|
#1
|
||||
|
||||
![]()
النبي عيسى (ع) روح الله
ولادة عيسى : العذراءُ مريمُ تعتكفُ (أي: تعتزل الناس للعبادة). فهي منصرفةً ألى صلاتها وتنسُّكها وخشوع وجهها لله بابتهال ودعاء! لقد اعتزلت أهلها، واتّخذت من دونهم ستراً، فلا تراها عين. وفجأة، تضطرب نفسها الصافية، برهبةٍ وخوفٍ لم تجد لهما تفسيراً، ولاتأويلاً!. وإنها كذلك، وإذ بملاكٍ كريمٍ، في هيئة إنسان سويٍّ، يقتحم عليها خلوتها، فيكر عليا صفاء وحدتها، ويقطعها عما هي فيه من عبادة وصلاة!. فترتاع... وتحاول الفرار بنفسها، وهي البتول الطهور!. ويومئُ إليها الملاكُ بألاّ تخاف ولاترتاع. ويقترب منها وئيداً، فتستعيذ منه بالرحمن، وقد استطارت نفسها شعاعاً! (أي خافت خوفاً شديداً) وهدأ روعُها بعد قليل، ولكن الحيرة عصفت بها من جديد، عندما أفصح الملاك عمَّا أرسل إليه: {.. إنّما أنا رسول ربك لأهب لكِ غُلاماً زكياً}. - غلام؟... ياللفضيحة، والعار!.. وماذا سيقول عنها قومها، وهي الشريفة النفس، الكريمة الأصل، الطيبة الأرومة، الطاهرة أباً وأماً!؟.. ثم، أنّى يكون لها غلام وهي الناسكة المتعبدة، البتول العذراء، لاتعرف من وجوه الرجال إلاّ زوج خالتها النبي زكريَّا، وكان قد كفلها عندما كانت بعدُ صغيرةً، وبعض الأخيار الأبرار، الذين نذروا أنفسهم لله وعبادته وخدمة المؤمنين!.. وتعود إليها رباطةُ جأشها، فهي أمام رسول ربِّها إليها، فلم الارتياع؟ وتسألُ: {.. أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر؟..} قال الملاكُ: {كذلك قال ربُّك هو عليّ هيِّن. ولنجعله آية للناس، ورحمة منا..} وتمت كلمةُ ربك! ويختفي الملاك عن الانظار، بعد أن قام بما أمر به، {.. وكان أمراً مقضيا!}.. ويعود القلقُ والاضطرابُ يتأكّلان نفس العذراء البتول، تأكُّلاً!. وتتصور ألسنة الناس تلوك سمعتها، وعفافها، وطهرها، وهم يقذفون بفاحش القول، وبهتان وافتراء، فينعصر قلبُها، ويغلي دماغها،.. فكيف ستُدافع عن نفسها، وتثبت للناس براءَتها؟.. وتعود إلى منزلها، وقد ضاقت عليها آفاق الدنيا بما رحُبت.. وتقبع العذراء في منزلها، لاتغادره إلاّ لماماً (أي: قليلاً). وتجد في العبادة سلوى تخفف ماينتابُها من مقلقات الهموم، وعزاءً ينسيها ما ينمو في أحشائِها من "كلمة الله" الذي إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون!.. وهكذا تقبل مريم على عبادة ربها إقبال الغريق على خشبة الخلاص، وتستغرق في عبادتها استغراقاً ينسيها نفسها، والعالمين،.. ولكن، إلى حين!.. فها هي ذي الأيام تمر مرّ السحاب!.. وها هو ذا اليوم الموعود. فمريم تعاني آلام المخاض!.. وتفرُّ العذراء بنفسها من قريتها إلى البريّة، بعيداً عن الناس، وأعين الرقباء، وألسنة السوء.. فلعلّ الله يجعل لها من أمرها فرجاً ومخرجاً!.. ويُلجئها المخاض إلى جذع نخلة يابسة، فتضع غلاماً يتلألأ جبينه نوراً!.. وتعاودُها الوساوس والهواجس، فما العمل؟. وكيف ستُقابل قومها بهذا المولود الجديد؟. فتتمتم بالتياع وحرقة: {.. ياليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً!} ويدركها مايدرك النفساء من وهن، بعد ان تضع.. إن جسمها الطريَّ ليذوي، كنديِّ النبت الغضِّ في لافح الهجير... فقواها في اضمحلال، ونفسُها في شتات.. وتحاول البكاء، فلا تقطر من مقلتها دمعة واحدة. إن دموعها لم تجف، ولكنها أصيبت بما يشبهُ الاحتراق.. وفجأةً، تعود إليها نفسُها عندما تسمعُ صوتاً يناديها من تحتها، بأنسٍ رقيقٍ، وحنانٍ رفيق: - {.. ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً. وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً. فكُلي واشربي، وقري عيناً!..} وتمتد يد البتول الى النخلة، وقد كانت قبل سويعة جرداء يابسة لاتصلح إلا للنار، فإذا هي الآن مونعة مورقة، تحمل يانع الثمر، فتهزّها، فيتساقط أمامها الرطبُ(التمر في أوله)، فتأكلُ منه، وتمدُ يدها الى الماء الذي تفجر من تحتها، سلسبيلاً عذباً فتغترف منه وتشرب، وتحمدُ الله، وتشكره، مسلمةً اليه أمرها، قائلة في نفسها: أليس هذا دليلاً على عصمتي من كل ريبة، وآية من آيات الله البينات؟.. وتحمل وليدها، ويعاودها التساؤل كالسوط يلسع منها العقل والوجدان، فيهتز خاطرها اهتزازاً عنيفاً،.. - كيف ستقابلين قومك بهذا المولود العجيب الولادة حقاً؟.. وهل هم من البساطة لدرجة تصديق دعواك بالسهولة المتوخاة؟ وهل في الدنيا كلها، من قبل ومن بعد، أمٌ دون زوج، وولد دون أب؟ ولكن الله تعالى كفاها مؤونة الجواب: فما عليها إلا أن تلوذ بالصمت، وفاء بنذر صيام عن الكلام: - {.. فإما ترين من البشر أحداً فقُولي: إني نذرتُ للرحمن صوماً فلن أُكلِّم اليوم إنسيَّاً!}. واطمأنت إلى هذا الموقف بعض اطمئنانٍ، وارتاحت إليه راحةً يسيرةً. المعجزة : {فأتت به قومها تحمله..} متعثرة الخُطى، مضطربة، وجبينها الطهور يندى عرقاً بارداً، فالخطبُ جلل!.. ورماها قومُها بنظرات استهجانٍ واستغراب، وصاحوا مندهشين: - ماهذا يامريم؟.. لقد جئت شيئاً فريّاً، وأنت الطاهرة المطهرة أصولاً وفروعاً!.. وكاد لسانها يتحركُ، ليدفع عنها تهمة السوء، وفرية الفحشاء. ولكنها استدركت ذلك، فهي صائمة عن الكلام، لا تلكمُ إنسيّا! وبالتالي، فهي ليست على استعداد للخوض في نقاش وجدل، لايجلبان لها نفعاً، ولايدفعان عنها ضراً!. فأشارت إلى الوليد في مهده. يلفه قِماط، وكأنها تقول لهم: اسألوه!. فجحظت عيونهم، وتساؤلوا ساخرين: {.. كيف نكلم من كان في المهد صبيا؟} وتقع المعجزة:.. فإذا بالوليد ينطق في مهده، ولكنه لايدفع عن امه تهمة، ولا يثبت لها براءة، ولايرد عليهم سوء مقال، بل يخبرهم بلسان طلق مبين، بأنه من عباد الله المكرمين، وأنبيائه المجتبين، ورسله المباركين، أوصاه الله بالصلاة وبالزكاة، وببر أمه الصديقة الطاهرة. قال: {إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا. وجعلني مباركاً اين ماكنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا. وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً. والسلام عليّ يوم ولدت، ويوم أموت ويوم أُبعثُ حيَّا!..} فحق عليهم القولُ، ولزمتهم الحجة البالغة، والبرهان الدامغ، يدحضان (أي: يدفعان ويبطلان) كل بهتان، ويصفعان كل اجتراء!.. ولكن،.. هل آمنوا وصدَّقوا؟.. ويأتي الجواب بالنفي، بطبيعة الحال - فبنوا إسرائيل طبعوا على اللجاج والسفاهة، والمكابرة والعناد. لاتقنعهم الحجة، مهما بلغت من إعجاز لايكون إلاّ سماوياً!.. أولم يلاق موسى، من قبل، كل مكابرة منهم، وتعنت وضلال؟.. فلم يؤمنوا بإعجاز هذا الوليد الذي أنطقهُ الله في المهد، ولما يرتو من لبن أمه، بعد، كما أنهم لم يؤمنوا بطهارة أمه الصديقة البتول، فانطلقت السنتهم ببهتان وافتراء، وسوء قيل وقال!.. النبوّة : وشبَّ عيسى، كما يشب بقية الفتيان، ولكن مخايل النجابة، وسيماء الكرامة (أي: مظاهرها ودلائلها) بدتا عليه، فظهر مهاباً!.. وكان أثناء لعبه مع أترابه، ومخالطته إيّاهم، يحدثهم بما لا تقوى على فهمه عقولهم، وينبئهم بما يأكلون، ومايدّخرون في بيوتهم. وعندما كان يجلس أمام استاذه في الكتّاب، كان يلحظ كل شاردة وواردة، ويحفظ كل حاضرة وغائبة. فيجد فيه استاذه فتى خارقاً!.. وعندما بلغ الثانية عشرة من سنيّه، صحبته أمّه الى بيت المقدس، حيث استهوته مجالس العلم والعلماء. فكان يحرص على شهودها حرصاً شديداً، مصغياً، متأملاً، مفكّراً... ثم مناقضاً وكأنه يغترف العلم، من البحر، اغترافاً!.. فكان يرد على أحبار اليهود مسفّهاً ما كانوا يعلّمونه عامّة الناس من زخرف القول وزوره، ومبهرج الكلام وباطله، اللذين يخفيان خلفهما ضلالاً كبيراً، وغيّاً عظيماً.. فيقارعهم، ويحجهم،.. فيصمتون مبهورين، وقد علت وجوههم علائم الانكسار.. ويتطلع الناس إليه،... وإليهم، مستغربين!. فيالهذا الفتى في حكمة أجلاء الشيوخ وعلمائهم الأفذاذ!.. وكثيراً ما كان ينسى عيسى كل ماحوله، حتى نفسه، ينساها، فهو في حجاج، مع هؤلاء الاحبار، مستمر، قلّما يهدأ، أو ينقطع، حتى أنه نغص عليهم مجالسهم، فكادوا أن يعافوها!.. وتمضي عليه، وهو في هذا الحال، أيام كثيرة، وشهور.. وتفتقده أمه في كل مكان فلا تعثر له على أثر. فيجن صوابها!.. وبينما هي كذلك، وإذ بابنها بين زمرة علماء، علت صدورهم لحىً كثّة بيضاءُ بيضاء، وهو يناقشهم، بصوت يشيع فيه صادق البرهان، وساطع الحجة والبيان،.. وقد اصفرت منهم وجه. واحمرت عيون، فتخاف عليه سوء العواقب، وتحذر عليه يداً أثيمة تناله بسوء... فتضمه اليها، وتعود به إلى "الناصرة"، مدارج طفولته، وملاعب صباه، بعيداً عن مكامن الخطر والأذى، والعثرات!.. ولما بلغ عيسى الثلاثين من سنّيه المباركة، صدع بأمر الله عزوجلّ، معلناً نبوّته في بني اسرائيل... مفنّداً (أي: مظهراً باطل..) ماهم عليه من كفرٍ وضلال، داعياً إياهم إلى العودة الى الأصول الأولى، والينابيع الصافية، في مصادرها.. والى الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها. وأخذ يُبيّن لعامة الشعب ماقام به كبار أحبارهم من تزييف لشريعة موسى السمحاء، وتحريف لها. ابتعاء عرض الحياة الدنيا، وتهافتاً على الذهب يكنزونه في خزائنهم، دون أن يعطوا فقراء خلق الله منه شيئاً، بل يسلبون منهم الدينار والدرهم باسم الدين، وخدمة الهيكل!. وجنّ جنون أحبار بني اسرائيل!.. فما لهذا المبعوث يرميهم بكل فضيحة ونقيصة تقصمان (أي: تقطعان) الظهور؟.. واجمعوا على تكذيبه، ومناوأته.. وألبوا عليه أوغادهم وجهالهم، فما استطاعوا أن ينالوا منه، ويحطوا من شأنه،.. بل كان الأمر على النقيض من ذلك، فلقد ازداد سموّاً وعلوّاً وتحلّق حوله أشياع وأتباع، وتلامذةٌ ومريدون. آيات ومعجزات : ويطالب أحبار بني إسرائيل عيسى بالآيات والمعجزات، فلكل نبي أياته ومعجزاته وبيّناته!.. وينهض عيسى لما يطلبون: - فكان يخبرهم بما يأكلون، ومايدّخرون.. - وكان يصنع لهم من الطين كهيئة الطير، (تمثال طير من طين)، ثم ينفخ فيه،.. فإذا به طائر، من لحم ودم، يطير، محلقاً في الأجواء!.. - وكانوا يأتونه بالرجل منهم، يكون أعمى منذ ولادته، فيمسح على عينيه، فيرتد بصيراً... - وبالأبرص قد شوّه البرص وجهه، فيمسح على وجهه، فإذا به وسيمُ الوجه، جميل الصورة... - وكانوا يأتون به إلى الميت، منذ ساعات، أو أيام،.. فيدعو فوق رأسه، فينهض حيّاً!.. - وكان يمشي، أمام بعضهم، أو بعض تلامذته، على الماء، وكأنه يتجول في بستان، ويعود اليهم دون ان تبتل له قدم!. يفعل ذلك كله، أمام من حضر، مؤكداً أمام الجميع بأن ذلك بأمر الله، وباسمه،.. داعياً إيّاهم إلى الايمان برب السموات والارض، والإقلاع عن كل غيٍّ وفساد!. فآمنت به طائفة، هم حواريّو المسيح، وأنصاره، وتلامذته، وأتباعه، وسمّوه "المعلم" وأطلقوا عليه لقب "المسيح" إشارة إلى أنه كان يمسح بيده المباركة على الضرير والأبرص، كما مر، فيشفيان. وكفرت به طائفة أخرى، وقد أعمى الله البصائر منهم والأبصار، فأطلقوا عليه نعوتاً كاذباتٍ واختلقوا حوله إشاعاتٍ وافتراءاتٍ، فأثيرت حوله زوبعة من صخبٍ وضجيج. وقضى الله بنصرة نبيّه عيسى(عليه السلام)، وردِّ كيد كل خائنٍ كفار!... الحواريون والمائدة : وكان اسلوب عيسى (عليه السلام) في دعوته، الاّ يستقرّ في مكان.. فأرض الله واسعة،... وفيها من خلقه من لم يسمع باسمه، فلم تصله رسالة السماء. فكان دائماً في حل وترحال، لايهدأ في مدينة حتى يغادرها الى ثانية،.. وما أن يصلها حتى لايمكث فيها طويلاً، فيغادرها إلى قوم آخرين، وهكذا.. وكان يصحبه حواريون وتلاميذ، ارتدوا خشن الصوف، وخلقوا وراءهم الدنيا ظهرياً (أي: جعلوها وراء ظهورهم) فانطلقاو مع "معلمهم" يتصفحون صحائف الكون، والطبيعة، وخلق الله وآياته الباهرات!..أي: جعلوها وراء ظهورهم) فانطلقوا مع "معلمهم" يتصفحون صحائف الكون، والطبيعة، وخلق الله، وآياته الباهرات!.. وبينما كانوا يخلدون للراحة، بعد وعثاء السفر، في أرض قفر، جدباء، وقد أخذ الاعياء والجوع منهم مأخذاً عظيماً، تساءلوا فيما بينهم عن الطعام، ولاطعام لديهم، فتوجهوا بالسؤال إلى "معلمهم" الأكبر عيسى: فقالوا: {.. ياعيسى ابن مريم، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدةً من السماء؟..}. وظهرت على محيّا النبي الكريم، علائم استغراب، وخوف، وحذر، فأسرع يجيبهم: - {.. إتقوا الله ان كنتم مؤمنين!} "ألم تؤمنوا بربكم، بعدما شاهدتم كل هذه المعجزات والبيّنات؟..." - حاشا لله أن نكون من المكذبين، أو المفترين، أو الشاكّين!. _ أخاف عليكم الفتنة واللَّجاج المؤديين إلى المكابرة والعناد، وما جزاء ذلك إلاّ خزيُ الدنيا، وعذاب الآخرة المقيم!. - حنانيك يامعلم!.. ألم تر الينا، وقد انهكنا الجوع، وعضّنا بناب ناهشٍ؟. إننا إذ نطلب اليك ذلك فلكي نطعم منها، فنزداد إيماناً على إيمان، ويقيناً على يقين، وتسليماً على تسليم. وبذلك تشريف لنا، وتخصيص بفضل وكرامة، يفرضان علينا ثابت اليقين والإيمان، بالإضافة إلى مايُتاح لنا من فرصة لنشر الدعوة وتبليغ الرسالة، فلا العنت نبغي ولا اللجاج، ولا المكابرة والعناد، ونحن الذين آمنا، وأشهدنا الله على إيماننا، وكنت انت شهيداً ايضاً، منذ أول ماعرفناك، فعرفنا الحق، وصدقّنا دعوتك، واتّبعناك ولازلنا، وسنبقى إن شاء الله من المهتدين... فلما تبيّن لعيسى (عليه السلام) صدقُ مقصدهم، وظهر له صحيح ماانطوت عليه دخيلتهم (أي: باطنهم، وسرهم) رفع يديه ووجهَه الى السماء قائلاً بصوت يتفطّر استعطافاً: - "اللهمّ!.. ربّ السموات والارضين، وما بينهما،... ياباسط اليديد بالرحمة، ياموسع الخلق بالعطاء والرزق، يامن لاتغيض خزائنه، ولاتنقطع مواهبه، يامالك الملك، ياذا الجلال والاكرام: {أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا، وآية منك، وارزقنا وانت خير الرازقين}. فاستجاب الله تعالى لنبيّه دعوته، ومنحه طلبتهُ: {قال الله إني منزلها عليكم، فمن يكفر بعد منكم فإني أُعذّبُهُ عذاباً لاأُعذبه أحداً من العالمين}. وما لبث القوم أن سمعوا حفيف أجنحة، ورأوا مائدة تتهادى من عل، لتستقر فيما بينهم، وهي تفيض بالرزق الوفير، والخير العميم!.. وقبل أن تمتد اليها يد، دعا عيسى أن تكون رحمة لهم ونعمة، وأن يزيدهم الله من فضله... ثم أومأ بيده اليها، وإليهم، فائلاً، كلوا، واشكروا! فطعموا منها كفايتهم، وقاموا وقلوبهم تطفح بشراً وايماناً، وهدىً نوراً. وسمع بذلك خلق كثير، توافدوا إلى عيسى مؤمنين، فتكاثروا، وازداد المؤمنون يماناً!.. وانتشرت رسالة عيسى، وعمّت.. فلها في كل بيت مؤيد ونصير. وكان عيسى يعلن في كل مشهد ومحفل وناد: {يابني إسرائيل إنّي رسول الله اليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة، ومبشراً برسول يأتي من بعدي، اسمُهُ أحمد!..} وهكذا فدعوته تصديق بماضٍ وتبشير بمستقبل آت!.. ويجمعون، أخيراً، كيدهم ومكرهم، مقرّرين القضاء على عيسى. وليكن مايكون! فرفعوا أمرهم الى حاكم "بيت المقدس" ملصقين بالمسيح كل تهمة شنعاء،.. وترصّدوا عيسى، فأين يكون؟. وأين المفرُّ؟ واجتهدوا في بث عيونهم وأرصادهم، وكان عيسى قد علم بمكرهم، فلم يهتدوا إليه ولم يعثروا له على أثر. وبينما كان رجال الدين يبحثون في بيت المقدس أمر عيسى، وقد استعصى، واستشرى وحيّرهم أمر اختفائه عن العيون، فاهتّموا واغتمّوا،.. وإذ بيهوذا الاسخريوطي يدخل عليهم، ويا للبشرى!.. إنّ مطّلع على كل تحرّك يقوم به هذا النبي الجديد، في ليل وفي نهار. فيصيحون فرحاً، ويهتزون طرباً، فأين الذي يكذّب كهّان الهيكل ويسفّه الأحبار؟ ويتّصلون بوالي المدينة المقدسة، فيرسل معهم جنداً لإلقاء القبض على هذا المبعوث الجديد. فلعل الفتنة تنقطع، ولعل الناس يهدأون!. الله يرفع عيسى اليه : وفي ليلة ليلاء، بينما كان عيسى (عليه السلام) وتلامذته مختبئين في بستان، وإذ بالجند يُداهمهم، فيفر الأتباع مولّين الأدبار. وتتحرك مشيئة الله سريعاً، على غير ما ينتظره أعداء الله، فإذا بعيسى لاتراه عين، وقد كان منذ لحظات بين أيديهم. فكأن الارض ابتلعته، أو رفعته إليها السماء!. ويساهدون رجلاً مقبلاً نحوهم، ويتأمّلونه جيّداً، إنه يشبه عيسى كثيراً، فيتصايحون: - هذا عيسى، هذا عيسى؟.. فانقضّوا عليه، وأمسكوا بتلابيبه، ساقوه أمامهم مخفوراً. اما الرجل، فقد أخذته المفاجأة، فما استطاع كلاماً.. وانهالت عليه حشود الجماهير تتقاذفه أمامها صاغراً ذليلاً!. عند ذلك أخذ الرجل يصرخ بأعلى صوته: أنا لستُ عيسى، بل أنا الذي دلّكم عليه. أنا يهوذا الإسخريوطي!.. فهزئوا منه مقهقهين. ووصلوا به إلى وسط الساحة وهم يجذبونه جذباً عنيفاً، ويجرّونه جراً شديداً، بعد أن ساروا به على درب الجلجلة، زيادة منهم في العذاب الأليم، والنكال المهين. وفي وسط الساحة، رفعوه بين الصخب والضجيج، وصلبوه، بعد أن جرّعوه كأساً من علقم، وتوّجوا رأسه بالشوك إكليلاً!.. {.. وما قتلوهُ، وماصلبوهُ، ولكنْ شُبّه لهم، وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شكٍّ منه، مالهم به من علم إلا اتباع الظنّ، وما قتلوه يقيناً. بل رفعه الله اليه، وكان الله عزيزاً حكيماً!}. (صدق الله العلي العظيم) |
#2
|
||||
|
||||
![]()
النبي هود (ع) القائم
الوصية إلى هود (عليه السلام) بعد أن استكمل نوحٌ (عليه السلام) أيامه، وانقضت نبوته أنزل الله عليه سبحانه جبرائيل (عليه السلام) يأمره بأن يدفع ميراث النبوة والعلم إلى ابنه سام، وأن يبشر الذين آمنوا معه بنبوة هود(ع) ويأمرهم باتباعه. وهود(ع) هو ابن عبد الله بن رباح بن خلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح(ع)، وهو من قبيلة يقال لها الخلود، من أوسطهم نسباً وحسباً، وأصبحهم وجهاً في مثل أجسامهم، أبيض بادي العنفقة طويل اللحية، آدم كثير الشعر، وكان أشبه ولد آدم بآدم(عليه السلام). كان هود مزارعاً يسكن مع قومه عاد في مايعرف اليوم بالأحقاف، في البادية بالدهناء ويبرين وعالج إلى اليمن وحضر موت، وهي اليوم رمال ليس فيها أنيس بعد ذلك العمران والنعيم العظيم. اتصف هود(عليه السلام) بالوقار والهيبة والرزانة، وسعة الصدر والحلم، كما اتصف بالعقل وعزة النفس، وكان مع هذا وذاك عابداً زاهداً عفيفاً أبياً غيوراً، صلب الإيمان، رحيماً عطوفاً ليناً. {وإلى عادٍ أخاهم هودا} كانت قبيلة عاد تسكن كما ذكرنا في الأحقاف باليمن شمالي حضرموت، في أرض يقال لها الشحر في وادٍ يُسمى مغيث، في أخصب بلاد العرب وأكثرها أنهاراً وجنانا. وكانوا كأنهم النخل الطوال، قد زادهم الله بسطةً في الجسم والقوة، إذ كان الرجل منهم يضرب الجبل فتنهدم منه قطعة، وينزع الصخرة فيقلعها بيده، وكانوا يعبدون الأوثان، وقد اتخذوا لهم أصناماً ثلاثة أموها آلهة، وهي: صمدا وصمودا وهرا. سميت عاد بذات العماد. كما ورد في القرآن الكريم {ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد} لأن الله سبحانه كان قد سخر لهم من قطع الجبال والصخور، مايعملون منه العمد والأبنية، وكان لهم من القوة على ذلك والعمل به شيئاً لم يسخِّره لأحد كان قبلهم ولا بعدهم. ولما رأوا قوتهم ومقدرتهم استكبروا بغير الحق، وأصابهم الصلف والغرور، وجحدوا آيات الله وكفروا نعمه: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق، وقالوا من أشدُّ منا قوة}. وأخذ أبناءُ عاد والمترفين منهم خاصة، يبنون في كل مكان مرتفع من الأرض بناءً عالياً يطلعون منه على الناس ليسخروا منهم ويهزأوا بهم. وكان هود (عليه السلام) قد أتم الأربعين من عمره، فبعثه الله فيهم، نبياً وهادياً إلى سبيله ومرشداً، وهو منهم أوّل نبيّ عربي يبعثه الله، فدعاهم إلى عبادة الله وترك عبادة الأصنام، وإلى عدم الاستعلاء في الأرض والفساد، قائلاً لهم: {ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون} {أتبنون بكل ريعٍ آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأموالٍ وبنين، وجنات وعيون}. ولكن عاداً راحوا يسخرون من هود (ع)، ويقولون له: أتريد منا أن نترك آلهتنا صمدا وصمودا وهرا التي كان يعبدها آباؤنا قبلنا ونعبد إلهك الواحد الذي لانراه؟! {قالوا أجئتنا لنعبد الله وحدة ونذر ماكان يعبد آباؤنا}. هذا أمرٌ غريب بعيد، لن نؤمن لك، وأنت واحدٌ منا، ولايمكنك أن تقنعنا أو تجبرنا على ذلك، وقال بعضهم: {ماهذا إلاّ بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون، ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون} وقالوا: {إجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا}؟... {إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين}. وأخذ هود(ع) يسرد لهم الأدلة والبراهين، على صدقه وعلى وحدانية الله، وعلى أن تلك الأصنام التي يعبدونها لاتنفعهم، وراح يذكرهم بأن ما ينعمون به من القوة والحياة الكريمة، إنما هو من اله خالقهم ومدبر شؤونهم، وأنه سيزيدهم إن هو آمنوا وشكروا، وتركوا الإفساد في الأرض والاستكبار، وأن الله سيغضب عليهم ويعاقبهم إن هم أصروا على ماهم عليه من عبادة الأصنام والإفساد والسخرية بالناس والهزء منهم: {أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون}. واستكبر قوم عاد وأصروا على كفرهم وقالوا: {ياهود ماجئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن وقولك ومانحن لك بمؤمنين} أما هود(ع) فاستمر في دعوته ورفض عبادة الأصنام رغم أنهم خرفوه وهددوه، ولم تفتر له همة وقال لهم: {إني أشهد الله واشهدوا أني برئٌ مما تشركون.. فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولاتضرونه شيئاً}. وتابع هود(ع) دعوته لهم ووعده وعيده، ووعظهم وتذكيرهم أنهم بعد الموت سيبعثون من جديد، ليحاسبهم الله على كل ماكانوا يفعلونه، من الإثم والعدوان، مذكراً إياهم بأنه لايطلب منهم أجراً على مايقوم به، وأنه أمين على رسالة بعثه بها الله إليهم ليبلغهم إياها، وأنه لهم من الناصحين: {إذ قال لهم أخوهم هود: ألا تتقون إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجري إلا على رب العالمين.. إني أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيم}. ولم تنفع مع قوم عاد كل محاولات هود(ع) لإنقاذهم ونقلهم من الضلالة والجهل، من عبادة الأصنام والفساد، إلى الهدى والرشاد والصلاح، إلى عبادة الله الواحد الأحد وطاعته. ليس هذا فحسب بل إنّ بعض السفهاء منهم راح يهزأ بهود(ع) ويستخف قومه قائلاً لهم: {ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنّكم إذاً لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون، هيهات هيهات لما توعدون، إن هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمعوثين، إن هو إلاّ رجلٌ افترى على الله كذباً وما نحن له بمؤمنين}. وقال بعضهم: إن هوداً خالف آلهتنا، وترك عبادتها وقد أصابته الآلهة بالجنون لأجل ذلك: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} وأصروا على تكذيبه وعدم الإيمان بما جاءهم به وهو يكرر قوله: {ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي، وأنا لكم ناصح أمين} {ياقوم لاأسألكم عليه أجراً إن أجري إلاّ على الذي فطرني أفلا تعقلون}. بطش عادٍ بهود (عليه السلام) فلما رأوا ثباته في دعوته، واستمراره فيها بطشوا به وخنقوه وتركوه كالميت، فبقي يومه وليلته مغشياً عليه، فلما أفاق ناجى ربه قائلاً: يارب إني قد عملت وقد ترى مافعل بي قومي، فجاءه جبريل(عليه السلام) فقال: ياهود إنّ الله تعالى يأمرك ألاّ تفتر عن دعوتهم، وقد وعدك ربك أن يلقي الرعب في قلوبهم فلا يقدرون على ضربك مرة ثانية، فأتاهم هود وقال لهم: ياقوم قد تجبرتم واستكبرتم في الأرض بغير الحق وأكثرتم الفساد، أفلا تنتهون. فقالوا ياهود أترك هذا القول، فإنا إن بطشنا بك الثانية نسيت الأولى، فقال (عليه السلام): دعوا هذا الفساد والغرور، وتوبوا إلى الله واعبدوه، فما كان منهم إلاّ أن حاولوا ضربه مرة ثانية فلبسهم الرعب فاجتمعوا بقوتهم، فصاح بهم هود (عليه السلام) صيحة فسقطوا لوجوههم، ثم قال لهم: ياقوم لقد تماديتم في الكفر كما تمادى قوم نوح من قبل وحق لي أن أدعو عليكم كما دعا نوح (عليه السلام) على قومه. ورغم ما أسابهم من الخوف والرعب، استمروا في طغيانهم وغرورهم، وقالوا: ياهود إن آلهة قوم نوح كانوا ضعفاء وآلهتنا أقوياء مثلنا وقد رأيت قوة أجسامنا وشدتنا وبطشنا. دعوة هودٍ وعذاب عاد وبعد سبعمائة وستين عاماً يئس هود(ع) من اهتداء قوم عاد، وهم في كل مرة يكذبونه ويقولون له: {فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} فرفع يديه بالدعاء إلى ربه قائلاً {رب انصرني بما كذبون. قال عما قليل ليصبحن نادمين}. وبدأ العذاب الذي وعدهم هود، فكفت السماء عنهم سبع سنين بأمر الله، حتى قحطوا وأجدبت الأرض ثلاث سنين، ولم يرجعوا عن كفرهم واستكبارهم وغرورهم، وبعثوا وفداً منهم إلى جبال مكة، وكانوا لايعرفون موضع الكعبة، فمضوا واستسقوا فرفعت لهم ثلاث سحابات، فقالوا عن الأولى: هذه حفا ليس فيها ماء، وقالوا عن الثانية: هذه فاجيا ماؤها قليل، واختاروا الثالثة وكانوا يظنون أن فيها مطراً كثيراً، بينما كانت في الواقع هي التي تحمل لهم العذاب، وقد ساقتها الريح نحو أوديتهم، {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا، بل هو مااستعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شئٍ بأمر ربها} ورأت امرأة منهم يقال لها "مهد" تلك الريح، فصاحت وأغمي عليها، فلما أفاقت وقد اجتمعوا عليها قالوا لها: مارأيت يامهد؟ قالت: رايتُ ريحاً فيها شبه النار أمامها رجال يقودونها. وبدأت الريحٍ تقتل من تصادفه منهم، وهم يرون وينظرون، فراحوا يسألون هوداً (ع) عن سرِّ تلك الريح: إذا أقبلت أقبل معها خلق كثير كأمثال الأباعر، معها أعمدة، هم الذين يفعلون بنا الأفاعيل؟ فقال لهم (ع): أولئك الملائكة. فقالوا أترى ربك أن يغلبنا عليهم إن نحن آمنا به؟ فقال(ع): إن الله تعالى لايغلب أهل المعاصي على أهل الطاعة، قالوا أو ننجو إن نحن آمنا؟ قال: نعم، قال زعيمهم وكان اسمه الخلجان: وكيف لي بالرجال الذين هلكوا؟ قال هود(ع) يبدلك الله بهم خيراً منهم، فقال الخلجان: لاخير في الحياة بعدهم، فكان مصيره كمصيرهم. هلاك عادٍ ونجاة المؤمنين أما هود(ع) ومن آمن معه من أحفاد سام بن نوح(ع) فقد لجأوا إلى حضيرة في مكة، مايصيبهم إلاّ ماتلين عليه الجلود وتلذ به الأنفس، وبدأت الريح تدمغ عاداً بالحجارة، فراحوا يختبئون في القصور والبيوت، وفي المغاور والكهوف، ولكن الريح كانت تدمر عليهم قصورهم والبيوت وتطحنها طحنا حتى تحولها إلى رمال، وتدخل عليهم المغاور والكهوف فتلفهم رجالاً ونساءً وتخرجهم وترفعهم صعداً في الجو ثم ترمي بهم فيقعون على رؤوسهم منكسين فتقتلهم: {وقالوا من أشد منا قوة، أولم يروا أنّ الله الذي خلقهم أشد منهم قوة، وكانوا بآياتنا يجحدون، فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لاينصرون}. وهكذا استمرت تلك الريح عليهم سبع ليال وثمانية أيام متتالية: {ريح صرصر عاتية، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، فترى القوم كأنهم أعجاز نخل خاوية}. ويقال إن تلك الريح سميت بالريح العقيم، لأنها عقمت عن الرحمة، وتلقحت بالعذاب، وأنها هي التي تسميها العرب بأيام العجوز، لأنّ عجوزاً اختبأت في أحد الدهاليز فدخلت إليها تلك الريح وأخرجتها وأهلكتها: {وفي عادٍ إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم، ماتذر من شئ أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم} {فأصبحوا لايرى إلاّ مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين} {فأصبحوا لايرى إلاّ مساكنهم كذلك نجزي القوم الظالمين} {فهل ترى لهم من باقية} {فكيف كان عذابي ونذر} {إن في ذلك لآية وماكان أكثرهم مؤمنين وإنّ ربك لهو العزيز الرحيم}. أما هود(ع) ومن آمن معه وصدق برسالته وعمل بها، فقد أنجاهم الله برحمته وقدرته: {فأنجيناه والذين آمنوا معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا} {ألا بعداً لعادٍ قوم هود}. وفاة هود (عليه السلام) وقبره تروي كتب السيرة والتاريخ، أن هوداً(ع) بعدما أصاب عاداً ما أصابهم، انتقل إلى العراق وعاش هناك إلى أن وافاه الأجل وحانت منيته وانقضت أيامه، وأنه (ع) دفن هناك في وادي السلام عند مرقد الإمام علي(ع) وقبري آدم ونوح(ع) وإلى جانبه مرقد النبي صالح(ع) الذي جاء بعده إلى قبيلة ثمود. ويروي المؤرخون وأصحاب السير أن أمير المؤمنين علياً(ع) سأل شيخاً من أهل مهرة: مايقول قومك في الجبل الذي عليه الصومعة قرب مهرة؟ فقال: يقولون هو قبر ساحر. فقال (ع) كذبوا أنا أعلم به منهم، ذلك هو قبر هود(ع). ومهما يكن من أمر فإنَّ هوداً(ع) قد بلغ رسالات ربه، وقصد إلى حج بيت الله الحرام ماراً بوادي عسفان كما جاء ذلك في حديث عن رسول الله محمد(ص): "لقد مرّ بهذا الوادي [يعني عسفان] نوح وهود وإبراهيم... يحجون البيت العتيق". ويُذكر أيضاً أنّ هوداً(ع) عندما أحسّ بدنو أجله، أوصى من بعده، وبشر قومه بنبي الله صالح(ع) يأتي بعده، وأمرهم باتباعه والإيمان به. فسلام الله على هود إنّه كان من المرسلين. والحمد لله رب العالمين. |
#3
|
||||
|
||||
![]()
النبي لوط (ع) صاحب السجيل
نسب لوط(ع) وأحواله هو لوط بن هاران أخ إبراهيم(ع) لأبيه تارخ أي آزر بن ناحور بن ساروغ بن راغو بن فالغ بن شالح بن أفخشذ بن سام بن نوح عليهم السلام. ولد لوط(ع) في العراق في قرية من قرى الكوفة يقال لها "كوثار" أو "فدّان آرام" وأمه أخت أمّ إبراهيم(ع) وهي ابنة لاحج، وكان نبياً منذراً لم يرسل إلى أحد. ولوط(ع) هو أخو سارة زوجة إبراهيم(ع) لأمّها. وكان متحلياً بالتقوى والصبر على المحن وطاعة الله تعالى والشكر له على كل نعمة ودفع النقم، كما كان في غاية الكرم والإستمساك بالذمام وحفظ الجار والضيف، غنياً ذا ثروة من الذهب والفضة وصاحب إبلٍ وغنمٍ وبقرٍ كثير، وله عبيدٌ وإماءٌ كثرٌ. عاش لوط(ع) في زمن إبراهيم(ع) وولديه إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، ولما بُعث إبراهيم(ع) نبياً رسولاً آمن لوط(ع) بنبوَّته ودعا إليه وإلى شريعته، كما ذكر ذلك الله تعالى في كتابه العزيز حيث قال عز من قائل في قصة إبراهيم(ع): {فآمن له لوط}. ولمَّا اضطرّ إبراهيم(ع) إلى الخروج من وطنه العراق بسبب مضايقة الكافرين له، هاجر لوط(ع) معه كما ورد في القرآن الكريم: {وقال إني مهاجرٌ إلى ربي}. وتبع لوط(ع) إبراهيم(ع) في رحلاته، وقد ورد ذكره(ع) في أربع عشرة سورة من سور القرآن الكريم هي على التوالي: سورة الأنعام، سورة الأعراف، سورة هود(ع)، سورة الجحر، سورة الأنبياء، سورة الحج، سورة الشعراء، سورة النمل، سورة العنكبوت، سورة الصافات، سورة ص، سورة ق، سورة القمر، وسورة التحريم. إلى سدوم خرج لوط(ع) مع إبراهيم(ع) في رحلته من العراق إلى الشام وفلسطين، حيث استقرَّ لوط(ع) في سدون بالقرب من عاموراء، على شاطئ البحر الميت، في مايعرف اليوم بالأردن. كان أهل سدوم قوماً بخلاء يستثقلون الضيف ويسعون للتخلص منه بشتى الوسائل، وكانوا يسمَّون "أهل المؤتفكة" لأنّهم كانوا أهل إفكٍ ولهوٍ ولغوٍ ودجلٍ وباطلٍ وفساد، لايستحيون من فعل القبيح، يأتون المنكرات بمحضر النساء والبنات كما وصفهم الله تعالى حيث وجّه الخطاب إليهم على لسان نبيِّه لوط(ع): {وتأتون في ناديكم المنكر}. ليس هذا فحسب، بل كان أهل سدوم أهل ظلم وجور، حتى أن القاضي عندهم كان يحكم لهم على الغرباء، بحقٍ وبغير حق، حيث يُروى أن سارة زوجة إبراهيم(ع) بعثت إلى سدوم رسولاً من قبلها ليستطلع لها أخبار أخيها لوط(ع) ويأتيها بها. فلما وصل الرسول إلى تلك البلاد لقيه رجل من أهلها وضربه بحجر على رأسه، فسال دمه على وجهه وثيابه، ثم أن ذلك الرجل تعلَّق برسول سارة وأخذ يطالبه بأجر على فعلته تلك، بحجة أنَّ الدم الذي سال لو بقي لأضرَّ بجسم الرسول. وبعد مشاحنات ومجادلات دعاه رسول سارة إلى القضاء وهو لايعرف ماذا ستكون النتيجة... وتوجها إلى قاضي سدوم فما كان منه إلا أن حكم على الرسول المضروب للرجل المعتدي... فعمد رسول سارة إلى حجر وضرب به راس القاضي فشجّه وأسال دمه وولى هارباً وهو يقول له: "ادفع إلى ضاربي هذا مايتوجب لي عليك لقاء ضري إياك". ومهما يكن من أمر صحة هذه الرواية وطرافتها سواء أكانت صحيحة أم مروية على سبيل التندّر والتهكم والمبالغة في التدليل على ظلم أهل سدوم، فإنها تبقى دليلاً على أن أهل تلك البلاد كانوا يتجاوزون الحدود في أعمالهم وتصرفاتهم. ويحدثنا المؤرخون أن أهل سدوم كلهم باستثناء أهل بيت واحد هو بيت لوط(ع) كانوا يتضارطون في مجالسهم ونواديهم، ويجتمعون على نكاح الرجل الغريب، ويتوالون على ذلك حتى في محضر نسائهم وبناتهم، كما كانوا يخذفون الغرباء الذين يمرون في ديارهم بالحجارة، فأيهم أصابه حجر أخذوا ماله ونكحوه، وكان لهم قاضٍ يفتي لهم بذلك، بلاحشمة أو حياء، حتى أنهم قطعوا الطريق على المارة خشية هذه الفاحشة المنكرة. لوط(ع) ينصح أهل سدوم رأى لوط(ع) عمل أهل تلك البلاد، فساءه ذلك منهم، خصوصاً وأنه كان يعيش بين ظهرانيهم وقد تزوج امرأة منهم، وحاول (ع) إصلاح حالهم، فدعاهم إلى عبادة الله الواحد الأحد، ونهاهم عن الفواحش والمحرمات والمنكرات التي كانوا يرتكبونها. وقد قصَّ القرآن الكريم قصّة تلك الدعوة فقال: {ولوطاً إذ قال لقومه: أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين؟ إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء! بل أنتم قوم مسرفون}. أما أهل سدوم فكانت ردة فعلهم على هذه الدعوة معاكسة، فراحوا ينهون لوطاً عن استقبال الضيوف ويهددونه بالإخراج من بلادهم إن هو أصر على دعوته وملاحظاته وتأنيبه لهم، ومازادتهم دعوته إلاّ إصراراً على منكرهم، واستمروا في كفرهم وفجورهم، كما حكى ذلك القرآن الكريم: {وماكان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون}. واستمر لوط(ع) في نصحة وإرشاده، فما كان منهم إلا أن اشترطوا عليه ألاَّ يضيف أحداً من الناس، وإلا طردوه من ديارهم، ولكنه(ع) راح يكرر دعوته لهم، رغم مضايقاتهم له، محاولاً ثنيهم وردعهم عن ارتكاب المحرمات والفواحش، ولكن برفقٍ ولينٍ هذه المرَّة قائلاً لهم: {أتأتون الذكران من العالمين. وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم؟ بل أنتم قوم عادون}! ولكن الشيطان كان قد استحوذ عليهم وطمس على قلوبهم وأبصارهم وعقولهم، حتى أن لوطاً(ع) كاد ييأس من إصلاح حالهم وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، وراح يتطير بالضيوف ويتحاشى استقبالهم، خشية معرفة هؤلاء القوم بهم وسعيهم لارتكاب الفاحشة فيهم. فقد حدث أن بعث الله الملائكة الذين أمرهم بإنزال العقوبة بأهل سدوم، بعثهم ضيوفاً على لوط(ع) ولوط لايعرف مَنْ هم ولاماذا يريدون، فاستاء من حضورهم وارتبك كما قال تعالى: {ولما جاءت رسلنا لوطاً سئ بهم، وضاف بهم ذرعاً، وقال هذا يوم عصيب} وبات لايدري ماذا يفعل حتى يصرفهم، قبل أ، يعلم أهل سدوم بقدومهم. زوجة لوط(ع) لاتحفظ سره ورد الملائكة(ع) على لوط عليه السلام وهو في أرض له يسقي زرعها، ويعمل فيها، وهو لايعرفهم، فطلبوا منه أن يضيفهم عنده فاستحيا ألا يجيبهم إلى طلبهم، رغم ما كان يخشاه عليهم من أهل سدوم، فانطلق أمامهم وراح يلمح لهم في كلامه عن فعل أهل تلك البلاد وسوء تصرفهم، علَّ الضيوف يعلمون فيغيرون رأيهم وينطلقون إلى قرية أخرى يستضيفون أهلها، ولكن الملائكة كانوا يعلمون كل شئٍ عن أفعال أهل سدوم. وكانوا على يقين أنه لن يصيبهم منهم أذى ولا حتى لوط(ع).. وعرف الملائكة الضيوف مقصد لوط(ع)، ولكنهم قالوا له: نحن أبناء سبيل، أفلا تضيفنا هذه الليلة عندك؟. قال لوط(ع): إن أهل هذه القرية قوم سوء يأتون المنكر، فهم ينكحون الرجال ويأخذون أموالهم.. فقال الملائكة: لقد تأخرنا فأضفنا الليلة فقط.. وظل يحادثهم في الحقل حتى أرخى الليل سدوله، وهو يقصد أن يذهب بهم إلى بيته دون أن يشعر أهل سدوم بهم. ثم إن لوطاً(ع) انطلق أمامهم إلى منزله، وأخبر زوجته واهله بأمرهم، قائلاً لها: إنه قد أتانا أضياف هذه الليلة فاكتمي أمرهم ولاتعلمي أهلك بهم، ولكِ عليَّ أن أسامحك بكل مابدرَ منك تجاهي من أذى إلى اليوم.. فقالت: أفعل. كانت امرأة لوط(ع) على دين قومها، وكانت بينها وبينهم علامة تدلهم ما إذا كان لوط(ع) قد ضيّف أحداً أم لا... وكانت تلك العلامة أن تدخن فوق السطح نهاراً، وأن تشعل فوقه النار ليلاً. وما أن دخل الملائكة الضيوف منزل لوط(ع) وهو معهم، حتى قامت زوجته وأوقدت ناراً فوق سطح المنزل، ليعلم قومها بضيوف لوط(ع). وهكذا أفشت أمرهم. لوط (ع) يدافع عن ضيوفه رأى أهل سدوم النار فوق سطع منزل لوطٍ(ع) وكانت علامة على وجود الضيوف، فتوافدوا إليه يريدون الأضياف ويتهددون لوطاً(ع) قائلين: {أولم ننهك عن العالمين}. وقد حكى الله ذلك عنهم في كتابه الكريم فقال: { وجاء أهل المدينة يستبشرون. قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون}. وقال: {وجاء قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات. قال ياقوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولاتخزون في ضيفي}. وأصر أهل سدوم على طلبهم وفعلتهم، فتعجب لوط(ع) من أمرهم وتحير، ولكنه راح يدفعهم ويحول بينهم وبين الوصول إلى ضيوفه، ويجادلهم محاولاً إقناعهم بالإقلاع عن هذه الفاحشة المنكرة، وأنه ما من إنسان عاقل رشيد يقدم على ارتكاب فاحشة اللواط التي يقدمون عليها: {أليس منكم رجل رشيد}؟ تحترمون رأيه لينهاكم عن مثل ذلك؟! ولكن القوم، وقد أعمى الشيطان بصائرهم، ظلوا يتدافعون للوصول إلى الضيوف.. فراح لوط(ع) يلفتهم إلى أن الله قد أحل لهم النساء وفيهن غنى عن إتيان الرجل وارتكاب تلك الفاحشة المخزية المردية. قائلاً لهم: {ياقوم هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين. هن أطهر لكم فاتقوا الله ولاتخزون في ضيفي... قالوا: لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم مانريد}. ولما لم ينفع معهم أسلوب اللين والإغراء وتحقيق مطلبهم دون ارتكاب المحرم... أدرك اليأس لوطاً(ع) وعلم أنه يستحيل إصلاحهم وقد فسدت فطرتهم التي فطرهم الله عليها، فقال(ع): {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد}. ولم يكن له بهم قوة فآوى إلى ركن شديد... لجأ إلى الله يبثه شكواه ومعاناته من أهل سدوم وهو يتهددهم بعذاب الله الشديد.. ولكنهم هزئوا به وسخروا منه وقالوا له: {ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين}. الضيوف رسل العذاب ولم ينفع الوعد والوعيد في ثني أهل سدوم عن ضلالتهم، فراح لوط(ع) يدعو ربه أن يخلصه منهم ومما يعملون، وقد ازداد خوفه وقلقه على ضيوفه، وهو يرى قومه يتدافعون إلى المنزل وهو لايقوى على ردعهم بأي وسيلة و{قال: رب انصرني على القوم المفسدين}. وجار الرد الإلهي سريعاً وعلى لسان الضيوف الملائكة، فقالوا: {يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك، فأسر بأهلك بقطع من الليل ولايلتفت منكم من أحد إلا امرأتك إنها مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب}. وخاف لوط وحزن ولكن الملائكة طمأنوه: {وقالوا: لاتخف ولاتحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين. إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون}. وبدأت نذر العذاب تظهر بينما القوم يراودون لوطاً(ع) عنضيفه: {ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر}.. فما هي إلا لحظات حتى أصيب القوم بالعمى، وراحوا يتحسسون الحيطان ليهتدوا إلى الطريق، ومع ذلك لم يرعووا عن غيهم وضلالهم ولم يعتبروا بما حدث لهم، فأخذوا ستهددون لوطاً(ع) ويتوعدونه قائلين: إذا كان الغد كان لنا وله شأن. وخرج لوط(ع) من سدوم دون أن يلتفت ومعه ابنتاه ولم يخرج معه منهم إلا امرأته.. وتوجه إلى حيث أمره الله تعالى... إلى صوعر وبينا هم في الطريق إذ جاءت الصيحة تعلن نزول العذاب بأهل سدوم. فصرخت امرأة لوط: واقوماه فسقط عليها حجر فدمغها وألحقها بقومها وقد {صبحهم بكرة عذاب مستقر} وجعل الله عالي بلادهم سافلها وأمطر عليها {حجارة من سجّيل منضود. مسومة عند ربك}. وكانت سبع مدن يسكنها أربعة آلاف أو أربعمئة ألف، وقد أخرج الله من كان فيها من المؤمنين وماكان فيها {غير بيت من المسلمين} هو بيت لوط(ع) {فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزاً في الغابرين ثم دمرنا الآخرين}. ذلك أن الله سبحانه أمر جبرائيل فاقتلع تلك البلاد بطرف جناحه، ورفعها حتى بلغ بها عنان السماء. ثم قلبها بمن فيها وما فيها، فجعل عاليها سافلها، وجعل الله مكانها بحرة منتنة لاينتفع بمائها ولابما حولها من الأراضي المحيطة بها، فصارت عبرة لمن اعتبر وآية على قدرة الله وعذابه: {وإنها لبسبيل مقيم} {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون} وكما قال تعالى: {ولقد تركناها آية بينة لقوم يعقلون... وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم}. وهكذا لم تنج إلا قرية صوعر التي لجأ إليها نبي الله لوط(ع).. يقول تعالى: {كذبت قوم لوط بالنذر. إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا آل لوط نجّيناهم بسحر. نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر. ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر. ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر. ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر. فذوقوا عذابي ونذر. ولقد يسَّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر}. { والمؤتفكة أهوى فغشاها ماغشى فبأي آلاء ربك تتمارى} {إن في ذلك لآية وماكان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم}. وفاة لوط(ع) لبث لوط بين أهل سدوم حوالي ثلاثين عاماً، يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن ارتكاب الفواحش، وينصح لهم كما أمره الله بذلك إلى أن حق عليهم العذاب ودمر الله عليهم بلادهم بعد أن لم يرتدعوا ولم يؤمنوا بلوط(ع). ويذكر المؤرخون أنَّ لوطاً(ع) لما أمره الله بترك سدوم. توجه إلى صوعر. يحث نجاه الله برحمته، فظل يدعو إليه ويتعبد له إلى أن وافاه الأجل. وظلت قصته مع قومه عظة وعبرة لمن {خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى}. فسلام على لوط {وإن لوطاً لمن المرسلين}. |
#4
|
||||
|
||||
![]()
النبي موسى كليم الله
بنو اسرائيل في مصر : هاجر ابناء يعقوب واحفاده ـ كما يقص علينا القران الكريم في سورة يوسف ـ من بلاد كنعان الى مصر ، حيث نزلوا على يوسف مكرمين . كيف لا ، ويوسف ايام ذاك ؛ كان امين فرعون على مصر كلها ؟ … وهكذا شاء الله تعالى ان يسكن ارض مصر قوماً يعبدونه ، ولا يشركون به احدا . انهم ذرية يعقوب بن اسحق بن ابراهيم ، وكلهم انبياء ، ورسل ، وهداة ! … والى جانب هؤلاء كان اتباع ابراهيم ولوط ، يؤمنون بالله الهاً واحداً لا شريك له ، وبنبوة ابنائه ، الذين يدعون الى الهدى ، ودين الحق ، وسبيل السلام ! … وعندما شعر النبي يوسف ، ( عليه السلام ) ، بدنو اجله ، جمع حوله اهل بيته ، وقومه الاقربين ، وقال لهم بصوت متهدج ، ونبرة مفعمة بعميق الايمان : " يا ال يعقوب … انتم بقية الله على ارضه . وصفوته من صالحي المؤمنين" !… لقد ارسل الله تعالى ابوكم يعقوب ، ومن قبله اسحق وابراهيم ، دعاة لعبادة الله وحده . واتباع سبيل الحق والخير ، والهدى والرشاد ، …فكان جدكم ابراهيم ، خليل الله ، وصفيه ، واباً للانبياء جميعاً ، من بعده !… وها انتم اولاء تعيشون في ارض مصر ، مكرمين ما زلت بين ظهرانيكم ( أي بينكم ومعكم ) وانبي موشك على لقاء ربي ، والالتحاق بآبائي وآبائكم الصالحين . فاذا كان ذلك ، وانه لكائن لا محالة ، فسوف تتعرضون من بعدي للظلم و الطغيان ، والاذى والعذاب ، فما عليكم ، والله ، الا الاعتصام بالصبر ، والتمسك بدينكم الذي انتم عليه الان ،… وبعد زمن ، ليس بالطويل ، سياتي من بعدي نبي يخلص بني اسرائيل من جبروت فراعنة مصر ، وطغيانهم ، وعتوهم ، به ينصر الله الحق ، ويقيم الدين ، ويذل الطغاة المتجبرين ، فاصبروا صبراً جميلاً ، وانتظروا فرجاً من الله ، ومخرجاً مما ستؤولون اليه ، ولاتنهوا ، ولاتحزنوا ، ولاتياسوا، واعلموا ان الله مع الصابرين !… واغمض النبي يوسف " عليه السلام " عينيه الكريمتين ، وشهق شهقة لطيفة ، فاضت بها روحه الشريفة ، ملتحقاً بجوار ربه الاعلى ، حيث ابائه الانبياء والاولياء ، والاوصياء ، والشهداء ، في جنان الخلد ، ونعيم لا يفنى !… جبروت فرعون : وتهضي اربعة قرون : ويتكاثر ابناء يعقوب ، فيصيرون آلافاً قد توزعوا على اقاليم مصر يعملون ويكدحون ، ويلاقون ـ كما عهد اليهم ، من قبل ، يوسف ـ من العذاب والتنكيل ، صنوفاً والواناً !… ويشتد الاذى عليهم ، ويتضاعف ، ايام رمسيس ،طاغية فراعنة مصر ، الذي ادعى ، دون وجه حق ، انه اله ، .. متخذا الشمس شعاراً!.. فكما ان الحياة لاتستقيم بدون الشمس ، كذلك ، لاتكون مصر ، وشعبها ، الابه !.. ويامر الطاغية ببناء هرم له ،لا يضاهى ، فيعمل شعب مصر كله في تشييد الهرم ، سنين طوالاً ، وليل نهار ، وتزهق في هذا العمل المضني آلاف الانفس ، في سبيل عزة فرعون وجبروته . وعندما ينتهون ، يأمر ببناء معبد له في اسوان ، محاذياً مجرى النيل الذي يهب ارض مصر الخصب والحياة . وعندما ينتهبي العمل من بناء المعبد ، يامر بنصب التماثيل ، فتنصب التماثيل نحتاً في صخور الجبال !.. ويأتي يوم الافتتاح !.. فيخرج فرعون على قومه في زينته ، وفي منتهى الابهة والجلال ، يحف به عظماء مملكته ، ويحيط به سادة الكهنة ، والاشراف !.. فتتعالى صرخات الاف المصريين ، وهتافاتهم ، وقد اصطفوا لتحية مليكهم العظيم وما ان اطل عليهم حتى خروا له سجداً !.. فتمتلئ نفس فرعون غروراً وشمخ بانفه عاليا استكبارا في الارض ، وعتوا، .. وينظر ناحية ،.. فيرى جماعة من الناس لم يكونوا من الساجدين . فيسأل عن شانهم ، فيقال له : " انهم بنو اسرائيل ، لا يدينون بما يدين شعب مصر ، ويعبدون إلهاً غيرك ، يا مولاي !.." فيمتقع لونه ، ويدمدم غاضباً :" متى كان في مصر قوم يعبدون غيري ؟ .. " ويتابع الموكب المهيب طريقه ، وقد امتلأت نفسه عليهم حقدا !… وما ان وصل فرعون الى قصره ، حتى استدعى رئيس الكهنه ، مستوضحاً منه امر بني اسرائيل ، هؤلاء . فانباه حقيقة امرهم : فهم يؤمنون باله واحدا ، هو رب السموات و الارض ، الناس جميعاً عباده ، انه خالقهم ، ورازقهم ، ومميتهم ، ومحييهم !.. فيصرخ فرعون غضباً : يعيشون في مملكتي ، ويعبدون غيري ؟.. الويل لهم مما يصنعون !… ويتابع رئيس الكهنة : عفوا يا مولاي ، فهنالك ما هو اخطراً !… وهل هناك اخطر من هذا يا كاهن فرعون ؟ …نعم يا سيدي !. وما هو ؟ .. قل !.. وعزة فرعون سينالهم عذاب اليم !.. انهم ، مولاي ، ينتظرون نبي ينقذهم ، وينقذ اهل مصر ، كما يزعمون ، من حكامهم ، وسيكون مخلصهم مما هم فيه من اضطهاد .. وهل تعتقد ان هذا النبي الذي لم يظهر امره ، وقد ولد ، فدعوته قريبة ، ام ان امره لايزال بعيداً ؟.. لا، يا مولاي !. فولادته ، على ما يظهر ، وشيكة الوقوع ، كما تقول بذلك النجوم . وهل عندكم انتم معشر الكهنة والمنجمين ، علم بذلك ؟ أجل يا سيدي ، فسيولد عما قريب في ارض مصر غلام ، ليس بمصري ، وما اظنه الا من بني اسرائيل ، وسيكون له شان كبير ، وخطر عظيم على حاكم مصر ، وعلى ملكه ، معاً ، هكذا انباتنا مواقع النجوم . الويل لهم !.. يعيشون بيننا ، وينتظرون يوما يدمرون فيه ملكنا ؟ ..وعزة فرعون لن يصلوا الى ذلك ابداً . ويصرخ فرعون ، وقد انتفخت اوداجه غيظا وحنقا ، : اين رئيس الشرطة ؟.. وبطرفة عين ، يمثل رئيس الشرطة امامه ، وينحني ، حتى ليكاد يصل رأسه الى قدميه ، امر مولاي !.. لقد شرفناكم بتسليمكم امن هذه البلاد ، وانتم عما يحصل غافلون ؟ الا ترى الا بني اسرائيل ، هؤلاء ، يدبرون لنا كل شر ، ينتظرون الفرصة السانحة ليدمروا ملكنا تدميرا !.. ولكننا يا مولاي ، لا ندعهم يرتاحون . فسياستنا العامة بشانهم تقضي بوضعهم تحت السياط، كالماشية ، فهم في قهر دائم ، وذلة وامتهان !.. آمرك ان تتشدد في مراقبتهم ، وتحول بين الرجال منهم والنساء ، فتحتفظ بالنسوة بعيدات عن ازواجهم! ، امر مولاي ، فانا عبده المطيع !. لاتقاطعني ، وهناك امراً آخر : عليك بمراقبة الحوامل من نساء بني اسرائيل ، ومن سيحمل من هن . امر مولاي ، وطاعة . وعليك ان يكون رجالك حاضرين عند ولادة كل مولود صبي منهم ، افهمت ؟.. كل مولود صبي ، فتقتلون المولود فور ولادته واياكم ان يفوتكم مولود واحد مهما كانت الظروف ، فتستحقون اذ ذاك عذابي ، نفذ ما امرك به فورا ؟…انني ، ورجالي ، عبيد مولاي ، وسننفذ امرك على الفور يا سيدي ؟.. وينحني رئيس الشرطة انحناءة شديدة ، ثم ينصرف ويتبعه رئيس الكهنة منصرفاً ، بعد الاستئذان …ويتنفس فرعون الصعداء ، وهو يسأل نفسه : ماهذا الهم الجديد ؟… احقا ما ينتظره بنو اسرائيل ، ويفقهم عليه كهان واد النيل ؟...ويجيب صوت من السماء : { ان فرعون على في الارض ، وجعل اهلها شيعاً ، يستضعف طائفة منهم ، يذبح ابناءهم ، ويستحيي نساءهم ، انه كان من المفسدين * ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ، ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون } ولادة موسى "ع" وتربيته : " يوكابد " في احدى زوايا منزلها تعاني المخاض وتستدعي قابلة ، وسرعان ما تضع غلاماً ، يلتمع جبينه بنور ساحر اخاذ فتسميه " موسى " …وتخاف عليه عيون فرعون وجواسيسه ، وقد بثهم فرعون في كل مكان يترصدون كل صغيرة وكبيرة في بني اسرائيل ...وتتامل " يوكابد " وجه الغلام ، وكانه قطعة من نور ، وتتمتم بحزن غامر : اليس حراماً ان تنتهي الى القتل ، يا هذا الوجه الكريم ؟ وبقيت ام موسى الى جانب وليدها لا تفارقه ، ملتزمة بيتها لاتغادره، فهي بطفلها مشغولة . وظلت كذلك ثلاثة شهور ، ترعاه بحذر ، وتحفظه من كل سوء …ولكن اعين رقباء فرعون ، وجواسيسه مفتوحة على كل حدث جديد ، مهما صغر شانه…وتشعر ام موسى بالخطر يزحف على وليدها الوسيم الطلعة ، فترتاع لذلك وتضطرب . وترفع وجهها الى السماء متضرعة : ربي ورب اسرائيل وابراهيم ، واسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، اليك اتوجه بهذا الغلام وعليك اتكل في حفظه فكن له حفيظاً ، يا ارحم الرحمين !.. ويلقي في روعها شئ كالالهام :{ ان ارضعيه ، فاذا خفت عليه فالقيه في اليم ، ولا تخافي ولا تحزني …} وتلتفت الى ناحية في منزلها ، فاذا بصندوق .. وبيدين مرتعشتين تحمل وليدها ، فتضعه فيه ، وتخرج به ، ترافقها ابنتها ، على حذر وخشية من ال فرعون ورجاله متجهة الى شاطئ النيل ، وما هو عنها ببعيد ، ويصلون ، وقد صرف الله عنهم عين كل رقيب يترصد !.. وبرفق وحذر .. تضع الام الصندوق ، وفيه موسى على صفحة مياه النيل الهادئ الرقراق ، وتطفر من عينها دمعة حرى ، ومن صدرها اهة حزن وشجن ، وتكاد الابنة ان تصرخ خوف على اخيها الصغير ، فتمنعها الام ، فتشهق بهلع مكتوم . وتشيع الام وابنتها الصندوق بنظراتهما الولهى ، وقد حملته مياه النهر ، متنقلاً من موجة رقيقة الى ثانية والى ثالثة ، متهادياً بين طياتها ، وكانه على راحات ايد حانيات !… ويقترب الصندوق من بعض البساتين المحيطة بقصر فرعون ، حيث كانت اسية زوجة فرعون ، تتنزه ، وبعض جواريها . ويلاحظن النهر يحمل على صفحته الهادئة صندوقاً ، وتامر سيدة القصر من ياتيها بالصندوق ، وعندما فتحته ، فوجئت بما فيه فشهقت دهشة . وتتناول السيدة الغلام بين يديها فخيل اليها انها تحمل فلقة قمر !.. والقي في قلبها حبه وكأنه ابنها حقاً . يجري ذلك بمرأى من ام موسى وابنتها ، اللتين كانتا تراقبان ما يحدث من مكان بعيد !… وتحمل اسية الطفل في حضنها ، وتشده الى صدرها بحنان غامر .. وعندما بدا لها زوجها بعد آن قصير ، توجهت اليه باستعطاف رقيق ، قائلة له : اظن بان هذا الغلام الجميل احد ابناء بني اسرائيل ، ارجوا ان تكرمني بالابقاء عليه ،{ عسى ان ينفعنا ، او نتخذه ولدا }…وكيف تطلبين مني الابقاء على حياة من امرت بقتله ؟ انه غلام صغير جميل ، ولم يتمكن من الحاق اذى بك ، خاصة ، اذا اقمنا على تربيته عندنا في القصر بعيداً عن العامة والدهماء ( اوباش الناس ) ، فيشب بيننا وكأنه احد ال فرعون طبعاً وتطبعاً …وينظر فرعون الى وجه الغلام الطفح بالنور ، فيبتسم ، ويومئ براسه موافقا فليست اسية ممن يرد لهن طلبا … وتسلم امرأة فرعون الغلام الى المراضع ، فيابى الرضاعة ، وقد حرم الله عليه ذلك !.. ويعلوا صوته بالبكاء فتحتار اسية ، ما العمل ؟… واصبح الجميع حائرين في امر هذا الغلام ، الذي لا ينقطع عن الصراخ …وتحين من اسية نظرة من احدى نوافذ القصر ، فتقع عينها على فتاة غريبة متجهة نحو القصر ، وهي تتعثر باطراف ثوبها ، فماذا تريد ؟…وتنزل السيدة الى حديقة القصر ، حيث فرعون ، والجواري ، والغلام الذي عكر هدوء القصر بصراخه المتواصل ، … وتصل الفتاة فتحيي سيدة القصر ومن حولها ، وتنظر ، من طرف خفي ، الى اخيها ، وقد علا صراخه ، والى السيدة وقد احتارت في امر هذا الغلام البكاء ، وتقول لها ، بتودد ورقة : سيدتي ، {هل ادلكم على اهل بيت يكفلونه وهم له ناصحون ؟ .. } وتسرع اسية في جوابها دون ابطاء : أجل ، ايتها الفتاة ، هل لديكم من يرضع هذا الغلام ويكفله ؟ وتجيب الفتاة بفرح : اجل سيدتي ، أجل ! .. هنالك امرأة بوسعها ان تقوم بهذا العمل خير قيام !.. وتنطلق الفتاة الى امها ، فتأتي بها الى القصر ، وما ان ترى ( يوكابد ) الغلام بين يدي فرعون الذي كان يهدهده ، حتى خفق صدرها ، .. وبلهفة تتناول الطفل منه ، وتضمه الى صدرها ، وتنتحي به جانباً ، وتلقمه ثديها فيلتقمه بفرط نهمة ، وعندما انتهى من الرضاعة ، علت ثغره الطيف ابتسامة ، ونشوة فرح وأخذ يناغي امه ، وقد طفحت على وجهها السعادة ، كالكنار تغريداً ... ويعجب فرعون من ذلك ، وتعتري الدهشة وجه آسية وجواريها . فالجميع واجم مأخوذ بما يرى ويتساءلون من تكون هذه المرأة التي ارتاح اليها الغلام ، وسكن سكوناً مطمئناً ؟... فتجيب : انني امرأة طيبة الريح ، طيبة اللبن ، يرتاح الي كل رضيع !... فيسلمها فرعون الغلام ترضعه وترعاه ، وتأتي به الى القصر كل يوم ، ان استطاعت ، ويجري لها رزقاً وعطاءً . ويرد الله الى ( يوكابد ) ابنها لتنشرح به صدراً ، وتقر به عيناً ، وتطيب به نفساً ! فتعود به ، وبالمال الوفير !... وهكذا يشب الغلام بين يدي امه ، وفي قصر فرعون ، حيث الحياة اسطورة ، لا كبقية الاساطير . وينشأ في كنف فرعون ، ويبلغ مبلغ الرجال ، وقد آتاه الله ما لم يؤت مثله احداً من الرجال : صلابة جسم ، وسداد فهم ، وغزارة علم …فمن كموسى فتى ، من الفتيان اودع الله فيه فتوةً وحكمةً ، على ايمان و تقىً ، { فتبارك الله احسن الخالقين!..} . موسى والمجتمع المصري : وكان لموسى ان يتعرف على طبقات المجتمع المصري ، وهي يومئذ : طبقة فرعون وحاشيته ، تليها طبقة الكهنة والاشراف ، فطبقة المقدمين من مدنيين وعسكريين ، ثم طبقة عامة الشعب : عمالاً وفلاحين ، وفي النهاية طبقة العبيد و الارقاء ، وهي ادنى الطبقات درجة . وكان قلبه يعتصره الالم لما تلاقيه هذه الطبقة الكادحة من عمال مصر ، وفلاحيها من مذلة وهوان ، وكان لا يغمض له جفن وهو يفكر بهذه الطبقة الدنيا من المجتمع المصري ، وطبقة العبيد والارقاء ، والتي كانت تحيا كما الحيوان ، و تعامل كما يعامل ، ويقول في نفسه : أو ليس هؤلاء بشراً ، فلم كل هذا الاذلال والتعسف والاحتقار ، يحيط بهم ، فيطحنهم طحناً ؟ .. وفرعون هذا المدعي الالوهية كفراناً ، وطغياناً ، وبهتاناً ، اليس انساناً عادياً ، يولد ويعيش ويموت ، كما الناس ، كل الناس ، يولدون ، ويعيشون ويموتون؟ … ويتأمل موسى واقع مصر ، فهو فاسد برمته ، ولن يتم اصلاحه الا باقتلاع كل هذه المفاسد والاوهام التي علقت بأذهان الناس ، فتاصلت في نفوسهم ، فأحلوها محل التقديس ، اما وقد بلغ رشده فلن يكون الا للمظلومين نصيراً !.. موسى والرجلان يقتتلان : وبينما كان موسى متوجهاً الى عاصمة الفراعنة ، لبعض شؤونه ، { وجد رجلين يقتتلان ، هذا من شيعته ، وهذا من عدوه ، فاستغاذه الذي من شيعته على الذي من عدوه } فتصدى موسى له ، وضربه ضربة قضت عليه ، وما كان موسى ، يشهد الله ، يريد قتله ، ولكن ، هكذا جرت مشيئة الله ، فندم على ما جنته يداه ، واستغفر الله ، فغفر الله له ذلك ، وعاهد موسى الله على الا يكون ، بعد للظالمين ظهيرا !.. واصبح موسى بالمدينة خائفا ، يترقب ، خشية افتضاح امره ، بانكشاف فعلته ، واذا هو في اليوم الثاني امام المشهد نفسه ، يتكرر مرة ثانية ، كما في الامس : فهذا اليعقوبي ، الذي من شيعته ، في عراك جديد ممع رجل فرعوني ، عدو لهما ، ويشاهد اليعقوبي موسى من بعيد ، فيناديه مستنصراً اياه ، .. وينطلق موسى ، بعفوية صادقة لينصر اليعقوبي ، فهو نصير المظلومين ، وظن هذا الاخير انه يريد قتله ، كما قتل خصمه بالامس ، فتضرع اليه مسترحما ، يا موسى { اتريد ان تقتلني كما قتلت نفس بالامس ؟..} ويسمع خصمهما هذا القول ، فيسرع الى قومه الحائرين في امر قتيل الامس ، وقاتله ، .. فاخبرهم انها فعلة موسى ، فتعجبوا ، متى كان يقوم موسى بمثل هذه الفعلة الشنعاء ؟ واجمعوا على النيل من موسى ، وقد قتل منهم ، ظلما ، رجلاً ! . ويتصل بموسى واحداً من جماعته المؤمنين ، فيحذره قائلاً : {.. ان الملأ ياتمرون بك لقتلوك ، فاخرج اني لك من الناصحين } فيتوارى موسى عن الانظار !.ويطلب فرعون موسى ، فلا يعثر له على اثر . ويتساءل في قرارة نفسه : اتراه يكون نبي بني إسرائيل الموعود ؟ فيعض على اصابعه ندما ! .. ويتسلل موسى من ارض مصر ، خائفاً يترقب ، وقد اتخذ الليل له جملاً (أي : متستراً بظلمة الليل في مسيره ) متجهاً نحو بلاد قدامي الاجداد ، وقد اسلم وجهه لله ، فعلى الله قصد السبيل ، وهو الاخذ بيد الحياري المساكين في مدلهملت النوازل والخطوب ( أي : عند اشتداد المصائب ) . وتقوده قدماه شمالاً ، في متاهات صحراء سيناء ، فيجتازها ، وهو الجلد ، الصبور ، … مبتعداً ، وما امكن ، عن المدن ، وعن الناس ، فالبراري مأواه !.. وتمضي على ذلك ثمانية ايام ، لامعين له ، ولا نصير ، ولادليل ، سوى رحمة الله ، ونوره وهداه ، وكان يقطع الفيافي حافياً ،بعد ان تقطعت نعلاه ، فشققت قدماه ، يقتاب بعشب الارض وبقلها ، حتى كان يبدو صفاق بطنه ( عضلة الحجاب الحاجز ) لشدة ضعفه ، وضموره ، وهزاله ، وكان طيف فرعون ورجاله يلاحقه ، فيجد السير ، ويحث الخطى ، حتى وصل اخـيراً الى الارض " مدين " في الجه الشمالية الغربية من ارض كنعان ، فيتنفس الصعداء ! .. لقد اصبح بمامن من فرعون ، ومنجاة من كيده ، وضلاله ، وجبروته . اتصال موسى بشعيب : ويشاهد موسى من بعيد ازدحام ناس وقطعان اغنام ، فيقصد هذا الجمع ؛ واذا به امام رعاة انهمكوا بسقيا قطعانهم ، وقد علا ضجيجهم ولغطهم ، وكان الاشداء منهم يتقدمون لسقاية اول الناس ثم بعد ذلك ، ينصرفون . وتلفت نظر فتاتان تذودان غنمهما ، كي لا يختلط بغيره من اغنام القوم ، وقد وقفتا بذلة ومسكنة ، تنتظران صدور الرعاء ( انصراف الرعيان ومواشيهم بعد السقاية ) وتتحرك فيه طبيعة نصره المظلوم ، المقهور ، فيتقدم منهما مستفسراً : ما شانكما ؟ . فقالتا :{.. لانسقي حتى يصدر الرعاء ، وابونا شيخ كبير .. } وتثور نفسه لمساعدتهما ، فتقدم من البئر ليسقي لهما ، متخطياً اليه الرجال ، حتى وصل الى فوهته ، فوجد صخرة تحول دون تدفق الماء غزيراً ، فاقتلعها زندين قويين ، وكانهما اصول سنديانة عتيقة فانبهر الجميع لقوة هذا الغريب واندفاعه ، رغم ما يبدو عليه منمظاهر الاعياء ، وعلائم الهزال ؛ فتركوه ، والبئر ، وشانه ، فسقى للفتاتين {.. ثم تولى الى الظل ، وقال : رب اني لما انزلت الي من خير فقير } فالجوع ، الى جانب ما كابد من اعياء ، يكادان يهدان عزيمته هدا ؟ وما هي الا ساعة ، .. واذا باحدى الفتاتين تتجه مقبلة نحوه استحياء وخفر ، وتقول له : { .. ان ابي يدعوك ليجزيك اجر ما سقيت لنا .. } فيقبل الدعوة موسى ؟ .. ويتبع الفتاة الى دار ابيها . وفي الطريق يطلب موسى من الفتاة ان يتقدمها وتسير هي خلفه ، فهكذا تقضي العفة ، وواجب الوفاة ! . وعندما وصل موسى الى البيت نزل على ترحاب واطمئنان ، بعد ان استقبله الشيخ بالحفاوة والاكرام . وبعد ان اخذ حظهمن الراحة ، وتناول نصيبه من الطعام ، قص على مضيفه قصته ، فتعجب الشيخ ايما تعجب ، وربت على كتف الفتى قائلاً له بصوت يشيع فيه الوقار ، وهو يهز رأسه : { لا تخف . نجوت من القوم الظالمين } ويسأل موسى الشيخ الجليل عن اسمه ، فيقول له الشيخ وهو يعبث بلحيته الكثة : " انني شعيب ! .. ارسلني الله تعالى الى اهل هذه القرية المجاورة واسمها " الايكة " ولكنهم قوم يجهلون ، وسفهاء لا يعقلون ، يطفطفون ( أي : ينقصون ) الكيل والميزان ، ويبخسون الناس اشيائهم ! … " ويصمد الشيخ قليلاً وقد سرح نظره بالافق المتـرامي البعيد . ويصـمت موسى . فالله الحكمة البالـغة ، ان امره كان حتماً مقضيا !. وتحدثنا بعض الرويات بان"الايكه"هذه،هي،قريه"بليدا" في جنوبي لبنان ،وان البئر التي سقي منها موسى،هي " بئر بليدا " القريبه منها، جنوبا شرقا …وتتقدم احدى الفتاتين من ابيها ،لتهمس في اذنه ، عاى حين غفله من موسى : {..يا ابت ،استاجره، ان خير من استاجرت القوي الامين !}. وتقص الفتاه على مسامع ابيها كيف اقتلع موسى الصخره من على فوهه البئر ،على هزاله وضعفه فتفجر الماء غزيرا ،..وكيف اطرق الى الارض وهى تدعوه الى منزل ابيها ، وكيف طلب اليها في الطريق ، ان يتقدمها ، وتتبعه ،كي لاتقع عينه على مالا يجوز لها ان تقع عليه ..ويطرق الاب الى حديث ابنته ، فيا لهذا العف، الشهم ،الكريم !. ويدعو موسى ، ويجلشه على جانبه ، ثم يتوجه اليه بوجهه ، وطيف ابتسامه ياتمع على ثغره الوضئ ، ويقترح الشيخ على فتاه اقتراحاً مفاجئاً : ما تقول يا موسى في ان ازوجك احدى ابنتي هاتين ، على ان تقوم بمناصرتي وعوني ورعاية اغنامي ثمانية اعوام ، وان اتممتها عشراً اكن لك من الشاكرين .. ، وما اريد ان اشق عليك !…وذلك بمثابة مهر العروس ، كما تعارف على ذلك الناس ؟ فيشرق وجه موسى . وتؤوب اليه نفسه مطمئنة ، اسعد واهنا ما تطمئن اليه نفس انسان !.. لقد وجد في هذا المنزل الكريم ضالته المنشودة ، وفي هذا الشيخ الوقور اسمي درجات الوقار والايمان ، فانجذب اليه ،وشبه الشئ منجذب اليه !.. ولم يطل تفكير موسى ، اذ ما لبث ان وافق ، فتعاهد الرجلان علىذلك ، وكان الله على تعاهدهما شهيداً !.. ويتزوج موسى احدى الفتاتين ، ويبقى عند سيده عشر سنين ، موفياً بما عاهد ، ومتماً اوفى الاجلين ، يناصره ويعينه ، ويرعى له اغنامه التي تكاثرت بشكل مطرد !… ورد في احدى الروايات ، على هذا الصعيد ـ ، نادرة تقول : بينما كان موسى يرعى قطيع سيده ، اذ فر تيس ماعز في ارض وعرة ، مصعداً في هضاب عالية ، واكام ، وتلال .. ولحق به موسى ، متتبعاً اياه ، لاهثاً ، حتى ادركه بعد عناء شديد ،وجهد جهيد . فاوقفه ، وجلس موسى يستريح ، وقد كادت تنقطع انفاسه الاهثة ، ثم جذبه اليه من قرنيه برفق ، وقبله بين عينيه ، واخذ يمسح جبهته بحنان ، مخاطبا اياه ، وقد تحدرت دمعة على خديه الكريمين :
ويكرر موسى الى النار النظر ، ويعيد ، .. انها تلتهم من العوسجة الاغصان والاوراق ، اما الجذع فمخضوضر يانع ، وكأن بينه وبين النار المشعشعة حائلاً !. ويتأملها برهة ، كالمصعوق ، .. فهي ، بالاضافة الى ذلك لا تتغير ابداً ، فلا لهيبها يخبو ، ولا اضطرامها يزداد . انها على حال واحد لا يتغير ، .. فهي اشبه ما يكون بالنور بال هي نور لا نار !.. وتتعلق بهذا النور الشفاف ، عينا موسى ، مأخوذ !.. ويقطع دهشته صوت ، لا كالاصوات ، ينبعث من قلب هذ العوسجة الغريبة ، بناديه باسمه : { اني ربك فاخلع نعليك ، انك بالواد المقدس طوى } فيتمثل للامر موسى ، وقد ارتعدت فرائصه لهول المفاجأة التحدي العظيم، وتفوّق موسى : ونزل فرعون بعظيم أبّهته وجلاله، يحيط به سادة المملكة وأشرافها، ويتبعه السحرة أفواجاً، وهم يحملون عصيّاً لهم، وحبالاً!.. وتتجه بهم العربات الموشاة بالذهب إلى الساحة الكبرى في المدينة التي أعدّت لاستقبال فرعون مصر، فرفرفت حولها رايات كثيرةٌ، وزينة ذات ألوان... واحتشد حولها خلقٌ من المصريّين، عظيمٌ. توافدوا من كل أقاليم مصر، وأطرافها.. إنّها لمناسبة يضن (أي:يبخل) بمثلها الزمان. فهي حدث العصر الضخم، وحديث الدنيا كلها!.. ويصل فرعون ورهطه.. وكان موسى وهرون لهم بالانتظار!. إنّ لهذا اليوم ما بعده!.. وانتهى إلى مسامع موسى وأخيه تهامس السحرة فيما بينهم، كالنجوى: - مالهذين الساحرين العالمين، يريدان إخراجنا من أرضنا بسحرهما، والذهاب بطريقتنا التي تعارفنا عليها أسلوب حياة، ونظام عيش. والتي هي بالنسبة لنا، الفُضلى والمثلى؟!.. فيحذّرهم موسى: {.. ويلكم، لاتفتروا على الله كذباً، فيُسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى!}. ويلتفت كبيرهم إليه، قائلاً: مالهذا جئناك ياموسى، أنلقي نحن، أم تكون أول من ألقى؟ فأجابهم: {بل ألقُوا!..}. وتقدم كبير السحرة فألقى عصاً كانت بيمناه، فإذا هي {يخيّلُ إليه من سحرهم أنها تسعى،..} وأتبع ذلك بحبل كان على كاهله، فألقاه، فإذا هو حيةٌ أعظم من الأولى، وأدهى!. ثم أشار كبير السحرة إليهم، أن ألقوا!.. فألقوا حبالهم وعصيهم، فإذا بالساحة تموج بالحياة، من كل شكل، وبالثعابين، تتحوى، وتتلوّى!... فتهلّل وجه فرعون، وقد ترنّح عطفاه، فاهتز طرباً، وصفق بيديه مستبشراً!.. وصاحت الجماهير المحتشدة، وهتفت لفرعون، ومادت الارض بالجموع النسوى (أي السكرانة). شاهد ذلك كلّه موسى،.. فأوجس خيفة مما رأى!. وأوحى الله الى نبيِّه في غمرة المفاجأة: {.. لاتخف انك أنت الاعلى!. وألق مافي يمينك...} فانتفض، كمن أفاق من سهوته، وألقى عصاه،.. فاذا هي حيّة، لاكالحيّات، وقد أخذ جسمُها ينتفخ ويتعاظم، حتى صارت ثعباناً مهولاً، تقدح عيناه بعظيم الشرر، ولفحيحه صوت هادر، وقد تدلّى لسانه من بين شدقيه الهائلين، متحرّكاً يمنةً ويَسرة، وكأنه يتوعّد بالخطب الجلل. وانبرى إلى الحيّات الساعيات أمامه، وهي مئات، فبدت أمامه، لضخامة هيكله، وكأنها الديدان الحقيرة... وأخذ بالتقامها الواحدة تلوَ الأخرى!.. وكان الثعبان يتلفَّتُ، هائجاً، إلى المتحلّقين حوله، فتمتلئ قلوبهم رعباً. ويدمدمُ فرعون، وقد أخذ الخوف منه مأخذاً عظيماً، يالهذه الداهية النكراء!.. ويلتفت كبير السحرة، وكان أعمى، إلى ساحرٍ آخر بجانبه قائلاً: - ويحك!.. ماالخطب في ماترى؟.. فوصف له مايحدث، وقد بان الخزي على وجوه السحرة، فهم لما يشاهدون منكرون، وقد ظهر موسى وأخوه عليهم ظهوراً بيّناً!.. - ثكلتك أمُك لما أسمع!.. تأمّل جيداً هذا الثعبان، فهل يكبر جسمه ويعظم حجمه عند التقامه الحيات، أم أنه يبقى على حاله، لايتغير أبداً؟. - بل يبقى على حاله، أبداً!. إيمان السحرة وآخرين : فأطرق كبير السحرة برأسه قليلاً، ثم رفع رأسه، متوجّهاً الى السحرة، صارخاً بهم: - ويحكم ياسحرة مصر!.. إن ماترون، ليس بسحر كسحركم، ولكنّه الحق أتاكم من ربكم،.. فتوبوا إلى بارئكم، وأقلعوا عمّا انتم عليه من الضلالة والغواية، وعبادة فرعون، وآمنوا بالحق الذي أتاكم به موسى. {فألقى السحرة سُجّداً، قالوا: آمنّا بربّ هارون وموسى!}. وكان الثعبانُ قد أتى على الحيّات جميعاً!. ومد موسى يده إليه، فتناوله، فإذا هو، كما كان، عصا!. ونظر القوم بعضهم الى بعض محملقين، وكأنهم كانوا تحت وطأة كابو رهيب!.. فثارت، عند ذلك ثائرة فرعون، وتغيّرت سحنته (اي: هيئته) فبدت دكناء،.. وعلا صوته، كالعاصفة المجلجلة، متهدّداً السحرة، ومتوعّداً أياهم، فهم، بزعمه، قد تواطأوا عليه، وعلى حكمه، مع موسى،.. وأمر بالقاء القبض عليهم، وخاطبهم، فأسمعوه من القول مالايرضى!.. ثم امر بهم، فصلبوا، بعد أن عذّبوا عذاباً نكراً!.. وانصرف موسى.. وتبعه خلق كثير ممن آمن به واهتدى.. ولم يهنوا، ولم يضعفوا، بل صبروا على ماأصابهم من فرعون من عظيم الكيد والأذى!.. وبدأ موسى يسُنّ لجماعته سنن الدين القويم،.. وكان أول ماقام به التوجه لعبادة الله وحده، والإيمان به خالق كل شئ، بيده الملكُ، وهو على كل شئٍ قدير... وأمر جماعته بالصلاة!.. فبالصلاة يعرف مؤمن من غوي!.. على أن يتوجه المؤمن منهم لجهة منزل أخيه المؤمن، يتخذه قبلة له، يصلي اليها. وكان قصر فرعون قبل ذلك كعبة المصلين، وقبلتهم، إليه يتجهون في صلواتهم، فحرم ذلك عليهم موسى!.. وازداد أذى فرعون، وعظم كيده، وعمت بلواه المؤمنين، فلا طاقة، بعد، ولااحتمال. وأقبل إلى موسى رهط من بني اسرائيل يتذمرون، - فإلى متى هذه المحنة السوداء؟.. - وأسمعوه من القول مالايحب، عندما {قالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ماجئتنا. قال: عيسى ربكم أن يُهلك عدوّكم، ويستخلفكم في الارض..}. ويأمركم أن يستعينوا بالصبر، وبالصلاة، وبالتوجه الى الله تعالى دائماً!.. ويبقى المؤمنون من بني إسرائيل وبعض المصريين المستضعفين، يحتملون من العذاب والأذى مالايطاق! ويبقى فرعون سادراً في غيّه، وعلى ضلاله القديم، عتوّاً وطغياناً.. ويصل به الأمر أن يأمر هامان -وكان له وزيراً- ببناء صرح، له، عظيم، يناطح أعالي الأجواء، لعلّه يطلع إلى إله موسى، ونادى في جمع كبير من انصاره المصريين: {ياقوم:.. أليس لي ملك مصر، وهذه الانهار تجري من تحتي أفلا تبصرون. أم انا خير من هذا الذي هو مهين ولايكاد يبين!.}. واتبع فرعون من أساليب التعذيب وفنونه، والتنكيل وضروبه، مالم يخطر ببال!.. وصبر جماعة موسى على ذلك كله صبراً عجيباً، ابتغاء رضوان الله ومثوبته، واحتساباً!. فما ازدادوا إلاّ إيماناً وتسليماً!.. بطش فرعون بخصومه : ويطفح الكيل بالنسبة لفرعون، أخيراً.. بعد أن لم تجد كل أساليبه نفعاً!. فيعزم على أمر خطير، يحسم الأمور، ويضع لها حداً نهائياً!.. فيقرر قتل موسى!... ويشيع الخبر بين الخاصة من رجالات البلاط، فيتكتّمون. ويسمع بذلك أحدُهم، فيقبل عليهم وهم مجتمعون صارخاً فيهم بلاذع التأنيب. {.. أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟..}. ويحذرهم مغبّة ماهم عليه مقدمون، ويخوّفهم عذاب الله، وأخذه الشديد. مذكراً إياهم بأيام الله الماضيات، وبأقوام قبلهم، كقوم نوح وعاد وثمود، وأصحاب الرّس، وطسم، من قبل، وجديس، عتوا عن آيات ربهم، واستكبروا، فأخذهم الله بذنوبهم، ودمّرهم تدميراً، فتلك ديارهم خالية منهم، فهي قفر بلاقع!. (ج، بلقع: لاحياة فيه). ويدعوهم إلى نبذ ما هم عليه من عبادة فرعون، الذي أضلّهم، فما اهتدى، ولاهدى، والايمان بالله وحده الذي {له مافي السموات ومافي الارض ومابينهما وما تحت الثّرى!..}. فترتفع أصوات المجتمعين ثائرة بوجهه، ويامر به فرعون، فيقتله شر قتلة!. إنّه مؤمن آل فرعون، على رأس قافلة الشهداء أيّامذاك!.. وتعلم آسية بالأمر، فتثور، معلنة براءتها من ظلم زوجها، وطغيانه وعتوه، وإسرافه على نفسه وعلى الناس الذين حوله أجمعين، وتتوب إلى الله خالقها، كي يغفر لها خطاياها، كما تاب قبلها سحرة فرعون فغفر الله لهم خطاياهم، وما أكرههم عليه فرعون من السحر. وجعلهم من عباده المكرمين. ويمسك بها فرعون، ويأمر بها الى أشد العذاب.. ويتلوى جسدها الغض تحت سياط التعذيب المبرّح. فتتمتم: {.. رب ابن لي عندك بيتاً في الجنّة، ونجّني من فرعون وعمله..}. وتُغمض عينيها، وقد أغمي عليها، ثم تفتحهما، وتنظر إلى السماء، فتبتسم سعيدة بما ترى: لقد استجاب الله لها دعاءها، فأراها قبل انطفاء أنفاسها، قصراً يتلألأ في العُلى. ويجن فرعون، مما يرى، جنوناً.. ويقول لأصحابه: - أترون؟.. إنّها مجنونة، فهي تبتسم تحت العذاب الشديد!. ثم لاتلبث أن تلتحق بركب أمراء أهل الجنة، الشهداء السُعداء، الأبرار الأخيار!.. ويزداد فرعون تصميماً!.. فبقطع الرأس، يتلاشى الجسد. وموسى رأس هذه الحركة، وهو المخطط والمدبّر والمنفّذ معاً!. فبقتله، ينتهي كل ماقام به وكأنه عاصفة في فنجان. وتعود بعد ذلك الأمور الى سابق عهدها القديم. ولكن،.. هيهات، هيهات، {.. إنّ أجل الله لآت} و{إنّه لايُفلح الظالمون!}. آيات وإنذارات : ولايترك نبي الله موسى مناسبة تمرُّ دون أن يدعوَ فرعون وملأه إلى الإيمان بالله، بالحسنى، والقول الطيِّب، ويرغب موسى فرعون، كالمكافئ له إن آمن، فهو يضمن له، على الله، دوام ملكه لاينقُصُ منه شئ، وصحته، لايصيبها شئ، وأن ينسأ بأجله (أي يطيل عمره) إلى الضعفين، ولامن مجيب!.. بل لجاجة في الطغيان، وفي العمى.. {فإنّها لاتعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} فيحذرهم موسى سوء المصير، ووخيم العواقب، فلايرعوون، بل يزدادون عتواً ونفوراً. وتكرّ سبحة العذاب : وكان أول إنذار من الله لهم، نقص في الاموال، والانفس، والثمرات.. فلم يعُد نهر النيل، كما كان يفيض خيراً عميماً، وبركة وعطاء جمّاً، بل شحّ ماؤه، ونضب عطاؤه. فعمّ القحط والجدب البلاد. ثم لاتلبث السماء أن تفيض عليهم بالمطر الغزير يهطل مدراراً دون انقطاعٍ، فيأتي الطوفان، ويعمُّ ضررهُ البلاد والعباد.. ويرتفع إذ ذاك صوت آل فرعون، والمصريين، ويُقبلون على موسى مستصرخين، مستنجدين، مولولين، يجأرون مستغيثين: - {.. ياموسى.. ادعُ لنا ربُّك بما عهد عندك، لئن كشفت عنّا الرجز (أي: العذاب). لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل}. - أحقاً ذلك، وعهداً؟.. - إي وربِّ بني إسرائيل! فيرفع موسى يديه الكريمتين إلى السماء داعياً، فيستجيبُ له الله الدعاء. وتمضي أيام، وتكُرُّ أعوامٌ،.. فيتدفَّقُ نهرُ النيل، كما كان، يحملُ الخِصبَ لأرض مصر، ويهب لها الحياة فمصر هبة النيل!. وتخضوضرُ الأرض، وتزهو بيانع النبت والثمر، وتضحك الجنائن عن متألّق الزهر، وكأنَّ شيئاً لم يكن!. ويُطالب موسى القوم بالوفاء بوعودهم، فيستهزئون به، وهم ناكثون!. {فلما كشفنا عنهم الرجز الى أجل، هم بالغوه، إذا هم ينكُثون}. ويزدادون كفراً. ويغضب موسى. ويغضب لغضبهِ اللهُ!.. فأرسل الجراد عليهم، يأتي على الأخضر واليابس. فإذا بأرضهم يباب موات!. ثم سلط عليهم القمل، فلم يهنأوا في رُقاد، وقد أقضَّ مضاجعهم، وهو ينهش بجلودهم نهشاً. ثم نغَّص الله عليهم حياتهم بالضفادع، فكانت تمتلئ بها بيوتهم، وأماكن تواجدهم، وأواني طعامهم وشرابهم، حتى أنها كانت تتغلغل بين ملابسهم.. وكانوا في كل مرة، كما في الأولى، يستصرخون موسى فيصرخهم (أي: يلبّي نداءهم وينجدهم) فيعدونه ويعاهدونه، وكانوا، عندما يرفع الله عنهم الرجز بدعوة موسى، ويبعد عنهم العذاب، يعودون لغيّهم، وضلالهم وقد نكثوا عهودهم وأخلفوا وعودهم!. ويُختم هذا البلاء بالدم الرعاف من أنوفهم، فاصفرت ألوانهم وبهتت هيئاتهم.. ثم، بالدم يلاحقهم عند كل مشرب هم واردوه!.. يكون الماء في الكأس، أو غيره، أمام أحدهم صافياً زلالاً، كالفضّة السائلة، وما أن يرفعه ويقدمه إلى فيه ليشرب، حتى يتحول الماء دماً عبيطاً!.. فيعافه، ويبقى على ظمئه عطشاناً.. حتى أن المرأة من بني اسرائيل، كانت تتناول الماء بفيها، وتزقّه فم المرأة الفرعونية، كالطير يزق فرخه، فيتحول في الفم الآخر دماً،... ومرة أخيرة يستصرخون، مظهرين الندم، قاطعين الوعود، مشهدين إله موسى وبني إسرائيل على صدق دعواهم، هذه المرة، فيصرخهم موسى، ويرفع الله عنهم هذا الرجز المرير، وهو الذي يُمهل ولايهملُ!.. ولكنّ نزعة الشرِّ كانت قد تمكنت في نفوسهم، وتأصّلت، وتجذرت حتى عميق الأعماق. فلم يحاولوا الإقلاع عمّا أدمنوا عليه من السجايا القباح!. بل عادوا لما كانوا عليه من نكثٍ ونُكرانٍ، وجحودٍ، وتكذيب بآيات الله واستهزاءٍ برسله وبالمؤمنين... {وقالوا: مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين!} ويعود موسى فينذرهم إنذاراً نهائياً، لاعودة منه، فذهبت صرختُهُ أدراج الرياح. فييأس منهم موسى، ويقطع من إصلاحهم كل أمل ورجاء. ولشدة مالاقى منهم من عنت ومن قهر، يدعو الله أن يطمس على اعينهم ويشد على قلوبهم، {فلا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم}. فيستجيب الله لنبيّه دعوته!... - {أفبعذابنا يستعجلون؟}. خروج موسى وجماعته من مصر وغرق فرعون وقومه : ويهبط الوحي على موسى، يأمره وقومه، أن يتأهبّوا لمغادرة ارض مصر، فليس لهم بعد اليوم فيها مقام. فخرج معه نفر من المؤمنين، وتخلّف آخرون!... وسخّر الله على مدينة فرعون ريحاً عاتية، ألزمتهم منازلهم ثلاثة أيام لم يستطيعوا الخروج منها. وفي اليوم الرابع تفقّد جند فرعون بني إسرائيل، فوجدوهم قد غادروا المدينة، لم يتخلف منهم إلاّ القليل. وعلم فرعون بالأمر فاستشاط غضباً وحنقاً، مقسماً على الانتقام منهم، فستنالهم يداه، مهما بعدوا عنه، هرباً!. - فأرسل فرعون في المدائن حاشرين. إنّ هؤلاء لشرذمةٌ قليلون. وإنّهم لنا لغائظون. وإنّا لجميعٌ حاذرون}.. واتّبع بني إسرائيل، فأنّي لهم أن يُعجزوه طلباً!... وأمر الله موسى أن يتبع اتّجاه الرياح، ففعل!.. وعجب بنو إسرائيل من هذه الطريق الغريبة يسلكها بهم موسى، وهي بمنأى عن دُروب القوافل والمسافرين. وماهي إلاّ ساعات، حتى كانوا أمام البحر وجهاً لوجهٍ. فعلا صراخهُم، واحتجاجهُم، وتذمُّرُهُم، وقد دخل الشكُّ قلوبهم، فلم يغادرها، ولن!.. فاستمهلهم موسى، داعياً إياهم -كما في كل مرة- إلى الصبر والأناة. فإلى الله الرجعى!.. وتراءَت لهم جيوش فرعون من بعيد، يملأون الأفق عدّة وعدداً.. فأيقنوا بالهلاك، وساد صفوفهم هرج ومرج، وذعُر وصخب. وأحاطوا بموسى، يلومون:.. - أإلى الهلاك تقودُنا ياموسى، هانحنُ أولاء بين البحر وفرعون، فأين سدادُ رأيك،؟.. بل أين ماوعدّك ربُّك يا موسى؟.. ويعود يدعوهم إلى مزيد من الصبر والتوكُّل على الله، فهو منجيهم، ولن يروا، بعد اليوم، من فرعون وجنده أحداً!.. ويرتفع صوت ظريف منهم، بخبثٍ: الحقَّ تقول ياموسى. فبعد هلاكنا على أيديهم لن نرى منهم أحداً أبداً ويجيبه موسى: بل الله مهلِكهُم جميعاً!.. { فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون. قال كلاّ إنّ معي ربي سيهدين}. وعندما غربت الشمس، أرسل الله مايشبه السحابة المضيئة، وكأنها تلتهب. فانتصبت في الجو كعمود من نار ونور آضاء كل شئٍ. فبدّد غياهب الظلام، وموسى وقومُه واقفون أمام البحر حيارى. بوجومٍ وذهول!.. { فأوحينا إلى موسى ان اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم}. وكانت المعجزة.. وقد انشق البحر عن اثني عشر طريقاً!.. وعلت مياه البحر المتجمّدة فكانت كالجبال الثوابت، وتقدّم موسى قومه يسلُكُ بهم هذه السبل العجيبة، عابرين إلى الضّفّة الثانية، وقد جعل الله في هذه المياه المتجمدة العالية مايشبه الكوى (جمع. كوّة). فكانوا يشاهدون بعضهم بعضاً، وهم يعبرون، وكانوا يتحادثون مستأنسين!.. وتبعهم فرعون بجنوده مقتفياً آثارهم في البحر المنشقّ لهم، وقد علت أهازيج جنده وصيحاتهم. ظناً منهم بأنّ البحر انشق لفرعون بقدرته!. وكان بنو إسرائيل قد اتمّوا عبورهم إلى الضفة الثانية. وإذا بصوت كالرعد القاصف، فالتفتوا خلفهم، فإذا بالبحر قد أطبق على فرعون وجنوده، فكانوا من المغرقين! ولما أيقن فرعون بالغرق، قال {.. آمنت أنّه لا إله إلاّ الذي لآمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين}. ويجيبه صوت: آلان؟.. بعدما فات الأوان، فلا إيمان لمن فاته- في ماسلف من عمره- الإيمان!.. واتجه موسى ببني إسرائيل، وجهه الديار المقدسة، مشرقين، مخلِّفاً وراءه جيش أعدائه في اليم غرقى. وقد قاء البحر جثة فرعون إلى الشاطئ. فهذه نهاية كل متكبر جبار لا يؤمن بيوم الحساب!. ويشاهد الخلقُ جثة فرعون ملقاةً على الشاطئ، سليمةً، وقد بدأ يدب فيها الفساد ويسرع إليها النتن، فيقول قائلهم: - أين ألوهيتك يافرعون مصر؟ وأين عزتك القعساء؟ وأين سلطانك والكبرياء؟ إنها حكمة الله التي أبت إلاّ أن يظهر الحق جلياً كفلق الصبح. {فاليوم نُنجِّيك ببدنك لتكون لمن خلّفك آية}. ويحملون الجُثة عائدين بها إلى عاصمة الفراعنة. ويحنطونها، كي تبقى أبد الدهر شاهدة على وحدانية الله الواحد القهار، وأخذه مدعي الربوبية أخذة رابية!. بالمناسبة. فقد اختلف بعض المؤرخين حول شخصية فرعون مصر، فرآه بعضهم أنه فرعون آخر غير رمسيس، الذي نحن بصدده،... ويأبى الله إلاّ إظهار ساطع برهانه فهاهي ذي جثة الفرعون الآخر هذا، لازالت محفوظة بالتحنيط، ومسجاة إلى جانب جثة رمسيس، آية من الله لأولي النهى، وعبرةً لمن أبصر فوعى. مما دعا بعض كبار علماء الآثار الغربيين إلى الإسلام انطلاقاً من الآية السالفة.. فأياً كان منهما، صاحب موسى، الذي ادّعى الألوهية... فها هي جثته معروضة لكل ذي عينين، أو ألقى السمع وهو منيب!.. ميقات موسى وردّة بني إسرائيل : ومر بنو إسرائيل على قوم يعكفون على أصنامهم (يحيطون بها) يعبدونها من دون الله. فانقدح الشك في قلوبهم، وحنّوا إلى قديم وثنيّتهم، وقالوا لنبيّهم موسى: - {.. ياموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهةٌ. قال: إنّكم قومٌ تجهلون. إن هؤلاء متبّرٌ (أي: مدمّر) ماهم فيه وباطل ماكانوا يعملون}. والحّوا عليه، فصاح بهم: {أغير الله أبغيكم ربّاً وهو فضّلكم على العالمين؟..}. وسأل موسى ربّه كتاباً يكون نوراً لبني اسرائيل، وهدى. لهم، لقلقهم، وما فطروا عليه، من العناد والعصيان لايكادون يستقرّون على الرأي الحق، ولمّا يدخل الايمان قلوبهم، بعدُ!.. فيأمره ربُّه بالطهور والصيام، ويواعده أربعين ليلة، يكلّمه بعدها، ويناجيه. ولكن موسى كان على عجلة من أمره فقبل أن يتم أربعين ليلة كما واعده ربُّه اختار من قومه سبعين رجلاً صالحاً، وسبقهم إلى طور سيناء، بعد أن استخلف أخاه هارون على قومه، موصياً إيّاه بالصلاح فيما بينهم والإصلاح، مشدداً عليه: {اخلفني في قومي، ولاتتبع سبيل المفسدين}. ويسأل الله نبيّه عن سبب استعجاله دون قومه: - {وما أعجلك عن قومك ياموسى؟.} فيجيب: -{هم أولاء على أثري. وعجلت إليك ربِّ، لترضى}. ويأبى الله إلاّ أن يُتم ميقاته (أي: ميعاده) فعاد موسى، فأتمَّ عشر ليالٍ أخريات، حتى تصرّمت (أي مضت وانقطعت) أربعون ليلةً تماماً، كما قدّر الله لذلك وقضى!. وعاد موسى إلى ميقات ربِّه مسرِعاً، وقدماه تنهبان الأرض نهباً، لفرط حنينه للقاء مولاه، وولهه، وشدة شوقه وشغفه. ويستبدُّ بموسى الشوق الشغوف، ومبرّح التوقِ، والوجدِ، والانجذاب،.. فيسأل ربّه شيئاً عظيماً، أليس هو أقرب خلقِه إليه، يحادثه، ويكلِّمه، ويناجيه، بصفاءِ محبةٍ، ومحضِ وَدادٍ؟.. لنستمع إليه تعالى يقصُ علينا هذه الطُّرفة: { ولما جاء موسى لميقاتنا، وكلّمه ربه، قال: رب أرني أنظر اليك. قال: لن تراني. ولكن انظر الى الجبل فان استقرّ مكانه فسوف تراني، فلمّا تجلّى ربُّهُ للجبل جعلهُ دكّاً، وخرّ موسى صعقاً، فلمّا أفاق قال سبحانك، تبت إليك، وأنا أول المؤمنين}.. ويتوب الله على موسى، وقد تجرأ على طلب ماليس له بحقٍّ، وما لاقُدرة له عليه، ولا احتمال!.. ويُناوله الألواح فيها أحكام كل شئٍ مفصّلاً، وموعظةٌ، وهدىً، ورحمةً لبني إسرائيل. ثم يخبرهُ بأنّ قومه ضلُّوا، وقد فتنهُم "السَّامري"، {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً!}. وإذا بهم متحلِّقون حول عجلٍ من ذهبٍ، يهزجون حوله، طربين، متعبِّدين. فعلم أنهم بالفتنة سقطوا وأقبل عليهم موبخاً ومؤنّباً، وثار غضبه، وفار.. وألقى الألواح المقدَّسة التي كان يحملها إليهم، أرضاً، فتحطَّمت، فاشتعل غضباً، وتميَّز غيظاً،. {فما لهؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثاً؟..}. ووقعت عينُه على أخيهِ هرونَ، فأسرعَ إليه معنِّفاً، ممسكاً بشعره الكثِّ، ولحيتِه الطويلة، يجرّه بها إليه جراً عنيفاً، فصرخ هرون من فرط جزع وفزع: {.. قال ابنَ أُمَّ، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، فلا تُشمت بي الاعداء ولاتجعلني مع القوم الظالمين}. فرجع موسى إلى نفسه، {قال: ربّ اغفر لي، ولأخي، وأدخلنا في رحمتك، وأنت أرحمُ الراحمين}. وأيقن من جليّة الأمر، فقد عصى القومُ هارون الذي حذّرهم من مغبّة الوقوع في الفتنة، وعصيان خالقهم، وماكان بقاؤه فيهم على ماهم عليه من التمرد، والنفاق، والزيغ (أي: الميل إلى الباطل) إلا حفاظاً على وحدتهم، ولمِّ شعثهم. والتفت موسى إلى "السامريِّ": فما الأمرُ؟.. ويجيب السامري: لقد شاهدتُ مالم يتسنَّ للقوم أن يشاهدوه، فقبضتُ حفنةُ تراب من أثر الملاك جبريل، وجمعتُ ما يحملُ بنو إسرائيل من حليِّ الذهب، وقذفتُ ذلك كلّه في حفرة، أجّجتها ناراً، وصنعت من ذلك {عجلاً جسداً له خوار}، اتّخذه بعضُ بني إسرائيل إلهاً!.. ورمقهم موسى بعين غضبى، فأطرقوا ندماً وخجلاً!.. ويهبُّ موسى لمعالجة الأمر سريعاً. ويأمرُ بالعجل، فتُرسلُ عليه النار، فتحرُقُهُ، وتفتِّتُهُ تفتيتاً، وتهب ريح تذروه في البحر، هباءً منثوراً.. وأمر بالسامري منبوذاً، لايدنو من الناس، ولايقربُه الناس، ولايمسُّه أحدٌ أبداً. وأمر قومه بالتوبة، وقتل أنفسهم، ولعلَّ المقصودُ بذلك كسرَ حدَّتها، وكبتَ شهواتِها، وكبح رغائبها، وتطهيرها وتزيكتها، ففعلوا ماأُمرُوا به، وتاب الله عليهم جميعاً!.. وعاد موسى إلى ميقات ربّه، من جديد، بعد أن اختار من قومه - كما فعل آنفاً- سبعين رجلاً ولما وصلوا الى الجبل، زلزلت الارض بهم زلزالاً شديداً. فصاح عندئذ موسى متضرعاً وجلاً: - {.. رب، لو شئت أهلكتهم من قبل، وإيّاي. أتُهلكنا بما فعل السفهاء منّا؟..}. فتشملهم رحمة الله،.. وتستقر الارض تحت أقدامهم، وتهدأ، فيهدأون!.. وعاد موسى يدعو قومه الى اجتماع ليبين لهم ما أنزل الله من أحكام إقامة صلاة وتأدية زكاة، وكانت الدعوة أمام سفح الجبل، فلم يسمعوا له قولاً. فتزلزل الجبل فوقهم، وتناثرت حجارته عليهم، فسمعوا عندئذ قول موسى!.. التيـــه : ويقود موسى قومه إلى أرض الميعاد في فلسطين، لعلهم يلقون فيها عصا ترحالهم، بعد عنائهم الطويل ويصيبهم في الطريق الظمأ، فيصرخون: ياموسى.. الماء، الماء!.. {وأوحينا الى موسى إذ استسقاه قومه، أن اضرب بعصاك الحجر، فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم!}. فارتووا!.. وكان هجيرٌ قائظ، فأرسل الله فوقهم الغمام، يظللهم من لفح الشمس، ويكسر حدة الرمضاء. ثم أدركهم الجوع، فصاحوا: ياموسى.. الطعام، الطعام، فأرسل الله لهم المنّ والسلوى، {كلوا من طيبات ما رزقناكم}، دون طغيان، ولا جحود ولاكفران!.. وتابع طريقه موسى، ووجهة سيره "أريحا" لمواجهة من فيها من عتاة الكنعانيّين والحثّيّين. فاستسلم بنو إسرائيل إلى خور العزيمة، ودبّ فيهم الوهن، وقالوا: - {.. إنّ فيها قوماً جبّارين. وإنّا لن ندخلَ حتّى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون!}. فهاله ماهم عليه من التقاعس، والجبن. وأخذ يحبب إليهم القتال في سبيل الله ويرغّبهم بالجهاد، فكان كمن ينفخ في رماد، أو، كمن يصرخ في وادٍ!.. ثم صارحوه بجليّ أمرهم، وما انطوت عليه نفوسهم من خبثٍ، ولؤم طباعٍ: - {.. ياموسى، إنّا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، أنّا ها هنا قاعدون}. فأيقن عندئذٍ موسى بأن قومه قد غرقوا في بحر الضلالة والخذلان، والعصيان، والغيّ الموفي بأهله على النار، فرفع بصره الى السماء، وقلبه يكاد يتفطّر قائلاً: {ربّ، إنّي لاأملك إلا نفسي وأخي}. نافضاً يديه منهم أجمعين!.. وكان جزاء تقاعسهم، وخور عزيمتهم، أن ظلّوا يتيهون في (أرض التيه)، حيارى، لايهتدون إلى معالم طريق، مدة أربعين سنة، هلك خلالها كل هذا الجيل المتهاوي، المتهالك على نفسه، الذي ما أن يؤمن حتى يعود إلى الكفر من جديد،.. لينهض على أنقاضه جيل منيع عزيز،.. لايسأم الجهاد، وركوب متون (أي: ظهور) الحرب والقتال!.. وفاة موسى، وظهور يوشع بن نون نبيّاً جديد : ولما شعر موسى(عليه السلام) بدنّو أجله، نظر في أمور قومه، فأحسن تنظيم أوضاعهم، خاتماً فيهم رسالته ناظراً بعين الغيب إلى نبيٍّ جديد، يرسله الله إلى أهل مكة ومن حولها فيخرجهم من الظلمات الى النور!.. ثم غادرهم، وهم عنه غافلون، تجرّهُ قدماه في عمق الصحراء، وخيالهُ يلتهب بذكريات، وما أكثرها.. ومعظمها لاسع كالجمر المتّقد. وفيها كل غريب وطريف، فهي لاتبرح خياله أبداً. وإن نسي، فلن ينسى منها ثلاثاً: - الأولى: قصته مع الخضر: وسبب ذلك، أن نفس موسى حدّثته يوماً بأنه أعلم من على وجه الأرض، إنساناً! فصدّقها، وجاراها في دعواها. أليس هو نبيّ الله، وكليمه، ورسوله. فمن أقرب إلى الله من موسى؟. فاوحى الله تعالى إليه: إنّ من عبادي من هو أوسعُ منك إحاطةً، وعلماً!.. ويسأل موسى ربّه مستغرباً، من هو ياسيّداه؟ فيجاب: أنه عبدي الصالح، عند (مجمع البحرين). فيشدُّ إليه موسى عصا الترحال، يبتغي مقابلته، والتعلُّم منه. وقد اصطحب معه فتاه، ويجتمع موسى بالعبد الصالح هذا،.. ويرى على يديه خوارق ومعجزات لا يستطيع الانسان العاديّ إلاّ إنكارها. وكذلك فعل موسى!.. وفي نهاية المطاف -(كما ورد في سورة الكهف، الآيات: 60-82)- يشرح الخضر لنبي الله موسى حكمة الله من كل ماقام به من تصرفات. إنّه التأويل لبواطن الأمور، لاتفسير ظاهرها!... ويشعر موسى بضآلة علمهن وهو النبي المجتبى، أمام ما أوتيه العبد الصالح حكمةً وعلماً!.. - الثانية: قصة بقرة بني إسرائيل: وكان ذلك عند ماقُتل أحد رجالهم، ولم يعرفوا قاتله. فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة -(كما ورد في سورة البقرة. الآيات: 77-83)- وأخذ بنو إسرائيل يستقصون من نبيّهم موسى عن ماهيتها، وصفاتها، ولونها.. لجاجاً منهم وعناداً! واهتدوا بعد لأيٍ (أي: جهد ومشقة) إليها، ولم يستطيعوا ابتياعها، إلاّ بعد أن دفعوا مبلغاً من الذهب، كبيراً... يُضاف إلى ذلك جدهم في طلبها، حيرتهم، حتى اهتدوا إليها، بعد شهور طوال، من التفتيش والتنقيب، ولو أنهم آمنوا بالله ورسوله، وسلّموا إليه إمورهم، وتخلّوا عن لجاجهم وعنادهم، لوجدوا في أي بقرة تقع عليها أيديهم، مايفي بالغرض المطلوب!.. ولكنه العناد الحرون، والفطرة على الشقاق والنفاق، وسيّئِ الأخلاق!. - الثالثة: قصته مع قارون: وهي الأدهى، والأمرُّ! فقارون، تربطه بنبيّ الله موسى وشائجُ دمٍ، وقربى رحم. وكان قارون أغنى أغنياء بني إسرائيل. فله من كنوز الذهب ماتنوءُ بحمل مفاتيح خزائنه عصبة من الجمال شديدة القوى، فكفر برسالة موسى، وجاهره العداء، وألَّبَ عليه الأعداء، باذلاً في سبيل ذلك الأصفر الرنان!: (كما تقص علينا سورة القصص. الآيات: 76-83) وتمنَّى بنو إسرائيل أن يؤتوا مثل ماأوتي قارون، فكأن الله قد أفاض عليه من الذهب نهراً لاينضب. ونسُوا، وهم دائماً ينسون، أنّ رحمة الله خير من كل ذلك وأبقى! وانتظر بنو إسرائيل قارون، حتى خرج عليهم، يوماً، في زينته، فانبهرت أبصارهم بها، وانشدهت بصائرهم، {إنّ هذا لشئٌ عُجاب!..}. ونسوا كل شئ، فهم مأخوذون بهذه الفخامة من الزينة، والبهرج، يملآن عليهم الأفئدة، والأبصار، والأسماع!.. وبينما هم كذلك، وإذ بزلزالٍ يضرب دار قارون، وإذ بالأرض وكأنها تثور تحت قدميه، فتسيخ، وتخسف بقارون وبداره الأرض، فهو لاينفك متغلغلاً في باطنها كل يوم قامةً، إلى يوم القيامة، فاعتبروا ياأولي الألباب!.. وما أكثر العبر في بني إسرائيل، وأقلّ الاعتبار!.. وقد حال الله بين قلوبهم، وثابت الايمان واليقين، فهم في ريبهم، أبداً، يترددون! * * * وتكلُّ قدما موسى، وقد ضرب (أي: مشى) في عمق الصحراء، بعيداً... ولطالما قطعتا به مفاوز، وأراضي ذات آماد، وأبعاد!، وغرائب الذكريات ماانفك يتلو بعضها بعضاً!. ويتوسد حفنه من رمل!.. فقد آن لهذا الجسد المنهك أن يستريح، ولهذه الروح الشريفة أن تنطلق في عالمها العلويِّ الرحب، الشريف، اللطيف!.. ويظهر بعد ذلك في بني إسرائيل نبيٌ جديد. إنه يوشع بنُ نون. وكان من مقرَّبي موسى. فيخرجُ بهذا الجيل الجديد منهم، الفتيِّ، المجاهد، من أرض التيهِ، إلى أرض الميعاد في فلسطين، حيث المدنُ، والمزارعُ، والخيراتُ الحسانُ!.. |
#5
|
||||
|
||||
![]()
النبي صالح (ع) صاحب الناقة
ثمود وارثة عاد اندثرت عاد بالريح الصرصر العاتية، ولم ينج منهم إلاّ من أنجاه الله تعالى. وأورث سبحانه الأرض قوم ثمود أخي جديس بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح(ع)، وهم من العرب العاربة، كانوا يسكنون في وادي القرى بين الحجاز وتبوك، قريباً من شواطئ البحر الأحمر، شمالي مكة المكرمة. وثمود هؤلاء هم أبناء عم عاد، وكانوا ذوي شأن وتأثير في الحياة داخل الجزيرة العربية، ولاتزال آثارهم أو بعضها إلى اليوم في مايعرف بديار ثمود، أو مدائن صالح، غربي المدينة المنوّرة وجنوبيها حيث توجد البئر المعروفة ببئر الناقة. عبدت ثمود الأصنام كعادٍ، وكان لهم مايقارب الأربعين صنماً، جعلوا لها بيوتاً يدفعون الناس إليها، ليقدّموا لها القرابين التي كانت تؤمِّن لهم زيادة أموالهم وتنمية ثرواتهم، وكان أكبر تلك الأصنام هو الصنم "ود"، يليه "هبل" و"اللات". وعمرت ثمود وادي القرى تماماً كما فعلت عاد قبلهم، وقد هبهم الله بسطة في الأجسام وطول الأعمار، ولكنهم كانوا شرسي الطباع، قساة القلوب، خصوصاً بعدما كثرت أموالهم واتسع سلطانهم. إذ أصابهم البطر والغرور، كما أصاب قبلهم قوم عاد، فأفسدوا في الأرض، وبطشوا بالناس، وجحدوا نعم الله التي أنعم بها عليهم. وكان لثمود ملك ظالم اسمه جندع بن عمرو، سيِّئ الطباع، قاسي القلب مثلهم جباراً، فجاء إليه جماعة ممن أنجاهم الله من بقايا عاد، وراحوا يعظونه، ويذكرون له ماحلَّ بقومهم إثر كفرهم وطغيانهم، وتجبرهم، وراحوا يصفون له غضب الله الذي حلَّ عليهم، بعد دعوة نبيهم هود(ع) لأنهم رفضوا عبادة الله، كل ذلك وهم يظنون أن جندع سيتعظ بمن سبقه، ويرعوي، ويرتدع عن غيِّه وبطشه، ولكن جندع قال لهم بصلف وغرور أكبر: إنما هلك قوم عاد لإنَّهم لم يكونوا يحسنون بناء البيوت، كما نفعل نحن، فقد كانوا يجعلونها على الرمال، ونحن نبني بيوتنا في الجبال وننحتها في الصخور، وكانوا لايحسنون عبادة أصنامهم والاهتمام بها، وها نحن نعبد أصنامنا كما يجب ونبني لها البيوت ونعيّن لها الخدم، كما أننا نحن أشدّ من عادٍ قوة، ولذلك لايمكن أن تُهلكنا الريح مهما كانت صرصراً عاتية. رسول الله صالح(ع) واستخف الملك جندع بن عمرو وقومه ثمود فتابعوه في غيِّه وغروره، ولم يتعظوا بما حلّ بأبناء عمومتهم من عاد، وأصروا على فسادهم وكفرهم، فبعث الله فيهم نبياً منهم هو صالح(ع): {وإلى ثمود أخاهم صالحاً}، فراح(ع) ينهاهم ويعظهم ويجادلهم، ويعدهم ويتوعدهم للرجوع عن ضلالتهم ويدعوهم إلى عبادة الله الخالق المنعم {قال: يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب}. وصالح(ع) هو ابن ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح(ع) نشأ وترعرع بينهم في بيت شريف من بيوتات ثمود، وكان أبوه خادماً للصنم "ود" كبير أصنام القبيلة، وتعلَّم(ع) حتى وصل إلى درجة عالية فنمت شخصيته ووهبه الله تعالى من الذكاء والفطنة والحكمة والشجاعة، ماجعله محترماً بينهم مسموع الكلمة سديد الرأي، وهيَّأه ليكون مرجعاً لثمود في الملمات يستشيرونه ويطيعونه فيما يشير به عليهم في معظم أمورهم. رأى صالح(ع) ماكانت عليه ثمود من الضلال والكفر والطغيان، وفساد التصرف وسوء الأخلاق والمعاملة، والإنحراف في العبادة، فراح يفكر في طريقة لتخليصهم مما هم فيه، فهداه الله سبحانه وأوحى إليه وبعثه رسولاً إليهم: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره} وراح يذكِّرهم بنعم الله عليهم إبتداءً من نعمة الخالق حتى ماهم فيه من النعيم: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوَّأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون فاذكروا آلاء الله ولاتعثوا في الأرض مفسدين}. بعد هذه الدعوة التذكيرية، آمن جماعة من قوم ثمود برسالة صالح(ع) لأنهم عرفوا أنه إنما كان رسولاً نبياً يتمتع بكل صفات النبوة، فهم يعرفون أنه لايكذب، وقد خبروه وهو يعيش بين ظهرانيهم، وهو الحكيم العالم الحصيف، صاحب الرأي السديد الرشيد، الذي كانوا يرجعون إليه في الملمات، ولكن جماعة منهم وهم الكثرة الغالبة، لم يؤمنوا بل غيّروا رأيهم في صالح (ع) ومقتوه بعد أن كانوا يحبونه، واحتقروه وكذبوه بعدما كانوا يصدقونه ويحترمونه، وقالوا: {ياصالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا} أي قبل أن تأمرنا بعبادة الله، وترك عبادة الأصنام، وقبل أن تنهانا عمّا نحن فيه من الإفساد في الأرض والتجبر أما وقد أمرتنا اليوم بترك عبادة الأصنام، ودعوتنا إلى عبادة إلهٍ واحد فإننا أصبحنا نشك في مكانتك التي كانت لك عندنا: {أتنهانا أن نعبد مايعبد آباؤنا وإننا لفي شكٍ مما تدعونا إليه مريب}. وأخذ صالح (ع) يسرد لهم الأدلة والبراهين على وحدانية الله الخالق ويسوق الحجج على أنه نبي مرسل إليهم من ربهم وأنه لايطلب منهم أجراً على مايقوم به من التعليم وتبليغ الرسالة لهم: {إذ قال أخوهم صالح ألا تتقون. إني لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون. وماأسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين}. ورغم ماكانوا يعرفونه من أن صالحاً صادق في دعوته وأنه كان ذا مكانة مرموقة فيهم نظراً لاستقامته، قبل أن يصبح رسولاً إليهم ورغم إصرار صالح(ع) وجهده في تبليغهم رسالة ربه، رغم كل ذلك، فإن ثمود استكبروا واتهموه بالكذب، ورفضوا اتّباعه وتصديقه: {فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر. أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر}. ولم يكتفِ المفسدون المستكبرون من ثمود بذلك، بل تمادوا في طغيانهم وغرورهم، وكما اتّهمت عاد نبيها هوداً(ع) بأنه كاذب وساحر، كذلك اتّهم الثموديون نبيهم صالحاً(ع) بأنه كاذب وساحر: {قالوا إنما أنت من المسحَّرين. ما أنت إلاّ بشر مثلنا} فلماذا تكون نبياً ويختارك الله ليبعثك رسولاً إلينا، هذا محض افتراء وكذب. أما الطيبون العاقلون من ثمود فقد عرفوا صدق صالح(ع) ونبوته، فآمنوا به ودعوا الآخرين إلى الإيمان برسالته. وهكذا انقسم الثموديين فريقين فريق يدعو إلى اتباع صالح(ع) وعبادة الله الخالق، وفريق دعا إلى محاربته وقتله، وأخذ يدبِّر له المكائد، ويحاول تعجيزه وتهزيئه وتعزيره هو ومن آمن معه ويقولون: {اطّيّرنا بك وبمن معك... وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولايصلحون. قالوا تقاسموا بالله لنبيّتنّه وأهله ثم لنقولنّ لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون}. وألهم الله نبيّه صالحاً الجواب المنطقي المقنع لو كانوا يعقلون: {قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون}، وتابع المفسدون المستكبرون من ثمود محاولاتهم لصدّ الناس عن الإيمان بدعوة صالح(ع)، فحاولوا تطويقه إعلامياً ومحاصرته إجتماعياً، فلجأوا إلى الإستهزاء به وبمن آمن برسالته وقد استضعفوهم وقالوا لهم: {أتعلمون أن صالحاً مرسلٌ من ربه!؟ قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون. قال الذين استكبروا إنّا بالذي آمنتم به كافرون}. وباءت هذه المحاولات كلها بالفشل الذريع، إذ أنجاه الله وحفظه من كيد المفسدين {ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لايشعرون}، فتابعوا مكرهم وكيدهم، والله سبحانه يهيئ لهم العذاب، حتى إذا حق عليهم نزل بهم وهم عنه لاهون. الناقة المعجزة لم يكترث نبي الله صالح(ع) بأساليب المستكبرين ولم تؤثر فيه أساليبهم الخبيثة الملتوية، وراح يتهددهم ويتوعدهم بعذاب الله الأليم، إن هم أصروا على استكبارهم وكفرهم، وأن الله لن يتركهم هكذا وإن طال بهم الزمن، ومدَّ لهم في الوقت، فإن الله يمهل ولايهمل، وراح ينصح الجماعة إن هم أطاعوا المفسدين منهم اتقاءً لعذاب الله، مذكِّراً إياهم بأنّهم لن يتركوا ليفسدوا في الأرض وهم مطمئنون مرتاحون: {أتتركون في ماها هنا آمنين. في جنّات وعيون. وزروعٍ ونخلٍ طلعها هضيم. وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين. فاتّقوا الله وأطيعون. ولاتطيعوا أمر المسرفين. الذين يفسدون في الأرض ولايصلحون}. وأبى قسمٌ كبير من ثمود طاعة نبي الله صالح(ع)، وأصروا على فسادهم وعبادتهم للأصنام، ولم يقفوا عند هذا الحد بل وصلت بهم الوقاحة إلى أن دعوا صالحاً(ع) إلى ترك عبادة الله الخالق، ليعبد الأصنام مثلهم فينزل على رأي الجماعة، ورفض(ع)، دعوتهم قائلاً لهم: {ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير}. ولما رأى المفسدون المستكبرون إصرار صالح(ع)، وعناده في دعوته الحق، راحوا يسألونه المعجزات قائلين: {ما أنت إلاّ بشر مثلنا فأتِ بآية إن كنت من الصادقين}. فقال لهم(ع): وماذا تطلبون حتى تؤمنوا وتعودوا إلى رشدكم؟... واجتمع الثموديون في ناديهم وصالح بينهم ثم إنهم أشاروا إلى صخرة قريبة وقالوا: إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء حمراء وبراء، لاتشبه النوق، ولها ضرع أكبر من القلال يشخب منه اللبن غزيراً صافياً، ويخرج منها إبن لها مثلها ويصوت أمامنا كما تصوت، إن أنت أتيت بتلك الناقة صدقناك وآمنا بأنك رسول الله. وراحوا يحدّدون ويدققون في الوصف ظناً منهم أن صالحاً(ع) سيعجز عن الإتيان بهذه الناقة التي يصفون، وبذلك يظهرونه بأنه كاذب فيتفرّق الناس عنه، وتبطل رسالته. وأدرك صالح (ع) بوحيٍ من الله، أدرك سوء نواياهم، فما كان منه إلاّ أن رجع إلى ربه يسأله، فانتحى ناحية فصلّى ودعا ربه وهو الصادق المخلص، فأوحى الله تعالى إليه، أن سأعطيهم ماسألوا: {إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر}. عندها وقف صالح(ع) وقال لهم: وهل ستؤمنون إن جئتكم بالناقة؟ قالوا نؤمن إذا كان لبنها ألذّ من الخمر وأحلى من العسل، فقال لهم: سخرجها ربي أفتؤمنون... فأخذوا في كل مرة يزيدون صفة أصعب من الصفات التي ذكروها، وهم يخافون أن تخرج فيظهر صدق صالح(ع) ويبين كذبهم هم وفسادهم، تماماً كما فعل اليهود عندما سألهم موسى(ع) أن يذبحوا بقرة، وصفها لهم، فتغابوا عنها فراح (ع) يحدد في الصفات وفي كل مرة يأتي بصفة أصعب من الأول حتى ذبحوها وماكادوا يفعلون. ظن الثموديون أن صالحاً(ع) لايمكن أن يأتي بالناقة التي وصفوا لأنه لس بمقدور مخلوق أن يأتي بمثلها، ومن الصخرة التي أشاروا إليها، فقالوا لصالح(ع): نؤمن إذا جئت بالناقة كما وصفنا، فقال(ع) شرط ألا يركبها أحد منكم، ولا ترمونها بالحجارة ولابالسهام، ولاتمنعوها من الشرب من بئركم هي وفصيلها، فقالوا لك ذلك.. وماهي إلاّ لحظات حتى كان أمر الله مفعولاً، فاضطربت الصخرة واهتزت، فإذا هي تنشق عن ناقة عظيمة فيها كل الصفات التي وصفوا.. ثم يخرج منها فصيل كأنّه هي، فقال صالح(ع): {هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم}.. {هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولاتمسوها بسوءٍ فيأخذكم عذاب أليم}. ونظر الثموديون إلى الناقة العظيمة، فبهتوا وأخذتهم الدهشة.. بأي قدرة استطاع صالح أن يأتي بهذه الناقة التي تتحرك، من الصخرة الجامدة التي لاحياة فيها!! هذا ليس سحراً ولاكذباً.. ولاشك أن هناك قوة قادرة هي التي خلقت من الصخرة الميتة ناقة حية حقيقية.. وهذه القوة قادرة، بلا شك، على الإفناء كقدرتها على الإحياء. عقر الناقة وعذاب ثمود بعد معجزة الناقة، انفسهم الثموديون ثلاثة فرقاء: فريق آمن وأيقن أن صالحاً(ع) نبي مرسل من الله سبحانه وتعالى وفريق أحب الإيمان، أو قُل أراد أن يؤمن لمّا رأى ذلك، ولكنهم خافوا على أنفسهم بطش المفسدين المستكبرين، فآمنوا سراً وكتموا إيمانهم، أما الفريق الثالث، فأصروا على كفرهم، ولم يستطيعوا إدراك كنه المعجزة... وهؤلاء راحوا يتحينون الفرص ليضربوا ضربتهم، بعد أن أسقط في أيديهم وأخرستهم الحقيقة، وشلتهم قدرة الله الخارقة. وانقضت أيام وأيام، وثمود تشرب من الناقة لبنها الصافي.. فيما تشرب الناقة يوماً من البئر التي كانوا يستقون منها، فتأتي على كل مافيها من ماء، لكنها لم تكن لتقرب البئر في اليوم التالي إذ تترك الماء لهم ليشربوا ويغتسلوا آنيتهم وثيابهم. ولما كان فريق منهم لم يؤمنوا، وسكتوا على مضض، فقد ظلوا يتحينون الفرص للتخلص من صالح ومعجزته ودينه، وهؤلاء أخذوا يظهرون امتعاضهم وسخطهم، ولم يكن أمامهم إلاّ الناقة، فراحوا يحتجون بحجج واهية وهم يكيدون ويمكرون: فمرة يقولون إن الناقة تشرب البئر كلها ولاتترك لنا ماءً، ومرة يقولون إنها ضخمة تنفر أغنامهم وأبقارهم، وثالثة يقولون إنها ترعى الوادي فلا تترك لمواشيهم ماترتعيه ولذلك ضعفت ماشيتهم وضمرت، كل ذلك في محاولة منهم للتخلص من الناقة، ففي التخلص منها كما يظنون تخلصاً من المعجزة التي ظهر بها صدق نبوة صالح(ع)، فإذا غابت المعجزة كان بمقدورهم تكذيب صالح من جديد والقضاء على الرسالة التي بعثه الله بها. وقرر المستكبرون من ثمود عقر الناقة سراً، فأوحى الله إلى نبيِّه بقرار ثمود، فجاءهم ووعظهم، وحذّرهم وبيَّن لهم أن الناقة رحمة من الله لهم، فهم يشربون لبنها حتى يرتوون، ولكنهم أنكروا ذلك وجحدوا وراحوا ينظرون بعضهم إلى البعض الآخر باستغراب ودهشة.. كيف عرف صالح بما يبيِّتون.. خصوصاً وأن صالحاً(ع) قد وصف لهم الشخص الذي سيعقر الناقة. ولم يرتدع المفسدون، بل شكّلوا فرقة منهم لقتل الناقة، وكانوا تسعة هم قدار بن سالف، ومصدع، وأخاه، وحراباً، ورعيناً، وداود خادم الأصنام، والمصرد ومفرج وكثير: {.. تسعة رهط يفسدون في الأرض ولايصلحون}. رصد هؤلاء التسعة الناقة وكمنوا لها في مكان قريبٍ من البئر، حتى إذا جاءت لتشرب تقدم قدار منها، بعد أن فشل الآخرون في قتلها، وأهوى بسيفه على قائمتيها الأماميتين قسقطت إلى الأرض وهي تصوّت بصوت تجاوبت به أطراف الوادي، ثم وضع مصدع سهماً في قوسه ورماها به في نحرها، فتخبطت بدمائها، وتقدم الباقون فأجهزوا عليها: {كذبت ثمود بطغواها. إذ انبعث أشقاها. فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها، فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها. ولايخاف عقباها}. واجتمع الثموديون فرحين بما آتوا، وكان بينهم رجل مؤمن، فانسلَّ من بينهم، وتوجَّه إلى صالح(ع) وأخبره بالأمر، فتوجّه(ع) إلى مكان الحادث والثموديون مجتمعون هناك، فقال لهم: سيصيبكم عذاب عظيم بما فعلتم إلاّ أن تتداركوا ولد الناقة عسى أن يرحمكم الله، وتراكضوا نحو قمة الجبل، وهناك وجدوا الفصيل مقتولاً.. فما كان منهم إلاّ أن سحبوه إلى جانب أمّه وأشعلوا ناراً وراحوا يشتوون من لحيمهما، فقال لهم صالح(ع): {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب} يحل عليكم بعدها غضب الله... ولم يصدقوا وعيد صالح(ع) لهم بل قالوا: {ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين}. ليس هذا فحسب، بل راحوا يأتمرون لقتل صالح(ع) وقرروا أن يتخلصوا منه، بأن يضربوه ضربة واحدة حتى لايعرف قاتله ويطلب بثأره، وكمن له جماعة منهم فيهم: قدار بن سالف ومصدع، قريباً من مسجده واستعدوا جميعاً لضرب صالح(ع) ولكن الله كان لهم بالمرصاد فزلزل بهم المكان الذي كمنوا فيه، فانهارت عليه الصخور فقتلتهم جميعاً: {فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين}. بعد هذا أمضى الثموديون ليلتهم في خوف وقلق، خصوصاً وأنهم رأوا ماحلَّ بأصحابهم، وكيف نجا صالح(ع) من كيدهم، وأصبحوا ووجوههم مصفرة، فزاد خوفهم وقلقهم، وباتوا ليلتهم الثانية فأصبحوا ووجوههم محمّرة، فأيقنوا أن تهديد صالح لهم سيتحقق وأن العذاب واقع لامحالة، فاحتفروا الحفر ي دورهم ليموتوا فيها وباتوا ليلتهم الثالثة فأصبحوا ووجوههم مسودة، فراحوا يعولون ويصيحون، وصفرت الريح، وتزلزلت الأرض فدمرت البيوت على من فيها وصدرت أصوات تصم الآذان: {فأخذتهم الصيحة مصبحين} {صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتضر}.. إنّها الصيحة التي قضت على الكافرين المستكبرين من ثمود: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إنَّ في ذلك لآية لقوم يعلمون. وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون}. وفاة صالح (عليه السلام) يقول المسعودي في مروج الذهب: "ورممهم باقية، وآثارهم بادية في طريق من ورد الشام، وحجر ثمود في الجنوب الشرقي في أرض مدين، وهي مصاقبة لخليج العقبة". أما صالح والجماعة الذين اتبعوه فقد توجهوا إلى مسجد صالح (ع) فانجاهم الله جميعاً من الصيحة التي قضت على المستكبرين الكافرين من ثمود، وماكان من نبي الله صالح(ع) إلاّ أن رحل من الأرض التي حلَّ عليها غضب الله مصطحباً معه جماعته، وتوجهوا شمالاً باتجاه فلسطين، وحطوا رحالهم في مدينة الرملة... ويذكر أن نبي الله صالحاً(ع) حجَّ بيت الله ملبيّاً وقد مرَّ بوادي عسفان، الذي مرَّ فيه قبله النبي هود(ع). ويروى أنه (ع) ترك بلاد فلسطين ماراً بأرض الشام قاصداً إلى مكة المكرمة، فوصلها، وظلَّ فيها يعبد الله حتى وافاه الأجل. ويقال: إنه ذهب إلى حضرموت من أرض اليمن إذ إنَّ أصله من هناك، وتوفي فيها عن عمر يناهز الثامنة والخمسين، وفيها دفن، فسلام الله على صالح إنه كان من المرسلين. والحمد لله رب العالمين |
#6
|
||||
|
||||
![]()
النبي شعيب (ع) خطيب الانبياء
شعيب في قومه قلَّما اختلف المؤرخون والمفسِّرون في شخصيَّة نبيٍّ ونسبه، اختلافهم في النبي شعيب. فهو شعيب ابنُ توبَةَ، عند بعض المفسرين... وشعيب ابنُ أيوبَ، عند بعض المؤرِّخين... وشعيب ابن ميكيلَ، عند قومٍ آخرين... قيل: أُرسِل مرَّةَ،... وقيلَ: بل مرَّتين: إلى أهلِ مَدْينَ، وإلى إصحاب الأيكة.. وأهلُ مدين عربٌ، كانوا يقيمون في أرضِ معانَ من أطرافِ الشَّام. أما الأيكة، ففيها اختلاف أيضاً، ويرجَّحُ بأن تكون بلدةَ (بليدا) في جنوبي لبنان،- كما مرَّ معنا، آنِفاً، في قصة النبيِّ موسى(عليه السلامُ)-. وكان أهلُ مدينَ يعتمدونَ التِّجارة موردَ رزقٍ لهم، وسبيلَ عيش وحياةٍ، فكانت تدر عليهم خيراً وفيراً ولكنَّهم، لم يُراعوا حقوقَ الله في تجارتِهم، هذه، إذ كانوا لايوفون كيلاً ولا ميزاناً، وكانوا يبخَسونَ الناسَ أشياءَهم، ويعيثون في الأرضَ فساداً.. فتبرَّأ شُعيب من هؤلاءِ المفسدين.. فما هَكذا أمَرَ الله الناسَ به في معاملاتٍ فيما بينهم، وفي عباداتٍ!.. إنْ هؤلاءِ القومُ إلاَّ في ضَلاَلٍ مبين!.. واعتزَلَ شعيبُ قومَه متأمِّلاً خلق السموات والأرضِ، فهدتْه الفِطرَةُ إلى إلهٍ واحدٍ فآمنَ به، وأسلم إليه وجهَهُ، بعيداً عن قومِهِ الذينَ يَظْلمون الناس، وأنفسَهم، معاً... وقذفَ الله النورَ في قلبِهِ فملأهُ إيماناً ويقيناً.. ثم، ما لبثَ أن أرسلَه إلى قومِهِ، نبيّاً، يدعوهم إلى صراطِ العزيز الحميد!.. ويروي بعضُ كبارِ المفسرينَ بأن شعيباً كان كثيرَ الصَّلاةِ، فهي السَّبيلُ إلى الله، وهي حبلُه المتين، وهي الصِّلة الوثقى بين أرضٍ وسماءٍ!.. وكثيراً ماكان يقول: - "إن الصَّلاةَ رادعةٌ عن الشرِّ، ناهيةٌ عن الفحشاءِ والمنكَرِ، والصَّلاة هي الدين!.." وبهذا المعنى ذاتِه، حتى الألفاظ نفسها، تَتَالَتْ آياتُ جَمَّةٌ من القرآنِ الكريمِ.. يضافُ إلى ذلك، أنَّ شعيباً كان في عزٍّ من قومِهِ وعشيرته،... فما من نبيٍّ، بعدّ لوطٍ، إلاَّ وهوَ عزيزٌ في قومِهِ، منيعٌ في عشيرتِهِ... شعيب النبي ابتدأ شعيب دعوته بالتقرُّب إلى قومه، محاولاً استمالةَ قلوبِهم، مذكِّراً إيَّاهم بما تربطه بهم من أواصرِ قربى، وروابطِ دمٍ!. فتلطَّف إليهم بالقول الجميلِ، والحوارِ اللَّطيف،... ولمَّا أنِسَ منهم ميلاً إليه، أعلنَ فيهم نبوَّتَه، وشَهَرَ بينهم دعوتَه،... أما عنوان هذه الحركة المباركة، فكان: الإصلاح!. فهو لايبتغي عن الإصلاحِ بدلاً، ولايرضىَ عنه حِولاً!.. وأخذ يذكِّرهم بأنْعُمِ الله عليهم: فهم في غنىً بعد فقر، وفي كثرةٍ بعد قلَّةٍ، وفي قوَّةٍ بعد ضعفٍ، وفي عزٍّ بعد وهنٍ، وفي أمنٍ بعد خوفٍ، كما كان يخوِّفُهم عذابَ الله وانتقامَه، وبطشَه الشَّديد.. فلم يجد أذناً- لِمَا يقولُ- صاغيةً، ولاعقولاً- لما يعرضُ عليهم- واعيةً.. بل أنكروا عليه دعوتَه، وامتلأت قلوبهم حسداً له، وَوَجْداً (أي: حقداً) عليه.. فما لهذا النبي ينهاهم عن الرِّبح السريع، لايكاد يحسُّ به أحدٌ، في تطفيف مكيالٍ وميزانٍ.. ويدعوهم إلى عبادة إلهٍ، لاعهدَ لهم، ولا لآبائِهم، بهِ، من قبل؟.. إنْ يقولُ إلاَّ افتراءً وبُهتاناً.. وما هو -بزعمِهم- إلاَّ ساحرٌ كذَّابٌ!.. وهذه -كما نرى- مقولةُ من سبقَهم، ومن تلاهم، من الكفرةِ الملحدين، الَّذين أعمى الله أبصارهم، وجعل في آذانهم وقراً (أي: ثقلاً في السمع، كالصمم)، وعلى قلوبهم أكنَّةً (أي: أغشيةً، ج. غشاء)، فهم لايفقهون!.. شعيب يُحَاجُّ قومهُ، وينذرهم ولجأ شعيبٌ إلى الحجَّةِ يقارع قومه بها. ويدحضُ افتراءاتِهم، ويُبطِلُ دعاواهم.. وكان نبيُّ الله شعيبُ خطيباً بارعاً، ومُفَوَّها بليغاً، يتفجَّرُ لسانُه بالحكمِة، تصدُرُ عن قلبٍ يفيضُ بها، كالينبوع الدافق، لاينضبُ له معينٌ، ولاينقطعُ عن عطاءٍ!. فقد "كان شعيبٌ خطيبَ الأنبياءِ" كما ينعتُهُ بذلك خاتمُ الرسل والأنبياء، محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ولنتأمَّل هذا الحوار الطَّويل، يدورُ بينَ شعيبٍ وقومِهِ، على امتداد ساعاتٍ طوالٍ.، في نادي مدين، وقد ازدحم فيه خلقٌ كثيرٌ.. ولَعمري، إنه لَحوارٌ يجعلنا نُلمُّ بدعوة شعيبٍ جملةً وتفصيلاً،.. ويلقي الضوءَ على فكرٍ له نيِّرٍ، وقلبٍ، له، كبيرٍ، فهو مسدَّد في قوله، مصيب دائماً، وهو محاورٌ بارعٌ، ومناقشٌ لَبِقٌ، له في الحوارِ، أخذاً وعطاءً، باعٌ طويلٌ!.. - ياقومُ!.. لقد أرسلني الله تعالى إليكم، داعياً إياكم إلى عبادتهِ.. فهو الذي خلَقَكم وخَلَق آباءَكم الأوَّلين، وهو المُحيي والمميت، والمبدئُ والمعيد. ربُّ العرشِ العظيم.. فآمنوا به، ودعوا ما أنتم فيه من ضلالٍ مبين!.. أنظروا إلى خلق السّموات والأرض،.. وانظروا إلى خلقِ أنفسكم،.. تجدوا أنّ وراء ذلك خالقاً قديراً، ومدبِّراً عليماً.. فإيّاه اعبدوا، وعليه توكّلوا، ولاتدعو إلاّ إيّاه إن كنتم مؤمنين!.. - وبم جئتنا به، غيرَ ذلك، في شريعتك، ياشعيبُ؟. - ياقومُ!.. إني أراكم بخيرٍ: مالٌ وفيرٌ، وزينةُ دنيا، ورخص أسعار!. فأوفوا الكيل والميزان، وأدّوا حقوق الناس على التّمام، في المعاملات، ولاتبخسوهم أشياءهم،.. ألا ترون أنكم أذ تطفّفون (أي: تنقصون) الكيل والميزانَ، على النّاس كأنّكم تسرقون ماليس يحلُّ لكم.. وتخونون ما أنتم عليه مؤتمنون؟ أو ترضون لأنفسكم، من تطفيف كيلٍ وميزانٍ، مارتضيتموه لغيركم؟.. - لا، ياشعيب!.. - فلم الظلم إذاً، وأكلُ حقوق النّاس بالباطل؟ - إنّها التجارة، ياشعيب، والرّبح- أو ليست التجارة باباً من أبواب الرِّبح الوفير؟ - بلى، إنها لكذلك،.. ولكن، ضمن مبدأين: صدقِ المعاملةِ، والأمانةِ.. فإن كذبتم، في تجارتكم، وخنتم في معاملاتكم، تحوَّلَت تجارتكم إلى لصوصيَّة وغدرٍ. - أو لاترى ياشعيب، بأنّنا إن تحوّلنا عمّا نحن فيه، في معاملاتنا التجاريّة، مع الآخرين، إلى ماتدعونا إليه، قلَّ حظُّنا من الرّبح، وشحَّ رزقُنا؟.. - هذا ظن الذين كفروا بربَّهم، واستحبُّوا الحياة الدُّنيا على الآخرة.. فالله هو الرزَّاقُ ذو القوّة المتينُ، وهو الكفيل - وأنا بذلك زعيم (أي: ضامن)- بأن يمدَّكم، إن اتّبعتم سبيله، بخير الدنيا ونعيم الآخرة... بقيَّةُ الله خيرٌ لكم، إن كنتم تعلمون!. - لانفهمُ ياشعيب ماتقول!. - أقول: اتَّقوا الله يؤتكم من لدنْهُ رزقاً حسناً، وابتغوا عند الله الرِّزقَ، ولاتكونوا من المطفِّفين. ثم، إنّ التجارة بابٌ من أبواب المعاملات، عريضٌ، كما تعلمون،.. والمعاملةُ أخلاقٌ قبل أي شئٍ آخر!. ويقطع الحوارَ صوتُ شيخٍ مهيبٍ، أجشُّ، وقد ضاق بهذا الحوار ذرعاً: - أصلاتُك تأمرك بذلك ياشعيب؟ أو تريدُنا أن نترك ما كان يعبدُ آباؤنا من قبلُ، وما نشأ عليه، من بعدِهم، صغارُنا،.. ونَغُلَّ أيدينا عن حرِّيَّة التصرُّف بأموالنا، نفعلُ بها مانشاء؟.. الصلاةُ: هي الدين، وهي عبادةُ ربِّ العالمين.. وما أعبدُ إلاَّ الله فاطِرَ السَّموات والأرضٍ والخلقٍ أجمعين.. وما عدا ذلك فكفرٌ وبهتان.. وضلالٌ وخسران.. أما المال، الحق فهو مانالته أيديكم من وجهٍ طيّبٍ، ورزقٍ حلال.. أمّا ماطالته أيديكم بالمكر والخديعة، والكذب والخيانة، فهو سحتٌ وحرام.. فاتّقوا الله، واعلموا أن الحياة لاتدوم، وكلنا إلى الموت صائرون!.. والمالُ ظلٌ زائلٌ، وبهرجٌ حائلٌ.. فكم من غني ممسٍ أصبح مفتقراً!.. وكم من فقير مصبحٍ أمسى ثرياً!.. - كنَّا نَعُدُّك بيننا الحليمَ الرَّشيد، ومانراك الآن كذلك يا شعيب!.. - ياقوم!.. أرأيتم إن آتاني الله النبوَّةَ، والهدايَة، ووسّع عليّ من لدنه رزقاً كثيراً،.. فهذا من عميم فضله، وواسع رحمته. وأنا - كما ترون- أطلب من نفسي ما أطلبه منكم.. آمراً إيّاها بما آمركم به، وناهياً إياها عمّا أنهاكم عنه... فمن جرّب عليَّ، منكم، قولاً لم أفعله، أو دعوةً لم ألزم بها نفسي، أوّلاً،..؟ {إن أُريدُ إلاّ الإصلاحَ ماستطعتُ وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلتُ وإليهِ أنيبُ} وإنّ أخوفَ ماأخافُ عليكم، أن تُمعنوا في شقاقكم، وتسدُروا في غيِّكم وضلالكم، وتحملكم عداوتي على مخالفة ربّكم، فيصيبكم مثل ما أصابَ الّذين من قبلكم: فهؤلاء قومُ نوحٍ- كما تواترت عنهم الأنباء والأخبارُ- قد أخذهم الطوفانُ فأصبحوا غرقى.. وقومُ هودٍ، وقد أرسلَ الله عليهم الرّيح العقيم فأصبحوا في ديارهم جاثمين.. وقوم صالحٍ، زلزل الله الأرض بهم، فأصبحوا أثراً بعد عين.. وما لي أذهبُ بعيداً في التّاريخ السحيق.. فهؤلاء قوم لوطٍ، أقربُ الأمم إليكم داراً ومكاناً، وأحدثهم بكم عهداً وزماناً، وقد جعل الله عالي أرضهم سافلها، فلا تُرى لهم أوطانٌ!.. ويتدخَّلُ في الحوار بعضُ الفتيان، وقد بانت سواعدُ لهم مفتولة.. {قالوا: ياشيعبُ مانفقهُ كثيراً ممّا تقول، وإنّا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز} وينتفضُ شعيب في وجوه هؤلاء الفتيان الحَمقى.. لقد انقطعت حجَّة الشيوخ المحنَّكين، فقطع هؤلاء الأغرار. الجهّالُ بعنجهيّتهم، وغرورهم نقاشاً مفيداً، وحواراً يوضح الحقائق، ويجلو الشُّبُهات.. - ويحكم.. أعشيرتي وقومي، أعظمُ حرمةً لديكم من الله الذي {اتَّخذتموه وراءكم ظهريَّا}؟ أو لأجل عشيرتي تمتنعون عن أذاي؟ فهلاَّ كان ذلك ابتعاءَ وجه الله؟ فانتظروا أمر الله، {وارتقبوا إني معكُم رقيبٌ}. [قال علي بن موسى الرضا(عليه السلام): "ماأحسن الصبر وانتظار الفرج!.. أما سمعتَ قولَ العبدِ الصالح: "وارتقبوا إني معكم رقيب"؟] وتعلو أصوات كالهدير: - {قالوا إنّما أنت من المسحّرين. وما أنت إلاّ بشرٌ مثلنا وإن نظنُّك لمن الكاذبين. فأسقط علينا كسفاً من السّماءِ إن كنتَ من الصّادقين} {قال ربّي أعلمُ بما تعملون}. وهكذا لم تغن بلاغةُ شعيب، وفصاحةُ منطقِه، وبيانُ حُجَّتِهِ، عنهُ، شيئاً!.. فقد انتهى وقومّهُ إلى ما ابتدأوا به من حوار.. فكلٌّ على موقفه ثابت لايتزحزحُ عنه قيد أنملة.. وليت الأمرَ توقف عند هذا الحد.. وليتَ السِّتارَ أُسدل على هذا المشهد!.. شعيب يُخرجه قومه لقد تأكّد لقوم شعيب مايمثّله عليهم نبيُّهم المرسَلُ إليهم، من خطرٍ.. فدعوته تقلبُ في حياتهم الموازين والمقاييس كلّها!.. يضافُ إلى ذلك، نفرٌ من بينهم، مالوا إلى شعيبَ، مؤمنين برسالته، مصدِّقين دعوتَه فأحاطوا به، ونصروه، ومنعوه.. والأدهى من ذلك مايمكنُ إن يستميلَ شعيبُ من أناسٍ، فيتعاظمُ شأنُهم، فيما بعدُ، ويتفاقَمُ خَطرُهم،.. وفي ذلك زوالُ سلطانِهم وجبروتِهم، واستكبارهم في الأرض، بغير الحقِّ!.. فليضايقوه، والّذين معه، إذاّ ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً... - {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنُخرجنَّك يا شعيبُ والّذين آمنوا معك من قريتِنا أو لتَعودُنَّ في ملَّتنا} إنّه الأسلوب الذي يلجأ الكافرون إليه دائماً عندما ينهزمون أمام نور الحقِّ، ودعوة الإيمان.. القوّةُ!.. القوَّةُ!.. فالقوهُ معقِلُهم الأخيرُ، ونهايةُ المطاف، عندما يبطل عمل العقل، وتبيان المنطق، والحجّة المشرقة، على الحوار السليم!.. وهكذا، فالحلُّ كما ارتآه قومُ شعيب، أحّدُ اثنين: - إمّا أن يخرج شعيبٌ من بين أظهرهم، فيستريحون من هذا الدَّاعية الذي لايَفترُ له لسانٌ، ولاينقطعُ له برهان.. - وإمّا أن يعود شعيب، والذين آمنوا، معه، في ملّتهم، ودين آبائهم وأجدادهم... ولكن، هيهات.. هيهات... فهم يعلمون جيداً بأن شعيباً لايمكن له أن يعود إلى حظيرة الكفر، بعد أن أُترع قلبُه إيماناً، وبصيرتُهُ نوراً.. فمتى كان الّذي يحيا في لُجج الضياء يرضى بالانقلاب إلى غياهب الظّلماء؟.. - أتُكرهوننا على العودة إلى ماأنتم في حمأته، من زور وضلال، وبهتانٍ وكفرانٍ؟.. فمتى كان أنبياءُ الله، ورسلُه، ينصاعون لمطالب السُّفهاء الفاسقين، والعُتاة المتجبِّرين؟ أو سمعتم بنبيٍّ أرسله الله إلى قومه مبشراً ونذيراً، ثم انكفأ، مُنقلباً على عقبيه، نابذاً رسالة السَّماء، متنكراً لما أوحى الله تعالى به، إليه؟.. - ياشعيب، لقد جادلْتَنا فأطَلتَ جدالنا، ومالك علينا من سبيلٍ.. فاختر أحد ما عرضناه عليك، ولاتطلبنّ منا سواهما شيئاً: فإما أن تخرج، ومن اتّبعك، من قريتنا، أو أن تبقى بيننا، على ملّة آباءٍ لنا وأجدادٍ..، وبذلكَ نحافظ على وحدةِ كلمتِنا، ولمِّ شعثِنا، بعد أن فرَّقتَ جماعتَنا، وبلبَلْتَ مُجتمعَنا، بما بثَثْتَ فيه من آراء فاسدة، وفكر غريب!.. - ياقوم، اتّقوا الله، ولاتأخذكم العزَّة بالإثم، والإصرار على الضَّلال.. ولايكن ضعفي، وقلَّةُ أنصاري سبباً لتجبُّركم، وبغيكم، واجتماعكم على باطلكم.. إنّ الرسول لايفتري على الله كذباً، بعد أن نجّاه الله، خاصة، من مهاوي الضَّلال، ومزالق الفساد، والغيِّ الأثيم!.. - ياشعيبُ، إنّك لتقول ذلك، على ما أنتَ فيهِ من ضعفٍ، وقلّة حيلةٍ، وأنصارٍ،.. فكيف يكون شأنُك لو كنت فينا عزيزاً مُهاباً، مُؤيّداً، منصوراً؟.. {وإنّا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز. قال ياقوم أرَهطي أعَزُّ عليكم من الله واتّخذتموه وراءكم ظهريَّاً إنّ ربّي بما تعملون محيطٌ} ويتابعُ شعيب: أو ماكان الأجدر بكم أن تراقبوا الله في ما تعملون وما تقولون؟ فلله العزة جميعاً.. وله الكبرياءُ في السَّموات والأرض،.. ولكنّكم قومٌ لاتفقهون!.. وينفضُّ المجلسُ عن شعيبَ ومن اتَّبعه، وهم قليل... وأهل مدينَ الّذين جمعوا كيدّهم، وأتوا به شعيباً... وأتمروا فيما بينهم: ما العملُ حتى يخرجَ شعيبُ من بيننا، بهدوء...؟.. قالوا: ضيّقوا عليه، وحولوا بينه وبين قاصديه من أنصار وأتباع، واقطعوا عليهم كلّ سبيلٍ!.. وهكذا ضيّقوا على شعيبٍ كلَّ مجالٍ، وأخافوا أنصاره، وتهدّدوا أتباعه، فلم يثبت على الحقِّ، منهم، إلاّ القلّةُ، ممّن امتحنَ الله قلوبهم للإيمان، فصبروا، وقاوموا باصرار المستميت، فلم يهنوا، ولم يتخاذلوا.. وهم يقولون: حسبُنا الله، هو مولانا، نعم المولى، ونعم النَّصير!.. ورأى شعيبُ أنَّ من واجبِه أن ينهى قومه عمّا أزمعوا عليه من كيدٍ وأذىً، معذرة إلى الله، لعلّهم ينتهون... فوقف فيهم- كعادته- خطيباً، فليس بعد اليوم لمعتذرٍ عذرٌ: - ياقوم.. لاتغرَّنّكم كثرة عددكم، فإنّها لن تغني عنكم من الله شيئاً... وتفرُّقَ الناسِ عني، فالنَّاسُ أعداءُ ما جهلوا.. ولاتصرُّوا على ماأنتم عليه من اعوِجاجٍ، تبغون إفسادَ من أراد الله إصلاحه، فتحولوا بيني وبين المؤمنين، وتقطعوا عليهم الطريق إلى الله،... تبغون السبيل عوجاً عن الحقِّ، وزيغاً عن الهدى،.. فلا تستقيمون.. ولاتدعون لغيركم أن يختار لنفسه أن يستقيم!.. فاتّقوا الله، ولاتصُدُّوا عن سبيله من آمن... واعلموا أن كيد الله متينٌ، وأخذه شديدٌ... فهو الذي أهلك من قبلكم، وكانوا أشدَّ منكم قوةً، وأكثر أموالاً، وأطول آجالاً.. فهل أنتم منتهون؟.. وانهالَ قومُ شعيبٍ على نبيِّهم تكذيباً.. وهبُّوا في وجهه يسفِّهون رأيه، وينعتونه بكل إفك وبهتانٍ.. فانصرف عنهم وهو يقول: - { على الله توكّلنا، ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقِّ وأنت خيرُ الفاتحين} ونفض نبيُّ الله شعيب، كلتا يديه، من إصلاح هؤلاء القوم الفاسقين، الّذين ركبوا هواهم، فكان أمرُهم شططاً.. ودعا عليهم بالعذاب الأليم، بعد أن كذَّبوا بآيات الله، واستحلّوا ماحرّم الله، وصدّوا عن سبيله، وقد زيّن الشيطان لهم أعمالهم، فتنكبُوا عن السبيل الأقوم والتمسوا لأنفسهم الزّيغ، واستحبُّوا العمى على الهدى!. وأوحى الله تعالى إلى نبيِّه، أن قد سمع الله دعاءك.. فاخرُج بمن اتّبعك من ديار الفاسقين، إنّه آتيهم غداً، عذابٌ غيرُ مردود!.. وخرجَ شعيبُ والذين آمنوا، معه،.. وخُيِّلَ للقوم المفسدين بأن شعيباً اختارَ لنفسه السَّلامة، فأزمعَ على الهجرةِ بمن اتَّبعه، وظنوا - واهمين- بأنهم قد استراحوا، وإلى الأبد، من هذا الدّاعية الملحاح، والخطيب المفوَّه الّذي لايُشقُّ له في مضمار البلاغة، غبارٌ... فتنفّسوا الصُّعداء!.. العـــذاب وماهي إلاّ ليلة حتى دهمهم العذابُ.. فابتلاهم الله بالحرِّ الشديد، فكادت تزهق منه أنفاسهم.. فدخلوا، يُهرعون، إلى أجواف بيوتهم، وسراديبِ منازلهم، فلاحقهم الحرُّ إلى بيوتهم، والسّراديب.. وظمئوا ظمأً شديداً... فخرجوا إلى ظلال الأشجار، وضفاف الأنهار.. فلم يمنعهم الحرّ ظلٌّ وارفٌ.. ولم يرو ظمأهم ماءٌ دافقٌ.. فللشمس أشعّة كسهامٍ من لهب.. وكأنّها فوق رؤوسهم قدرُ باع.. فيتململون تململاً شديداً ويضطربون كلَّ اضطرابٍ، فأينَ المفرّ؟.. وقد برَّحت بهم الرمضاءُ تبريحاً.. ويذكرون نبيَّهم شعيباً،.. ويستعيدون صورته، وصوتَه، بينهم خطيباً مرشداً،.. فها قد أتاهم، من العذاب، ماكانوا به يستهزئون!. فيندمون، ولات ساعة مندم!.. ويطلبون شعيباً، لعلَّه ينجّيهم مما هم فيه من تعذيب.. فلا يقعون له على أثر.. ويهرولون مذعورين في كلّ اتجاه.. يطلبون لأنفسهم النّجاة.. فكأنّ السّماء تصبُّ فوقَ رؤوسهم حِمَماً، أو ترجمهم بشواظٍ من نارٍ، وسعيرٍ ليشوي جلودَهم، والوجوه... وبينما هم كذلك، في العذاب، لايستقرّون،.. وإذا بسحابةٍ بعثها الله إليهم، فيها ريح طيِّبة،.. وقد أخذت تنبسطُ في الجوِّ، وتمتدُّ طولاً وعرضاً.. فوجدوا فيها ضالّتهم المنشودة، فلعلّها تنجّيهم ممّا وقع بهم.. وتنادُوا فيما بينهم: هلمُّوا إلى البرَّيَّة، حيث السَّحابة، فاستفيئوا ظلّها.. فتداعوا إلى ظل الغمامة، لاهثين، من كلّ صوبٍ يُهرعون.. ولمّا اجتمع شملُهم في البرِّيَّة،.. وتكاملَ عددُهم تحت الغمامة،.. الهبّها الله عليهم ناراً.. وأتتهم صيحةٌ من السَّماء انخلعت لها أفئدتهُم.. وزُلزلت الأرض تحت أقدامهم زلزالاً عظيماً.. فأصبحوا على وجه الثرى خامدين!.. وكان شعيبُ والّذين آمنوا معه، يشاهدون ماحلَّ بقومهم، من بعيد.. فحمدوا الله، إذ لم يكونوا معهم، في العذاب، مشتركين!. وعاد شعيب، إلى قومه، بعد حين، مثقلاً بالحزن المبرّح، والأسى المُمضِّ، الشديد،.. فإذا بهم صرعى، خامدون!.. {فتولِّى عنهم، وقال: ياقومِ لقد أبلغتُكُم رسالات ربّي، ونصحتُ لكم فكيف آسى على قومٍ كافرين} صدق الله العلي العظيم |
#7
|
||||
|
||||
![]()
النبيان: يحيى البكّاء وزكريا الكفيل (عليهما السلام)
إنه زكريّا، كبيرُ أحبار بني إسرائيل، وأحدُ أنبيائهم العظام... يرجعُ نَسَبهُ إلى هرون، أخي موسى بن عمران. فهو، إذاً، من دوحة نبوّاتٍ، وسلالة رسالات.. كان الهيكلُ يستأثر بجُلِّ اهتمامه، حيث يقضي فيه سحابةَ نهاره، واعظاً، مرشداً داعياً إلى الله، آمراً بالمعروف وناهياص؟ عن المنكر، مفصِّلاً لقومه آيَ التوراة، شارحاً لهم ماخفيَ منها، مبيِّنا ما دقَّ من مسائلها.. ثمّ ينصرفُ عنهم، إلى الله، يتعبَّده، ويتبتَّلُ إليه تبتيلاً!.. وكان يعود، عندما يتصرَّم النَّهارُ، إلى بيته، حيث زوجُه العجوزُ، يقضي فيه ليله، حتّى يأذن اللهُ له بصباحٍ جديدٍ!... ومازال على هذا النّهج حتّى خارت قواه، واضمحلَّت همّتهُ، فأضحى شيخاً عجوزاً، فانياً.. وكان قد بنى في الهيكل الّذي لايُبارحه إلا لماماً(أي: قليلاً)، غرفةً لمريم، هذه الفتاة القدِّيسة، الربَّانيّة، التي بذّت كبار الأحبار في تبتُّلها، وتعبُّدها، وتسُّكها... وكان زكريَّا، وحده يصعد إلى غرفتِها بِسُلَّمٍ.. فهو المشرفُ على شؤون هذه الفتاة الّتي كانت تصومُ النّهار، وتقومُ اللّيل، وتعبد الله، عبادةً، ينقطع دونها الأحبارُ الربّانيّون، ولمّا تتجاوز من سنيها التِّسعُ سنواتٍ!.. وكان زكريّا راضياً عن هذا كلّه تمام الرضا، طيِّب النَّفس به، مثلوج الفؤاد، فالإشرافُ على هذه الفتاة المبكّرةِ النموِّ، في مأكلٍ لها، ومشربٍ، جزءٌ من العبادة، والتقرُّب إلى الله بخالص الأعمال!.. وإنّ زكريّا ليعلمُ حقَّ العلم بأنَّ الله تعالى، جلَّت قدرتُه، وعَظُمت مشيئتُه، شاء أن يكون هو لاغيره، لمريم كفيلاً.. أو لم يأتِكم حديثُ كفالةِ زكريَّا مريم؟.. في صباح يومٍ، دخلت الهيكلَ امرأةٌ متَّشحةٌ بالسّواد، بسكينةٍ ووقارٍ، وفي حضنها طفلةٌ رضيعةٌ ملفوفةٌ بخرقةٍ... واتّجهت إلى أحبار الهيكل، - وكان بينهم زكريَّا-، وقائلةً لهم: - دونكم النَّذيرة!.. إنّها حنَّة، زوجُ عمران، رأسِ الأحبارِ في زمانه، والكهَّانِ!.. وكان لعمران في قلوب عارفيه جميعاً، منزلةٌ عظيمةٌ، وشأنٌ رفيعٌ، لما آتاه الله تعالى من فضلٍ، وحباهُ من كرامةٍ، وأودع صدرَه من دين.. وكانت حنّة قد نذرت، في حملها، إن آتاها الله ولداً ذكراً ،أن تودعه الهيكل، يقومُ على شؤونه، وخدمةِ الأحبار فيه، والرُّهبانِ، تقرُّباً إلى الله تعالى، واحتِساباً.. فوضعت مريمَ... وهاي هي ذي زوج عمران تتعجَّلُ الوفاء بنذرها، على حياءٍ، ولكم تمّنَّت حنه ان يؤتيها الله ولداً ذكراً، يكونُ به تمامُ نذرها،.. وشاء الله أن تكون أنثى.. {وليسَ الذَّكرُ كالأنثى}.. فليس لها - والحالة هذه- إلاّ أن تقدِّمُ مريمَ الرَّضيعةَ إلى الهيكل، لتستنشق، منذ نعومةِ أظفارِها، هواء رحابهِ العابقةِ بأريج السَّماء... ففي هذا الهيكل القدسيّ، ستقضي الفتاةُ الطريَّةُ العودِ، النديَّةُ البراعم، من عمرِها المباركِ، ماشاء الله لها ذلك!... وتنافس الكهَّان كلٌ يبغي أن يضم إليه مريم... أو ليست هذه الرَّضيعةُ بنت عمران الذي كان لهم إماماً، وكان بينهم صاحب القربان؟ وانبرى زكريَّا قائلاً: - أنا أحقُّ بها لأن خالتَها عندي... فقد كانت اليصابات زوجُ زكريَّا أختَ حنَّة زوجِ عمران.. ورفع الأحبارُ أيديهم عن كفالةِ مريم... فزكريَّا أحقُّ الناسِ أن يتكفَّلَها، من دونهم، أجمعين!.. والتفت الى زكريَّا حبر كهل، تقوَّس ظهره، واحدودبَ، كالقوس المشدود، وارتخت جفونه على عينيه حتى أطبقتهما، فلا يستطيع فتحهما إلاَّ بعناءٍ، وقال لزكريا: - يازكريا، لو تُركَتْ مريمُ لأحقِّ النَّاسِ بها. لكانت من نصيب أُمّها الّتي ولدتها.. وصاح الأحبار والرهبان: - وأيْمَ الله، أنَّه لحقٌّ ماتقول.. فأمّها أحقُّ الناس، إن شاءت، بتربيتها، وتنشِئتها.. وفُتَّ في عضد زكريَّا. (كنايةً عن التراجع مغلوباً). فأيّهم يكفلُ مريم؟.. وضربوا أخماساً بأسداسٍ... وفكَّروا ملياً.. وقال الشيخ المرتعش الأطراف: ولكن، نَقتَرعُ عليها، فتكونُ عند من خرجَ سهمهُ... وانطلقوا، وكانوا تسعةً وعشرين، إلى النهر- ولعلَّه نهرُ الأردنِّ- ليُلقوا فيه أقلامهم... فأيُّهم طفا قلمهُ، يكون لمريمُ كفيلاً!... وألقوا في الماء أقلامهم... فحملت المياه بعضاً، وأغرقت بعضاً... وتقدَّم زكريا، بقلمه، وألقاه في النهر، وهو يذكر الله... فطفا قلمه، واستقرَّ على صفحةِ الماء، ثابتاً، كأنه عالقٌ في الطين.. فهتفوا بصوتٍ واحد: أنت كفيلُ مريمُ يازكريَّا.. بارك الله عليك، هذه الكفالة الطيِّبة، والمكفولة الطاهرة، معاً!... فضمَّ زكريَّا مريم إلى نفسه، وإلى خالتِها اليصابات... وتعهَّداها خير ما يتعهَّدُ أبوان، ولداً،... حتى انتهى بها الأمرُ، إلى اعتكافِها في غرفةٍ مفردةٍ، في الهيكل، وكان يقوم على أمُورِها كلِّها، زكريَّا!.. آية معجزة زكريَّا يدلُفُ (أي: يدخل) إلى غرفة مريم، كعادَتِهِ، وبين يديه شئٌ من طعامٍ وبعضُ ماء... ويَدخلُ عليها، بعد استئذان... فيجدها في محرابها تصلِّي.. ويضع إلى جانبها رزقَها لِيومها هذا. ويهمُّ الإنصراف... ولشدِّ ما كانت دهشتُه عندما وجد إلى جانبها الآخر طعاماً طيِّباً، وفاكهة شتاء والوقت صيفٌ قائظٌ... ولايُلقي زكريَّا إلى ذلك، كبيرَ بال... ويتكرَّرُ المشهدُ أمام زكريَّا في ما تعاقب من أيَّام وشهور.. وتتبدَّلُ أمامَ ناظريه، الفاكهةُ، وقد تقدَّم من عمر الزمان فصلٌ... فالفاكهةُ اليومُ فاكهةُ صيف، والأيام تُرعدُ برداً، وتجتاحُها عواصف أمطارٍ، هوجٌ.. إنّ رزق مريم ماله من نفاد... والفاكهة لاتنقطع من حجرتها، تأتيها في غير مواسمها.. فمن أين لها كلُ هذا الرِّزق الطيب، والفاكهةِ النضِرةِ، الريَّانة؟... ويسأل زكريَّا مريم: {قال: أنّى لكِ هذا يامريم؟}. - {قالت: هوَ من عند الله}. أستيقظُ ياعمُّ، في الصباح، بعد تهجُّدٍ، وتعبُّدٍ، ونومٍ يسيرٍ، فأرى طعامي أمامي، فآكلُ منه نصيباً... وأعود لعبادة ربي، أصوم له نهاري، واستغرقُ في تنسُّكي، وتَّبتُّلي، وأنظر، وقد غربت الشّمس،.. وإذا بطعامي يُبسَطُ أمامي، عشيِّاً، فآكل منه، ماشاء الله لي أن آكُلَ... ولم أطلب من أحدٍ طعاماً... ولم أدعُ ربي أن يرزقني منه، ولكنّه أكرمني برزق منه وفير، وخيرٍ كثيرٍ!... وما أراه إلاّ من طعام الجنَّة، ويانع ثمارها... ويحملق زكريَّا، في وجهِ مريم، مدهوشاً لما يسمع... وتتابع مريم: إني اراكَ، ياعمُّ، تعجبُ من قولي، ألم تعلم بأنَّ الله يرزقُ من يشاءُ بغير حسابٍ؟ ويهزُّ زكريَّا برأسه، متمتماً: بلى!... ويُلقى في روعه بأنّه أمام قدّيسةٍ، جسدها على الأرض، يتحرك أمّا روحها فتجوب أعالي السماء... وإنّ لها لشأناًعند الله، عظيماً.. زكريَّا يدعو ربَّه ويشطحُ الخيالُ بزكريا... فالله قد رزق مريم. من الغيب، طعاماً لذيذاً طيِّباً،.. وفاكهةً يانعةً، شتّى،... وشراباً عذباً سلسبيلاً،.. وما كان رزقهُ إيَّاها، ذلك كلَّه، إلاّ آيةً من آياته البيِّنات، ومعجزةً من معجزاتهِ، الظَّاهرات!... وتحدِّثه نفسه، فيصرفها عمّا ليس لها، ولكن حديث نفسه كان يملأ أحناءه كالصُّراخ. - لو أن الله تعالى حباني (أي منحني) منه آيةً. وآتاني من لدنه معجزةً، تُدخلان على قلبي الفرحَ، وتعيدان إلى نفسي إشراقهُ الأمل، وبسمةَ الرَّجاء، فيرزقني غلاماً زكيَّاً، يملأ عليَّ حياتي الخاويةَ، إلاّ من الإيمان، ويحفظ الله به النبوَّة، وآثارها، من بعدي.. آيةٌ بآيةٍ!...وأعجوبةٌ بأعجوبةٍ..</B> أو ما قالت مريم آنفاً: إن الله يرزق من يشاءُ بغير حساب!... وهكذا أنارت مريمُ في قلب زكريَّا جانباً كانت تلفُّه الظَّلماء... وأثارت في نفس هذا النبيِّ الكريم، حنيناً وشوقاً إلى ولدٍ، يخلُفُه، ويرثُه، ويتابعُ سيرتَه، يرثُ الكتاب، فتُحفظ في عقب زكريا النبوةُ والكتاب وبقيَّةٌ من آثار أنبياء بني إسرائيل،... وما أكثر الأنبياء في بني إسرائيل؟... عند ذلك، توجَّه زكريا إلى محرابه، للإعتكاف فيه، والتنسُّك، وعبادة ربّه والإفضاء اليه، في هذا المسجد الطَّهور، بما يجيشُ في حناياه من خواطر، وما تضطرب به نفسه من مشاعر... خاصةً وأن لزكريَّا أولاد عمٍّ، كانوا من شرار بني أسرائيل،... وهم، دون غيرهم، المؤهّلون لوراثة مايخلفه زكريا من مال، ومن آثار نبوَّةٍ عريقةٍ، تجمّعت في آل يعقوب، فتوارثوها نبيّا عن نبيِّ، ووصيّاً عن وصيٍّ، ووليَّاً عن وليٍّ!... فدعا ربه بصوتٍ خافت متهدِّج، ولسان متلجج، وجنان مضطرب: -{ربِّ لاتذرُني فرداً وأنتَ خيرُ الوارثين}. فأوحى الله تعالى بصوت جبريل. أو رهطٍ من الملائكة: - {يازكريّا إنّا نُبشِّرُكَ بغُلامٍ اسمُه يحيى لم نجعل له من قبلُ سميّاً}. وكان عمرُ زكريَّا اذ ذاك فوق التِّسعين. ويذهبُ عبد الله بن عباس إلى أنّ زكريَّا كان يومٍ بُشّر بيحيى إبن مائةِ وعشرين سنةٍ وكانت امرأتُه بنتَ ثمان وتسعين سنةً. وينتصبُ شعرُ زكريّا، وقد اشتعل شيباً، وتلألأ بياضاً... فيا للبشارة تزُفُّها إليه الملائكة، وهو قائم يصلِّي، في المحراب!.. {قال ربّ أنى يكون لي غُلامٌ وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغتُ من الكبر عتيّاً}. ويأتيه النداء، وكأنه يدعوه لمزيدٍ من التأدُّب أمام أمرِ الله، والتسليم لمشيئته تعالى: {قال كذلك قال ربُّك هو عليَّ هيِّن وقد خلقتُك من قبلُ ولم تكُ شيّئاً}. ويهد قلب زكريّا، بعد اضطراب، ووجيف، وقد رانت عليه رهبة الله، فامتلأ خشوعاً، وطفح يقيناً... ألم يبشر الله نبيّه إبراهيم من قبله بإسحق ولداً، ومن وراء إسحق يعقوب، حفيداً؟.. فلا عجب، إذاً، أن يبشّرَه اللهُ بغلامٍ تبتسم به كهولتُه المضناةُ... وتطيب به زوجُهُ، اليصابات اليائسةُ، نفساً!... فلله في خلقه شؤون!.. {إنّما أمرُهُ إذا أراد شيئاً أن يقولَ لهُ: كن!... فيكون!..}. ويطلب زكريَّا من ربِّه آيةً تطمئنُّ إليها نفسه، ويصدّقه، بها، قومُه.. {قال: آيتُك ألاّ تُكلّم النّاس ثلاث ليالٍ سويّا...}. عند ذلك شعر زكريّا بالبرد يدبُّ في قلبه، فيملأه اطمئناناً، ونوراً يشعشع في أحنائه كلّها.. فسجد لله شاكراً!.. ثمّ خرج زكريّا على قومه، من المحراب، يحمل إليهم بُشرى السماء... وأراد أن يخاطبَهم، فما استطاع أن يحرِّك لسانه، أو أن ينبس ببنت شفةٍ، لقد أخذت المعجزة طريقِها إلى التنفيذ!.. فاعتُقل لسانه، كما أوحى الله إليه بذلك، منذ لحظاتٍ قِصارٍ، إنه ليس خرَساً، ولكن حصرَ لسانٍ وعجزاً عن الكلام.. وخاطب زكريّا قومه بالإشارة والرّمز، أن إدأبوا على ذكر الله، وتمجيده، وتسبيحه، وتقديسه، بُكرةً، وعشِيّاً!.. وأدرك قومه جليَّة الأمر،... فهذه معجزةً أُخرى، تُضافُ إلى المعجزات الكُثُر، الّتي تمّت على أيدي أنبياء بني إسرائيل!.. وزيادةً في الإعجاز، فقد كان زكريَّا يقرأ الزبور، ويرتِّل التوراة، ويسبِّح الله، ويقدِّسه، بطلاقة لسان.. مكالمةُ الناس وحدَها كانت محظورةً على لسانه. فكان يشير إليهم بيديه ويُومئ إليهم برأسِه، من بعيد... وظلَّ على ماكان عليه، يؤمُّ قومه في صلواتهم، في العشيِّ والإبكار... وظل لسانُه محصوراً، لايستطيع أن يكلِّم أحداً ثلاثة أيَّام متتالياتٍ... فلا يَفُكُّ له عقالٌ إلاّ عندما يتوجَّه إلى ربِّه في صلاةٍ، أو دعاءٍ ومناجاةٍ... وبعد خمسِ سنين من بشارة زكريَّا، ولِدَ يحيى... وهكذا أنعم الله على نبيِّه زكريَّا بهذا الغلامِ النَّجيب، وحباه هذا الأسم الذي لم يكن لأحدٍ من قبله... [عن الصادق عليه السلام: وكذلك الحسينُ لم يكن له من قبلُ سميُّ.. ولم تبك السَّماء إلا عليهما، أربعين صباحاً.. قيل له: وما كان بكاؤها؟... يحيى خذ الكتاب بقوّةٍ وآتيناه الحكم صبياً وحناناً من لدنّا وزكاةً وكان تقياً وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً}. ويروى أنه مرّ بصبيان يلعبون، فدعوه ليلعب معهم، فقال لهم ماللّعب خلقت. كذلك يروي عن يحيى عليه السلام أنه أتى ذات يوم إلى بيت المقدس، فرأى جماعة من العبّاد وقد لبسوا مدارع الشعر وبرانس الصوف، وهم يتعبدون ربهم، فعاد إلى أمه وطلب منها أن تنسج له مدرعة من شعر وبرنساً من صوف، حتى يعبد الله كما يعبد، أولئك الذين رآهم في بيت المقدس، فاستأذنت أمه أباه زكريا(ع) فاستدعاه وسأله لماذا تريد مدرعة الشعر وبرنس الصوف، وأنت ما زلت صبياً صغيراً؟ فأجابه بقوله: ياأبت، أما رأيت من هو أصغر مني سناً وقد مات وذاق مرارة الموت؟ عندها أذن زكريا(ع) لأمّ يحيى أن تصنع له ماطلب، فقامت بنسج المدرعة والبرنس. وتدرع يحيى(ع) المدرعة ووضع البرنس على رأسه وتوجّه إلى بيت المقدس وراح يعبد الله مع العابدين، وظلَّ كذلك حتى أكلت المدرعة لحم بدنه، فنظر يوماً إلى جسمه الناحل، فبكى، فأوحى الله تعالى إليه أن يايحيى أتبكي من نحول جسمك، وعزّتي وجلالي لو ألقيت نظرة واحدة إلى النار للَبِستَ مدرعة من الحديد لامن الشعر، فازداد بكاء يحيى(ع) حتى أنّ الدموع حفرت في خديه مجاري وبانت أضراسه للناظرين. وعرفت أُمّ يحيى بما جرى عليه، فجاءت إليه، وكذلك زكريا(ع) والأحبار والرهبان، وراحوا يطلبون منه أ، يخفف من عبادته ويرحم نفسه، وقال له والده زكريا(ع): يابني لماذا فعلت هذا بنفسك وأنا إنما دعوت ربي أن يهبني إياك لتقرّ بك عيني وترثني؟ فقال يحيى(ع) أما أمرتني أنت بذلك ياأبت يوم قلت لي: إنّ بين الجنة والنار لعقبة لايجتازها إلا البكّاؤون من خشية الله. سكت زكريا(ع) ثم قام وقال له: إذا كان كذلك فجِد واجتهِد وشأنك وماتفعله، فقامت أم يحيى وصنعت لابنها ماينشف دموعه ويستر أضراسه. وكيف لايفعل يحيى(ع) ذلك، وقد تعطّف الله تعالى عليه، وتلطّف به، وآتاه النبوة وهو ابن ثلاث سنين، فكان للناس آية، شأنه في ذلك شأن ابن خالته المسيح ابن مريم(ع) وقد ولد وإيّاه في عام واحد، وإن كان يحيى يكبر عيسى بستة أشهر. اليهود يقتلون زكريا(ع) ويحكى أنّ زكريا(ع) وكان يكفل مريم، قد اتهم من قِبَل السفلة بأنه وراء حمل مريم(ع)، فلما بان حملها تمكّن هذا الإتهام وثبت في نفوسهم، وأشاعوا بين الناس، أنّه لايعقل أن تحمل امرأة دون زواج من رجل، فاضطرّ زكريا(ع) إلى الخروج من القدس، وراح السفلة من اليهود يلاحقونه، والشيطان يزيِّن لهم ذلك. وعمّت الفوضى، وتفاقم الشر بعد خروج زكريّا(ع) من المدينة المقدسة، وشاعت الفاحشة بحق زكريا(ع) فلحقه شرار اليهود يريدون قتله. ويُروى أنه(ع) هرب منهم، حتى إذا وصل إلى وادٍ رأى شجرة فقصدها ليختبئ فيها، فانفجرت له من جذعها فدخل في جوفها ثم عادت كما كانت، فتحيّر اليهود ولم يعرفوا مكانه، حتى جاءهم إبليس اللعين بصورة واحدٍ منهم ودلّهم على مكانه، وأمرهم أن ينشروا الشجرة بالمناشير، وهكذا كان، فنشروها حتى قطعوها وقطعوا معها زكريا(ع) من وسطه، ثم تركوه وقفلوا راجعين، فبعث الله سبحانه ملائكة غسّلوا زكريا(ع) وصلّوا عليه ثلاثة أيام حتى إذا جاء خيار بني إسرائيل أخذوه ودفنوه -سلام الله عليه- فكان على رأس الأنبياء الشهداء الذين قتلهم اليهود بغير حق. يحيى(ع) يرث زكريا كان مقتل زكريا(ع) من أشد المحن وأقساها على قلب نبي الله يحيى(ع) فعظم الأمر عليه، خصوصاً وأنّ أباه ناله ما ناله من السفهاء، بتلك التهمة المنزّه عنها يقيناً. وقام بالأمر بعد أبيه، فكان يخطب الناس معلناً أنّ مايصيب الصالحين من المِحَن والرزايا، إنّما يكون من جانب السفهاء والفسقة الذين لادين لهم ولايقين ولاورع، ثمّ يبشرهم بقيام المسيح عيسى ابن مريم(ع) من بعده ويعدهم الفرج على يديه. ويروي أنّ يحيى(ع) كان بارعاً من الشريعة الموسوية، وكان مرجعاً معروفاً يرجع إليه كل من أراد أن يستفتي في أحكام تلك الشريعة، خصوصاص وأنه نُبِّئَ وهو صبي صغير، فراح يدعو الناس إلى عبادة الله وتوحيده والتوبة من ذنوبهم وخطيئاتهم، ويأمرهم بالإغتسال في نهر الأردن قبل التوبة، فكان (ع) ظاهر الزهد والنسك منذ الصبا، على أكمل أوصاف الصلاح والورع متعلقاً بالعبادة كما ذكرنا. وقد ورد عن الإمام الرضا(ع) أنه قال: إنّ أوحش مايكون على هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيخرج من بطن أمه فيرى الدنيا، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها،ويوم يُبعَثُ (للحساب) فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا، وقد سلّم الله عزّوجل على يحيى (ع) في هذه المواضع الثلاثة وآمن روعته، فقال عزّ من قائل: {وسلامٌ عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعثُ حيّا}. لقد كان يحيى(ع) كعيسى ابن خالته آية من آيات الله البينات ومعجزة من معجزاته الباهرات، وهبه لأبيه زكريا ليرثه، بعد أن خاف زكريا(ع) الموالي أن يغيّروا ويبدّلوا في دين الله، وهبه إياه على كبر، وبعد أن غزا الشيب مفرقه، ويئست زوجته من اإنجاب، وفي وقت لايعقل فيه أن ينجب زكريا أو امرأته، تماماً كما وهب سبحانه عيسى لمريم(ع) بطريقة لايعقلها الناس العاديون. ثورة يحيى على هيرودوس وهيروديا في زمن يحيى(ع) كان هيرودوس حاكماً على فلسطين، من قبل قيصر بيزنطية... وكان فاجراً فاسقاً دنيئاً زانياً، حيث كانت إحدى بغايا بني إسرائيل تأتيه دائماً فيرتكبا الزنى المحرم... وكبرت تلك البغي وأصبحت عجوزاً شمطاء، فلم يعد هيرودوس يرغب بها، وكانت لها إبنة رائعة الجمال، فابتغاها هيرودوس زوجة له.. وعلم يحيى(ع) بالأمر، فأنكر ذلك عليه وعلى ابنة البغي، فثار وراح يحرّض الناس ويؤلبهم على هيرودوس، جاهراً بالحق، صادعاً بالصدق، فلا يجوز لهيرودوس أن يتزوج من فتاة كانت أمها تحته، وإن في علاقة غير مشروعة. وشاع أمر يحيى(ع) بين الناس وذاع.. وماكان نبي الله إلاّ مجاهراً برأيه على رؤوس الأشهاد، وفي كل محفل وناد، لأنّ الدين لايبيح ذلك ولايسمح به، إضافة إلى أنّ العقلاء يستنكرون ذلك وأنفس الشرفاء تمجه، وتعافه أذواق الصلحاء.. وهكذا وصل رأي يحيى إلى كل مكان.. إلى محاريب العباد والعلماء، وإلى أماكن الفجور والفسق، حيث الفجار والفسقة... وعرفت تلك البغي بأمر يحيى ورأيه، فغضبت وحقدت عليه، وراحت تمكر به، وإن مكرهن لعظيم.. لقد خافت أن يغير هيرودوس رأيه، متأثراً بموقف يحيى(ع) وهو رأس العبّاد والربّانيين المتألّهين، نبي الله وابن نبيّه.. فلجأت إلى الغواية، والخديعة. هيّأت ابنتها وزيّنَتها وقالت لها: إني أريد أن آخذك إلى هيرودوس، فإذا واقعك، فسيسألك ماذا تطلبين، فإياك أن تطلبي منه شيئاً سوى الزواج منه على أن يكون المهر رأس يحيى بن زكريا. مقتل يحيى(ع) دخلت ابنة البغي على هيرودوس، وهي تتلوى بغنج وتختال بدلال، وقد تزيّنَت بأجمل زينة، وأبهى بهرج ولألاء.. إنبهر هيرودوس بجمالها الغوي، فراحت تتثنى أمامه، بأناقتها الفائقة، فظنّ أنه في مهرجان حسن وضّاء وعرس جمالٍ وبهاء، فاستجاب لداعي الفتّان، ونزع عن مفرقه التاج، وكلّل به رأس من تمثّل الحسن بها والجمال، وهتف أمامها صاغراً متذللاً، قد أخذته الشهوة، وأعمت بصيرته الفتنة: -سيدتي.. مُرِي بما تشائين، يطع ما تأمرين.. فإنما أنت لي ولن يفرق بيننا إلاّ الموت.. وتلوّت الأفعى ثانية، وتثنّت، وقالت بصوتٍ مغناج يشبه الفحيح: - أنا لك شرط أن تأتيني برأس يحيى بن زكريا، فإنّه يعكر علينا صفو الحياة إن بقي على قيد الحياة، وينغّص علينا هناءة العيش، ويؤلّب الناس علينا وينفرهم عنّا. قالت ذلك وانصرفت ولم يطل الوقت: ساعة أو بعض ساعة، حتى أتي بيحيى(ع) وجئَ بطشت من ذهب فذبح ووضع رأسه في الطشت وأرسل به إلى تلك البغي.. وإنّه لمن هوان الدنيا على الله سبحانه، أن يهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.. وهو النبي الذي لم يكن له من قبل سمي.. وكذلك الحسين(ع) فيما بعد، لم يكن له سمي.. وكان حقاً على الله أن تهون عليه الدنيا.. فعن الصادق(ع) قال: لم تبكِ السماء إلا عليهما (الحسين وزكريا(ع)) أربعين صباحاً. قيل له: وماكان بكاؤها؟ قال عليه السلام: كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء!... وما أشبه اليوم بالأمس.. وما أشبه الباغي بالبغي.. فبعد أجيال كان رأس الإمام الحسين(ع) ريحانة رسول الله(ص) وسبطه وسيد شباب أهل الجنة، موضوعاً في طشت أمام الباغي يزيد بن معاوية، طاغية عصره، ينكث ثناياه الشريفة بقضيب كان في يده، تشفيّاً كما تشفّت البغي برأس يحيى(ع). إنهما، وحق الله، مناسبتان متشابهتان متماثلتان، بكت فيهما السماء دماً عبيطاً، فكان حقاً على الله أن تهون عليه الدنيا، في هاتين المناسبتين، هواناً مابعده هوان... وها نحن نرى نتائج ذلك في واقع الأمة الإسلامية... فسلام الله على الحسين(رضى الله عنه) وسلام الله علىيحيى وإنّا لله وإنّا إليه لراجعون آخر تعديل بواسطة صوت الحق ، 28-06-2008 الساعة 11:32 AM |
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|