وهذا يدلنا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يستخدم الأمثلة لأصحابه، وأنتم تعلمون أن الحديث الوارد عند قوله-تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾(33). من ذلك أيضًا ما ورد عن عبد الله بن مسعود، إذ قال: خط النبي -صلى الله عليه وسلم- خطًّا وخط عن جانبه خطوطًا وقال: « هَذَا سَبِيلُ اللهِ وَهَذِهِ سُبُلُ الشَّيْطَانِ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطُانٌ، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا»(34)، فكان يمثل -عليه الصلاة والسلام- ويضرب الأمثلة لأصحابه، وأحيانًا كان يمثل لهم بيده وذلك عندما قال: « بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ»(35)، وأشار بالسبابة، وقال: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ»(36)، وقال في عدِّ الشهر: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا»(37)، فكل شيء كان يرغب النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يوصله إلى الصحابة فإنه يسعى إلى توصيله، وقد فعل، فما من خير إلا دل عليه ولا شر إلا حذر منه، ففي هذا الحديث وسيلة من وسائل التمثيل التي تدفع الإنسان وتشجعه وتحسه على فعل الخير والإقدام عليه، وأنه سوف ينال أكثر مما ضُرِب له من هذا المثل، فجعل الناقة بمثابة الآية والناقتين بمثابة الآيتين، سواء قصرت أم طالت. |
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|