|
#1
|
|||
|
|||
![]()
مآسي المسلمين بعد سقوط غرناطة
كالعادة ولطبيعة جُبلت نفوسهم عليها -بعد أن ترك أبو عبد الله محمد الثاني عشر البلاد- لم يوف النصارى بعهودهم مع المسلمين، بل تنكَّروا لكلامهم والتزامهم بالحفاظ على الحريات الدينية في غرناطة، وحماية الأماكن المقدسة للمسلمين، وما إلى ذلك مما ورد في شروط تسليم المدينة، فقد أهانوا المسلمين بشدة، وصادروا أموالهم؛ وكان ذلك مصداق قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8]. وبعد تسع سنوات من سقوط غرناطة، وفي سنة (1501م) أصدر الملكان فرناندو الخامس وإيزابيلا أمرًا كان خلاصته أنه لَمَّا كان الله قد اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة (المسلمين)، فإنه يحظر وجود المسلمين فيها، فإذا كان بعضهم فإنه يحظر عليهم أن يتصلوا بغيرهم؛ خوفًا من أن يتأخر تنصيرهم، أو بأولئك الذين تنصروا لئلاَّ يفسدوا إيمانهم، ويعاقب المخالفون بالموت أو بمصادرة الأموال[1]. ومن هذا المنطلق قام النصارى بعدة أمور؛ كان منها: التنصير ولكي يعيش آخرون في بلاد الأندلس في ظل حكم النصارى الإسبان، تَنَصَّر من المسلمين بعضهم[2]، وهؤلاء لم يرتضِ لهم النصارى الإسبان حتى بالنصرانية، فلم يتركوهم دون إهانة، وقد سمَّوْهم بالمورسكيين؛ احتقارًا لهم، وتصغيرًا من شأنهم، فلم يكن المورسكي نصرانيًّا من الدرجة الأولى؛ لكنه كان تصغيرًا لهذا النصراني الأصيل[3]. وقد نقل إلينا الدون لورنتي مؤرِّخ ديوان التحقيق الإسباني وثيقة من أغرب الوثائق القضائية؛ تضمنت طائفة من القواعد والأصول التي رأى الديوان المقدس أن يأخذ بها العرب المتنصرين في تهمة الكفر والمروق، وإليك ما ورد في تلك الوثيقة الغريبة: «يعتبر الموريسكي أو العربي المتنصر قد عاد إلى الإسلام: إذا امتدح دين محمد، أو قال: إن يسوع المسيح ليس إلهًا، وليس إلا رسولاً. أو أنَّ صفات العذراء أو اسمها لا تناسب أمه، ويجب على كل نصراني أن يُبَلِّغَ عن ذلك، ويجب عليه -أيضًا- أن يُبَلِّغ عما إذا كان قد رأى أو سمع بأن أحدًا من الموريسكيين يُباشر بعض العادات الإسلامية؛ ومنها أن يأكل اللحم في يوم الجمعة وهو يعتقد أن ذلك مباح، وأن يحتفل يوم الجمعة بأن يرتدي ثيابًا أنظف من ثيابه العادية، أو يستقبل المشرق قائلاً باسم الله، أو يوثق أرجل الماشية قبل ***ها، أو يرفض أكل تلك التي لم ت***، أو ***تها امرأة، أو يختن أولاده، أو يسميهم بأسماء عربية، أو يُعرب عن رغبته في اتباع هذه العادة، أو يقول: يجب ألا يعتقد إلا في الله وفي رسوله محمد، أو يقسم بأيمان القرآن، أو يصوم رمضان، ويتصدق خلاله، ولا يأكل ولا يشرب إلا عند الغروب، أو يتناول الطعام قبل الفجر -السحور- أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، أو يقوم بالوضوء والصلاة؛ بأن يُوَجِّه وجهه نحو الشرق، ويركع ويسجد، ويتلو سورًا من القرآن، أو أن يتزوج طبقًا لرسوم الشريعة الإسلامية، أو ينشد الأغاني العربية، أو يُقيم حفلات الرقص والموسيقى العربية، أو أن يستعمل النساء الخضاب - الحناء - في أيديهن أو شعورهن، أو يتبع قواعد محمد الخمس، أو يلمس بيده على رءوس أولاده أو غيرهم؛ تنفيذًا لهذه القواعد، أو يغسل الموتى ويكفنهم في أثواب جديدة، أو يدفنهم في أرض بكرٍ، أو يغطي قبورهم بالأغصان الخضراء، أو أن يستغيث بمحمد وقت الحاجة واصفًا إياه بالنبي ورسول الله، أو يقول: إن الكعبة أول معابد الله، أو يقول: إنه لم ينصَّر إيمانًا بالدين المقدس، أو أن آباءه وأجداده قد غنموا رحمة الله؛ لأنهم ماتوا مسلمين... إلخ[4]. التهجير لم تخل البلاد الإسلامية من ثورات شعبية ومواجهات محدودة الإمكانيات بمنطق «حرب العصابات»، وكان المجاهدون يختبئون في الجبال والأودية والمناطق البعيدة، ثم يشنُّون غاراتهم على القوات الإسبانية، وقد نجحوا كثيرًا في إنزال خسائر مؤثرة بالإسبان، وقد اشتدت هذه الحركات لا سيما بعد قرار التنصير الذي اعتمدته إسبانيا، فزاد عدد الثائرين والمنحازين للمجاهدين، وقد عزم الإسبان في البداية على القضاء على الثوار، إلا أنهم فشلوا في ذلك فشلاً ذريعًا، فلما يئسوا من القضاء عليهم، أصدروا عفوا عامًّا عنهم، وسمحوا لهم بالهجرة إلى بلاد المغرب، دون أن يأخذوا معهم غير الثياب التي كانت عليهم، أما الباقون فقد كان ثمة أمر ملكي بمنع الهجرة، ثم صدر الأمر بعد ذلك عام (1609م) -أي بعد مائة سنة تقريبًا- بنفي الموريسكيين[5]. [1] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/324. [2] انظر: نبذة العصر، ص130، والمقري: نفح الطيب، 4/527. [3] انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/322، 326، 345. [4] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/346. [5] مجهول: نبذة العصر، ص132، والمقري: نفح الطيب، 4/527، 528، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/345. د. راغب السرجاني
__________________
![]() |
#2
|
|||
|
|||
![]()
__________________
![]() |
#3
|
|||
|
|||
![]()
بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين محمد و على آله و صحبه أجمعين و من اهتدى بهديه و استنّ بسنّته إلى يوم الدين.
أما بعد: بسقوط غرناطة سنة 1492م بيد النصارى سقطت آخر دولة إسلامية تحمي الإسلام بالأندلس و استفرد الصليبيون الحاقدون بالأندلسيين المسلمين و ساموهم سوء العذاب و فرضوا عليهم التنصّر و اعتناق العقيدة الكاثوليكية و منعوهم من إبداء أدنى مظهر إسلامي : فالزي الإسلامي استبدل بالقشتالي، و الأسماء العربية استبدلت بالإسبانية، و الوجوه الحيية المحتشمة أُكرهت على السفور ، و مُنعوا من الصلاة و الصيام و التطهُر و الاحتفال بالأعياد الإسلامية و بدل ذلك و بصفتهم مسيحيين جدد وجب عليهم التوجّه كل يوم أحد إلى الكنيسة لسماع الوعظ النصراني الذي يمجّد فيه الخمر و لحم الخنزير و الصليب، و من خالف هذه الأوامر المقدّسة ?زعموا- فالموت مصيره حرقا أو شنقا، و لو أبدت محاكم التفتيش رأفة بالمتهم فستصادر كل ممتلكاته أو تسجنه أو ترسله لأداء الأعمال الشاقة بالمناجم في أمريكا أو التجديف في السفن. و لم يتوقف طغيان محاكم التفتيش عند هذا الحد بل رأت أن هذه الإجراءات لم تزد الأندلسيين إلى تمسّكا بدينهم الحنيف فقررت منع استعمال اللغة العربية بين الأندلسيين، هذه اللغة التي كانت تزودهم من خلال الكتابات التي يحفظونها بالعزيمة و الصبر و أكثر من ذلك تمكّنهم من حفظ الإسلام في القلوب. وفعلا صدرت قوانين حرّمت على الأندلسيين التخاطب أو الكتابة بالعربية و أمرتهم بتسليم جميع الكتب المكتوبة بها. ويمكن القول أن محاكم التفتيش نجحت في نيل مبتغاها الرامي لفصل الأندلسي عن مصدر عقيدته المسطور في الكتب بل ربما نجحت في إبادة اللغة العربية بالأندلس لكن الأندلسيين كانوا ?بفضل الله و منه و كرمه- أذكى من رهبان المحاكم فقد استطاعوا ابتكار لغة بين العربية و القشتالية تسمى الألخميادو ? تحريف إسباني لكلمة "أعجمي" ? و هذه اللغة هي القشتالية مكتوبة بالحروف العربية و لها قواعد و أصول خاصة بها. و قد استخدم الأندلسيون هذه اللغة في مخاطباتهم و كتاباتهم. و كانت لغة سرية إلى حد أن الإسبان لم يكتشفوا وجودها إلا في القرن الثامن عشر أي بعد 200 سنة على وضعها. و قد عمل الأندلسيون على حفظ الدين الإسلامي من الاندثار بواسطة اللغة الألخميادو فقد ترجموا القرآن العظيم و السنة النبوية و دروسا في الفقه و السيرة و الشعر و الأدب و التاريخ... و قد كانت لرمضان في كتابات الألخميادو مكانة مهمة حيث عملوا على إبراز فضله و وجوب صيامه و احترام أركانه و استحباب قيامه و الإكثار من الخيرات فيه. و قد حفظت مكتبة مدريد الوطنية نصا بالألخميادو لكاتب أندلسي مجهول يحث فيه بني قومه من الأندلسيين المسلمين على صيام رمضان و يبين لهم فضله و شروط أدائه و يعظهم موعظة حسنة شافية وافية. يذكر الدكتور سري محمد محمد عبد اللطيف الأستاذ بكلية اللغات و الترجمة بجامعة الأزهر : " إن نصوص الأدب الألخميادو تعطي لنا انطباعا في بعض الأحيان أن المورسكيين (1) كانوا أساتذة في الشريعة الإسلامية و مذاهبها نظرا لما تنم عنه من معرفة تامة بعلوم الإسلام المختلفة من فقه و عقيدة و قرأن و أحاديث و معاملات ...إلخ لدرجة تجعلنا نفكر أحيانا أن هؤلاء الناس لم يكونوا فقط على مستوى غيرهم من المسلمين في بلاد أخرى، بل إنني أستطيع أن أقول ? غير مبالغ ? أنهم كانوا أعلم بمبادئ دينهم و أكثر تمسكا بها من كثير من المسلمين الذين عاشوا في ظروف أفضل كثيرا من التي عاشها المورسكيون و توفرت لهم حرية القراءة و العلم و الإطلاع على التراث الديني و هو ما يحرّم على المورسكيين بأوامر محاكم التفتيش" . (2) فلعلي أترككم مع مقتطفات من موعظة هذا الأندلسي المجهول حول رمضان و التي كتبها بلغة الألخميادو و قد ترجمها الدكتور سري عبد اللطيف جزا? الله خيرا. و هي موعظة لي قبل كل شيئ و موعظة لإخواني لعلنا نجتهد في طاعة الرحمان في شهر رمضان. يقول الأندلسي المجهول: "و شهر رمضان يا إخواني هو شهر طهارة الأجساد من الذنوب طهارة كاملة، و هو شهر الخير و الغفران و الامتنان من الله، و هو شهر إعانة الفقراء و إكرام الضيف و شهر تفتح فيه أبواب الجنات و تغلق أبواب النيران و تسلسل فيه الشياطين و هو شهر الأمن و الإيمان و قراءة القرآن تضاء فيه مساجد الرحمان و يكرم فيه ابن السبيل و يعطف فيه على المريض." (3) " أيها الأخوة الأحباب عندما يهل علينا شهر رمضان المعظم يجب أن تصوم جوارحكم عن الذنوب و الخطايا كما تصوم بطونكم عن الطعام و يجب عليكم ? كما تفطرون عند الليل بتناول الطعام ?أن تشكروا نعمة الله عليكم، و كذلك يجب عليكم أن تقوموا ليله مصلين كما تقضوا نهاره صائمين" (4) "عباد الله... اغتنموا هذا الشهر، فهو شهر عند الله عظيم ووعد الله فيه عباده بالجزاء العظيم و وعدهم بمغفرة الذنوب و العتق من النار" (5) " و لا يفهمن أحد أن الصيام مجرد امتناع الإنسان عن الأكل و الشرب و جماع الزوجة، بل عليه أن يعلم بوجوب صيام عينيه و لسانه و سمعه و يديه و رجليه و سائر الجوارح" (6) " و عليك أن تعلم أن صيام العينين هو ألا تنظر بهما إلى حرام ، و ألا تنظر إلى مسلم أو مسلمة بعين الكبر و الاحتقار أو التهديد و صوم اللسان هو أن تمتنع عن الكذب و اللغو و أن تتجنب الغيبة و النميمة و فحش القول و صيام السمع هو ألا تستعمله في سماع السوء أو التصنت على الخلق و صيام اليدين هو ألا تمدهما لأذى أحد من المؤمنين و ألا تأخذ بهما ما ليس من حقك و أن تستعملهما في إرضاء الله تعالى و صيام القدمين هو ألا تمشي بهما لتضر أحدا و لا تستعملهما إلا فيما يرضي الله. و أخيرا يجب أن تصوم كل جوارحك عن الحرام و أن تُسَخّر كل أعضائك في الأعمال التي خلقها الله من أجلها و بهذا تنال الجزاء كاملا على صومك إن شاء الله. أما إذا فعلت غير ذلك فإنه يخشى أن يضيع ثواب صومك. فيا عباد الله...اغتنموا الخير كله في هذا الشهر الكريم، و لا تقضوا أيامه في الغيبة و النميمة و سوء القول و لا يمنعكم الكسل أن تقوموا الليل للصلاة و احذروا من أن تفطروا على حرام." (7) و إذا علمنا الظروف الصعبة التي كانت تعيشها هذه الطائفة من المسلمين بين ظهراني النصارى ازداد تعظيمنا لهذه الموعظة التي تطالبهم بصيام رمضان حق صيامه علما أن النصارى كانوا يوشون إلى محاكم التفتيش بكل من تظهر عليه علامات الإسلام. و هذا ما يفسّر ارتفاع عدد الأندلسيين الذين كانت تحاكمهم محاكم التفتيش في شهر رمضان. فقد أبوا إلا أن يصوموه و ليحدث ما يحدث بعد ذلك. (راجع موضوعي "محنة الأندلسيين لصيام رمضان" ففيه ذكر محن من صاموا هذا الشهر الفضيل). الهوامش (1)المورسكيون هي كلمة أطلقها الإسبان على الأندلسيين الذين بقوا في الأندلس بعد سقوط غرناطة. (2)مداخلة الدكتور سري محمد محمد عبد اللطيف في المؤتمر العالمي الخامس للدراسات المورسكية-الأندلسية المنعقد سنة 1993 بزغوان بتونس. ص 158-159. (3)(المخطوط رقم 5223 لمكتبة مدريد الوطنية، رقم32 ظهر و 133 وجه.) (4) (المخطوط رقم 5223 لمكتبة مدريد الوطنية، رقم 133 وجه.) (5) (المخطوط رقم 5223 لمكتبة مدريد الوطنية، رقم 135 وجه.) (6) (المخطوط رقم 5223 لمكتبة مدريد الوطنية، رقم 136 وجه.) (7) (المخطوط رقم 5223 لمكتبة مدريد الوطنية، رقم138 ظهر و 136 وجه.) تنبيه: هذا المخطوط رقم 5223 قام بترجمته من الألخميادو الدكتور سري عبد اللطيف أستاذ اللغات و الترجمة بجامعة الأزهر. و ذلك في موضوعه الذي طرحه في المؤتمر العالمي الخامس للدراسات المورسكية-الأندلسية سنة 1993 المنعقد بمدينة زغوان بتونس.
__________________
![]() |
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|