|
#1
|
||||
|
||||
![]()
النبي نوح (ع) صاحب السفينة
نوح والدعوة في بقعة من أرض العراق، قد تكون الكوفة وما جاورها، أرسل الله تعالى نوحاص إلى قومه رسولاً هادياً، منذراً وبشيراً، يحمل إليهم دعوة السماء كي ينبذوا ما دأبوا عليه من كفر، وما أمعنوا فيه من ضلال.. وكان لابُدّ لنبيَّ الله نوحٍ (عليه السلام) أن يلاقي من تكذيب قومه، وعنتهم، وغيهم، مالقيه كل نبيٍّ كريمٍ، ورسولٍ أمينٍ. فليس من اليسير هجران عادات، والإقلاع عن غوايات وضلالات.. وآتى الله نبيَّهُ نوحاً فصاحة لسان، ورشاقة عبارة، وبلاغة أداء.. فكان دامغ الحدة، ناصع البرهان!.. وكان طوال مئات السنوات لايدع مناسبة تمر، الا وذكر قومه بالله ربهم، وخالقهم، جاعياً إياهم الى عبادة الله الكبير المتعال، ونبذ ماهم عليه من بهتان وضلال!.. ولجأ نوح، في دعوته قومه، إلى أسلوبي الترغيب والترهيب: فالنفس الانسانية، من طبعها ان تخشع، وأن تخاف!. فهو يرغبهم، إن أخلصوا وجوههم الله، بغفران ذنوبهم، وبتعميرهم في الارض، وبالمطر، يرسل عليهم مدراراً وبالأموال، يُغدقها عليهم، بالبنين، يمدّهم الله بهم، وبأرضهم، يُحيلها الله إلى جنات تجري من تحتها الانهار!.. وهو يرهبهم عذاب الله الأليم، ويحذّرهم عقابه الشديد، ويخوفهم من عذاب يوم عظيم!.. ووجّه أبصارهم وبصائرهم الى بديع خلق الله تعالى، في أنفسهم. فهم من تراب الارض قد خلقوا وإليه يعودون.. وفي سبع سموات، طباق، فيهن شمس، وقمر، ونجوم متلألئات.. وفي ارض ذات امتداد، وانبساط، وكأن الله ذلّلها لكل سالك سبيل!.. ويأخذ نوحاً العجب من هؤلاء القوم العمين... الذين يقابلون ذلك كلّه، بأن يسدوا آذانهم بأصابعهم، كي لاتسمع، وقلب أردانهم (أي ثيابهم) على وجوههم كي لاترى.. فقد أعمى الله بصائرهم عن مشاهدة نور الحق، فلا يريدون لأبصارهم أن ترى، وأصمّ قلوبهم عن استماع دعوة الله، فأصبحت سوداء سوداء، فلا يريدون لآذانهم أن تُصغي.. ويصيح نوح بهم: "مالكم لاترجون لله وقاراً" فسدرتم في غياهب الضلال، وعبدتم، من دونه، أوثاناً وأصناماً... ولايؤمن بنوح إلا نفر، من قومه، قليل، قد استضعفوا، واستذلوا،.. فهانوا على القوم، وصغروا، واتخذوهم سخرياً... وينظر قوم نوح إلى نبيهم هذا، وإلى أتباعه. فهو رجل كبقية الرجال،.. أما اتباعه فهم الاقلون عدداً، والارذلون بين الناس، والأذلون!... فيقولون له: " مانراك إلا بشراً مثلنا، ومانراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا..." فلايجوز، في عرفهم، أن يلتقي، على صعيد واحد، شرفاء القوم وساداتهم، مع فقراء الناس ومستضعفيهم. فنوح، والحالة هذه -في ضلال مبين، أو كأنّه أدركه مس من الجنون، فجنَّ، واستطير!.... ويحاول نوح من جديد، وبكل وسيلة استمالة قلوبهم الى نور الحق والهدى.. صحيح أنّه رجل بينهم، كبقية الرجال، لاملاكاً هابطاً عليهم من سماء... ولاتمتلك راحتاه خزائن الله.. ولايعلم الغيب... أما هؤلاء الذين تقتحمهم الابصار لرقة حالهم، وشدة ضعتهم، في أعين قومهم، وفقرهم، فقد يؤتيهم الله من لدنه خيراً كثيراً، وفضلاً عظيماً... وينكر نوح إنكاراً شديداً، مايشير عليه قومه بشأنهم: - من الخير لك ولنا يانوح، أن تنبذ هؤلاء الأذلة، وتطردهم من مجلسك، كما نبذناهم نحن، وطردناهم... فيجيبهم: اتقوا الله ياقوم!.. فمن يجيرني- إن فعلت ذلك- من عذاب الله؟.. فينصرفون عنه، يلوون رؤوسهم، هزءاً!... ويلجُّ الكافرون في عنادهم وإصرارهم، ويتمادون في طغيانهم وضلالهم.. ويتصايحون- فيما بينهم: أن حافظوا على آلهتكم، بكل ماتملكون. "وقالوا: لاتذرن آلهتكم ولاتذرن ودّاً ولاسواعاً. ولايغوث ويعوق ونسراً" ويمكث نوح في قومه يدعوهم ماشاء الله له ذلك حتى بلغت مدة دعوته ألف سنة إلا خمسين عاماً!.. فقد آتاه الله جلداً واصطباراً، في عمر مديد.. فهو أحد الرسل "أولي العزم" الذين أمدّهم الله بعزم، منهُ، شديد، فلا يفت في عضدهم كيد الكائدين، ولاخيانة الخائنين، بل يقابلون شتى صنوف البلاء والمحن، بالصدر الرحب، والتمهّل، وطول الأناة... وبقي نوح بين قومه يدعوهم إلى سواء الصراط... فلعل وعسى!... وكان جواب قومه أخيراً بأن "قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا، فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين". فانقطع كل جدل وحوار... وأدرك نوحاً الياس، وعصف به القنوط، فكأنّ دعوته صرخة في واد... ولا من سميع أو مجيب... فرفع نبيُّ الله يديه الكريمتين الى خالقه يعتذر إليه عن سفاهة هؤلاء القوم المفسدين، وضلالة هؤلاء الغاوين، الذين لم ينفعهم نُصحٌ ولم يردعهم ازدجار!... { قال: ربّ إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً. فلم يزدهم دعائي إلا فرارا. وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا آصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً. ثم إني دعوتهم جهاراً. ثم إني أعلنتُ لهم وأسررت لهم إسراراً}. ويستطرد نوح في تفصيل أسلوب دعوته وقومه، محاولاً تليين قلوبهم، صارفاً أبصارهم في كل حين إلى روائع خلق الله، لعلّ نوراً يتسرّبُ إليها، فيصبحوا مؤمنين!.. ويأخذُ نوحاً الغضب على هؤلاء الفسقة العتاة، والغلاظ القساة، فيدعو عليهم بالفناء. {وقال نوح رب لاتدر على الارض من الكافرين ديّاراً. إنك أن تذرهم يضلوا عبادك ولايلدوا إلا فاجراً كفّاراً}. فلا أمل في إصلاحهم ولارجاء!... إنهم ضالون مضلّون!... حتى أولادهم، فهم، من طينتهم، كفرة، فجرة لايهتدون!... وبالتالي، فإن تسعمائة وخمسين سنة من الدعوة كافية أن تقطع كل عذر، وأن تحصحص مؤمناً قد اهتدى، من كافر في ضلالٍ مبين... {وأوحي إلى نوح أنه لن نؤمن من قومك إلا من قد آمن، فلاتبتئس بما كانوا يفعلون} لقد بلغ نوح -في دعوته- نهاية المطاف!.. والله يفعل بعد ذلك مايشاء!... فانصرف عن قومه لايدعوهم، غضبان أسفاً، وقد استجاب الله لنبيّه الدعاء!. نوح والسفينة أما، وقد عموا، وصمّوا،.. وطمس الله على ابصارهم وبصائرهم، ونكس قلوبهم، فلقد حقّت على قوم نوح كلمة العذاب!.. فأوحى الله تعالى إليه: أن أقدم {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولاتخاطبني في الذين ظلموا، إنهم مغرقون}. وباشر نوح يقطع أشجار النخيل، التي سبق له وغرسها بوحي من الله تعالى، كي يتخذ من جذوعها، لسفينته، خشباً!.. وخرج إلى ظاهر المدينة، بعيداً عن أعين الناس، فلا يراه منهم إلا القليل.. وشرع يبتني السفينة كما أمره الله عزوجل، فهو بين نشر الخشب، وتهيئة المسامير الغلاظ.. وكان قومه يمرون عليه، وهو منهمك في صنع سفينته، فيهزأون منه، ويعبثون.. ويقول قائلهم: أعدلت عن النبوة الى النجارة، يا نوح؟. ويتساءل آخر متهكّماً: هلاَّ اتخذت لسفينتك، يا نوح، مكاناً، من البحر، قريباً؟... فيجيبه صاحبه: ولم ذلك؟.. فسيبحر صاحبنا، غداً في بحرٍ لجّيٍّ، من رمالٍ!.. وكان نوح، عليه السلام، يعرض عنهم،.. فما للأنبياء ولغوالحديث!.. ويشيح بوجهه عنهم تكرّماً!.. وطال عبث العابثين، وهزء المستهزئين، فقال لهم، كالمتوعّد: - { إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون. فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم}. فلا شك بأنّ أجل الله لآت: فللمؤمنين، أبداً، عاقبة الدار، وسيحل الخزي بالذين يكذّبون بآيات ربهم، وبرسله يستهزئون!.. حتى استوت السفينة ذات ألواح ودُسُر (أي: مسامير)، وقد صلب منها الهيكل، وعظم البنيان، فبدت شامخة كالطود، وهي جاثمة في قلب الصحراء!.. وأخذ نوح يعدُّ الأيام -منتظراً أمر الله،.. وهو الذي كان لايحسب لمئات الأعوام حساباً!.. فأوحي إليه، أنّهُ، إذا جاء أمرُنا، وبانت آياتنا، فاعمد إلى كل هؤلاء المؤمنين بك. فاحملهم على ظهر سفينتك، واحمل معك من كل ماخلق الله زوجين اثنين... وآية ذلك: التنّورُ يفور!... الطوفان وفار التنّور!.. وماعهد نوح به، إلا مسجوراً (أي: ملتهباً) بالحطب الجزل... إنها الآية المنتظرة.. وبدءُ الإنتقام!.. وأسرع نوح بمن معه من المؤمنين -وهم قليلٌ- إلى السفينة، مصطحباً شيئاً من الزّاد. وشرّع لها باباً، ولجهُ من الحيوان، من كل زوجين اثنين.. حاملاً فيها ماأمره الله أن يحمل، من إنسان وحيوانٍ، حتى ومن حبٍّ ونبات، فهم ذخيرة الحياة، في مستقبل الأيام!.. وتدفق الماء من السماء هطّالاً، غزيراً.. حتى كادت تتصل أرض بسماء وقد أطبق الغيم بينهما إطباقاً كثيفاً، كحلكةِ الظَّلماء!.. { وتفجّرّت الارض عيوناً} فالتقى الماءان: هذا ينزل من علٍ، مدراراً، وهذا يتفجّر من قلب الارض، ينابيع ذات دفق صاخب.. وعمّ الأرض طوفان هادر، فتحوّلت إلى بحر طام!... وتدفّقت السيول، تعصف، غاضبة، لاتلوي على شئ، ولايقف في وجهها شئٌ!.. وجرت السفينة على وجه الماء، فكان، باسم الله مجراها، وباسم الله مَرساها.. وخرج قوم نوح يولون، مذعورين،.. لايدرون إلى أين يفرّون!.. يغالبون أمواجاً عاتياتٍ فتغلبهم، ويصارعون في سبيل البقاء، لايألون (أي: لايوفرون) في ذلك جهداً، حتى لم يبق منهم، من أحدٍ، أبداً!.. وتمكّن بعضهم من الاعتصام على قمم الوهاد والتّلال... ولكن: لقد بلغ السيل الزُّبي (ج. زُبية: التلَّة لايدركها الماءُ)، فاجتاحهم إعصار الماء. وتسلّق بعضهم قمة جبل، ولكن الماء علا مرتفعاً، هائجاً، كالمرجل يفور، حتى غمر رأس الجبل، وأتى على من علاه!. حتى أنّ المرأة أدركت قمّة الجبل، لاهثة، وهي تحمل طفلها.. ويدركها الماء الطاغي، مزبداً، مزمجراً، فتصبر على ذلك وقتاً.. ويزداد الماء طغياناً، وهو يفور، في إرغاء له، وإزبادٍ... حتى يبلغ منها العنق فتضيق منها الأنفاس، فالفم، فتشرُقُ بالماء، فالأنف، فتغالبُ الاختناق... وترفع المرأة، وهي على ماهي، طفلها بيديها المضطربتين، صوب السماء. فلعل الله منجيه، ولكن لا يلبث الماء أن يغمرها وطفلها، فلو شاء الله أن يرحم منهم أحداً، لرحم هذه المرأة حاملة طفلها وقد علا منه الصراخ... أما، وقد قضى تعالى بأن يشملهم جميعاً، العذاب... فليس بينهم، إذاً، من ناجٍ!... نوح وابنُه وكان أولاد نوح الثلاثة: سامٌ وحامٌ ويافثُ، مع أبيهم في السفينة التي كانت تشق بحيزومها (أي: مقدمها) عُباب الماء!.. أما ولده الرابع، كنعان، فكان مع القوم الكافرين.. ورآه أبوه يهرول، بينهم، مذعوراً، متنقّلاً من وهدةٍ إلى منبسط، منعطفاً منهما إلى ربوة، فجبل، والماء يلاحقهم جميعاً،.. يغمر ماانبسط من الارض وما ارتفع.. وأدركت نوحا شفقة وعطف على هذا الابن الضال، ورق قلبه له، إنه أبٌ يرى ولده في محدق الخطر.. وناداه نوحٌ من على سفينته {وهي تجري بهم في موج كالجبال}: - {يابني اركب معنا ولاتكن مع الكافرين} - {قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء} - {قال لاعاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} وحال بينهما الموج فكان من المغرقين} فغلب على نوح همٌ ووجدٌ يعصفان بنفسه، وغشيته سحابة من حزن عميق، وادلهمّت الدنيا أمام ناظريه.. فها هو ذا ابنُهُ، حُشاشةُ كبده، وقد انتهى، في الدنيا وفي الآخرة، مع الكافرين.. ورفع نبيُّ الله طرفاً باكياً، إلى السماء، ويدين مرتعشتين، وقد تحدّرت على لحيته الشريفة قطرات دمعٍ كلاذع الجمر، وبصوت غلبت عليه رنّةُ إجهاش، فبدا معولاً منتحباً: - رُحماك اللهم!.. {ونادى نوحٌ ربّهُ، فقال رب إنّ ابني من أهلي وأن وعدك الحق وانت احكم الحاكمين. قال يانوح أنه ليس من أهلك أنه عملٌ غير صالح. فلا تسألن ماليس لك به علم إني إعظك تكون من الجاهلين}. وهكذا فصل الله لنبيه نوح، وبفصيح العبارة، أن النسب هو نسب الايمان، والقربى هي قربى الحقّ!.. وشعر نوح بأن عاطفته قد تغلّبت على حجاهُ (أي: عقله)، فمال به عن الحق هواه!.. وأحسّ بالندم على ما فرط منه، فليس لأنبياء الله، وهم صفوة الخلق طرّاً، إلا أن يترفّعوا عن كل علاقاتهم الشخصية مع من يحيط بهم من الناس، بالغاً مابلغوا من قُربى ومن نسب، وأن يتعالوا على كل هوىً وميلٍ، لايأتلفان ودعوة الحق المبين!.. فهم من طينة غلب عليها النور والصفاء!.. فما للأنبياء وصغائر الأمور وسفاسفها؟.. فليس لهم أن يسفوا (أي: يهبطوا) إلى مستوى ضعاف النفوس، وقد فجّر الله الحكمة في قلوبهم تفجيراً،.. فهي لا ترى إلا الايمان مقياساً بين الناس، وميزاناً!.. { وأن ليس للانسان إلاّ ماسعى. وأن سعيهُ سوف يُرى. ثم يُجزاهُ الجزاءَ الأوفى} فاستعاذ نوح بالله، من شطط في القول، ومن زلل، يؤديان إلى خُسران مبين!.. وتضرّع إلى الله مستعبراً، وقد ثابت إليه نفسه، التي تقطعت حسرات، فعادت أصفى مما كانت، وأنقى: - { رب إني أعوذ بك أن أسألك ماليس لي به علم، وإلا تغفر لي وترحمني أكُن من الخاسرين}. وصرف الله وجهه الى نوح بمعفرةٍ منه ورحمةٍ، ورضى، وقبولٍ حسنٍ!. النهايــة وعم الارض الطوفان، فطهرت من كل رجس أصابها، ودرن لحق بها!.. وتم أمر الله.. وحقّت كلمته على القوم الكافرين، فتهاووا، في لجج الماء، غرقى!.. أما السفينة فكانت لاتزال في تجوالها، متهادية على سطح الماء،.. وقد امّحت على الارض كل المعالم، فعميت على الركب الجهات.. وأسلم ركّاب السفينة أمرهم لله، جميعاً،.. فهو منجّيهم وهاديهم، والآخذ بيدهم في مدلهمّات الخطوب، والصعاب الشّداد!.. وسئم ركب السفينة من هذه الرحلة الطويلة، الرتيبة.. فمتى النهاية؟ أما آن لها أن تستقر بهم على برّ الأمان؟.. وخاطبوا في ذلك نوحاً: - متى الفرج يا نبي الله؟. - إنكم في فرج من الله، تحف بكم رحمته، وتكلأكم عين رعايته التي لاتنام، أفلا تعقلون؟ - ولكنا نريد أن ننزل الى الارض، فتطأها منا الأقدام!. - صبراً ياقوم، حتى يتم أمر الله، ويقضي أمراً من لدنه، وإياكم واللّجاج!.. ويمسك نبي الله عن الكلام.. ويصمت قومه. ويلُفُّ السفينة صمت، كصمت القبور، موحش وعميق.. وهي لازالت تتهادى بهم على صفحة ماء ساج (أي: هادئ) ورقراق!.. وينظرون إلى أقاصي الأفق، وإذا بطائر يتّجه إليهم، وكأنه يسبح في الهواء.. دون أن يرفرف له جناح.. ويدنو الطائر منهم، إنه حمامةٌ بيضاء قد أمسكت في منقارها الصغير غصن زيتون مبرعم. ويتصايح من في السفينة: لقد اقتربنا من برّ الامان، فها هي ذي حمامة السلام تحمل في منقارها غصن سلام!.. ويوجّهون دفّة السفينة صوت الجهة التي قدمت منها هذه الحمامة البيضاء، وكأنها تؤذنهم بقريب الفرج. وأمر الله السماء فأقلعت عن تهطال المطر.. وأمر الله الأرض، فابتلعت فائر الماء كالينابيع تدفُّقاً.. وأخذ الماء ينحسر عن اليابسة شيئاً فشيئاً.. {وأشرقت الأرض بنور ربّها!..} وسطعت الشمس في كبد السماء!.. ويصور الله تعالى لنا ذلك بآية من القرآن الكريم، كان لها أن تفحم بلغاء قريش، وفصحاءهم، الذين حاولوا معارضة بعض آي الذكر الحكيم،.. فلمّا انتهت إليهم هذه الآية، وهم في مجلسهم، نكّسوا رؤوسهم مخذولين، وانصرفوا آيسين: { وقيل ياأرض ابلعي ماءك، وياسماء أقلعي، وغيض الماء، وقضي الأمر، واستوت على الجودي، وقيل بُعداً للقوم الظالمين} وهكذا قدّر الله لهذه السفينة التي أضناها طول التجوال، أن تستقر على "الجودي"، أخيراً.. فلكلٍّ أجلٌ محتوم، ومقدار معلوم!.. فسبحان الله الذي قدّر للأمور مواقيتها، لاتعدوها!.. ونزل ركب السفينة يحمدون الله على بالغ عنايته بعباده المؤمنين الصالحين.. إنهم في عهد من الحياة، جديد.. وفي طور من عمران الأرض ستكون لهم فيه اليد الطولى.. كيف لا، وقد أصبح طوفان نوح منعطفاً من منعطفات بني الانسان، وحدّاً من حدود تاريخ البشرية، حاسماً، ومعتمداً لتسجيل أحداث، وتأريخ أحقاب غوابر، ماضيات.. تماماً، كالتاريخ الهجري في أيامنا هذه، والميلادي، في معظم أصقاع الدنيا!.. وارتاحت أبصار ركّاب السفينة إلى الأرض التي بدت أمامهم، منبسطة، مستوية، ككفِّ العذراء، وقد غمرتها أشعة الشمس، فبدت متلألئة متوهجة بتألّق الضياء!.. {قيل يانوح اهبط بسلامٍ منّا وبركاتٍ عليك وعلى أممٍ ممّن معك..} فهبطوا!.. وتوجّه أبناء نوح الثلاثة: سامٌ، وحامٌ، ويافثُ، كلٌّ إلى جهة من جهات الارض، وقد لحق كلاًّ منهم بعض المؤمنين والمؤمنات.. وشاء الله تعالى أن يكون لكل من هؤلاء الرجال الثلاثة نسل، تعمر به زاوية من زوايا الارض التي انبثوا فيها،.. فكان الساميون، والحاميّون، وأبناء يافث، أجناساً، جناساً، وقد ضاقت عليهم الارض بما رحُبت، وامتلأت بهم الدنيا!. |
#2
|
||||
|
||||
![]()
النبي إبراهيم (ع) خليل الله
ولادة نبي ابراهيم (ع) كان نمرود بن كنعان ملكاً على بابل.. وكان أهل هذه المدينة يعيشون حينذاك عيشة راضية، في رغد نعمة، وبحبوحة، وازدهار!... وكانوا ينحتون أصناماً يتقرّبون إليها بالعبادة. أما ملكهم نمورد فكان يقبض على السلطة بيد من حديد، حتى أنه ادّعى الربوبية. فطلب من قومه أن يتخذوه إلهاً،.. فهو الآمر الناهي، وصاحب السلطان، يفعل مايشاء!.. ثم، أليس هو أجدر بالعبادة من هذه الاصنام الصمّاء، التي لاتنطق ولاتبين، ولاتسدي خيراً ولاتدفع ضراً؟. في هذه البيئة التي عمّها الفساد، وفي بلدة صغيرة تدعى (فدام آدام)، ولد إبراهيم لأبيه "آزر"، وترى بعض الروايات أن "آزر" هذا كان جدّ ابراهيم، لاأباه. وهكذا فتح الصغير عينيه على قوم اتّخذوا الاصنام أرباباً من دون الله.. وكان آزر نحّاتاً. يصنع لقومه التماثيل والأصنام،.. فكان داعيةً لها، ومروّجاً لعبادتها،.. وهكذا كانت تقوم حياة آزر على الدعوة إلى الإثم، والفتنة، والغواية، والضَّلال!.. إبراهيم متأمّلاً: ولكنّ إبراهيم، بما آتاه الله من نور في قلبه، وهدىً في بصيرته، ورشاد في تفكيره في ملكوت السماء والارض، توصل الى الايمان، بعفوية الفطرة التي فطر الله الناس عليها، بأن لهذه الارض ومن عليها، والسماء التي تزينها الكواكب والنجوم، رباً خالقاً، وحكيماً مدبّراً، وإلهاً صانعاً أتقن خلق كل شئ، وأحكم إنشاءه، فقدّره تقديراً!... ولطالما كان يتأمّل في الليل نجوم السماء وكواكبها، فبعضها دائم المسير لايستقر في مكان في هذه السماء اللامتناهية الاتساع، وبعضها كالثابت في مكانه، لايتحرك أو، هو يظهر كذلك، وماهو بثابت!.. وكان يلاحق القمر بنظراته، متأمّلاً إيّاه، فكأنه بين هذه النجوم، وقد أحاطته هالة من نور شفّاف، كالملك تحفّ به حاشيته، والرّعيّة، فهو يتهادى بينها بزهو وخيلاء!.. وعندما يتقدم الليل، ينحدر هذا القمر الى الافق الآخر، وكأنه في ارتحال دائم، لايتوقف!.. وفي الصباح، يتأمّل إبراهيم الشمس، تغزو بنورها الارض من الأفق الشرقي، فتملأها ضياء، وتغمرها نوراً، وتبعث فيها دفئاً وحياةً.. وتتهادى في قُبّة الفلك بعظمة وسلطان، كي تغيب في الأفق الغربي، متحدّرة اليه بمهابة وجلال. فيهبط على إثر ذلك الظلام، وتبدأ النجوم تتلألا في كبد السماء ويطلع القمر من جديد، متناقصاً ليلة بعد ليلة، حيناً متزايداً، حيناً آخر، وهكذا تستمر الحياة بين ليل ونهار، وتعاقب فصول، في انتظام رتيب مهيب، واتساق عجيب، غريب، فتبارك الله أحسن الخالقين!.. لقد آتى الله إبراهيم رشداً، ورُجحان لبٍّ، ونفاذ بصيرةٍ.. ويتطلّع إبراهيم بعد ذلك إلى قومه، عبدة هذه الأصنام، فيُشفق عليهم، وهم دائبون على التضرّع إليها، والإعتكاف على عبادتها، وتقريب الأضاحي إليها، والقرابين!.. كما كان يُشفق إشفاقاً شديداً على هذا المليك النمرود، الذي ادّعى أنّه إله، وما هو بذلك، وليس له ذلك،... فهو إنسان عادي، رغم ماأوتي من عريض مُلك، وعظيم سلطان،.. وهو يحيا، كبقية الناس الذين حوله، ويجري عليه مايجري عليهم.. فهل باستطاعة هذا المدّعي الألوهية أن يتدخل في حركة هذه الكواكب، فيغيّر في نظامها، أو في تعاقب هذه الفصول، فيؤخّر بعضها، ويقدّم بعضها الآخر، أو أن يُحيي ويميت؟... وأنّى له ذلك، إن سوّلت له نفسه هذا الإثم العظيم؟.. وكان إبراهيم يخرج إلى البرّيّة يرعى قطيع أغنام كبيراً، فيسرّح نظرة في الطبيعة: هذا عشب ينجم (أي: يطلع) كالطحلب اليوم، سيصير نبتاً مستوياً على ساقه بعد أيّام، وقد تفتح عن زهر هنا، وانشقّ عن حب هناك.. وذلك برعم صغير صغير، كحبّة خردل، لايلبث أن ينمو ليصبح بعد شهور أملوداً (أي: غصناً ليّناً) على شجرة، طريّ العود، وفرعاً منها صلباً، شامخاً، .. بعد سنين!.. إنها الحياة، تتسق في إنسان، وفي حيوان، وفي نبات، وربما في جماد أيضاً، اتّساقاً منتظماً، مقدوراً، في جميل معادلة، وبديع حساب... فلا تفاوت في صنع، ولاخلل في تركيب. ولكنها وحدة هائلة، رائعة، بدءاً من الجرم الصغير، كالذّرّة، لايكاد يبين، وانتهاءً بهذه الأفلاك السابحات في رحيب السموات، وقد أحسن إنشاءها خالق لها واحد، ومبدع لها قدير، فأحسن بديع هندستها، وقدّرها تقديراً... فيُفعم قلبُ إبراهيم إيماناً بالله. وتسليماً لحكمته البالغة!... » رب أرني كيف تحيي الموتى: وتحدث إبراهيم نفسه، يوماً، حديثاً غريباً: - لوشاء الله، لأراك كيف يُبعث الموتى أحياءً من جديدٍ... - أولم تؤمني يانفسُ؟.. ويزجرها إبراهيم زجراً عنيفاً، وقد خاف عليها من كيد الشيطان ووسوستِهِ.. - بلى!... ولكن، لأزداد إيماناً، وثقةً، واطمئناناً. ويشفق إبراهيم على نفسه، وفيها، حذراً من فتنةٍ تعصف بها في أودية المهالك والضلال. ثم يطرق إلى الارض ملياً، يفكّرُ، ويستعرضُ الأحوال، فيذكر آدم وزوجه اللّذين أخرجهما الشيطان، بوسوسته لهما، من الجنّة، فيستعيذ بالله من الشيطان الرّجيم!... ويعاوده حديث نفسه، فالأمر لايخرج عن نطاق حظيرة الإيمان بالله، بل الثِّقة به، فلا خطر، إذاً، ولا حرج!.. فيرفع إبراهيم بصره إلى السماء، ضارعاً بقلبٍ سليم: {- رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئنّ قلبي} وينظر الله إلى قلب إبراهيم فإذا هو طافح بالإيمان حتى اليقين، فلا شكّ يساوره، ولاارتياب يخامرُهُ، فاتّخذهُ خليلاً!.. ويستجيب الله تعالى لطلب خليله إبراهيم، فيأمُرُه أن يأخذ أربعة من الطّير، مختلفات، فيضمُّها إليه، ثم يقطع أجسادها حتى تصبح أشلاءً، يوزّعها على قمم أربعة أجبُل، محاذٍ بعضُها بعضاً، ثم يستدعي إبراهيمُ بعد ذلك هذه الطيور إليه.. ويسرع إبراهيم يفعل ماأشار به الله تعالى عليه، فنفسُه توّاقةٌ إلى مشاهدة آية البعث قبل يوم البعث، ويقطع أوصال الطيور الأربعة، ثم يوزعها على الجبال. ويعود إلى مكانه الأول.. ويستدعي إبراهيم إليه الطيور.. وإذا بأشلائها تتطاير من جبل إلى جبل، فينضم بعضها إلى بعض، كل إلى جنسه ونوعه فتعود، كما كانت، طيوراً، قبل أن تتقطع منها الأوصال، وتُقبلُ نحوه، ساعيةً، مرفرفةً بأجنحتها، لها زقزقةٌ وتغريدٌ، وكأنها تسبّح الله في ملكوته الأعلى!.. ويفيض قلبُ إبراهيم إيماناً ونوراً، ويطمئن قلبُه اطمئناناً إلى عظيم قدرة الله، تزول الجبال ولايزول!.. وتسكنُ إلى ذلك نفسه سكون الواثق، وقد رأت معجز الآيات، ودامغ البراهين!.. إبراهيم يدعو أباه: وآتى الله إبراهيم من لدُنهُ حكمة، وحجّة بالغة، فأرسله نبيّاً إلى قومه، يدعوهم إلى عبادة الله الواحد القهّار!.. بديع السموات والأرض، وربّ العالمين جميعاً!. وابتدأ إبراهيم دعوته بأبيه!.. فأبوه نحّات أصنام ماهر، يعيش مما ينحت إزميله من تماثيل يتّخذها قومُه آلهةً، يعبدونها من دون الله. ومهّد إبراهيم لدعوته أباه آزر، تمهيداً رفيقاً، رقيقاً، فيه دعةٌ وتلطُّفٌ، وجليُّ بيان!.. فأثار فيه مكامن عاطفته كأب، وخاطبه بالحسنى، ومنتهى التهذيب، والأدب الجميل!. فما الذي يدعوه لعبادة هذه الأصنام التي لاتدفع عن نفسها، أو، عن غيرها، ضُرّاً، ولاتُسدي لهم نفعاً؟.. وأخذ إبراهيمُ، باللّيّن من القول، يزهّدُ أباه في عمل هذه الأصنام، والعُكوف على عبادتها، وهي رمز الشيطان، الداعية إلى سبيل الغيِّ والضلال!.. وخاف إبراهيم، أن يستصغر أبوه- وهو الشيخُ الكبير- شأنه، وهو الفتى الغرُّ، الذي لم تعرُكه، بعدُ، الأيّام، فقال له: - {ياأبت، إنّي قد جاءني من العلم مالم يأتك} فالله يجتبي (أي: يختار) من رسله، من يشاء، ويصطفي من يريد،.. وماكان طول العمر شرطاً من شروط الحكمة، والهُدى، أبداً!.. فَرُبَّ فتىً يافع آتاه الله من الرشد في عقله، والنور في قلبه، مالم يؤت أجلاّء الشيوخ!.. ولكنَّ آزر قابل دعوة إبراهيم بالتّجهُّم، والنّفور، والقول الغليظ،.. منكراً عليه ما يدعوه إليه،... فمتى كان للأغرار -على حداثة سنّهم- أن يرشدوا كبار الشيوخ، الذين عجموا عود الحياة (كناية عن التجربة والخبرة)، فانتهوا إلى مزيدٍ من خبرةٍ، ومُكتسب تجاريب؟.. ولكن إبراهيم مازال يتلطّف في دعوة أبيه، الذي هدّده بطردٍ وهجرانٍ... فأنّي لهذا القلب القاسي، كالحجر الجُلمود، أن يرقّ؟... وأنّي لهذه البصيرة العمياء أن يتسرّب إليها نور الحقّ والإيمان؟.. وما ازداد آزر إلاّ إعراضاً عن إبراهيم، ونفوراً!.. وبطرفٍ باكٍ، وغصّةٍ في الحلق، ودّع إبراهيم أباه. فليس للحق أن يجاور الظّلام! وليس للإيمان أن يعايش الكُفران!.. وقال له، وهو يغادر عتبة البيت: - {سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيّاً. وأعتزلكم وماتدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألاّ أكون بدعاء ربّي شقيّاً..} وهكذا اعتزل إبراهيم أباه، كي لايكون له على الكفر ظهيراً!... إبراهيمُ يدعو قومهُ: وخرج إبراهيم إلى قومه يدعوهم إلى سبيل الرشاد. وسلك في دعوته إياهم طريق الحوار، والجدل الموصل للبرهان المقنع واستدرجهم في مجادلته إيّاهم: - {ماهذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} وأفاضَ قومُهُ في الحديث عن أصنامهم، وتناولوها بالتقديس والتعظيم، فلها حُرمة لاتمسّ، ولها شأنٌ، في حياتهم، خطيرٌ!.. ولم يعبأ إبراهيم ببهرج قولهم، إنّه لمزخرفٌ غرورٌ،... وإن هي إلا أصنامٌ اتّخذوها آلهةٌ، فلم اللَّفُّ والدّورانُ؟. وجابههُم بصريح العبارة، وعفويّ المقال: - {إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً. إنّ الذين تعبدون من دون الله لايملكون لكم رزقاً، فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له، إليه تُرجعون} فاندكّت حجّتهم، وانقطعوا!... حقاً، إنها لأصنامٌ صمّاءُ، بكماءُ، لاترى ولاتسمعُ، ولاتضرُّ ولاتنفع!. وخيّل إلى بعضهم أنهم هدوا للقول الصّواب: - {قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} إنّ التقليد الاعمى، الذي لايستبصر!.. وتقديس الأقدمين في كل مايفعلون. ولو كانوا على غير هدى!.. {قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين}. ثم أعلن فيهم دعوته الصُّراح، كفلق الصّباح: {قال بل ربكم ربّ السموات والأرض الذي فطرهنّ وأنا على ذلكم من الشاهدين} وانفجر الموقف بين المتخاصمين المتجادلين، وقد توقّف كلٌّ منهم على الرأي المؤمن به، لايعدوه!... ولم يتزعزع موقفُ إبراهيم، وهو يرى اجتماعهم على الضّلال، وتفرّده بالحق... وراعهُ موقفهم العنيد، وخصامهم اللّدود، وكأنّ الشيطان ينفُثُ على ألسنتهم كل كفرٍ وبهتان!.. أمّا، وقد منّ الله عليه، من دونهم، بالهداية، فلم ينقطع إبراهيم في كلّ مناسبة، عن دعوتهم إلى الإيمان بالدّين الحق الذي جاءهم به، دين الله الحنيف، وشريعته السّمحاء... ونبذ كل صنم، حجراً كان أم خشباً، محذّراً إياهم من الوقوع في حبائل الشيطان، الذي يصُدُّ عن سبيل الله صدوداً.. وصرف ابصارهم، وبصائرهم إلى بديع خلق الله، وباهر قدرته، وجليّ حكمته، وعظيم سلطانه، في أرض وفي سماء، معلناً تسليمه لأمر الله، وقضائه،... وتمرّده على ماهم عليه من ضلالٍ، وعداوتهُ لهُم ولما يعبدون من دون الله. - {قال أفرأيتم ماكنتم تعبدون. أنتُم وآباؤكم الأقدمون. فإنّهم عدوٌ لي إلا ربّ العالمين. الّذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضتُ فهو يشفين. والذي يُميتُني ثمّ يُحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدّين} ثم غادرهم بعد أن لم تنفع حُجّةٌ، ولم يُجدِ بُرهانٌ، ولم يُغنِ إنذار، مبيّتاً في نفسه أمراً خطيراً، له وقعُ الزّلزال تدميراً!.. إبراهيم يُحطّم الأصنام: كان من عادة قوم إبراهيم أن يخرجوا في عيدٍ لهم إلى ظاهر المدينة يلهون ويمرحون، بعد أن يتركوا أمام أصنامهم صنوف الطّعام. ودعوا إبراهيم إلى مشاركتهم فرحة العيد، والخروج معهم إلى البرّيّة، لعلّ نفسه تجد في ذلك استجماماً مما تعاني من حصر وضيق، فتنصرف عن هذه الدّعوة، أو تخفّفُ من حدّة غلوائها، على الأقل!.. فاعتذر إبراهيم إليهم بأنّهُ مريضٌ.. وليس المريض جسده، ولكن، نفسه التي كانت تتمزّق على قومه حسرةً وأسىً، لما هم فيه من ضلال، وكفر بأنعم الله!.. ولمّا خلت المدينة من أهلها -وقد خرجوا منها جميعاً، يسرحون ويمرحون ويلهون- دخل إبراهيم بيت عبادتهم، فوجد الأصنام تملأ رحاب هذا البيت، منها الصغير، ومنها الكبير، ومنها دون ذلك، ووجد صنماً ضخماً، يتوسّطها جميعاً، إنه كبير هذه الأصنام، فلا شك بأنه عظيم الآلهة، وسيّدُها الخطيرُ!.. ورأى من ضروب الطعام أمامها صُنوفاً، وألواناً!.. فابتسم إبراهيم ابتسامة ازدراء، ورماها بنظرة تنضحُ احتقاراً. فيالهوان هذه التماثيل!.. وتقدم إبراهيم، إلى الأصنام، وكأنه يخاطبها، عابثاً، محتقراً.. ولمّا لم تجب، وأنى لها ذلك؟... قدم إليها صحاف الطعام الفاخر، طالباً إليها تناول المستطاب منه. فلم تمتد منها يد. فصرخ بوجهها، وكأنه يشتمها: مابكم؟.. ألا تنطقون؟.. ولم لاتأكلون؟.. وران (أي:خيّم) على المكان جوٌ ثقيلٌ ثقيلٌ، ورهيبٌ رهيبٌ!... وتحولت سخريةُ إبراهيم إلى غيظٍ مُحنَقٍ، وقد رأى بعضها مكشِّراً، كمن يضحك،.. مستهزئاً.. واستبدّ به الغضب،.. فتناول من زاوية فأساً انهال بها على الأصنام ضرباً شديداً فتهاوت أمامه،.. واشتعل غضبُه، وماكان غضبُه إلاّ لله، وأخذ يحطّم من الأصنام الرؤوس والأعناق، فتناثرت تحت قدميه قطعاً من حجارةٍ!... ثم غادر بيت عبادتهم، بعد أن امتلأ ركاماً وحُطاماً، باستثناء صنمهم الأكبر، عظيم آلهتهم، فقد أبقى إبراهيم عليه، لغاية في نفسه، ولسوف تظهر بعد حين!.. وعاد القوم في آخر النهار منتشين، يهزجون طربين، وتوجّهوا إلى بيت عبادتهم، فرحين! وما أن دخلوه حتى تسمّرت أقدامهم في مكانها، منذهلين، وقد اقشعرت منهم الأبدان!.. الصنمُ الأكبر، وحده، في مكانه قائم،... بينما تناثرت بقيّةُ الأصنام إلى قطع من حجارة غصّ بها بيت عبادتهم،... وشعروا، وكأن صفعةً لسعت وجوههم جميعاً فياللهوان!.. وصرخ سادنُ البيت (أي: المسؤول عنه) وآخرون: - {قالوا: من فعل هذا بآلهتنا، إنه لمن الظالمين} فأجاب بعضهم من أقصى المكان، ممّن سبق لهم وحاوروا إبراهيم: - {قالوا: سمعنا فتىً يذكرُهم يقال له إبراهيمُ} إنها فعلة إبراهيم الشنعاء، إذاً، الصارخة بالتحدي والتحقير!.. وإنهم ليعرفون هذا الفتى جيداً، ينطق بالحجة والبرهان... ولطالما نعى عليهم عبادة هذه الأصنام، مسفّهاً أحلام عابديها، معلناً براءته منهم ومنها، مظهراً لها لدد الخصام، حتى التهديد!.. وها قد بلغت به الجرأةُ إلى تنفيذ تهديده، وما توعّد به، فيا للعار!.. وعلت الصّرخات: ياللعار!.. الثأر، الثأر!.. ووجد القوم في ذلك فرصة سانحة للتخلص، نهائياً، من إبراهيم.. فهو يستحق على فعلته هذه، كلّ عقابٍ وعذابٍ.. فأرسلوا من يأتي به، ليحاكموهُ على أعين الناس.. وكان يوماً مشهوداً، وقد اجتمع أهل المدينة ليَروا ما سيحلُّ بهذا الفتى الّذي له جُرأةُ المجانين!.. المحاكمة: وسيق إبراهيم إلى بيت العبادة مخفوراً، وقد استبدّ بالجماهير فائر الغضب، فصرخت بوجهه، وتناولته بألسنتها، وتطاولت إليه أيدٍ، فحيل بينها وبينه.. ومَثُلَ إبراهيم أمام كبير القضاة، وهو نفسُه سادنُ بيتِ العبادة، وقد تدلّت لحيتُه الكّةُ البيضاء على صدره، كالمنديل الناصع البياض.. ورماه القاضي بنظرة غضبى، وهو يكاد يتميّز غيظاً، وقد تراقصت شفتاه، لفرط تأثُّرٍ، فلم يأبه إبراهيم لذلك، وتجاهل مايعتري القوم من غضب جارف... ورانت لحظات صمت ثقال، وقد أخذ إبراهيم مكانه أمام القضاء، شامخاً بالتحدي. وبوجيز العبارة، سألهُ كبير القضاة! - {أأنت فعلتَ هذا بآلهتنا ياإبراهيم} وظهر، وكأن إبراهيم استدرجهم إلى حيث يقصد، من حيث لايشعرون!.. فأجاب، وكأنّه يعبث بأحلامهم: - {بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون} وبلمحة البرق الخاطف أدرك الحضور غاية إبراهيم من إبقاء الصنم الأكبر على حاله كالشاهد على ماحدث، فلم يتحوّل، كغيره، جُذاذاً مهشّماً!. إنّه أسلوب إبراهيم الحسّيُّ في حوارٍ له، دائماً، وفي نقاشٍ!.. وماعهدوه إلاّ ساطع الحجة، دامغ البرهان!.. فنظروا إلى الصنم الجامد، مشدوهين، حيارى!.. وازدرد القاضي بريقه، مطرقاً، وكذلك فعل من حوله. فلقد آتى الله إبراهيم من الحجّة البيّنة التي تصل إلى أعماق النّفس، فتُحرّك فيها كوامن الأحاسيس الفطرية، والمشاعر العفوية. إن إبراهيم لينطق، وأيم الله، بالصواب،... ولقد ظلم القوم انفسهم ظلماً بيّناً باتّخاذهم من الحجر الذي لايُقدّم ولا يؤخّر، ولاينفعُ ولايضُرُّ، رباً معبوداً... وصفعتهُم الخيبة بكفٍّ من جليدٍ!.. فتراجعوا مقهورين، ونكصوا على أعقابهم، مخذولين!... - {لقد علمت ماهؤلاء ينطقون} وهذا ماأرادهُ إبراهيم أن يُفصحوا عنه، ويعترفوا به من تلقاء أنفُسهم، أمّا، وقد اعترفوا هم بذلك، فقد انبلج الحق وبانت الحجّة، وقام البرهان على ذلك والدليل!.. فما من إله إلا الله الواحد القهّار!.. وهكذا حجّهم إبراهيم بتبيانه، وظهر عليهم ببرهانه،.. وهو، إلى ذلك، مايزالُ يتوجّهُ إلى قرارة أنفسهم، لعلّها تهتدي إلى الحقِّ المبين، وبرد اليقين: - { قال أفتعبدون من دون الله مالاينفعكم شيئاً ولايضركم. أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون}. فانقطعوا!.. وبان عليهم الانكسار!.. وارتسمت على وجوههم علائم الخيبة والخزي... وخافوا على أنفسهم، وعلى مكانتهم بين قومهم، وعلى آلهتهم!... فسعوا للخلاص من هذه الورطة، على أيِّ حال، وحفظ ماء وجوههم كيفما اتّفق،... فلجأوا إلى المكابرة والعناد. والإصرار على الباطل الأثيم، وتذرعوا بالقوة والسُّلطان، يتسترون، بهما، مما حاق بهم من مرير الخذلان!... فصاحوا: {حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين} يانار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وتسابق القوم يجمعون الحطب الجزل، حتى اجتمع لديهم منه مايكفي لحرق مدينة بكاملها!... وكانت المرأةُ المريضة منهم، تنذر، إن شفيت من مرضها، وعوفيت من سقمها، أن تأتي بحمل من الحطب لحرق إبراهيم!.. وتكدّس الحطبُ أحمالاً أحمالاً!.. إنهم بذلك يتشفّون من هذا الذي رماهم بكل ضلال وغيّ، وسفّه أحلامهم، لما جروا عليه من قديم العادات، واجترأ على تحطيم أصنامهم حتى تركها جذاذاً مُهاناً!... وأُتي بإبراهيم موثوقاً.. وأُلقي بين أكوام الحطب، ثم كدّس فوقه من الحطب الكثير،.. وأضرمت بالحطب النارُ، فاستعرت وعلا لهيبُ النّار، وارتفع دخانُها، وسُمِعَ لصوتها فحيحٌ، وكأنها جهنّمُ قد فتّحت أبوابها!.. وصاحت الجماهير المهووسة، وقد أخذتها سورة الانتقام: مزيداً من النّار، مزيداً من النار!.. فطرح في النار كلّ مايحترق، فزادت تأججاً وسعيراً، واشتدت زفيراً.. وطرب القومُ، وكأنّهم في عرسٍ، فاليوم يوم إبراهيم!.. ومَضت ساعاتٍ،... ثم خمدت النار، بعد ذلك، وخبت!... وتقدم القوم ليروا ماحلّ بإبراهيم!.. فكشفوا عنهُ الجمر الكبير، من بعيد، فسُمِعَ له تقصُّفٌ. ولفح وجوههم من ه وهج مستعر!... فما زال للنّار أوار، بعد، وحرارة، فابتعدوا... ولكنّ بعضهم لاحظ حركةً تحت الجمر المتّقد، وسمع صوتاً يذكر ربّ الارض والسّماء... فجمد الدّمُ في عُروقهم!.. وتكاثروا، وازدحموا، وتقدّموا يزيحون الجمر، لايعبأون بلفح وهجة اللاسع!.. وإذا بإبراهيم يخرجُ عليهم من قبل الجحيم، يُزيحُ عنه بيديه المرتعشتين متلظّي الجمر، وينفضُ الرّماد، ويطأ على النّار، متوجّهاً إليهم، وهو يرتعدُ برداً!... فبُهتوا، وعقلت المُفاجأةُ السنتهم، وسلبت الدهشة صوابهم، ففغروا أفواههم محملقين!.. إنها المعجزة الباهرة الكبرى!.. فآمن بإبراهيم نفرٌ من قومه قليلٌ، لم يجدوا إلا أن يكتُموا إيمانهم، تقيّةً، وحذراً!... إبراهيم ونمرود: وترامى إلى نمرودٍ الملك - الإله، خبرُ إبراهيم، وتناهت إليه المعجزة الكبرى. فاستدعاهُ إليه، ودار بينهما هذا الحوار: نمرود: مالك ولهذه الفتنة التي زرعتها بين قومك، فكانت بينهم بذار شقاق وخلاف... وأنّي لك أن تتجرّأ على آلهتهم، فتعيبها، وتسبُّها، وتحطّمها، بعد ذلك، تحطيماً، وعلى أحلامهم فتُسفّهها تسفيهاً،... وعلى ما درجوا عليه من قديم عادات ومعتقدات فتدعوا إلى نبذها؟... وكأنك تعلن عليهم، يا إبراهيم، بذلك، حرباً ضروساً!... ومن هو هذا الإلهُ، غيري، الّذي تدعو إلى عبادته، وأين تُراه يكون متّخذاً مكاناً؟ وبجنان ثابت، وقلبٍ مفعمٍ بالإيمان واليقين، أجاب إبراهيم، مطمئناً: - {ربّي الذي يحيي ويميت...} ولكنّ نمروداً يكابر، وتأخذه العزّة بالإثم. فللسلطان جبروت طاغ!... فيداور في جداله، ويراوغ، كالثعلب، مخاتلاً!.. ويتصوّر نفسه مالكاً رقاب النّاس، فهم له سوقة وعبيد، وله عليهم سلطان قاهر!... فإن شاء أنعم على من شاء الإنعام عليه، وله أن يسلب نعمة من يريد، إن أراد منه انتقاماً!.. وإن شاء قتل من رعيّته من يشاء، وعفا عمّن يريد، إن رأى صفحاً!... فهو -والحالة هذه- كإله إبراهيم، يرزق من يشاء، ويحرم من يشاء... ويقتل من يشاء، فيميتهُ، أو كأنّه هو الذي أماته.. ويعفو عمن يريد، فيحييه، أو كأنه هو الذي أحياه.. وتنفرجُ أساريرُ نمرود، وقد التمعت بذهنه هذه الأفكار، فيبادر: - و{أنا أُحيي وأُميت} ويستطرد في هذا المعنى استطراداً ويمعنُ تمثيلاً وتشبيهاً،.. فلا فرق بينه، إذاً، وبين إله إبراهيم.. و يبتسم إبراهيم بلطف، كالمشفق على هذا الطاغية الجبّار.. فمتى كان المخلوق خالقاً، ومتى كان المرزوق رازقاً؟.. ولكنه جبروت عزّة السُّلطان!.. ويري إبراهيم نمرود بديع خلق الله، ورائع حكمته، وعظيم سُلطانه، في كل ماتقع عليه عين، في الأرض وفي السماء.. فالله خالق كلّ شئ، وبيده ملكوت كل شئٍ... فيهزأ نمرود بما يسمع.. عند ذلك يتّجه إبراهيم إلى إثبات عجز خصمه، وخطل رأيه، وسفه جبروته، فيكرُّ عليه موهناً كيده، ويأتيه من حيث لم يحتسب، قائلاً له: - {إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب.. فبُهت الذي كفر} وبان عليه العجز، وظهر عليه الحصر، وانقطعت حُجّته، فصمت، مغلوباً، مبهوراً!.. وأوجس نمرود من إبراهيم خيفة.. فهو يمثّل خطراً عليه، جدّياً، وداهماً... فصرفهُ!.. وبثّ حوله العيون والأرصاد، وتربّص به الدوائر للإيقاع به. وأحسّ إبراهيم بما يبيِّتُ له هذا السلطان الغاشم،.. وبالتضييق، يأخذ عليه كل طريق، وكل مجال، وسبيل!.. ولم يجد إبراهيم مندوحةً (أي: بُدّاً) من الفرار بنفسه، وبدينه، من هذه الارض التي لم ينم له فيها غرس، وقد بدأ يغزوها قحط وجدب... وترك قومه، آسفاً، لما سيحلُّ بهم من عذاب أليم،.. فالله آخذهم، لامحالة، بعد مغادرته إيّاهم، أخذاً وبيلاً!... ويمّم إبراهيم وجهه شطر فلسطين مهاجراً، وهو يحمل على كاهله، وفي قلبه ديناً سماوياً جديداً... مستبدلاً بالأهل أهلاً، وبالأوطان أوطاناً!... إبراهيم في حرّان: وفي حرّان، على الطرف الشمالي من بلاد الشام، ألقى إبراهيم عصا ترحاله وكان أهل حرّان أيامذاك، يتعاطون علم النجوم والأفلاك... وكان يصل بهم الأمر في تعظيم بعض النجوم، وتقديسها، إلى درجة عبادتها. ورأى إبراهيم منهم ذلك، فأنكره، دون أن يفصح لهم عن هذا الانكار.. ولجأ كعادته، إلى سبيل الحوار، الهادئ، المستطرد، الموصل الى الاقناع والتسليم. فلمّا جنّ على إبراهيم الليل، وكان بين جماعة من الحرّانيين، رأى في السماء نجماً ساطعاً هلّل له من حوله، ممّن نزل بين ظهرانيهم (أي: بينهم) من أهل حرّان،.. وكبّروا له تكبيراً، وخرّوا له سُجّداً... فعظم على إبراهيم مارأى.. وتبرّأ إلى الله من أن يُشرك بعبادته أحداً، وتبرّأ من هؤلاء الجهلة، المتظاهرين بالعلم، السادرين في غياهب الكفر ومتاهة الضلال!... ولكن إبراهيم جارى القوم في ماهم فيه سادرون، متّخذاً ذلك سبيلاً لحجّة إقناعهم، فقال على سبيل المجاراة، ولكن إلى حين: - {هذا ربي!..} وبعد ساعات افتقد إبراهيم النجم فلم يجده.. لقد أفَلَ، وغاب، ومعه، أفلت كواكبُ، وغابت نجومٌ، ولايحصيها إلا الله، عدداً!.. فقال: {إني لاأحبُّ الآفلين.} ثم عرض بهذه النجوم المتغيّرات، الدّائرات كالحيارى، وهي تسبح في أفلاكها، وأعلن بغضه لها، وبراءته من عبادتها.. {فلمّا رأى القمر بازغاً قال هذا ربي..} استدراجاً لهم، ومُجاراةً لعقولهم، وتمشياً مع ماهم عليه من دينٍ.. {فلما أفل قال لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضالّين} وهكذا بيّن إبراهيم لمن حوله من عبّاد هذه الكواكب والنجوم، أنّ الله الذي هو خالقُ كل شئ، ورب كل شئ، هول الهادي، والآخذ بيد عباده، المتطلّعين إلى عبادته.. ولمّا لم يجد إبراهيم من القوم معترضاً، أعلن براءته من هذه الآلهة التي ماأن تطلع حتّى تغيب،.. ملفتاً أنظار من حوله إلى أن هنالك خالقاً عظيماً، ومدبّراً قديراً، لكلّ مايتحرك في جوف سماء، ومايدبُّ على وجه الثّرى. أو يغوص في لجّة ماء!.. فهو وحده الجدير أن تتجه إليه أبصار الناس وبصائرهم، فيتّخذونه إلهاً معبوداً، وربّاً مربوباً!.. {فلمّا رأى الشمس بازغة قال هذا ربّي، هذا أكبرُ..} وحقّ لإبراهيم أن يقول ذلك، تدرُّجاً، ومجاراةً.. فللشمس نورٌ باهرٌ وسلطانٌ قاهرٌ، أين منه نجم يتحرك في كبد السماء، على استحياء، أو قمر يتهادى بخفر في جوف الظّلماء!... فلمّا أفلت، أعلن براءته من كل هذه الآلهة جميعاً بدءاً من النجم الصغير وانتهاءً بالشّمس أخطر الكواكب طُرّاً!. فحاجّهُ قومه في ذلك، فحجّهم، وظهر عليهم. وقد آتاه الله من لدنهُ الحجّة البالغة، وفصلَ الخطابِ!.. وأشفق عبّاد النجوم على إبراهيم، الكافر بعبادتها، المحقّر شأنها، أن تطاله بأذاها، وشرّها المستطير، فابتسم مستهزئاً بهم، وبما يعتقدون. فهم الأحق أن يطالهم غضب الله، ويعمّهم عذابه الأليم!. ولمّا رأى ابراهيم إصرارهم على وثنيتهم، عزم على مغادرة هؤلاء القوم الكافرين، فأرضُ الله واسعة، ورحمته وسعت كل شئ، وهو ولي عباده المؤمنين!.. وزاده تصميماً على ذلك ما شعر به من جفوة القوم إياه، وتباعدهُم عنه. يضاف إلى ذلك قحط وجدبٌ عمّا البلاد، وغلاء أسعار أرهق كواهل الناس، فناؤوا تحت فادح وطأته، فجمع أمتعته، وماله، وأخذ بيد زوجه سارة، وسار متوجّهاً الى أرض مصر!.. إبراهيم في مصر: وانتهى بإبراهيم، إلى أرض مصر، المسير. وكان يحكم مصر في تلك الحقبة من التاريخ أحدُ ملوك العرب العماليق.. وشاهد سارة- التي كانت على قسط من الجمال، وافر- أحد بطانة الملك ومستشاريه، فسحرهُ جمالُها الأخاذ، وأخذ يصف لمليكه ماتتمتّعُ به هذه الوافدة الجديدة إلى أرض مصر من جمال فتّانٍ. فأغرى الملك بها، ولم يلبث الملك أن ارسل من يُحضرها، وزوجها، إلى قصره. ولمّا مثُل إبراهيم بين يدي الملك، سأله عن هذه الحسناء التي يصحبُها.. فأنكر إبراهيم، على الملك، هذا السؤال، وأوجس منه خيفة، مرتاباً، وانطلق لسانُ إبراهيم بالإجابة: إنّها أختي.. ولم يكذب في ذلك إبراهيم.. فسارة أختُه في الدين، وفي اللّغة، وفي الانسانية. ورفيقةُ دربه في رحلة هذا العمر الطويل، الملئ بالمشقّات، الزاخر بالصّعوبات. وصمت الملك، وبان في عينيه التماع!.. وتنفّس إبراهيم الصُّعداء، فلو أعلن للملك أنها زوجهُ لسعى بكلّ مكيدةٍ كي يتخلّص منه، لتخلصَ سارةُ له وحده، دون العالمين!.. وأمر الملك بسارة الى قصره، يتخذها له زوجاً.. وأسرّ إبراهيم في أذن زوجه- وهي في طريقها إلى مخدع الملك-، ماأجاب به الملك من أنها شقيقته، لازوجه.. وأومأت سارة برأسها، وقد أدركت مايريد!.. وأخذ النسروة في القصر الملكي يعددن سارة لليلة زفافها للملك، فألبسنها فاخر الثّياب، وزيّنّها بكلّ ثمين، وأحطنها بوفير البذخ والأبّهة والجلال،... فذات الحُسن المدلّ، المترف، الآسرة بجمالها لبَّ الملك، يليق بها كل إكرامٍ!.. وبموكب نسوي، باذخ الأناقة والتّرف، زُفّت الحسناءُ الخلوبُ، عروساً للملك، جديدة تضاف إلى العشرات غيرها، من نسوة الملك، وحظيّاته، النواعم، كالدُّمى!.. واختلى الملك بها، فوجدها ملتاعة يعصف بها حزن، ويعتصرُها أسىً... وقد أطرقت بنظراتها إلى الأرض، ودموعُها تتحدّر على وجنتيها، كحبَّات درٍّ، فطيّب الملكُ خاطرها. فليس للملك عهد، بزوجاته، على كثرتهنّ، يقابلنه في موعد السّعادة، بوجوم حزين، ودمعة حرى، وقد وردن نعمة، وحططن على عيشٍ خصيلٍ (أي: ناعم طيب)، أين منه جنّاتُ النعيم!... وشعر الملك، شعوراً خفياً، بأن زوجه هذه من صنف آخر، لاعهد له به، في من عرف من نساءٍ،.. وأحسّ بقلبه اضطراباً، ووجيباً، ولم يكن ليحسّ بشئ من ذلك طوال ما سلف من عمره... ومدّ الملك يده إلى عروسه،.. فلم تصل إليها، بل تعلّقت يده في الهواء كقطعة من حشب، وكأنّها ليست من لحم ودم!. أتُراها من الجنّيّات؟.. أم تُراها من السّاحرات العليمات؟.. فأخذتهُ الرهبة، وعقلت لسانه الدهشة، وحاول، جاهداً، تحريك يده فلم تتحرّك... إنها جامدة كالعود اليابس.. وخيّل اليه أنه أمام امرأة تحرُسُها السماء، وترعاها عنايتها.. فطلب إليها، متوسّلاً، أن تدعو إلهها، كي يعيد إليه يده، كما كانت،.. معاهداً إياها ألا يمسّها بعد ذلك، أبداً.. واستجابت سارة لتوسّل الملك، الذي، عادت إليه يده، جدّ طبيعية، كما كانت!.. ولّما حوال ثانية أن يمدّ إليها يداً، عادت يده متشنّجةً، وقد جمد فيها الدم، وتصلّبت فيها العروق، فهو لايستطيع لها تحريكاً.. ويعاوده اليقين بأنه أمام امرأةً لها قدسيّة وعصمة، ليستا لغيرها من نساء الارض جميعاً!. وألحّ الملك من جديد، على سارة أن تدعو له إلهها، فتعود يده سالمة، مقسماً بآبائه الأكرمين، وآلهة مصر جميعاً ألاّ يقترب منها، وقد رأى الراهين والآيات!.. ومرة ثانية، تستجيب سارة للملك، وقد حلف لها بكل عظيم،.. فتعود إليه يده. ثم ينهض إلى النوم وقد اثّاقلت جفونه، فينطرح على سريره، متثائباً، ويغط ملك مصر في سبات عميقٍ!.. ويستيقظُ الملك في صباح اليوم التالي، فينظر إلى سارة، وقد نهضت من مخدعها، وهو شارد النظرات، ثم يحني لها رأسه بإجلال... فلقد رأى الملك في منامه، رؤيا حق، وصدق، أن سارة ذات بعلٍ، وعلى الملك ألاّ يقربها، بل عليه أن يحوطها بالإكرام والإعظام!.. ويُسرعُ الملك باستدعاء إبراهيم، فيُكرمُه، ويعيد إليه زوجه، على عفاف وطُهرٍ،.. ويُكرمُ سارة، وقد عصمها الله، بأمةٍ (أي: عبدةٍ) سوداء، خادمة لها. ويبقى إبراهيم في أرض مصر ماشاء الله أن يبقى، على دعةٍ، واطمئنان.. وكان يعمل بدأب، فكثُر رزقه، وتضاعفت مواشيه، واشتهر أمره بين القوم، وعلا ذكره.. ولكنّ، كل ذي نعمة محسود!.. فسرعان ما انقلب الناس على إبراهيم حسداً من عندهم، وبغياً، وأضمروا له السوء، فجفي، وشعر بالغربة بينهم، وبكرههم إيّاه فصمّم على مغادرتهم إلى أرض فلسطين، التي سبق له أن حلّ فيها ردحاً من الزمن، قصيراً. وتهيّأ إبراهيم للرّحيل. فجمع قطعانه، والمال الوفير الذي اكتسبه، وسار بسارة، تصحبُها هاجر خادمتها الجديدة، ميمّماً وجهه شطر الشمال، صُعداً.. إلى أرض فلسطين!.. إبراهيم في فلسطين حلّ إبراهيم في فلسطين، بين قومه، وقد آمن به، منهم، قليلٌ!. وكانت حياته مقسّمةً بين عمل في سبيل العيش والحياة، وبثّ الدعوة بين قومه، وإرشادهم، وانصراف إلى شؤون بيته وأهله،... فلكل حقّهُ من الاهتمام!.. وكانت زوجهُ سارة عاقراً، فلم يُرزق إبراهيم منها ولداً، يخلُفُه من بعده.. وأنِسَت سارةُ من زوجها رغبةً في ولدٍ يليه، ويحفظ ذكره، بعد تصرّم أجله (أي: انقضاء أيامه) أنها طبيعة الحياة، وسنّة الله في خلقه. والتمع في ذهن سارة خاطر: فلم لاتزوّج إبراهيم من هاجر، خادمتها، وبذلك توفّر على نفسها عناءً قد تلاقيه من ضرّةٍ غريبةٍ، لاتعرف من أمرها شيئاً؟.. وفاتحت سارة إبراهيم بهذا الخاطر الطارئ، فرضيَ!.. وتمّ ذلك!.. وشاء الله أن تحمل هاجر، لتلد، فيما بعد، إسماعيل، بكر أبناء إبراهيم، وخليفته من بعده. وامتلأت حياة إبراهيم سعادة، وقد رزقه الله غلاماً ذا شأن!. وارتفع شأن هاجر في المنزل، فهي زوج إبراهيم، وأمُّ إسماعيل.. وأنست سارة بالوليد الصغير، المُنمنم المحيّا، البهيّ الطّلعة، على سُمرةٍ داكنةٍ، بعض الأنس، ورضيت بعض الرضى، فمن يدري؟.. لعل إسماعيل يكون لها بمثابة الإبن، في مستقبل الأيام، وهي العقيم!. ولكن انصراف إبراهيم إلى ابنه، وأمّه، عنها، أثار حفيظتها، وأشعل غيرتها. فمتى كانت الأمةُ كالحرّة؟.. ومتى كان الليل الداكن، كالنّهار السّاطع بالضياء؟ ولم تطق سارة مع هذه الأمة وطفلها، عيشاً!.. وقد اسودّت الدنيا في عينيها. والغيرةُ داءٌ عُضالٌ!.. واحتار إبراهيم في أمره: فليس بوسعة أن يغضب سارة، وليس بإمكانه أن يتخلّى عن هاجر وابنها. وتصر سارة على إبعاد هاجر وابنها عن الأرض التي هي عليها... فليس لهاجر في هذه الدّيار، مكانٌ!.. وكأن الله تعالى أوحى إلى نبيّه إبراهيم: أن سِر بهاجر وابنها إلى أرض الحجاز!.. فسار!.. وديعة إبراهيم الرّكب الصغير يتهادى في سيره في أرض فلسطين إلى أرض الحجاز!. والأمةُ وطفلها في هودج، مع متاع يسيرٍ،.. والراحلة تُتلع (إي: تمد) بعُنُقها، فالدّرب طويل طويل!.. وإبراهيم على دابّته، وقد أضناها المسير، فهزلت، وضمُرت.. وتمضي الأيامن تتلوها الأيام، قاطعاً خلالها نبيُّ الله إبراهيم صحارى، وأرضاً مقفرةً، معرّجاً من نجع (موطن العشب) إلى نجعٍ، ينزل، حيثُ أضناه لغوب (أي: تعب) السّير والسُّرى (المشي ليلاً).. والطفلُ في حضن أمّه، يتلوّى، وقد أدركه إرهاق مشئ الناقة، الوئيد.. ويحُطُّ "خليلُ الرحمن" إبراهيم، عصا ترحاله في صحراء بلقع،... وتنزل هاجر ومعها ابنُها، وشئٌ من زهيد المتاع، وضئيل الزّاد! ويُبادرها إبراهيم قائلاً: - في هذه الأرض مستقرُّكُما، حتّى يأتي الله بأمره!. وتتلفّت هاجر ذات اليمين وذات الشمال، كظبي أعفر مذعورٍ، فلا ترى إلاّ صحراء تتلوها صحراء، وقد خلت من كل أثر من آثار الحياة، فتصرُخَ، وقد ارتسمت على وجهها علائم اندهاش واستغرابٍ: - أفي هذه الأرض ستدعُنا ياإبراهيمُ؟ - أجلُ، ياأم إسماعيلَ. - وإلى من تكِلُنا في هذا المهمه القفر (الصحراء المجدبة)؟ - إلى الله تعالى... - ولكنّه الموتُ. أتترُكُنا ها هنا لنهلك جوعاً وعطشاً، في حرّ الهجير، ومستعر الرّمضاء؟. - إنهُ أمرُ الله، فاعتصمي بالصبر، واتّكلي على الله.. وتضم هاجر الوليد الرضيع، وقد علا صُراخهُ، إلى حضنها، ثم تقدّمه لأبيه، مستعطفة فلعلّ قلب الأب يرقُّ!.. ولكنّ إبراهيم أشاح بوجهه عنها، وهو يزدرد ريقه، وقد جفّ حلقُه... ثم عاد واستقبلها بابتسامة الحاني الشّفوق، مطيّباً خاطرها، داعياً إياها إلى التوكّل على الله... فهو وليّ أمر عباده المسلمين إليه أمورهم، قائلاً لها: - لن يُضيّعكُما الله في هذا المكان الموحش!. ثم، يعتلي دابّته، منتهراً إيّاها، فتجري به سريعاً، ويُلاحقه صراخُ هاجر، وعيل الطفل، فلايدير إليهما وجهاً.. ولكنّ قلبه كان كالمرجل غليان عاطفةٍ، وحُزناً متّقداً... وتوجّه إبراهيم بكلّ مافيه من إحساسٍ صادقٍ، يتفجّر من قلبٍ سليمٍ، إلى مولاه، هاديه، والآخذ بيده في كل موقف عصيب، رافعاً إليه يده، وصوته، وكأنّه يجهش باكياً: {ربّنا إني أسكنتُ من ذرّيتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرّم، ربّنا ليُقيموا الصّلاة، فاجعل أفئدةً من النّاس تهوي إليهم، وارزقهم من الثّمرات لعلّهم يشكرون}. إنها وديعةُ إبراهيم عند الله!. وهل كالله مستودع وثيق؟.. زمزم: وتلاحق هاجر، بنظراتها الولهى، زوجها إبراهيم، على دابّته، تجتاز به القفار... وتظل كذلك، حتى أصبح يتراءى لها من بعيد، نقطة داكنةً على صفحة غبراء... ثم تختفي هذه النقطة شيئاً فشيئاً، وكأنّها تذوب!. فتستسلم هاجر إلى الانتحاب بمرارةٍ، وتبكي سوء مصيرها، ومصير طفلها، وتندُبُ حظّهما التّعيس! فقد عصف بها يأسٌ مريرٌ قتّال!... ثم لاتلبث أن تُسلم أمرها لله!... فهكذا وصّاها إبراهيم.. فيالقساوة قلوب الرجال!. وتذكر ضُرّتها سارة، فتُدرك أنّ قلوب النساء أقسى!.. وتعود بها الذكريات إلى سابق حياتها في البلاط الملكيّ، العاطر الأرجاء، دائماً... الدّافق بالرزق والخيرات الحسان، على استمرار... وإلى انتقالها إلى أرض فلسطين التي لايفارقها الإخضرار صيف شتاء.. وأين من ذلك كلّه، هذه الأرض المواتُ، التي تستعصي الحياة فيها على الحيّات... فتنهمر من مقلتيها دموع حرار غزار... ولايعيدُها إلى واقعها الذي هي فيه، إلاّ صوتُ رضيعها إسماعيل، الذي أخذ يُلعلع في هذه الأرض الموحشة المقفرة، بصُراخه، ولامن سميع!.. فتسرع إليه تُلقمهُ ثديَهَا، ولكن الّبنَ جفّ منه، فيعافُه، إذ لاخير فيه.. ويعاود الصُّراخ، فتُهدهده في حضنها، معلّلةً إياهُ، فلعلّه يركنُ إلى السّكوت. ولكن الطفل يزداد صُراخاً، معلّلةً إياه، فلعلّهُ يركنُ إلى السكوت. ولكن الطفل يزداد صُراخاً، وقد لفح جبينه الطريّ حرّ الهجير، ولسعة الرّمضاء.. فتحتار الأمّ في أمرها، وترفع بصرها إلى السماء، ضارعةً، بحرقه الملهوف الحيران الحزين: - ربّاهُ، مالعملُ؟... ويلوح لها من بعيدٍ مايشبه الماء، فتدع الطفل أرضاً، يفحس بقدميه الحصى والرّمل، وقد اشتدت به حرقةُ الظّمأ. وتُهرول إلى الماء الذي لاح لها آنفاً، رقراقاً، لمّاعاً، وإذا به سرابٌ خدّاعٌ!.. ثم لاتلبث أن تعود غلى مكانها الأول، حيث طفلُها، مهرولةً، فصُراخهُ يقطّع نياط قلبها الملتاع! وتعاود النّظر، فإذا كالماء، وتُهرول إليه من جديد، وتسعى،... ثم لاتلبث أن تعود... وهكذا، فما انفكّتْ عن هرولةٍ وسعيٍ في جيئةٍ وذهابٍ، حتى استوفت سبعة أشواطٍ كاملةٍ.. وصراخ الطفل يعلو، وقد فار وجهُهُ، بينما قدماهُ لاتتوقّفان عن فحص الأرض فحصاً عنيفاً... ويشتدّ تلوّي الطّفل الظّمآن،... ويشتدّ صُراخُه،... ويشتدُّ فحصُ قدميه الصّغيرتين.. ولاتطيق هاجر مزيد احتمالٍ واصطبارٍ، فتُغمض عينيا قليلاً، وقد أعياها الجهد، وأخذ الإعياء منها كلّ مأخذٍ، وتشعر بما يشبه الدّوار، وتشعر بأنهّها لتكادُ تتهاوى أرضاً... وتفتح عينيها، وقد كفّ الطفلُ عن صُراخه،.. وإذا بالماء يتفجّر بين قدميه الصّغيرتين، زُلالاً!... إنّه ليس سراباً هذه المرّة.. وتفرُكُ عينيها، أفي حُلم هي؟.. فهي لاتكادُ تُصدّقُ ما ترى!.. وتُسرعُ إلى الماء تحبسُهُ، أن يسحّ على الرمل، ويفيض، بشئ من رملٍ وحصىً.. وتتناول الماء براحها السمراء الذاوية، وتدنيه من شفتي الوليد الجافّتين، فتبتلاّن! وتسقيه جُرعة ماء صغيرة، برّدت منه غليل الحشا.. وترشُفُ من هذا الماء المبارك رشفات، فتعود إليها الحياةُ.. ويورق في خاطرها أملٌ!.. ويُزهر رجاءٌ!.. وتذكر قول زوجها إبراهيم، وهو يهُمُّ بمغادرتها: - لن يُضيّعكِ الله، وابنكِ، في هذا المكان الموحش... وفعلاً، كانَ ذلك!.. فقد تكفّلها الله ووليدها، في هذه الأرض المُجدبة، برحمةٍ منه وحنانٍ... وفجّر لهما، في قلب الصّحراء، ينبوعاً!.. هذه العينُ الثّرةُ هي "زمزم" مورد الحجيج على مرّ الدّهور، ومستقى عُطاشى مكّة فيما بعد، ومن سيحلُّ حولها من الأعراب، وحجّاج "بيت الله الحرام" الّذين من مناسك حجّهم، السعيُ بين الصّفا والمروة، سبعة أشواطٍ، بالتّمام والكمال، كما فعلت هاجر الولهى على حياة ابنها الرّضيع!.. إسماعيل وجُرهُمْ: قافلة من التُّجّار حطّت رحالها في أسفل مكّة. إنّهم من "جُرهُم" أتوا بتجارةٍ لهم.. ويشاهد التجار طيوراً تحوم فوق مكانٍ قريبٍ مما نزلوا فيه... وإنهم ليعلمون جيداً بأن الطيور لاتحومُ إى فوق عين ماءٍ، أو طعام لها.. فأرسلوا واردهم ليعود إليهم بخبر تحويم هذه الطيّور. وعاد الرّسول بعد حين، يزُفُّ إليهم البُشرى: لقد فجّر الله في تلك البُقعة من الصحراء عينَ ماءٍ سلسبيلٍ، فإليها أيها العُطاشى الظِّماءُ!.. وتوافد الجرهميّون فرحين، سراعاً.. فوجدوا أمّ اسماعيل وابنها.. واستأذنوا أمّ إسماعيل أن ينزلوا مجاورين، مستقين الماء، فرضيت بهم نزلاء، لامُغتصبينَ.. وتكاثر جمعُهم، واختلط اسماعيلُ بهم، وأخذ عنهم اللّسان العربيّ المُبين... وتزوّج بامرأةٍ منهم، فقّرّ بها عيناً.. وخالط الجهرميين كأحدهم، فكان بينهم طائر الصّيت، ذائع الشُّهرة، محمود الذّكر... وماهي إلاّ سنين، حتّى اختطفت الموتُ أمّه، فحزن عليها حُزناً شديداً وتفطّر (أي: انشقّ) قلبُه على هذه الأمة التي عاشت على التسليم، والقناعة، والرّضا، والتي -شاء الله- أن يكون لها شأنٌ عظيمٌ!.. وكان إبراهيمُ يأتي بين الحين والحين للاطمئنان عن ولده إسماعيل، والوقوف على أحواله، وكثيراً ماكان يصادف وصولَه غيابُ الابن عن البيت، لأمور.. فيمكث الأبُ في منزل ابنه ساعةً أو سويعات.. وتحدثنا بعضُ الرّوايات، أن إبراهيم كان في بعض زياراته لاينزلُ عن ظهر دابّته، فكأنّه آتٍ، على عجلةٍ من أمره- ليستطلع خبراً، ومن ثمَّ، يعود أدراجه من حيث أتى.. بعد أن يترك لابنه وصيةً شفوية، تنقلها إلى أسماعيل زوجُه، عن لسان هذا الشيخ الزائر، الوقور، المهيب.. البلاء المبين: فتنٌ تتلوها فتنٌ، ومحنٌ يأخذ بعضها برقاب بعض (أي: تتوالى).. وكأن الله، جلّت قُدرتُه، قدّر لهذا النبيّ الكريم، النّازل، أبداً، على حكم قضاء الله ومشيئته، أن يصهره البلاء بعد البلاء، كي يصفو خالصاً من كل شائبةٍ، كالذّهب الإبريز!.. ولعل أشدّ ماابتلى الله به خليله النبي إبراهيم، وامتحنه به، أمرُه تعالى أن يذبح وحيدَهُ إسماعيل!.. وكأن ليل هذا البلاء العسير، ليس له من آخرٍ!.. ويصارح الأبُ ابنه بما أمره الله تعالى به، فيا للبلاء المُبين!.. وما ذاك إلاّ ليُلاقي طلبُ الأب رضىً في نفس الابن، واستجابةً له، فلا يجرُّهُ إلى الذّبح -امتثالاً لأمر الله تعالى- قهراً، قسراً.. { قال يابُنيَّ إني أرى في المنام أنّي أذبحُكَ فانظُر ماذا ترى} ونحن نعلم، بأن رؤى الأنبياء حقٌ كلُّها وصدقٌ، فليس للشيطان إلى نفوسهم الزكيّة من سبيلٍ! وإن اسماعيل ليعلمُ ذلك حق العلم، فهو نبيٌّ من خاصّة طينة الأنبياء المجتبين وهو البارُّ بوالديه، الشفوق عليهما في شيخوختهما بحدبٍ وإيثارٍ.. وماكان إسماعيل ليتردّد في الاستجابة الفوريّة لإرادة الأب الممثّلة في بعض حالاتها إرادة الله. { قال ياأبت افعل ماتؤمر ستجدُني إن شاء الله من الصّابرين} ويطيب إبراهيم نفساً بهذا الابن البارِّ،.. وتفيض عاطفةُ الأب!.. ويرقُّ قلبُ الابن باستسلامٍ غريبٍ،.. فيجهشان بالبُكاء!.. ويضم إبراهيم إسماعيل إلى صدره، قائلاً له، ويدهُ تعبثُ بشعر هذا الفتى بحنانٍ: - نِعمَ الولدُ أنت يابُنيّ، معيناً على أمر الله، فجزاك الله خير مايجزي ولداً عن والدِه. ويشُدُّ إبراهيم ابنه وثاقاً... ويستسلم الابنُ للذّبح، على قناعةٍ، ورضىً، وتسليمٍ.. وينظرُ إبراهيمُ إلى ولده إسماعيل ملقىً بين يديه، كالنّعجة الوديعة،.. وإلى السّكين في يدهِ، حادةً، رهيفةً، تتلظى مضاءً، لفرط ماشحذ شفرتها إبراهيم.. وتفيضُ عبرات الأب، وكأن المذبوح قلبُه، لاابنُه!.. فمتى كان الأبُ يجزر ابنه الوحيد؟.. ويطلب الابنُ من أبيه، أن يربط عينيه بمنديل، فلا تلتقي منهما النّظرات.. إذ للعيون لغة، يقصر عن بعضها بليغ التعبير!.. ويفعل الأبُ ذلك.. ويذكر إبراهيم اسم الله، ويحُزُّ،.. فلا تفعل السكّينُ!.. فعل خارت عزيمةُ إبراهيم، أم غاب عن المُديةِ المضاءُ؟ ويطلب إسماعيل من أبيه، ثانيةً، أن يكبّهُ على وجهه، ليذبحه من القفا.. فلايرى الألم على وجهه، وهو يصدعُ بأمر الله.. ويفعل إبراهيم ذلك.. ويعاود الحزُّ، باسم الله، .. ولكنّ السكين لاتفري، ولا تقطع، ولايشخب جرحٌ دماً.. ويحاول إبراهيم ثالثة، وكأنه ينتهر هذه السّكّين المتمرّدة على الذّبح وألقي في روعه أنّ السّكّين تنطقُ: - العبدُ يأمرني، والله ينهاني!.. ويرتمي إبراهيمُ، فيقتعدُ الأرض، خائراً، يلهثُ، وإنّ جبينه ليرفض عرقاً صبيباً، والسكّينُ في يده.. ويتطلّع إلى علٍ، ينتظر أمر السّماء، وإذا به يرى ملاكاً يتهادى نحوه، نزلاً، إنه جبريلُ، الذي يعرفُهُ جيداً، وقد أمسك كبشاً سميناً، متّجهاً به إليه.. منادياً إياهُ: { أن ياإبراهيمُ. قد صدّقتَ الرؤيا إنّا كذلك نجزي المحسنين} وتناول إبراهيم هذا الكبشَ- القُربان، وأمرَّ السكّين على حلقه، فهوى الكبش يتخبّطُ بدمه، مذبوحاً من الوريد إلى الوريد. وهكذا افتدى الله ابن خليله بكبشٍ سمينٍ. فصار إسماعيلُ "ذبيح الله" كما صارت الضحيّة أحد مناسك حج المسلمين في كلّ عامٍ،.. حيث تنحر ألوف ألوف الضحايا السّمان، وتُقدّم قرابين، في ذكرى "ذبيح الله" إسماعيل ابن إبراهيم (عليهما السلام)، وإشارة إلى هذه الذكرى، ورمزاً!... بناء الكعبــة: ويأتي إبراهيمُ ولدهُ إسماعيل، في مكّة، لازائراً هذه المرّة، ولامتفقّداً، ولامطمئناً... ويطرُقُ عليه الباب، فلا يجدُه.. ولايستغرب الأبُ ذلك.. فلطالما كان يُلحّ على هذا الأب الشيخ، الشوقُ، فيقصدُ ابنه، كي يطفئ لواعج شوقه برؤيته، غير مُبالٍ نأيَ الدّيار، وشحط المزار،.. ولمّا كان يطأ عتبة داره، ويسأل عنه، يُخبر بأنّه غادر البيت، منذُ أيّام وخرج للقنص،.. أو هو في خارج مكة مع بعض صحبه،.. أو قد انصرف إلى بعض أعماله، بعيداً عن داره.. فكأن مكث هذا الولد في بيته، عليه حرام!.. ويتفقّد إبراهيم إسماعيل بين المضارب والأطناب (حيث تُنصبُ الخيام) فلا يجدُه، فأين هو؟. ويتّجه إبراهيم إلى بئر زمزم ليروي طمأه، وياخذ حظّاً من الرّاحة، بعد أن أعياه التّجوال! فيرتوي من الماء المعين، ويحمدُ الله تعالى حمداً كثيراً نوقد استجاب دعوة إبراهيم فعمّر هذه الدّيار، وأسال هذا الماء السّلسبيل.. وأصبح هذا المكان الذي كان قفراً بلقعاً، منتجعاً، ومورداً للغادي والرائح والمقيم... فحُطّمت فيه الرّحال، طلباً للسُّكنى فيه، وللإقامة. وتكاثر فيه خلقٌ، وازدحمت فيه الأقدام... وقام فيه سوقٌ يتّجرُ فيه هؤلاء البدو، ويتبادلون فيما بينهم بضائع، وشيئاًن من صناعةٍ، يسيراً!... وتطلّع إبراهيم إلى دوحة فينانة، باسقة متهدّلة الأغصان، وإذا برجل يتفيّأ ظلالها وهو يبري سهاماً بين يديه. وتأمّل إبراهيم الرجل محدّقاً، فهو يشبه ابنه اسماعيل الّذي يجد في طلبه. ولعلّه هو!. وتقدّم نحوه خطوات، فإذا هو إسماعيل عينُهُ، فيحُثُّ نحوه الخُطى!.. ويشاهد إسماعيل شيخاً عجوزاً، يتقدّم منه بسرعة الملهوف، ويتفرّسه ملياً، فيعرفُهُ.. إنّه أبوه إبراهيم، فيصرُخ متهلّلاً، وقد أخرجتهُ المفاجأةُ السّعيدةُ عن طوره.. ويصيحُ الأبُ،.. ويركضُ كلٌّ منهما نحو صاحبه فيتعانقان ملياً. ويجلس إبراهيم إلى جانب ابنه إسماعيل، تحت الشّجرة الفرعاء، يتأمّل فيه عزيمة الشّباب ونضارة الفتوّة إنّه رجلٌ ملءُ البصر، قد تهلّل وجهُهُ بِشراً، وكأنّ السّعادة تتقطّر من هذا المحيّا الكريم.. وينشرحُ الأبُ صدراً لهذا اللّقاء الماتع.. ويتناول الابنُ يد أبيه الخشنة، فيقبّلها، ويشمُّ فيها عبق النبوة الفوّاح، وأريجها المعطار!.. فلقد طال عهد دون يأذن الله بمثل هذا اللقاء الأنيس.. ويقبّل الأبُ غرّة هذا الابن، القويِّ الأركان،.. إنه امتدادُهُ فيما بعدُ على كرور الأعوام.. وبنسله ستعمرُ ديارٌ، وتمتلئُ بقاعٌ!.. ويدعو الابنُ أباه إلى البيت.. فوعثاءُ السّفر بادية العيان على ثياب هذا الشيخ ووجهه.. وجبينُه الكريم ينضح عرقاً وتعباً.. فيستمهل الشيخ ابنه وقتاً يسيراً.. فما كانت هذه الرّحلةُ الشّاقّةُ إلاّ كي يفضي إبراهيم إلى إسماعيل بأمر جلل، وخطيرٍ. فلا للزيارة أتى ولا للإطمئنان، ولكن لمهمّةٍ أوحت بها إليه السّماء!.. ويدنوان الواحد من الآخر، وكأنهما يتناجيان بسرٍّ، لايُباح.. ويشيرُ إبراهيم إلى نشزٍ من الأرض، يُطلُّ عليهما، قائلاً لابنه: -إنّ الله تبارك وتعالى أمرني أن أقيم للنّاس في هذا المكان بيتاً، يحُجُّ إليه الناسُ أفواجاً، يقيمون فيه شعائر الله، وقد توافدوا إليه من كل فجٍّ عميقٍ، ويتقرّبون فيه إلى الله بزكيِّ الطّاعةِ وخالص العبادة، ويذكرون الله فيه، في أيامٍ معدوداتٍ، ذكراً كثيراً!.. ويشمّر إسماعيل عن ساعدين مجدولين، قائلاً لأبيه: - انهض، ياأبت، بما أمرك الله، فأنا نعم العون لك، إن شاء الله،.. على الله قصدُ السَّبيل!.. وتشيعُ على وجه الشيخ المهيب ابتسامةٌ طافحةٌ بالسّعادة والرّضى.. وينهضان إلى بيت إسماعيل، على الرّحب والكرامة. وما أن تنفّس الصّباح، حتى كان الشيخ وفتاه يُباشران عملهما، فالفتى يحمل معدّات وآلات، والشيخ يحفر الأساس لأوّل بيت من حجرٍ شهدته الكُرَة الأرضيّةُ. { إن أول بيتٍ وضع للناس، للّذي ببكّة مباركاً وهدىً للعالمين. فيه آيات بيّناتٌ مقامُ إبراهيم ومن دخلهُ كان آمناً ولله على النّاس حجُّ البيتِ من استطاع إليه سبيلاً، ومن كفر فإنّ الله غنيٌّ عن العالمين}. وانطلق إبراهيم يحفر بهمّة الشّباب وعزيمة الفتيان،.. لا يُبالي، وقد اغبّرت لحيتُه الشّريفة بما لحق بها من غُبار.. وكان إسماعيل يحمل إليه الحجارة، يقدّمها بين يديه، ويعينُهُ على رصّها حجراً جنب حجر، ومدماكاً يعلو مدماكاً.. ويبتسمان راضيين، فلقد استطال البُنيان.. ويُلقى في روعهما بأنّ الله أمدّهما ببعض الملائكة حتى علا البنيان المقدّس، واستطال.. ويمكثان على ذلك بعض أيّام.. ولمّا بلغ البُنيان طولُ قامة إبراهيم، طلب الشَّيخُ من ابنه أن يوافيه بحجرٍ يرتقيه، لمزيد من إعلاء البنيان.. وبعد طويل تفتيشٍ، يهتدي إسماعيل إلى حجرٍ فيه لمعةٌ داكنةٌ، ضاربةٌ إلى السّواد، يختلف عمّا سبق وحمل لأبيه من حجارةٍ. فيعلوهُ إبراهيم، ويعلُو البِناء.. ثم يأخذُ إبراهيمُ هذا الحجر الغريب، فيرصُّه إلى جانب حجرٍ في أحد أركان هذا البُنيان إنه الحجرُ الأسودُ الّذي يسعُدُ المسلمون بتعفير وجوههم فيه، ولثمه، واستلامه، في حجٍّ لهم، وفي عمرةٍ... ويعودان في اليوم التالي لاستكمال بناء البيت، وإذا به قد علا في الجوِّ، مهيباً، باذخاً، وماهكذا تركاه مساء البارحة، فيشكران الله على توفيقه، وتسديده، وتأييده.. ويتّضح لهما بأن قد شارك في بناء هذاالبيت، أهلُ أرضٍ، وأهلُ سماء، إنه بيتُ الله في وسط أرضه، وقد أراده الله محجّةً لعباده، فكان!.. ويتابع إبراهيم وإسماعيل عملهما في البناء، وقد استفزّهما نشاط، وهمّةٌ وثُوبٌ... إذ لم يبقَ أمامهما إلاّ سقف البيت يمُدانه فوق ثوابت الجدران، وتمّ لهما ذلك بيسر، وجهدٍ قليل.. ونزل إبراهيم وإسماعيل إلى البيت، وقد فرغا، لتوّهما من بنائه، يصليان.. ورفعا أيديهما بحارّ الدُّعاء؛ {رّنا تقبّل منّا إنّك السّميع العليم. ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا أمّةً مسلمةً لك وأرنا مناسكنا وتُب علينا إنّك أنت التوّاب الرّحيم} وهكذا كانت الكعبة الشريفة محطّ أنظار المسلمين في كلّ بقاع الأرض، ومهوى أفئدتهم، وقبلة صلواتهم الخمس في كل يوم، يتّجهون بها إلى الله تعالى من خلال بيته العتيق!.. إبراهيم والملائكة المرسلون: عاد إبراهيم من مصر، كما مرّ معنا آنفاً بقُطعان كثيرة، ومالٍ وفير.. واربت ثروته، وتكاثرت قطعانه حتى ضاقت با رحاب المروج الخضر.. وكان معه "لوط" أحد أقربائه الصّالحين، وأنصاره المقرّبين. واتّخذ "لوط" لنفسه ناحيةً ثانيةً من أرض فلسطين، بعد أن ضاق الفضاء بقطعانه وقطعان إبراهيم. متخذاً "سدوم" له مقراً، ومنتجعاً.. وكان أهلُ "سدوم" قوماً مفسدين، لايتورّعون عن منكر يأتونه، أو، عن قبيح، ولايحجزهم عن معصية الله خلقٌ ولادينه، ولامروءة الرّجال.. وعلاوة على ذلك كلّه، فقد ابتلاهُم الله بانحرافٍ في أمزجتهم، واعتلالٍ في علاقاتهم، فكانوا لايتناهون، ولاينزجرون.. ويئس منهم لوطُ.. فلطالما دعاهم إلى الهُدى، وخوّفهُم عقاب الله، وعذابه الأليم، فكأنهم، والصلاحَ، على طرفي نقيضٍ، لايجتمعان... فدعا عليهم نبيُّهم لوطُ بعد أن طفح كيل فسادهم وفحشائهم، وإصرارهم على المنكر... واستجاب الله لنبيّه لوطٍ، الدُّعاء!.. * * * النبي إبراهيم في بيته منصرفٌ إلى بعض شؤونه... ويقال له: ياإبراهيمُ!... ضيوفٌ في الباب!.. وتهلّل وجهُ إبراهيم استبشاراً، وبرقت منه الأسارير الوضاء!.. فأهلاً بالضيوف، وسهلاً،.. ويامرحباً بالطارقين!.. وكما أنّ إبراهيم "خليلُ الرّحمن"، فهو "أبو الضّيفان" أيضاً.. وكثيراً ماكان يتأخّر في تناول عشائه، انتظاراً لضيوف قد يكونون إليه متّجهين، فيؤاكلُهُم في هزيعٍ من الليل. ويمكثون عنده ماشاؤوا، على تكريمٍ.. وكان من عادة خليل الرّحمن، أبي الضّيفان، أن يوقد لسُراة الليل، المُدلجين، (أي: المسافرين ليلاً) نيراناً، على القِمم، يهتدون بضوئها، فينزلون عنده ضيوفاً مكرمين.. أما وقد أتوه يطرقون بابه، فياللبُشرى!.. وخفَّ إبراهيم إلى الباب، يستقبلُ ضيوفه، وقد أخذ المساءُ يوشّح الأرض بدكنةٍ وسوادٍ.. وأدخلهم الدار، ولسانه لاينقطع عن الترحيب، وأجلس كلاًّ منهم على إهاب (أي: جلد كبشٍ)، وثيرٍ!.. وأسرع إلى الزّريبة، فشدّ منها عجلاً سميناً، ذبحهُ، ثم سلخ جلدهُ على عجلٍ، وأوعز إلى زوجه العجوز سارة، وقد أربت على الثمانين، أن هيّئي لنا من لحم هذا العجل طعاماً، نقدّمه للضيفان!.. وعاد إلى ضيوفه مرحّباً بهم من جديد، يؤنسهم بحديثه الطليّ الطيّب، وكأنّه، في بيانه، قطعٌ من مسكٍ منثور!.. وماهي إلاّ ساعةٌ، أو تزيد قليلاً، حتى كان القِرى (طعام الضيوف) أمام الضيوف، ونظر هؤلاء إلى الطّعام يقدّم إليهم،.. إنّه عجلٌ سمينٌ، قد طرح أمامهم مشوياً!.. وفاحت رائحة الشُّواء، فامتلأ من عبقا المكان.. - على اسم الله ياضيوف الرحمن.. قال ذلك إبراهيم، وشمّر عن معصميه يبتغي تقديم خالص اللحم لضيوفه. واعتذر الضيوف عن تناول الطّعام، فلم تمتدّ إليه يدٌ!.. - أتعتذرون؟.. لن تُغادروا هذا المكان قبل تناول الطّعام، وهذا وقتُه، وربِّ الأرضِ والسّماء!.. وازدادت دهشة إبراهيم عندما توسّم وجوه ضيوفه وأجسامهم، فهؤلاء الّذين أمامه، ليسوا بشراً عادِّيين، وخيّل إليه، وإنه لكذلك، أنهم ملائكةً هبطوا عليه من السموات العلى!.. ملائكة!.. لذلك فهم لايأكلون، واقشعر بدن إبراهيم، واخذه روع وخوف.. فوجل منهم.. والملائكة- كما يعلم إبراهيم- لايتنزّلون ضيوفاً، ولايهبطون من السماء، عبثاً، بل رسل يحملون أمر الله تعالى إلى من يشاء من عباده!.. فالوقت، أذاً، ليس وقت ترحيب، ولاقرىً، ولا إكرام،.. ويتساءل إبراهيم، والوجل باد عليه: ترى، ماالمهمة التي من أجلها هبط هؤلاء الرسل الكرام؟ واخذ الملائكة يهدّئون من روع إبراهيم، وبددون وجله.. ثم ابتدروه وزوجه مبشرين اياهما بغلام عليم. إنه إسحق،... ويضيفون: {ومن وراء إسحق يعقوب} وينبهر الزوجان العجوزان، وقد بلغا من العمر عنياً، لهذه البشرى، يحملها إليهما ملائكة السماء فتصيح سارة، وقد عطّت عينيها بيدين مرتعشتين: {ياويلتي، أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً، إن هذا لشئٌ عجيب} وكانت دهشة إبراهيم دون دهشة سارة زوجه العقيم.. فقال بلهجة تنضح بما يشبه اللامبالاة وكانه لايعير لهذه البشرى كبير أهمية: {ابشّرتموني على ان مسني الكبر، فبم تبشرون} {قالوا: بشّرناك بالحق!..} وساور إبراهيم احساس خفي، عميق، بأن تنزل الملائكة يحمل اكثر من بشرى بولادة غلام.. فكأنهم قادمون لأمر أخطر من ذلك وأعظم شأناً!.. - {قال: فما خطبكم أيها المرسلون؟..} - {قالوا: إنا أرسلنا الى قوم مجرمين} ويشيرون بأيديهم الى جهة سدوم. ويوقن إبراهيم بأن العذاب آت، لامحالة، قوم لوط!.. وكأنه طلب إمهالهم، فلعل القوم يتوبون الى بارئهم، ويصلحون.. فأخذ يجادل ملائكة ربه في ذلك. وكان الجواب: {ياإبراهيم اعرض عن هذا، إنه قد جاء أمر ربك، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود} فيسكت ابراهيم، ويلوذ بالصمت.. ويطوف بباله خيال لوط، فلطالما دعاهم هذا النبي الى سبيل الرشاد، فلم يؤمن به منهم إلا نفر، جد، قليل!.. - {قال: إن فيها لوطاً.. - {قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجيّنهُ واهله الا امراتهُ كانت من الغابرين} وينهض الملائكة، وقد أدوا رسالتهم الى ابراهيم-، داعين لاهل بيت ابراهيم برحمة من الله، وسلام، وينصرفون!.. وما ان تصرم الليل، الا أقلة، حتى جاء امر الله، فحاق بقوم لوط سوء العذاب.. فقد زلزل الله بهم الارض زلزالاً شديداً، فاضطربوا أيما اضطراب.. وأتبع الله ذلك بأن جعل عاليها سافلها، ودمرهم تدميراً. ويمر المار في غور الأردن وفلسطين، ويتهيأ للصلاة في بقعة من هذه الوهاد الممتدات، الطوال، فيقال له: لا تفعل!.. فأنت في أرض خسف.. فها هنا كانت سدوم، وهناك كانت عمورة، مدينتا قوم لوط!.. * * * وأخيراً ، رزق الله ابراهيم إسحق، فطابت نفس سارة، أن آتاها الله ولداً رسولاً، كما آتى ضرّتها، من قبل، هاجر، إسماعيل نبياً... فكانت في ذرية خليل الرحمن إبراهيم النبوة والكتاب... وآتاه الله ماقرّت به عينه، وأثلج به صدره، .. وشاهد من آيات ربه البيّنات الكثير الكثير.. فتحول إيمانه إلى يقين، ولاأرسخ.. وكانت نهاية المطاف... وأحش أبو الانبياء بدنوِّ أجله، وبالموت يدب في أعضائه المرتعشات وكان ذلك في مدينة "الخليل" في فلسطين، حيث أسلم إبراهيم الخليل وجهه لله حنيفاً مسلماً، ففاضت روحه الشريفة، وقد أغمض عينيه الكريمتين، متمتماً: - { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحق إن ربي لسميع الدعاء. رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي، ربنا، وتقبل دعاء. ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} |
#3
|
||||
|
||||
![]()
النبي إسماعيل (ع) الذبيح
دعوة إبراهيم(ع) يروي المؤرخون أن نبي الله إبراهيم(ع) كان متزوجاً من سارة أخت نبي الله لوط(ع)، وهي ابنة خالته، وأنه لم يرزق منها بولد طوال أكثر من عشرين عاماً، فدعا إبراهيم ربَّه قائلاً: {ربّ هب لي من الصالحين}. وكانت سارة تعلم برغبة إبراهيم (ع) في أن يصبح أباً ويكون له ولد يعينه في حياته ويرثه بعد مماته. وكانت لها جارية مصرية قبطية، اسمها هاجر، فوهبتها له، ليتزوجها عسى أن يتحقق له مايريد. وهكذا حقق الله دعوة خليله إبراهيم(ع)، وحملت هاجر {فبشرناه بغلام حليم}، هو اسماعيل(ع). ارتفعت نفس هاجر بعد حملها، وراحت تتباهى وتتكبر على سيدتها سارة، فاغتاظت سارة ولحقتها الغيرة، فكانت تدور بينها وبين هاجر خلافات كالتي تحصل بين الزوجتين في البيت الواحد، ولكن إبراهيم(ع) كان يوفق بينهما في كل مرة. وظلت الحال كذلك حتى ولدت هاجر إسماعيل(ع) وإبراهيم(ع) في السادسة والثمانين من العمر، وسارة قد بلغت سن اليأس من الإنجاب، فتعاظمت غيرة سارة، وبات إبراهيم(ع) في حيرة في أمره، كيف يستطيع التوفيق بينهما وهو في هذا العمر شيخ كبير. وبدأ إبراهيم(ع) يناجي ربه، ويطلب إليه أن يعينه ويساعدهُ، فبشره الله سبحانه بولدين آخرين تنجبهما سارة: { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب. قالت: ياويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إنّ هذا لشئ عجيب. قالوا أتعجبين من أمر الله؟ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد}. بعد خمس سنوات على ولادة إسماعيل(ع) أنجبت سارة إسحاق(ع) وهكذا صار لإبراهيم ولدان: إسماعيل من هاجر، وإسحاق من سارة... ولحكمة أرادها الله، وتحاشياً لما قد يقع بين الزوجتين وولديهما من الخلاف والمشاحنات أمر الله سبحانه خليله إبراهيم(ع) أن يخرج بإسماعيل وأمه هاجر، ويبتعد بهما عن سارة، التي اغتمت كثيراً وثقل عليها أمر هاجر وودلها إسماعيل، بعد أن صار لها ولد. بوادٍ غير ذي زرع أذعن إبراهيم(ع) لأمر ربه، فخرج بهاجر وابنها إسماعيل، وهو لايدري إلى أين يأخذهما، فكان كل ما مرّ بمكانٍ أعجبه فيه شجر ونخل وزرع قال: إلى ههنا ياربّ؟ فيجيبه جبرائيل(ع): امض يا إبراهيم... وظلَّ خليل الله وهاجر سائرين، ومعهما ولدهما الرضيع إسماعيل حتى وصلوا إلى مكة، حيث لازرع هناك ولاماء، اللهم إلاّ دوحة ألقت عليها هاجر كساءً كان بحوزتها، ليظلهم من حرِّ الشمس اللاهبة. أراد إبراهيم(ع) أن يترك هاجر وولدها إسماعيل، في ذلك المكان القاحل المقفر، حيث لادار ولانافخ نار، ولاطعام فيه ولاشراب، إلاّ كيس من التمر وقربة صغيرة فيها قليل من الماء كانوا قد حملوهما معهم عند بدء رحلتهم. فخافت هاجر على نفسها الجوع والعطش، وعلى ولدها الهلاك، فتعلقت بإبراهيم(ع) تريد ألا تتركه يذهب، وراحت تساله: إلى أين تذهب ياإبراهيم وتتركني وطفلي في هذا المكان الذي ليس فيه أنيس، ولازرع ولاماء؟!.. أو ما تخاف أن نهلك أنا وهذا الطفل جوعاً وعطشاً؟! رق قلب إبراهيم(ع) وتحير في أمره، ولكنه تذكر أمر الله له، فماذا يفعل وهو إنما ينفذ ماأمره به ربه؟ وأشاح بوجهه عنها.. ولكن هاجر ألحت في السؤال، وظل إبراهيم(ع) منصرفاً عنها يناجي ربه.. ويأتي الجواب، جازماً حاسماً لاتردد فيه ولاتراجع: إن الله هو الذي أمرني بترككم في هذا المكان، وهو لاشك سيكفيكم.. لاذت أم إسماعيل بالصمت، ورضخت هي الأخرى لما أراده الله ثم قالت: إذن لايضيعُنا.. ورفع إبراهيم(ع) يديه بالدعاء متضرعاً إلى الله وهو يهم بالعودة: { رب إنّي أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم. ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم. وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}. ثم قفل عائداً إلى بلاد الشام حيث سارة، وقلبه يهوي إلى مكة.. إلى ولده وفلذة كبده إسماعيل الرضيع، ولاحيلة له إلاّ الدعاء والتضرع. نفد التمر والماء من بين يدي هاجر... واشتدت حرارة القيظ فعطش الرضيع وطلب الماء ليشرب.. وراح يتلوى من الجوع والعطش فلم تعد هاجر تطيق رؤية طفلها على هذه الحال، فراحت تنظر إليه وعيناها مغرورقتان بالدمع، لاتدري ماذا تفعل.. أتترك وليدها يقضي جوعاً وعطشاً؟ لا، لا، لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا المصير... فلا بد أنها ستجد الماء.. فالله لن يضيعها وطفلها.. وقامت هاجر في الوادي في موضع السعي أيام الحج، ونادت هناك: هل في الوادي من أنيس، فلم يجبها أحدٌ غير الصدى.. بئر زمـــزم انطلقت هاجر تبحث عن المائ في كل اتجاه. وكان الصفا أقرب جبل إليها، فصعدت عليه وراحت تنظر يمنه ويسرة وفي كل ناحية فلاح لها على المروى سرابٌ طنته ماءً، نزلت عن الصفا وراحت تسعى مهرولة في الوادي باتجاه المروى، وفي ظنها أنها ستجد الماء.. ولكم كانت خيبتها حينما لم تجده شيئاً، فوقفت منهكة تنظر وتتفحص فلاح لها سرابٌ في الجهة الأخرى على الصفا وكأنه الماء فعادت مهرولة إلى الصفا ولكنها لم تجد هنالك شيئاً. وهكذا في كل مرة، حتى فعلت ذلك سبع مرات وطفلها لم يفارق مخيلتها، ولم تكن تطيق أن يغيب عن ناظريها.. فلما كانت في المرة السابعة، وقد اشتد بها العطش، وأخذ منها التعب، وأنهكها المسير، دون أن تعثر على الماء.. نظرت إلى طفلها والدموع تكاد تطفر من عينيها، فإذا الماء ينبع من تحت قدميه، فأتته مسرعة وراحت تجمع حوله الرمل وهي تقول: زم زم. ثم أخذت تعب من الماء حتى ارتوت وانحنت على إسماعيل ترضعه.. فإذا بها تسمع صوتاً يقول لها: لاتخافي الضيعة، فإن ها هنا سيكون بيت لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، فقري عيناً، إن الله لايضيع أهله. أفئدة من الناس تهوي إليهم كانت قبيله جرهم، وهي إحدى أكبر القبائل العربية في ذلك الزمان، مثلها مثل بقية القبائل العربية تجوب الأماكن بحثاً عن الماء والعشب، وكانوا يقيمون في عرفات.. مما أتاح لهم أن يروا الطير تحوم فوق وادي مكة، حيث انبجس الماء من بئر زمزم، فعرفوا أن في ذلك الوادي ماءً، وبعثوا منهم من يتحقق من ذلك، فجاؤوا إلى الوادي فرأوا هاجر وإبنها إسماعيل، وشاهدوا البئر المملوءة ماءً فأعجبهم المكان، فاقتربوا من هاجر وسألوها من تكون؟. قصت هاجر عليهم قصتها، فطلبوا منها أن تأذن لهم في النزول قريباً منها ومن البئر، فقالت لهم: سوف أستأذن لكم زوجي إبراهيم، فإنه يتفقدنا بين الحين والحين، ولما جاء إبراهيم ليرى إلام صار حال زوجته وابنه البكر إسماعيل(ع)، سألته هاجر إن كان يأذن أن ينزل الجرهميون قريباً منها في وادي مكة، فسرَّ بذلك سروراً عظيماً، وقد علم أن دعوته بدأت تتحقق، فأذن لهم. وجاءت رسل جرهم ليعرفوا الجواب، فأعلمتهم هاجر أن زوجها أذن لهم بالنزول قريباً منها، شرط ألا يكون لهم على الماء سلطان. فعادوا إلى قومهم يخبرونهم، ففرحوا بذلك ووافقوا. أقام الجرهميون قرب الماء، فأنست بهم أم إسماعيل، وقد منحوا ابنها كثيراً من المواشي. وشبّ إسماعيل(ع) بين أبناء قبيلة جرهم، كواحد منهم، فتعلم منهم العربية، وبلغ مبلغ الرجال. الرؤيا الإمتحان لما بلغ إسماعيل(ع) الثالثة عشرة من عمره، أراد الله سبحانه وتعالى أن يمتحن صدق إيمان أبيه إبراهيم(ع).. فأرى إبراهيم في المنام أنه يأمره بذبح ولده البكر الشاب إسماعيل وأن عليه إن كان صادق الإيمان أن يمتثل لأمر ربه. وصدق إبراهيم الرؤيا قولاً وسعى إلى تصديقا عملاً وفعلاً، فجاء إلى ولده إسماعيل وقال له: {يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى}. ولم يكن إسماعيل(ع) ليكذب رؤيا أباه، ويرفض أمر الله مولاه، فقال لأبيه: {يا أبت افعل ماتؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين..}. وهكذا صدق الإثنان: إبراهيم خليل الله، وولده إسماعيل عليهما السلام، صدقا أمر الله دون أن تراودهما الهواجس والشكوك، ولم يترددا في التنفيذ.. وبدأ التنفيذ العملي لذلك التصديق: قاد إبراهيم(ع) إسماعيل إلى المكان الذي أُمِر أ، يذبحه فيه، فبعث الله سبحانه إليه ملكاً على صورة شيخ جليل رزين، فقال إبراهيم(ع): ياإبراهيم، ماتريد من هذا الغلام؟ قال(ع): أريد أن أذبحه. قال الشيخ: سبحان الله! غلام لم يعص الله، ولم يأتِ مايستحق منك ذلك! قال إبراهيم(ع) إنّ ربي هو الذي أمرني بذلك. فقال الملك الشيخ: ربك ينهاك عن ذلك وإنما أمرك به الشيطان. قال إبراهيم(ع): ويلك إن الذي بلّغني هذا المبلغ هو الذي أمرني به. وظل الشيخ يحاور إبراهيم(ع) ويقول له: ياإبراهيم إنك نبي إمام، فلئن أنت ذبحت إبنك، تبعك الناس من بعدك وصاروا يذبحون أولادهم. لم يلتفت خليل الرحمن إلى كلام الشيخ، بل أقبل يستشير ولده إسماعيل(ع) في الذبح وكيف يكون، فقال إسماعيل: يا أبتاه، غط وجهي بخمار، واربط يدي ورجلي.. فقال إبراهيم(ع): الوثاق مع الذبح!.. لا والله أجمعهما عليك، وأسلما لأمر الله.. وتلّ إبراهيم إسماعيل، وأضجعه على الأرض وأخذ السكين ووضعها على حلقه..ورفع رأسه إلى السماء وجر السكين.. ولكن الله العزيز العليم، لم يكن ليترك إبراهيم يذبح ولده إسماعيل وهو يعلم صدق الأثنين وتسليمهما لأمره، وقد ظهر هذا التصديق جلياً واضحاً: {فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه: أن ياإبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين}. وأمر الله سبحانه جبرئيل فقلب السكين على قفاها، فلم تفعل شيئاً. ثم رفع إسماعيل(ع) وأتى بكبش كبير أضجعه موضعه، ونجى إسماعيل من الذبح: {وفديناه بذبح عظيم. وتركنا عليه في الآخرين. سلامٌ على إبراهيم. كذلك نجزي المحسنين}. إسماعيل(ع) وزوجتاه وتوفيت هاجر أم إسماعيل رضوان الله عليها، فدفنها إسماعيل(ع) في مكة قرب البيت الحرام، في المكان الذي يعرف اليوم بحجر إسماعيل. ثم تزوج فتاة من جرهم، عاشت معه بعد وفاة أمه هاجر... وجاء إبراهيم(ع) بعد فترة ليتفقد أحوال ابنه وأهله، ولم يكن إسماعيل موجوداً في البيت، فوقف على امرأته دون أن تعرفه، وراح يسألها عن إسماعيل، فقالت: خرج يبتغي لنا.. وسألها عن أحوالهم وكيف يعيشون، فراحت تشكو الضيق وتعلن أنهم في أسوأ حال.. ولم تستضفه، فقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلاموقولي له يغير عتبة بابه. وتركها إبراهيم(ع) وانصرف راجعاً، فلما جاء إسماعيل(ع) عرف أنّ إباه قد حضر، فسأل زوجته: هل جاءنا أحد اليوم؟ قالت: جاءنا رجل شيخ.. وراحت تصفه له وذكرت له ما سألها عنه، وأخبرته بما قالت هي له، فقال لها إسماعيل(ع) وهل أوصاكِ بشئ؟ قالت: أوصاني أن أقرئك السلام، ويقول لك أن تغيّر عتبة بابك. فقال إسماعيل(ع): ذلك هو أبي، وقد أمرني أن أطلقك، وطلّقها فلحقت بأهلها، ثم تزوج بأخرى من قبيلة جرهم. وعاود إبراهيم(ع) زيارته إلى بيت ولده إسماعيل(ع)، وكان إسماعيل خارجاً، فدخل فلم يجده ووجد زوجته، فرحبت به، واستضافته، فنزل وسألها عنه فقالت: خرج يطلب الرزق لنا. قال: كيف أنتم، وكيف تعتاشون؟ قالت: نحن بخير وسعة، والحمد لله، فقال إبراهيم(ع) وما طعامكم وشرابكم؟ قالت: أما طعامنا فاللحم، وأما شرابنا فالماء. فقال(ع): اللهم بارك لهم في اللحم والماء، ثم قال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام، وقولي له يثبت عتبة بابه ويستوص بها خيراً. ولما رجع إسماعيل إلى بيته. سأل امرأته: هل زاركم أحد اليوم؟ قالت نعم، رجل شيخ حسن الهيئة، سألني عنك، فأخبرته أنّك خرجت في طلب الرزق، وسألني عن حالنا وكيف عيشنا، فأبلغته أننا بخير وسعة من الله. وسأل إسماعيل(ع) زوجته: هل أوصاك ذلك الشيخ بشئ؟ قالت: نعم، هو يقرئك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك وتستوصي بها خيراً. قال: إنه أبي، وأنت عتبة الباب، وقد أمرني أن أثبتك في بيتي زوجة لي وأستوصي بك خيراً. إسماعيل(ع) ينقل الحجارة لبناء البيت الحرام غاب إبراهيم(ع) مدة لم ير خلالها ابنه إسماعيل(ع)، حتى أمره الله سبحانه تعالى، أن يبني له بيتاً في مكة، يكون مثابة للناس. ولم يعرف إبراهيم أين يبني البيت، وتحير في الأمر، فبعث الله عزوجل جبرائيل، فأشار إليه بالمكان المناسب، وجاءه بالقواعد من الجنة. قصد إبراهيم(ع) منزل ولده إسماعيل، وأبلغه الأمر الإلهي، فقال إسماعيل(ع): تبنيه وأساعدك. وبدأ إسماعيل بنقل الأحجار، من ذي طوى وجبل أبي قبيس، وراح إبراهيم(ع) يبني البيت ويدعو مع إسماعيل: {ربنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم}. رفع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بناء البيت، حتى بلغ يوم بنائه تسعة أذرع، وقد جعلا له بابين: شرقياً وغربياً يسمى المستجار. ثم إنّ جبرائيل (ع) دل إبراهيم على موضع الحجر الذي كان الله تعالى قد أنزله على آدم، والذي يروى أنه كان أشد بياضاً من الثلج، وإنما اسود بعدما لمسته أيادي الكفار، فأخذ إبراهيم(ع) الحجر الأسود ذاك، ووضعه في المكان الذي هو فيه اليوم. وعند انتهاء إبراهيم وإسماعيل(عليهما السلام) من بناء بيت الله الحرام، عهد الله إليهما أن يقوما على خدمته: {... وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركّع السجود} وجعله مثابة للناس، وأمرهم باتخاذه مصلى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}. ثم أمر الله سبحانه خليله إبراهيم(ع) أن يعلو ركناً من أركان البيت، وينادي في الناس: ألا هلم إلى الحج: {وأذَّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق. ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على مارزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير. ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوَّفوا بالبيت العتيق}. إسماعيل(ع) نبي الله لما أحس إبراهيم(ع) بقرب وفاته، أوصى ابنه إسماعيل(ع) أن يقوم بخدمة بيت الله الحرام، ويدبر شؤونه، وهكذا كان فبعد وفاة إبراهيم(ع)، قام إسماعيل برعاية البيت والسهر على شؤونه.. ثم إن الله سبحانه وتعالى نبأه وأرسله إلى العماليق وقبائل اليمن. فأخذ ينهاهم عن عبادة الأوثان ودعاهم إلى عبادة الرحمن، الواحد الأحد الفرد الصمد، فآمن بعضهم وكفر آخرون. وقد ذكر الله سبحانه نبيه إسماعيل(ع) في سبع من سور القرآن المجيد، هي على التوالي: سورة البقرة، سورة آل عمران، سورة النساء، سورة الانعام، سورة إبراهيم، سورة الأنبياء، وسورة ص. أما إسماعيل الذي ورد ذكره في سورة مريم في قوله تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيا. وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا}، إسماعيل هذا هو ابن حزقيل، كما أجمع عليه المؤرخون وليس إسماعيل بن إبراهيم(عليهما السلام) وكان إسماعيل بن حزقيل هذا نبياً أيضاً، وسمي "صادق الوعد" لأنه وعد شخصاً أن ينتظره في مكان معين لايبرحه، فانتظره ولم يغادر المكان، فيما نسى ذلك الشخص موعده وجاء بعد سنين ليجد إسماعيل(ع) لايزال في انتظاره، يأكل مما أنبته له الله من الأعشاب. ويروى في قصة إسماعيل هذا، أنّ عابد بني إسرائيل الذي كان يقضي حوائج الناس عند الملك هو الذي وعده، وأنه نسي وعده وهو عند الملك، وأن الملك خرج ذات يوم للتنزه كعادته وقد اصطحب معه أعوانه ومنهم العابد هذا، وبينا هم يتجولون في البرية وقع نظر العابد على إسماعيل، فتقدم إليه وقال له: إنك لاتزال هاهنا ياإسماعيل؟ قال إسماعيل عليه السلام: ألم تقل لي إنتظرني ها هنا؟ فها أنا منتظرك، فتعجب الملك مما رأى وتساءل كيف يبقى إنسان إلى الحول في مكانٍ واحد. فاخبره إسماعيل(ع) أنّ الله قد أظله بغمام، وأجرى له عين ماءٍ، وأنبت له من بقل الأرض ماكان يقتات به. وكان مع الملك رجل جبارٌ لم يستطع أن يفهم كيف أنّ إسماعيل قضى سنة كاملة في ذلك المكان، فقال للملك: سيدي الملك إنّ هذا الرجل لكذّاب، فلقد مررت أنا بهذه البرية منذ مدة فلم أرَ أحداً هنا، وإنما كان يروح ثم يعود إلى هذا المكان. وكانت لإسماعيل هذا(ع) كرامة عند الله تعالى، كما لكل نبي من الأنبياء، فقال للجبار: إن كنت تكذب عليَّ فيما تقول، نزع الله صالح ما أعطاك، فلم يلبث أن تناثرت أسنان ذلك الجبار، واعترف بكذبه، ثم توسّل إلى الملك أن يطلب من إسماعيل، أن يسامحه ويدعو الله أن يرد عليه أسنانه، لأنه شيخ كبير السن ولايمكنه العيش دون أسنان. فطلب الملك إلى إسماعيل أن يدعو ربه أن يعيد للرجل أسنانه، فقال إسماعيل(ع) سأفعل. قال الملك: بل الساعة. قال إسماعيل(ع): إنني أفضّل أن أؤخره لوقت السَّحر، لإن أفضل أوقات الدعاء وقت السحر. وهكذا، دعا إسماعيل ربه فردّ على الرجل أسنانه. ويروي أنّ أهل مكة كانوا يفتشون عن إسماعيل لايعرفون له مكاناً، وهو قائم في المكان الذي وعد عابد بني إسرائيل أن يجده فيه، إلى أن عثر عليه رجل منهم. فقال له: يانبي الله، لِمَ تركتنا وتخليت عنا، فلقد ضعفنا بعدك وكدنا نهلك؟ قال إسماعيل(ع): لقد وعدت رجلاً أن ألاقيه في هذا المكان، ولن أغادر من هنا قبل أن يعود ونلتقي. لما سمع الرجل ذلك من إسماعيل، أسرع إلى قومه يخبرهم بأمره وأمر الوعد، فخرجوا يبحثون عن الرجل حتى وجدوه، فقالوا له، مالك أيها الرجل تعد ولاتفي، لقد وعدت إسماعيل أن تلاقيه في مكانه وأخلفت وعدك، فهرع الرجل إلى مكان إسماعيل(ع) وقال له: يانبي الله، إنني نسيت موعدك، ولم أتذكر لو لم يذكّرني هؤلاء. ويذكر أنّ إسماعيل(ع) قال للرجل: لو لم تأتِ لبقيت منتظراً، ولو طال ذلك إلى قيام الساعة، فأنزل الله تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد}. ويروي أن قوم النبي إسماعيل هذا، ضايقوه وآذوه، حتى أنهم، أخذوه فسلخوا جلده، فغضب الله عليهم، وأراد لنبيه أن يقتصّ منهم، فأنزل عليه ملكاً يقول له: قد أُمِرتُ بالسمع والطاعة لك، فمر فيهم بما ترى. فقال إسماعيل(ع): لا، يكون لي بالحسين بن علي(ع) أسوة. أما إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام)، فهو أبو العرب، وقد عاش مائة وسبعاً وثلاثين سنة على مايذكر الرواة، وقد رزق(ع) من الأولاد اثنا عشر ذكراً هم: فائت، قيدار، إربل، ميم، مسمع، دوما، دوام، ميشا، حداد، حيم، قطورا، وماش. وإلى إسماعيل(ع) يتصل نسب حبيب الله نبينا محمد(صلى الله عليه وآله) عن طريق ولده قيدار والله أعلم، حيث ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: "أنا ابن الذبيحين" وهو يعني أباه عبد الله وجده إسماعيل بن إبراهيم عليه وعليهما الصلاة والتسليم. ويذكر المؤرخون نسب النبي محمد(ص) ومنهم المسعودي الذي قال: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن عدنان بن أد بن أود بن ناحور بن يعور بن يعرب بن يشجب بن ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن بن تارخ، إلخ.... من هنا يعلم فضل نبي الله إسماعيل(ع)، حيث أنه كان من صلبه شجرة النبوة المباركة، والأشخاص الذين من أجلهم خلق الله سبحانه الأرض ومن وماعليه، وهم أهل البيت حبيب الله محمد وأولاده من ابنته فاطمة(ع) وزوجها ابن عم النبي علي بن أبي طالب(ع). من هنا إذاً كرامة إسماعيل(ع) عند الله حتى افتداه بذبح عظيم كما مرّ معنا، ليحفظ سبحانه شجرة النبوة المباركة والأئمة الميامين. ويذكر أن نبي الله إسماعيل (ع) لما أحس بدنو أجله، أوصى إلى أخيه إسحاق بتدبير شؤون البيت الحرام، وتوفي سلام الله عليه، ودفن في المسجد الحرام في المكان الذي فيه الحجر الأسود. فسلام الله على إسماعيل إنه كان نبياً رسولاً وكان من الأخيار وكان من الصابرين والحمد لله رب العالمين |
#4
|
||||
|
||||
![]() النبي إسحاق (ع) البشارة ولادة إسحاق(ع) بعدما طغى بوم نبي الله لوط(ع)، بعث الله عزوجل ثلاثة من ملائكته، لينزلوا بهم العذاب الذي يستحقونه، فمروا بإبراهيم(ع)، وكان متزوجاً من سارة بنت بتوايل بن ناحور إبنة عمه وابنة خالته، وكان قد بلغ من الغمر عتياً، دون أن يرزق منها بولد. وعمد خليل الرحمن(ع) إلى عجل سمين أتى به وذبحه إكراماً لأضيافه، وهو لايعرف أنهم من الملائكة، ولماذا جاؤوا. فلما انتهى من إعداد الطعام، وقدمه للضيوف، فوجئ(ع) بأن الضيوف لايأكلون.. فأوجس منهم خيفة، وبدت عليه علامات الخوف والإستغراب، فأدرك الملائكة ذلك فقالوا له: {لاتخف إنا رسل ربك إلى قوم لوط}. هدأ روع إبراهيم(ع) قليلاً ولكنه جاهر بخوفه قائلاً: {إنا منكم وجلون}. وعاد الملائكة إلى طمأنة خليل الله(ع) فقالوا له: {لاتوجل إنا نبشرك بغلام عليم}. كان إبراهيم عليه السلام قد بلغ سن الهرم واليأس من الإنجاب، وكانت زوجته سارة هي الأخرى واقفة لاتصدق ماتسمع أذناها، قال إبراهيم(ع): {أبَشرتموني على أن مسّني الكبر! فبم تبشرون} وقالت سارة: {ياويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً! إن هذا لشئ عجيب} فما كان من الملائكة إلا أن أكدوا لهما حصول الولادة في هذا الوقت قائلين: {أتعجبين من أمر الله؟ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد}.. {كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم}. وبعد ولادة إسماعيل بن إبراهيم(ع) بخمس سنوات وبعد أن بلغ خليل الله إبراهيم مئة وعشرين سنة من العمر، ولد إسحاق بن إبراهيم(ع) غلاماً عليماً ثم شاباً صادقاً وسيماً كأن وجهه شقة قمر، ومن ثم {نبياً من الصالحين}. زواجــه(ع) أدرك الكبر إبراهيم(ع) وعجز عن الحركة ومباشرة الأعمال بنفسه، وكان إسحاق قد بلغ سن الزواج، فأمر إبراهيم(ع) أحد خدمه وهو العازر، أن يسعى لتزويج إسحاق(ع) من عشيرته وقبيلة بني أبيه، الذين كانوا لايزالون في العراق، الموطن الأصلي لخليل الله إبراهيم(ع)، وأمره أن يحمل معه من الهدايا والجواهر مايليق بالعروس وأهلها. وتهيأ ألعازر للسفر، وقد أخذ معه الهدايا والتحف الثمينة، وساق من الجمال والدواب ما يجعله لأهل من ستكون عروساً لإسحاق(ع)، وتوجه نحو العراق، قاصداً منازل أسرة النبي إبراهيم(ع)، فلما وصل إلى هناك، وصار قريباً من ديارهم، حط الرحال في مكان يقال له: فدان آرام، وفيها أبناء أخي إبراهيم ناحور بن تارح الذي كان قد توفي وترك الرئاسة لابنه بتوئيل بن ناحور. أقام ألعازر قريباً من منازل بتوئيل، مما أتاح له رؤية فتاة كريمة جميلة، كانت تحمل جرة ماء، فأوقفها وسألها أن تسقيه من الماء الذي تحمله، فرحبت به وأنزلت جرتها وسقته. ثم إن ألعازر راح يحادثها، ويسألها من تكون؟ فإذا هي رفقة إبنة بتوئيل بن ناحور أخي إبراهيم(ع) فقال في نفسه: هذه هي العروس المناسبة لإسحاق، وسألها ألعازر ما إذا كان عند والدها مكان للضيافة، فقالت: نعم. وعرّف ألعازر رفقة بنفسه، وأنه رسول عمها إبراهيم إليهم، وأنه جاء يطلب زوجة لابن عمها إسحاق بن إبراهيم(ع)، وإنه اختارها هي لتكون تلك الزوجة، ثم إنه ألبسها من الحلي والجواهر وطلب إليها أن تذهب لتخبر أهلها بقدومه إليهم. عادت رفقة إلى أهلها، وأخبرتهم بنبأ الضيف العزيز، فقام أخوها لأبان بن بتوئيل، لملاقاته واصطحابه إلى ديارهم، حيث أتى به وأكرمه وسط مظاهر الفرح والبهجة. وبعد أن ارتاح ألعازر قليلاً، أخبر مضيفه لابان بسبب زيارته لهم، وطلب منه أن يوافق على أن يصطحب أخته رفقة معه إلى فلسطين حيث ابن عمه إسحاق(ع) لتكون له زوجة. فأجابه لابان إلى طلبه، وقد وافقت رفقة على ذلك. أعطي ألعازر الهدايا التي حملها معه من فلسطين إلى رفقة، وخلع عليها الحلى والثياب، كما أعطى أهلها بعضاً من تلك الهدايا التي كان يحملها، ثم استأذن بالعودة، فجهزة لابان أخته رفقة بما تحتاجه استعداداً للرحيل. وعاد ألعازر ومعه رفقة، فلما وصلوا إلى فلسطين حيث إسحاق(ع) وكان والده ووالدته قد توفيا، فرح كثيراً برفقة، وكانت له عزاء عن فقدهما. وهكذا، تزوج إسحاق(ع) من ابنة عمه رفقة، ورزقه الله منها بولدين توأمين هما: العيص ويعقوب. وفاة إسحاق(ع) عاش إسحاق عليه السلام، محباً لولديه، متعلقاً بهما، بحيث كان دائم الدعاء لهما، فقد كان(ع) يدعو لولده العيس بالملك والسلطنة في ولده ومن تبعه، وفي المقابل كان يدعو لولده يعقوب بالرياسة على إخوته وأهله والنبوة في ولده.. وعمَّرَ إسحاق(ع) كثيراً، حيث فقد بصره قبل أن يوافيه أجله وله من العمر مائة وخمسة وثمانون عاماً، توفي بعدها في مسقط رأسه فلسطين، ودفن فيها مع والده إبراهيم الخليل(ع) في جيرون على بعد ثمانية عشر ميلاً من بيت المقدس في المسجد المعروف بمسجد إبراهيم الخليل(ع). فسلام الله عليه وعلى والده خليل الرحمن. آخر تعديل بواسطة صوت الحق ، 28-06-2008 الساعة 10:09 AM |
#5
|
||||
|
||||
![]()
النبي يوسف (ع) ذوالحسن
رؤيا يوسف استفاق يوسف ذات صباحٍ متهلّل الوجه، منبسطَ الأسارير، تطفو على قسمات وجهه المشعِّ غبطةٌ وسعادةٌ.. وشاهد أبوه يعقوبُ في فتاهُ الوسيم، ذلكَ، فسُرَّ بدوره، وطابت نفسُهُ، وانشرح صدرُه فيوسُفُ أحبُّ أبنائهِ إليه، وأقربهم إلى نفسه وقلبه، وآثرهم لديه منزلةً ومكاناً!.. وتناول يوسف يد أبيه وهو يَهمُّ بالجلوس إلى جانب هذا الشيخ الصّالح، كي يُفضي إليه بالسِّرِّ الَّذي أشاعَ في نفسه كلّ هذا الرِّضا والسُّرور، قائلاً لَهُ: {يا أبت إني رأيتُ أحدَ عشَرَ كوكباً والشَّمسَ والقمرَ رأيتُهم لي ساجدين}. ويلتفتُ يعقوبُ، منتفِضاً، إلى هذا الفتى الأغرِّ، كالأملود الريّان طراوةً، والّذي يسطعُ جبينُهُ بنورٍ سماويٍّ ساحرٍ، أخّاذٍ، وتلتمعُ على وجنتيه إشراقَةُ لألاءٍ، ويشيع منهما ألقُ ضياءٍ.. فيضمُّه إلى صدرِهِ، ويُقبِّلُهُ بعطفٍ وحنانٍ، ويُلقى في روعه بأن الله تعالى أخذَ يُعدُّ هذا الفتى الوسيم، البهيَّ الطَّلعةِ، لجلائل الأمور!.. وبنبرةٍ تنضحُ إشفاقاً يطلبُ الشيخُ الوقورُ من ابنه الفتى ألاّ يقص هذه الرؤيا الصالحة على إخوته الأحد عشر، فقد يؤدي ذلك إلى حسد منهم، وكيد.. خاصة، وأنّ يعقوب يعلم حقّ العلم تبرُّم إخوة يوسف من أبيهم الذي يؤثر عليهم أخاهم يوسف إيثاراً شديداً. فلهُ في نفسه، من دونهم، ماليس لهم جميعاً!.. وينصرف الفتى يوسف، وبنفسه تطوف آمال عذاب، وأحلام رطاب!... المؤامرة وذات مساء يحيط بيعقوب أبناؤه. وقد أجمعوا على أمرٍ، وانطوت جوانحهم التي تأكّلها الحسد، على خطبٍ جللٍ!.. فلم إيثارُ الأب يوسف عليهم أجمعين؟.. وتودّدوا إليه: {قالوا: يا أبانا مالكَ لاتأْمَنّا على يوسُفَ وإنّا لهُ لناصحون. أرسِلهُ معَناَ غداً يرتّع ويلعبْ وإنّا لهُ لحافِظونَ}. ويشعُرُ يعقوبُ بما يشبِهُ الإنتفاضةَ تسري في أوصالِهِ، فترتعدُ فرقاً (أي: خوفاً) فهو، فعلاً، لايأمنهُم على يوسف، فجميعهم له حاسدون!.. ويحاول الشّيخُ ألاّ يستجيبَ لطلبِ أبنائه هؤلاء، متذرّعاً بخوفه على يوسف من ذئب عاد، أو أفعى ناهشة، في هذه البرّيّة الموحشة، حيث يسرح أبناؤه بقطعانهم، من صبحٍ لمساءٍ!.. ويتظاهر إخوة يوسف بالحرص على أخيهم، فهو، بينهم، سويداءُ القلب، وسوادُ العين!.. ومن أين للأذى أن يعتريهُ؟.. وأنّى للذّئب أن يصل إليه، وهم عصبةٌ أشّداءُ؟.. ومازالوا بأبيهم يستميلونه، ويستعطفونه، حتّى أذن لهم.. فأخذوه معهم في صباح اليوم التّالي. وما أن ابتعدوا عن الحيِّ حتَّى وثبُوا على يوسُفَ: فهذا يَشُدُّه وثاقاً، وذلك يُمسِكُ بيديه، وذاكَ يُجَرِّدُه من قميصِهِ.. وائتمروا به.. ماذا يفعلون؟.. قال أحَدُهم: نَقتُله ونستريحُ.. وقال آخرُ: بل نبيعُه لبعض التُّجَّارِ العابرينَ على أنّه عبدٌ رقيقٌ.. وقال كبيرُهم يهوذا: من الحرام أن نقتُله، إذ لم يجترم جُرماً، ولم يقترف إثماً،.. بل نلقيه في غيابات جبٍّ قريبٍ، وليكُن بعد ذلك مايكون!.. واستحسنوا رأيه!.. فقادوا يوسف إلى جبٍّ قريبٍ، ألقوه فيه، ثمَّ قفلوا، بعد ذلك، راجعين.. لقد انتهَوا من يوسُفَ، دونَ أن تتَلطَّخَ بدمِهِ يدٌ!.. وعادُوا إلى أبيهم، مساءً، وهم يصفُقون كفاً بكفٍّ مُتباكينَ!.. ويَبتدِرُهُم أبوهُم يَعقُوبُ، وقد انخلعَ جِنانُه: - ويحَكُم!.. ما الأمرُ؟ - {قالوا ياأبانا إنّا ذهبنا نستبقُ، وتركْنا يوسُفَ عند مَتاعِنا، فأكَلَهُ الذِّئبُ، وما أنتَ بِمُؤمِنٍ لَنا، ولَو كُنَّا صادقين}. ويَصفُقُ يعقوبُ كَفّاً بِكَفٍّ، أيضاً... - أحقّاً، ماتَدَّعونَ؟.. - إي، وربِّ آبائِكَ الصَّالحينَ!.. ويشعُرُ يعقوبُ، شُعوراً، يكاد يكونُ يقيناً، بتآمر أبنائه، على أخيهم يوسُفَ الوضئ القسمات، الأبلج، كيداً منهم وحسداً.. ويطرح إخوة يوسف قميص أخيهم الممزَّقَ أمام أبيهم، وقد تلطَّخ بدمٍ كذبٍ. ويُشيحُ يعقوبُ بوجهه عن أولاده الماكرين، وإنّ قسماتهم لتنضح بالكذب المبين، ويتولّى عنهم، وقد اسوَدَّ وجهُه حُزناً على يوسُف، وأسَفاً!.. { قال: بل سوَّلَت لكُم أنفُسُكم أمراً، فصبرٌ جميلٌ، والله المستعانُ على ماتصفون}. يوسف في الجُبِّ ويتطلّع الفتى الوسيمُ تحتَه، فإذا بماءٍ ساكنٍ، رقرَاقٍ... ويتأمّلُ فوقَه، فلايرى إلاّ غتمةً حالكةً.. فتلُفُّهُ وحشةٌ خانقةٌ، وتطوفُ بخياله أفكارٌ سودٌ، فيرتعدُ.. إنّه مظلوم، وقد ألقي به في جوف هذا الجُبِّ الحالك، الموحش دون ذنب، أو جريرةٍ.. أمّا الظّالمون، فهم إخوتُه.. فيا لسُخرية الأقدار!.. ويشعُر بالألم يعتصر قلبه الصغير، اعتصاراً!.. ثم يشعُر وكأنّ نوراً رقيقاً، لطيفاً، ينسابُ إلى دخيلةِ نفسه شيئاً فشيئاً.. فيُبدّدُ ما علق بها من وحشة مكفهِرّةٍ، ومايلُفّه من ظلمات.. وخيّل إليه، كنقرٍ في أذنيه، صوتٌ يهتفُ بهدوءٍ: - {لتُنَبِّئنَّهُمْ بأمرِهِم هذا، وهُم لايَشعرون} فيطمئن، كالمستبشر خيراً، وترتاح إلى ذلك نفسه ارتياحاً غريباً.. ويُسلم أمرهُ لله!... خلاصُ يوسف وبعد حين، يسمع يوسف، وهو في غيابة الجبِّ، أصواتاً اختلط بعضُها ببعض، فيُصعي إلى الأصوات التي تترامى إلى مسمعه، من بعيد.. وإذا بها أصوات رجال، ووقع حوافر، وجلبة مسافرين.. إنّها قافلة، وقد حطّت عصا تُرحالها، قريباً من الجُبِّ.. ويسمع فوقه صوتاً، فينظر.. وإذا بدلوٍ يتدلّى فوق رأسه، يمتاح (أي: يطلب) به صاحبُه ماءً!.. فيتعلّقُ يوسُفُ بالدَّلوِ المتدلّي.. وماهي إلاّ لحظاتٌ، حتّى كان يوسُفُ خارج الجُبِّ.. وينظُر إليه صاحبُ الدَّلو، دَهشاً، فيصيح: {يابُشرى، هذا غلام!..} وأخذهُ معه في القافلة المتوجّهة في تجارة إلى مصر، خادماً، مملوكاً!.. وفي مصر، بيع الفتى بالثّمن البخس، والسّعر الزّهيد!.. وكان الّذي اشتراه عزيزُ مصر، ورئيسُ شُرطتها "قوطيفار". وتوَسّم عزيزُ مصر في الفتى محتداً شريفاً، وأصلاً كريماً.. إنّ وجهه ليُنبئ عن أرومةٍ طيّبة العناصر، عريقة الأصول!.. وأوصى به زوجه خيراً، فيوسفُ ليس عبداً كبقيّة العبيد!.. وأحسن يوسُفُ الخدمة في بيت سيّدِه، وأخلَصَ في ذلك... فهو بينَ أهليه حقّاً، فشتّان بينهم وبين الّذين خلّفهم وراءه في أرض كنعان!.. يوسف وامرأةُ العزيز: وشبَّ يوسفُ، الغُلامُ اليافع، في بيت سيّده، على نعمةٍ، وخضيل عيش... واشتدّت فتُوّتُه، وظهرت نجابتَهُ، وتفجّرت وسامتُه، فكأنّه - لحسنِه وجمالِه- لامن طينَةِ البشرِ، بل ملاكٌ كريمٌ !.. ولاحظت سيّدته فيه الشّباب الغضَّ المتألّق، فلا حقته بنظراتها،.. ثمّ أخذت تتراءى له، وتبتسمُ، وتمُدُّه بالغُنجِ والدَّلالِ!. ويُطرقُ يوسفُ أمام ذلك كلّه، بخفر العذراءِ الحييَّة.. فليسَ لهُ إلاّ الإخلاصَ العفَّ الأمينَ، في بيت سيّده الجديد، ومولاه!.. ولكنّ سيّدة القصر مازالت تتقرَّبُ إلى يوسُفَ، فيُعرضُ عنها حيياًّ!.. فتزداد به تعلُّقاً، وله تعرُّضاً.. لقد شُغِفت به حُبّاً!.. وتتعرَّضُ له متصابيةً، وقد برّحت بها لواعج الشوق، وعصف بها الغرامُ!.. وتدنو منه، مراودةً أيّاه، فينفر، كالطّائر الفزع!. ويفرُّ أمامها،.. فتُلاحِقُهُ من غُرفةٍ، في القصر، إلى غرفةٍ، حتى الباب،.. وتشُدُّه من قميصِهِ فتشُقُّه!.. وإذ بعزيز مصر، في الباب، وجهاً لوجهٍ، وقد فغرَ فاهُ مدهوشاً!.. وقبلَ أن يستجمع العزيزُ شتات أفكاره، {قالت: ماجزاءُ من أرادَ بأهلِكَ سوءاً إلاّ أن يُسجَنَ أو عذابٌ أليمٌ} ولايُطيق يوسفُ، مكراً من سيّدته، وكذباً، {قال: هي راودَتني عن نفسي} ويظهر على عزيزي مصر الارتباك، فهو محتارٌ في أمره، لايدري مايفعل.. ويصل بعض أهل امرأة العزيز، فيُفاجأ، إذ الموقف فاضحٌ.. ينذرُ بعاصفةٍ وإعصارٍ!.. ويسكتُ الجميعُ، ويُطرقون، فمن يُحصحصُ صدقاً من كذبٍ، وحقاَّ من باطل؟.. ويهديه رُشدُهُ إلى اقتراحٍ، يقودُ إلى الحقيقة النّاصعة: { إن كان قميصُه قُدَّ (أي: شُقَّ) من قُبُلٍ، فصدَقَتْ وهُوَ من الكاذبينَ. وإن كان قميصُهُ قُدَّ من دُبُرٍ، فكذَبَت وهُوَ من الصّادقينَ. فلمّا رأى قميصَهُ قُدّ من دُبُرٍ، قال: إنّهُ من كيدِكُنَّ، إنَّ كيدَكُنَّ عظيمٌ}. وكان عزيزُ مصر حكيماً في موقفه، فلملم الموقف، محاذراً تفجيره،.. فليس للقُصور أن تنبعث منها رائحة فضيحة!.. وليس لهذا الأمر أن يتكرّر أو أن يشيع.. فيلتفت إلى يوسفَ المطرق برأسه، فيواسيه: -{يوسف، أعرض عن هذا} لاعليك!... وانسَ ما حدث، وكأنّه لم يكُن!.. وينظرُ إلى زوجه، الّتي تكادُ تتهاوى من فرط حياءٍ وندمٍ وخجلٍ،.. فعليها أن تتُوبَ من فعلتها، وتندم على مابدر منها، ولاتعود لمثلها أبداً،.. - أما أنت، فتوبي {واستغفري لذنبِكِ إنّكِ كنتِ منَ الخاطئين} يوسفُ ونسوةُ المدينة ولم يكن لحادثٍ كهذا أن يمر ببساطة وسهولةٍ ويُسر،.. فألسُنُ الناس لاترحم!.. ووصل الخبر إلى إحدى سيّدات المدينة، فباحت به إلى إحدى صويحباتها،.. ومن ثم عمّ النبأ وشاع، فتناقلته السن سيدات المجتمع في كلّ محفلٍ ونادٍ!.. وسمعت زليخا بحديثهنَّ، فسُمعتُها أصبحت مضغةً في كلّ فمٍ!.. فأرسلت إليهنّ، وقد هيّأت لهُنَّ مجلساً وثيراً،.. فلما حضرن استقبلتهُن بحفاوةٍ وجميل لقاء، وأكرَمتهُنّ، وقد استقر بهن المجلس وقدمت لهن من الفاكهة صحاف البرُتقال، {وآتت كلّ واحدةٍ منهنَّ سكّيناً} وكانت قبل ذلك، قد ألبست يوسُف فاخر اللّباس، وزيّنتهُ، فتألّق مشعشعاً!.. فلمّا انتظم عقد مجلسهنّ قالت: {اخرج عليهنّ. فلمّا رأينهُ أكبرنَهُ وقطّعنَ أيديهنَّ، وقُلن: حاشَ لله، ماهذا بشراً، إن هذا إلاّ ملكٌ كريمٌ}. وتعلّقت أنظار السيدات المجتمعات بهذا الفتى الأغرّ الوسيم، الوضئ المُحيّا، المشعِّ الطّلعة، فشهقن منبهرات.. وتمتمن: - ليس على الأرض كهذا الجمال اليوسفيِّ السّاحر الأخّاذ!.. بينما كانت تسيلُ أيديهنَّ دماً، إذ قد حززن أسابعهُنَّ، دون أن يشعرن لمّا رأينه، وهنَّ، لدهشتهن، يحسبن أنّهن يحززن ماقدّم لهنَّ من برتقال!.. وتلتفت سيدة القصر إلىالنسوة، وقد طاشت عقولهنّ، فهنّ بما رأين، منبهرات، مأخوذات وتقول لهنّ بلهجة عتاب" {فذلكنَّ الّذي لُمتُنَّني فيه}، فما قولُكُنَّ بعدما رأيتُنَّ؟.. ويُجبنَ: لقد رأينا من الجمال مالا يوصفُ، ومن الحسن مالايُدركُ، ممّا تحارُ به الأفهام وتطيش به الألبابُ، وتنخلعُ له القلوبُ،.. وبالتالي، فلآلوم على سيدة مصر أن يتعلّق قلبُها بهذا الجمال الملائكيِّ المدهش.. وليس السّماع كالمعاينة!.. وتتابع زليخا، بجُرأة السّيِّدة الخطيرة الشأن، تبوح بدخيلة فؤادها، إلى من هُنّ دونها من سيّدات مجتمع مصر، دون حرج. فليس بين امرأتين سرٌ مكتومٌ..: {وبقد راودتهُ عن نفسه فاستعصمَ، ولئن لم يفعل ما آمُرُهُ ليُسجننَّ وليكوناً من الصّاغرين}. فأقبلت السَّيِّداتُ على يوسُف لائماتٍ، عاذلاتٍ،.. - يوسفُ، وأنت في ريعان الشّباب، وميعة الفتوّة، هلاّ رقَّ قلبُكَ لسيدتك الهائمة بك، فعطفت عليها بلفتة غرام تطفئُ ماتُعاني من الهوى المُمِضِّ، والوجد الملتهب؟. وتناولته كلّ واحدةٍ منهنّ بالقول الخلوب، والاستعطاف الرقيق. والدَّلّ المغناج.. فأشاح بوجهه عنهُنَّ، يأبى الخيانة، وسُبُل الغواية والضّلال!.. ودعا ربّه أن يصرف عنه كيدهُن، فالسّجن أحبُّ إليه من دعوات الفُجور، وإلاّ فليس لهُ إلاّ أن يصبو إليهنَّ، وإن على كُرهٍ منه، بعد طويل تمنُّعٍ وإباءٍ!.. {فاستجاب له ربُّهُ فصرفَ عنهُ كيدَهُنَّ إنّهُ هو السّميعُ العليمُ}. وأدخل يوسُفُ، بعد ذلك، السجن، بوشايةٍ ملفّقةٍ، واتّهامٍ كاذبٍ، حيثُ استقرَّ به المقامُ هناك، بضع سنين، وقد انقطعت أخبارُه عن العالمين!.. يوسف في السجن ووجد يوسفُ في سجنه بعض متّسع من الوقت ليُبثَّ أفكاره بين هؤلاء السيئي الطّالع الذين تصمُّهم عتمةُ السجن فما من إلهٍ إلاّ الله الواحد القهارُ!.. فلا"رَعْ" -اي الشمسُ- بإلهٍ، ولا"إبيس"- أي العجلُ- بإلهٍ أيضاً،.. ولاهذه الأصنامُ جميعاً بألهةٍ. إنّها حجر منحوتٌ!.. فالله وحدهُ، خالقُ السموات وما فيهن، والأرضين، وما عليهن. وهو ربَّ العالمين!.. بذلك بشّر إبراهيمُ من قبلُ، وإليه دعا من بعده، جدُّ يوسفَ، إسحقُ، وأبوه يعقوبُ!.. {ودخل معه السجن فتيان} فأصغيا إلى دعوته، فوجداها حقاًّ.. إنّهما ساقي الملك، وخازن طعامه، سيقا الى السجن ليُحاكما بعد ذلك.. ووجد الفتيان في يوسف رجاحة عقل وشرف نفسٍ وعلوَّ همّةٍ، لم يجداها في غيره.. فأتياه يوماً ليُنبّئهُما بتأويل حلم رأياه: قال الأول: لقد رايت فيما يرى النائم إني أقدّم للعزيز خمراً.. وقال الثاني: بينما رأيتُ أنا، أنِّي أحملُ على رأسي خبزاً، فتأتي الطيرُ، وتأكُلُ منه. ويجد يوسفُ في المناسبة فرصة سانحة ليُبشّر بدينه، ودين آبائه: يعقوب وإسحق وإبراهيم.. فهو الدّين الحقُّ القيم {ولكنّ أكثر الناسِ لايعلمون} ثم يلتفت إلى الأول منهما، قائلاً: لاأخالك إلاّ ناجياً، عمّا قريب، وستعود إلى بلاط الملك، ساقياًله، ونديماً، تقدّم له كؤوس الخمر. فإن كان ذلك، ولابدَّ من أنّه سيكون، فاذكرني عند سيّدك الملك". ثم التفت الى الثاني، أما أنت، فستُصلبُ بعد خروجك من السّجن.. ويبتسم الثاني، وكأنه كان غير صادق في ما زعم من رؤيا، ويحاول الاعتراض فيرفع يوسف كلتا يديه بوجههما، قائلاً لهما: هذا أمرُ الله وقضاؤه فيكما، فقد {قُضي الأمرُ الذي فيه تستفتيان!..}. ويكون مانبّأهُما به يوسف: إذ سرعان مايستدعى الرجلان، فيخرجان من السجن، ويمثلان أمام القضاء، فتبرّأُ ساحة الأول، فيعود ساقياً للملك، ونديماً.. وتثبت على الثاني التُّهمة، فيُقتل صلباً.. وتمرُّ، بعد ذلك على يوسف في سجنه بضعُ سنين، وقد عانى فيها ما لايعلمُهُ إلا الله!.. رؤيا عزيز مصر وخرج العزيزُ، صباح يومٍ، على العلماء المحتشدين في بلاطه، وقد تغيّر وجههُ، وكأنّ غمامةً من كآبةٍ تطوف على جبينه، لاتفارقُهُ.. فماذا تخبِّئُ لهُ الأقدار؟ ويسأله أحدهم، وقد بدا عليه اهتمامٌ: - ماالأمرُ يامولايَ؟ - رؤيا، رأيتها البارحة، لاتزال ماثلة في وجداني.. ونصب عينيَّ، أبداً!.. - هاتها!.. وفينا كلُّ مفسِّرٍ، عليمٍ!.. _ {إني أرى سبع بقراتٍ سمانٍ، يأكُلهنَّ سبعٌ عجافٌ (ج.عجفاء: أي هزيلة) وسبعَ سُنبلاتٍ خضرٍ، وأُخرَ يابساتٍ، ياأيُّها الملأُ أفتُوني في رؤيايَ إن كنتُم للرُّؤيا تعبُرون} ويطرق الكهنةُ في المجلس، والعلماءُ.. ولايجدون لرُؤيا الملك تأويلاً.. ويستغرقون في التفكير، ولايهتدون، إنّهم أمام طلّسم مستغلقٍ!.. وظهر عليهمُ العجزُ وبان الارتباكُ.. - {قالوا: أضغاثُ أحلامٍ وما نحنُ بتأويل الأحلامِ بعالمين} وكان ساقي الملك يستمع إلى ذلك كلّه، فذكر رؤياه عندما كان سجيناً، وصاحبه، وذكر تأويل يوسُف للرُّؤيا. وطلب يوسف إليه أن يذكُرَهُ أمام عزيز مصر.. وها هي ذي المناسبةُ، فيصيحُ: - سيّدي، سيّدي، في السّجن فتىً اسمُهُ يوسُفُ، عليمُ بتفسي الأحلام، وتأويل الرُّؤى، فلو شئت استدعيته، فتقعُ فيه على الخبير!.. ويأمره الملكُ: هيّا!.. اعرض عليه رؤياي، وهلُمّ إليَّ بما يقول!.. ويسرعُ ساقي الملك إلى السجن، ومعه بضعةُ رجال من الشُّرطة،.. فيدخلون على يوسف ويسلّم عليه ساقي الملك، ويعتذر إليه، فقد أنساه الشيطان أن يذكره أمام الملك وها هو ذا بابُ الفرج ينفتح على يوسف، فبعد اللّيل، فجرٌ وشمسٌ وضياءٌ!.. ثم يستمع يوسف، بعد ذلك، إلى رؤيا الملك، مليّاً ويقولُ للرسول، بلهجة الواثق، المطمئنِّ،: هاك تأويلها!..: - تستقبلون سبع سنين فيها لين عيشٍ ورخاءٌ، وازدهار وعطاءٌ.. تتلوهنَّ سبعُ سنين - على نقيض سالفاتها- كوالحُ، شدادٌ، فيها ينقُصُ ماءُ النِّيل، وينحسرُ خيرُه، فلا يعودُ إلى سابق عطائه،.. وينقطعُ الغيثُ، فلا تغُلُّ الأرضُ، وتصابون بالدّواهي وعظائم الأمور، فيعُمُّ قحطٌ وجدبٌ، وتبتلون بشظف عيش وقسوة حياة. وبعد ذلك، تقبل الأيام عليكم بوجهها من جديدٍ، بعد إدبارٍ، فيخصبُ وادي النّيل، ويُمرعُ، ويعُمَّ الخير أرض مصر كلّها.. وتغاثون حنطةً وشعيراً فتأكلون، وسمسماً وزيتوناً، وعنباً، فتعصرون!.. فإن كان ذلك- وهو كائنٌ لامحالة- فذروا ما حصدتم في سنبله، ودعوه في أهرائكم باستثناء ماأنتم بحاجة إلى أكله، حتى يقضي الله أمراً كان مقضياً!.. ويعودُ الرّسول إلى قصر الملك، يهرولُ، مُسرعاً.. إن تفسير الرؤيا أعجبُ من الرؤيا ذاتها، وأغربُ!.. ويُنبِّئُ الملك، أمام العلماء المحتشدين في بلاط القصر، تفسير الرؤيا التي رآها.. فينبهرون جميعاً.. ويقول قائلهم: إن هذا لذو علمٍ عليمٌ. ويقول آخرُ: بل، إنّ هذا من وحي السّماء!.. ويلتفت الملك إلى ساقيه، مُنتهراً إياه: ماذا تنتظرُ؟.. هيَّا!.. عليّ بيوسف سريعاً!.. ويُسرعُ ساقي الملك إلى يوسف، يزُفُّ إليه بُشرى اطلاق سراحه، داعياً إياه لمقابلة الملك. ويقابل يوسف ذلك ببرودة أعصاب، فيُبهتُ الرَّسولُ!.. إنّ يوسُفَ يأبى أن يغادر السّجن دون إثبات براءته، ولو بعد حينٍ. فيقول للرّسول: -{ارجع إلى ربّك(بمعنى الملِك) فاسألْه ما بالُ النِّسوة اللاّتي قطّعن أيديهن، إنّ ربي ركيدهنّ عليمٌ}. ويدعو عزيزُ مصر النّسوة، وفي طليعتهنّ زوجه زليخا، فلا يشهدن ليوسف إلا بكل مكرمة وخلقٍ رفيع.. وتجد السيدة زليخا الفرصة مؤاتية لتزيح عن نفسها همّاً طالما أقلق مضجعها، وأقضّه.. فتصرّح على رؤوس الأشهاد بأنّها هي التي راودته عن نفسه، فاستعصم وأبى!.. والكلُّ يعلم ذلك.. فلم مجانبة الحقيقة والقول الصّواب؟.. فما كان من عزيز مصر بعد ظهور الحقيقة ببراءة يوسف، إلاّ أن دعا يوسف إليه يستخلصهُ لنفسه رجلاً قوياً، بعد ما كان استخلصهُ لنفسه غلاماً فتياًّ!.. ويسلِّمه خزائن مصر، وهو الخبير العليم، يُشرف عليها، متصرّفاً في أمورها كما يرى.. إن يوسف وزير مال واقتصاد من طراز نادر، رفيع!.. وهو الجدير بأن تسلّم إليه مقاليد الأمور، وتُناط به المهمّاتُ، في حوالك الأيام!.. وينهض يوسف بالهمهمة الموكلة إليه، خيرُ نهوض.. فقد قرعت المجاعة أبواب الناس قاطبةً، وهجم عليهم الجوع فعضَّهم بأنيابٍ حِدادٍ!.. وتلاقي خُطَّتُه في خزن القمح والمؤن، وتوزيعها على الناس كلّهم، بالعدل والقسطاس، نجاحاً عظيماً!.. فهي التي خلَّصت شعب مصر من براثن مجاعة، وخطوبٍ عِظامٍ!.. يوسف وإخوته وكما في مصر جدبٌ وقحطٌ، عامّان، كذلك في أعالي الجليل، حيث اجتاح الجفاف أرض كنعان، وضربها قحط أسود، كالحٌ!.. وتهيّأ إخوة يوسف ليمتاروا (أي: يجلبوا) حنطةً من مصر، حيث يقوم على ذلك ملكٌ حدت باسمه الرُّكبانُ!.. وساروا بقافلتهم متوجهين إلى أرض النيل، حتى وصلوا إلى مصر،.. ودخلوا على العزيز، فعرفهم واحداً واحداً، وهم له منكرون. وتقرب إليهم عزيزُ مصر، مستفسراً عن أحوالهم، وعن الجهة التي أتوا منها. فعرَّفوه بأنفسهم: فهم أبناءُ نبيِّ الله يعقوب إبن إسحق بن إبراهيم.. كان لهم أخٌ من أبيهم، أكلهُ الذِّئب في الفلاة، وبقي شقيقُهُ الصغير، واسمُهُ بنيامين، في عهدة أبيه.. ورحَّب بهم العزيز، ووعدهم بجزيل الإحسان.. وتظاهر أنه يريد التثبُّت من صحَّة دهواهُم، فطلب إليهم أن يأتوه بأخيهم الصَّغير، هذا.. ووجد إخوةُ يوسف في ذلك صعوبةً.. فليس من السَّهل أن يتنازل عنه أبوه، وذكرى يوسف، لاتزال تفعل في نفسه رغم ماانقضى عليها من دهرٍ طويلٍ.. ولكنّ عزيز مصر أصرَّ على طلبه. فتلبيةُ طلبهم من الحنطة مشروطةٌ بإحضار أخيهم بنيامين، فانصاعوا لأمره، مكرَهين!... وأمدَّهم يوسف بكيل بعيرٍ من الحنطة، وردَّ إليهم ما دفعوه من مالٍ، جعلَهُ في رحالهم، تشجيعاً لهم على العودة، وإحساناً!.. وقفلوا راجعين!.. وعرضوا على أبيهم ما طلبه عزيزُ مصر، هذا الأريحيُّ الكريمُ، وما اشترطهُ عليهم من إحضار أخيهم بنيامين. فاستعبر يعقوب باكياً، وتأوَّه كالملدوغ: {وا أسفى على يوسُفَ!..} وبكى أبناؤه وهم يرون أباهم الشيخ قد ابيضَّت عيناه حُزناً على يوسف، وكمداً، وأسفاظص، وفارقت ثغره الإبتسامةُ، فهو في حزنٍ مقيمٍ!.. وأحاط الإخوة بأبيهم، فلم لايأمنهم على أخيهم بنيامين؟.. انهم عشرة حوله يُفدُّونه بالمهج والأرواح. فقال لهم يعقوب: {هل آمنكُمُ عليه إلاّ كما أمنتكُم على أخيه من قبلُ. فاللهُ خيرٌ حافظاً وهو أرحمُ الرّاحمين}. فأطرقوا خجلاً، ولم ينبسوا ببنت شفةٍ، إنّ أباهم ليقول حقاً!.. وبعد لأي (أي: جهد) سمح يعقوب لأولاده باصطحاب أخيهم بنيامين إلى عزيز مصر فهبُّوا إلى رحالهم، فرحين.. واستوقفهم أبوهم: - "مهلاً!.. ولكن شرط أن تحافظوا عليه محافظتمك على أنفسكم، أو أشدّ، ولاتفرِّطا به أبداً" وأخذ عليهم بذلك ميثاقاً غليظاً!. ثم نصحهُم بألاّ يدخلوا المدينة من باب واحد، فهم عشرةُ رهطٍ، يضافُ إليهم أخوهم بنيامين. يؤلّفون قافلة كاملة، فمن الممكن أن يجتاحهم أذىً، أو أن تُصيبهم عينٌ بسوء!.. وسارت القافلةُ على اسم الله، يُحيط بها دعاءُ يعقوبَ، وتكلأُها عين الله!.. يوسف وبنيامين ها هي ذي القافلة تحطُّ في أرض مصر الرّحال .ويتوجَّهُ أبناء يعقوب العشرة بأخيهم بنيامني إلى عزيز مصر، فما كانوا في حديثهم السّابق، معهُ، الاّ صادقين!.. ويستقبلهم العزيز ببشاشة وجه طلقٍ، وترحابٍ نديٍّ!.. ويحين موعدُ الطّعام، فيجلسُ كلٌّ إلى أخٍ له، يشاطرُهُ الغداء.. ويومئ العزيز إلى بنيامينَ، فيأخذُه من يده، ويتغدّيان معاً.. ويرمُقُ أبناء يعقوب أخاهم بنيامين، وهو يؤاكلُ الملك، بطرفٍ حسودٍ!. وفي غفلة عن أعيُنهم يهمسُ يوسفُ في أذن بنيامين: {إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون} ويوصيه بألاّ يبوح هذا السرِّ أمام إخوتِه، أبداً!.. ولمّا جهّزهم الملكُ بجهازهم، موفياً لهم الكيل، أمر بوضع صواع الملك (الصواع، أو الصاع: مكيال نصف مد) في رحل أخيه بنيامين. وما أن ابتعدت القافلة قليلاً، حتى استوقفها صارخٌ: - على رسلكم!.. تريَّثوا قليلاً!.. - ماالأمرُ، أيّها الحرسيُّ؟. - لقد فقدنا صواعَ الملك، وهو كما تعلمون، من الذّهب الخالص. إنني كفيلٌ لمن يجئُ به، بكيل بعيرٍ من الحنطة، وما هذا الكيلُ بيسير!.. - والله ما كنا لنخون، وماكنّا لنسرقُ، ولالنعيثُ في الأرض فساداً، نحن، ياهذا، أبناءُ نبيٍّ ابن نبيٍّ، فاتّق الله في أمرنا!.. - مادمتم لتقولون ذلك، فهيّا إلى العزيز، ليرى رأيه في ماتقولون!.. ويعود أبناء يعقوب إلى عزيز مصر... - مالخطبُ أيّها العزيز؟ - إننا نفقد الصُّواع الذهبيَّ الذي نكيلُ به الحنطة للنّاس، فلعلَّ أحدكُم سرقه!. - سرقه؟.. أترى في وجوهنا سيماء لُصوصٍ، وسُرّاقٍ؟.. - لعلّه يكون في أحد أحمال هذه الحنطة التي على الإبل، فهيّا، وأنزلوا ماعليها من أحمالٍ!.. ويُسرع أبناء يعقوب ينيخون الجمال، وينزلون ما عليها من أحمال حنطةٍ، وهم يقولون: والله ماكنّا سارقين!.. ويقول لهم العزيزُ، وهم يفُكُّون أربطة رحالهم: - ماجزاءُ من سرقه إن تبيَّن أنه في رحال أحدكُم؟.. فيجيبون: كما يقضي بذلك، عندكُم القانون. -يتحمَّلُ وحده العقاب دون الآخرين. - وهو كذلك!.. ويتقدم العزيز فيتحسَّسُ أحمال إخوته العشرة، وهم يبتسمون،.. فلا يجد شيئاً.. ثم يمدُّ يمينه إلى حمل بنيامين فيستخرج الصُّواع منه،.. ويرفعُه في وجوههِم!.. وتعقُلُ الدَّهشة ألسنةَ أبناء يعقوبَ، ويسطع الغضبُ من عيونهم، فتظهرُ وجوههم حمراء دكناء!.. فمتى كان هذا الحمل الوديع لصّاً خطيراً؟.. {قالوا: إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبلُ} فيرمقهم عزيز مصر بنظرة كالصّاعقة؛ فما زال هؤلاء الرّجالُ على ضلالهم القديم!.. ويجيلُ نظراته في هؤلاء العشرة من الرجال، وقد اعتراهم خزيٌ كاسحٌ، { قال: أنتم شرٌّ مكاناً والله أعلمُ بما تصفون} وأمر عزيزُ مصرَ ببنيامينَ فأوقِفَ جانباً.. ولمّا رأى أخوتُه ذلك، ذكروا أباهم، والمواثيق الّتي أخذها عليهم، والعهود.. إنّه لآمرٌ، جدُّ فظيعٌ!.. ووقفوا أمام عزيز مصر مستعطفين... {قالوا: ياأيّها العزيزُ إنّ له أباً شيخاً كبيراً، فخُذ أحدنا مكانه إنّا نراك من المحسنين. قال: معاذ الله أن نأخُذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده إنّا إذاً لظالمون} فأطرقوا!.. إنّ العزيز ليقول حقّاً ويحكمُ عدلاً!.. يهمُّون بالإنصراف، وقد اكتسحهُم همٌّ ثقيلٌ، فبأيِّ وجهٍ سيُلاقون أباهم، وقد أخذ عليهم موثقاً من الله، غليظاً، وعاهدوه، فما قُدِّرَ لهم الوفاء؟ ويضرب كبيرُهُم الأرض بقدمه، قائلاً لإخوته: - ويحكُم!.. أنسيتُم عهدكُم لأبيكم. بئس ماتعودون به إليه،.. أمّا أنا، {فلن أبرح الأرض حتّى يأذن لي أبي، أو يحكُم الله لي وهو خيرُ الحاكمين}. وعاد أبناء يعقوب إلى أبيهم، مطرقي الرؤوس، منكّسي الهامات، كأنّهم وراء جنازةٍ يسيرون.. ويخبرنه بالحدث، فيضربُ يعقوبُ رأسه بكلتا يديه!.. بالأمس فرّطوا بيوسف، واليوم ببنيامين،.. وأجهش الشيخ منتحباً.. ورماهم بغليظ القول، أشدّ من السّياط لسعاً، واتَّهمهم بالتَّفريط والتّقصير، سوؤ النيّة، والتّقدير!.. ولكنّ الشّيخ الكبير لايزالُ على عظيم ثقة ببقاء يوسف جيّاً يُرزق، وبأن بنيامين سيعود إليه يوماً!.. ولكن: أين يكونُ الأول؟... ومتى يعودُ الثاني؟.. وغالبهُ حزنٌ وقهرٌ قغلباه. فاستسلم لمشيئة الله، وكأنّ قبله تقطّعهُ المدى!.. وقال لأبنائه: {يابنيَّ اذهبوا فتحسسّوا من يوسفَ وأخيه ولاتيأسوا من روح الله إنّه لاييأسُ من روح الله إلاّ القوم الكافرون}. خاصةً، وأنّ القحط والجفاف عادا يضربان أرض شماليِّ الجليل، فالسّنواتُ عجافٌ، شدادٌ، مهازيلُ. المفاجأة ويذكرُ أبناء يعقوب عزيز مصر، وعدله، وكرم يده، وشمائله الحسان، وأخاهُم لديه.. فيجمعون مابحوزتهم من مالٍ يسيرٍن ويتوجَهون به إلى بلاد العزيز.. ويدخلون عليه قائلين: ياأيُّها العزيزُ، لقد ابتُلينا بأمورٍ عظامٍ، وخُطوبٍ جسامٍ إذ شحّت السّماءُ، وأجدبت الغبراءُ، فأصابت أهلينا البأساءُ والضّرّاء، وجئناك بما أبقت عليه الأيام النّكداءُ، والخطوب النّكراءُ، وهو مالٌ جدُّ يسيرٌ، وقليلٌ حقيرٌ، {فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا إنّ الله يجري المتصدّقين} { قال: هل علمتُم مافعلتُم بيوسُفَ وأخيه إذ أنمت جاهلون}. ويستعيدون في أذهانهم صورة أخيهم يوسف، كفلقة القمر اشراقاً ولألاءً، إنّه، وربِّ ابراهيمَ- لهو!.. وقد القت النعماء عليه مسحةً من مزيد بهاءٍ وإشراقٍ.. فيا للمُفاجأة الصّاعقة!.. ويصرخُ بعضُ إخوته، وقد داهمتهُم المُفاجأةُ فأخرجتهُم عن طورهم، وتأدُّبهم أمام عزيز مصر، {قالوا: أإنّك لأنت يوسُفُ!} ويجيبهم بكل هدوءٍ: {قال: أنا يوسفُ وهذا أخي قدْ منَّ الله علينا، إنّه من يتّق ويصبِر فإنَّ الله لايُضيعَ أجرَ المحسنين}. فاعترفوا بخطيئتهم، وقد تطأطأت منهم الرُّؤوسُ، فلا يستطيعون النّظر إلى وجه إخيهم خجلاً من فعلتهم الشَّنعاء... واستأذنُوه أن يعودوا إلى أبيهم بالبُشرى، فإذن لهم.. وجهّزهم بما ناءت به العيرُ، وبقميصٍ له، طلب إليهم أن يلقُوه على وجه أبيهم حينَ يصلون!.. وقفلت العيرُ، وئيدةً، بطيئةً، بما عليها من أحمالٍ ثقالٍ، وقد توجّه بها أبناء يعقوب إلى بلادهم في شماليِّ الجليل، وقد علا صوتُ الحادي، فأخذت العيرُ تجدُّ في المسير!.. وأخيراً،.. وصلت العير إلى مواطنها، وأشرف أبناءُ يعقوب على أبيهم، وقد حمل البشيرُ قميص يوسف، وأخذ يعدو نحو أبيه.. فصاح يعقوبُ: {إني لأجِدُ ريحَ يوسُفَ} وطُرِحً قميصُ يوسفَ على وجه يعقوب المتغضِّن، الّذي لايبين منه إلاّ لحيةٌ كثّةٌ، مرسلةٌ على سجيّتها، تعلوها عينان غائرتان، غاض فيهما النّورُ، .. فارتدَّ بصيراً!... وسجد لله شكراً؟، وقد ردَّ إليه يوسفَ بعد طولِ غيابٍ.. فيا للبُشرى التي لايُحيطُ بها وصفٌ، وكأنّها لغرابتها، من عالم الخيال!.. وبعد عدَّة أيام تهيَّأ يعقوبُ، وأهلُ بيته جميعاً، للتوجُّهِ إلى مصر حيث العزيزُ، العزيزُ!.. وشهدت أرضُ كنعان قافلةً تحملُ خليطاً من رجالٍ ونسوةٍ، وصبيةٍ صغارٍ، وبعض مالٍ، ومتاعٍ،.. وفي مقدّمتها شيخٌ مهيبٌ وقورٌ، يحث راحلته إلى أرض الكنانة!. رواية ورد في إحدى الرّوايات، أنّ بعض أملاك السّماء استأذنوا الله أن يشهدوا لحظة لقاء يوسُفَ بأبيه يعقوبَ، فأُذن لهم، إنّها من اللّحظات النّادرة في التاريخ!.. وشاهدت الملائكةُ في هذا اللِّقاءِ عجباً: الشيخ يفتحُ ذراعيه، صائحاً، ساعة شاهد إبنه، ويعدو نحوه، وكأنّه يطير.. وكذلك فعل يوسُفُ!.. ويصل كلٌّ منهما إلى صاحِبه.. ويرتمي كلٌّ منهما في حِضن الآخر.. ويتعانقان.. حتى يكادَ جسداهما يلتصف الواحدُ منهما بالآخر!.. وقد تحدّرت منهما دموع الفرح بسخاء، فتقطّرت على الأرض، غزاراً.. كما شهد هذا اللّقاء خلقٌ من المصريين، اصطفُّوا مرحّبين، وقد اغرورقت عيونهم بالدّموع.. وآوى يوسف أبويه وإخوته إليه في القصر، وقد أحاطوا به.. وانتظم عقدُ لقاء يوسُف بأبويه وإخوته أجمعين، وقد خرّوا له سُجّداً.. فالتفت يوسفُ إلى أبيه قائلاً: {ياأبت هذا تأويل رؤيايَ من قبلُ قد جعلها ربّي حقاًّ} ويهزُّ الشيخ برأسه، وقد طفرت من عينه دمعةٌ حرَّى.. ويُردِفُ يوسف، قائلاً، بصوتٍ متهدِّج، وقد رفع كلتا يديه إلى السَّماء: -{ربّ قد آتيتني من المُلك، وعلّمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السّموات والأرض، أنتَ وليِّي في الدُّنيا والآخروة، توفّني مسلماً وألحقني بالصّالحين}. نهاية المطاف كان موكبُ يوسُفَ يشقُّ المدينة، وحوله جندٌ وحرسٌ، وحشمٌ وخدمٌ.. وقد تجمهر الناسُ على جانبي الطريق ليحظوا بمشاهدة عزيز مصر، ومليكهم العادل المحبوب... وكانت عجوزٌ شمطاءُ قد اقتعدت إحدى زوايا الطّريق، والنّاسُ حولها في هرجٍ ومرجٍ ووصخبٍ وضوضاء... فعزيزُ مصر، يشقُّ موكبُه الجماهير المحتشدة بعناءٍ، وقد تدافعت نحوهُ هاتفةً باسمِه، فهو بين مسلِّم عليه، ومسفِّق لهُ، وملوّحٍ من بعيدٍ.. وينعطف الموكبُ الملكيُّ بالقرب من العجوز، فتدعو بصوتٍ عالٍ كالهُتاف: - سبحان من صيَّرَ العبيدَ ملوكاً بطاعته، والملوك عبيداً بمعصيتِهِ!.. ويصلُ الصَّوتُ إلى مسامع العزيز، فيأمر الموكبَ بالتوقُّفِ، ويسألُ عن صاحبة الهُتاف، .. فيؤتى بالعجوز إليه.. ويسألها عزيزُ مصر عن سبَبِ هُتافها، وعن اسمِها، وعن حاجتها... ويقشعرُّ بدنُ العزيز، وقد عرف العجوز الّتي ذهبت بنضارتها السُّنون... إنّها زليخا!.. وقد قلب لها الدَّهر ظهرَ المجنِّ!.. وكم لها في قلبه من ذكريات لاتزولُ، وكأنّها محفورةٌ على صخر أصمَّ... وكم لها في ماضية من تاريخٍ حافلٍ، ومزدحمٍ بالأحداث!... ويطحبُها معه في الموكب الملكيِّ... ويُدخلُها القصر متوكِّئةً على عصاها، وقد احدودب ظهرها، واضمحلّت قواها.. ويراها يوسف كذلك، فتطفحُ عيناهُ بالدّمع.. فيدعو الله أن يُعيدَ إليها نضارةَ الصِّبا، وريعان الشَّباب، كما كانت أيّام تركُضُ خلفهُ في القصر وتُغلِّقُ الأبوابَ... تقولُ الرواية: إن الله يستجيبُ لنبيِّه دعوتَه.. فإذا بزليخا تعودُ كما كانت أيّام زمان، تتألّقُ نضارةً، وتتفجَّر عنفُوانَ شبابٍ. وينظرُ إليها يوسُفُ وقد عادت تميسً تيهاً، ودلالاً... ويطلبُ يدها للزواج فتقبلُ... ويُسدَلُ السِّتار على زواج يوسف من زليخا، كما شاء الله لهما ذلك.. فهما سعيدان!.. وعلى عودة أهله إليه جميعاً فهم في النّعيم يتقلّبون!... ويرى الناسُ ذلك، ويسمع به آخرون، فيعجبون عجباً شديداً.. فهم لايكادون يصدِّقون، فالقصَّة تكاد تدخُلُ في باب الأساطير!.. ولكنّها من أنباء الغيب، ووحي السماء.. {وما أكثرُ النّاس -ولو حرصت- بمؤمنين!...} (صدق الله العلي العظيم) |
#6
|
||||
|
||||
![]()
النبي يوسف (ع) ذوالحسن
رؤيا يوسف استفاق يوسف ذات صباحٍ متهلّل الوجه، منبسطَ الأسارير، تطفو على قسمات وجهه المشعِّ غبطةٌ وسعادةٌ.. وشاهد أبوه يعقوبُ في فتاهُ الوسيم، ذلكَ، فسُرَّ بدوره، وطابت نفسُهُ، وانشرح صدرُه فيوسُفُ أحبُّ أبنائهِ إليه، وأقربهم إلى نفسه وقلبه، وآثرهم لديه منزلةً ومكاناً!.. وتناول يوسف يد أبيه وهو يَهمُّ بالجلوس إلى جانب هذا الشيخ الصّالح، كي يُفضي إليه بالسِّرِّ الَّذي أشاعَ في نفسه كلّ هذا الرِّضا والسُّرور، قائلاً لَهُ: {يا أبت إني رأيتُ أحدَ عشَرَ كوكباً والشَّمسَ والقمرَ رأيتُهم لي ساجدين}. ويلتفتُ يعقوبُ، منتفِضاً، إلى هذا الفتى الأغرِّ، كالأملود الريّان طراوةً، والّذي يسطعُ جبينُهُ بنورٍ سماويٍّ ساحرٍ، أخّاذٍ، وتلتمعُ على وجنتيه إشراقَةُ لألاءٍ، ويشيع منهما ألقُ ضياءٍ.. فيضمُّه إلى صدرِهِ، ويُقبِّلُهُ بعطفٍ وحنانٍ، ويُلقى في روعه بأن الله تعالى أخذَ يُعدُّ هذا الفتى الوسيم، البهيَّ الطَّلعةِ، لجلائل الأمور!.. وبنبرةٍ تنضحُ إشفاقاً يطلبُ الشيخُ الوقورُ من ابنه الفتى ألاّ يقص هذه الرؤيا الصالحة على إخوته الأحد عشر، فقد يؤدي ذلك إلى حسد منهم، وكيد.. خاصة، وأنّ يعقوب يعلم حقّ العلم تبرُّم إخوة يوسف من أبيهم الذي يؤثر عليهم أخاهم يوسف إيثاراً شديداً. فلهُ في نفسه، من دونهم، ماليس لهم جميعاً!.. وينصرف الفتى يوسف، وبنفسه تطوف آمال عذاب، وأحلام رطاب!... المؤامرة وذات مساء يحيط بيعقوب أبناؤه. وقد أجمعوا على أمرٍ، وانطوت جوانحهم التي تأكّلها الحسد، على خطبٍ جللٍ!.. فلم إيثارُ الأب يوسف عليهم أجمعين؟.. وتودّدوا إليه: {قالوا: يا أبانا مالكَ لاتأْمَنّا على يوسُفَ وإنّا لهُ لناصحون. أرسِلهُ معَناَ غداً يرتّع ويلعبْ وإنّا لهُ لحافِظونَ}. ويشعُرُ يعقوبُ بما يشبِهُ الإنتفاضةَ تسري في أوصالِهِ، فترتعدُ فرقاً (أي: خوفاً) فهو، فعلاً، لايأمنهُم على يوسف، فجميعهم له حاسدون!.. ويحاول الشّيخُ ألاّ يستجيبَ لطلبِ أبنائه هؤلاء، متذرّعاً بخوفه على يوسف من ذئب عاد، أو أفعى ناهشة، في هذه البرّيّة الموحشة، حيث يسرح أبناؤه بقطعانهم، من صبحٍ لمساءٍ!.. ويتظاهر إخوة يوسف بالحرص على أخيهم، فهو، بينهم، سويداءُ القلب، وسوادُ العين!.. ومن أين للأذى أن يعتريهُ؟.. وأنّى للذّئب أن يصل إليه، وهم عصبةٌ أشّداءُ؟.. ومازالوا بأبيهم يستميلونه، ويستعطفونه، حتّى أذن لهم.. فأخذوه معهم في صباح اليوم التّالي. وما أن ابتعدوا عن الحيِّ حتَّى وثبُوا على يوسُفَ: فهذا يَشُدُّه وثاقاً، وذلك يُمسِكُ بيديه، وذاكَ يُجَرِّدُه من قميصِهِ.. وائتمروا به.. ماذا يفعلون؟.. قال أحَدُهم: نَقتُله ونستريحُ.. وقال آخرُ: بل نبيعُه لبعض التُّجَّارِ العابرينَ على أنّه عبدٌ رقيقٌ.. وقال كبيرُهم يهوذا: من الحرام أن نقتُله، إذ لم يجترم جُرماً، ولم يقترف إثماً،.. بل نلقيه في غيابات جبٍّ قريبٍ، وليكُن بعد ذلك مايكون!.. واستحسنوا رأيه!.. فقادوا يوسف إلى جبٍّ قريبٍ، ألقوه فيه، ثمَّ قفلوا، بعد ذلك، راجعين.. لقد انتهَوا من يوسُفَ، دونَ أن تتَلطَّخَ بدمِهِ يدٌ!.. وعادُوا إلى أبيهم، مساءً، وهم يصفُقون كفاً بكفٍّ مُتباكينَ!.. ويَبتدِرُهُم أبوهُم يَعقُوبُ، وقد انخلعَ جِنانُه: - ويحَكُم!.. ما الأمرُ؟ - {قالوا ياأبانا إنّا ذهبنا نستبقُ، وتركْنا يوسُفَ عند مَتاعِنا، فأكَلَهُ الذِّئبُ، وما أنتَ بِمُؤمِنٍ لَنا، ولَو كُنَّا صادقين}. ويَصفُقُ يعقوبُ كَفّاً بِكَفٍّ، أيضاً... - أحقّاً، ماتَدَّعونَ؟.. - إي، وربِّ آبائِكَ الصَّالحينَ!.. ويشعُرُ يعقوبُ، شُعوراً، يكاد يكونُ يقيناً، بتآمر أبنائه، على أخيهم يوسُفَ الوضئ القسمات، الأبلج، كيداً منهم وحسداً.. ويطرح إخوة يوسف قميص أخيهم الممزَّقَ أمام أبيهم، وقد تلطَّخ بدمٍ كذبٍ. ويُشيحُ يعقوبُ بوجهه عن أولاده الماكرين، وإنّ قسماتهم لتنضح بالكذب المبين، ويتولّى عنهم، وقد اسوَدَّ وجهُه حُزناً على يوسُف، وأسَفاً!.. { قال: بل سوَّلَت لكُم أنفُسُكم أمراً، فصبرٌ جميلٌ، والله المستعانُ على ماتصفون}. يوسف في الجُبِّ ويتطلّع الفتى الوسيمُ تحتَه، فإذا بماءٍ ساكنٍ، رقرَاقٍ... ويتأمّلُ فوقَه، فلايرى إلاّ غتمةً حالكةً.. فتلُفُّهُ وحشةٌ خانقةٌ، وتطوفُ بخياله أفكارٌ سودٌ، فيرتعدُ.. إنّه مظلوم، وقد ألقي به في جوف هذا الجُبِّ الحالك، الموحش دون ذنب، أو جريرةٍ.. أمّا الظّالمون، فهم إخوتُه.. فيا لسُخرية الأقدار!.. ويشعُر بالألم يعتصر قلبه الصغير، اعتصاراً!.. ثم يشعُر وكأنّ نوراً رقيقاً، لطيفاً، ينسابُ إلى دخيلةِ نفسه شيئاً فشيئاً.. فيُبدّدُ ما علق بها من وحشة مكفهِرّةٍ، ومايلُفّه من ظلمات.. وخيّل إليه، كنقرٍ في أذنيه، صوتٌ يهتفُ بهدوءٍ: - {لتُنَبِّئنَّهُمْ بأمرِهِم هذا، وهُم لايَشعرون} فيطمئن، كالمستبشر خيراً، وترتاح إلى ذلك نفسه ارتياحاً غريباً.. ويُسلم أمرهُ لله!... خلاصُ يوسف وبعد حين، يسمع يوسف، وهو في غيابة الجبِّ، أصواتاً اختلط بعضُها ببعض، فيُصعي إلى الأصوات التي تترامى إلى مسمعه، من بعيد.. وإذا بها أصوات رجال، ووقع حوافر، وجلبة مسافرين.. إنّها قافلة، وقد حطّت عصا تُرحالها، قريباً من الجُبِّ.. ويسمع فوقه صوتاً، فينظر.. وإذا بدلوٍ يتدلّى فوق رأسه، يمتاح (أي: يطلب) به صاحبُه ماءً!.. فيتعلّقُ يوسُفُ بالدَّلوِ المتدلّي.. وماهي إلاّ لحظاتٌ، حتّى كان يوسُفُ خارج الجُبِّ.. وينظُر إليه صاحبُ الدَّلو، دَهشاً، فيصيح: {يابُشرى، هذا غلام!..} وأخذهُ معه في القافلة المتوجّهة في تجارة إلى مصر، خادماً، مملوكاً!.. وفي مصر، بيع الفتى بالثّمن البخس، والسّعر الزّهيد!.. وكان الّذي اشتراه عزيزُ مصر، ورئيسُ شُرطتها "قوطيفار". وتوَسّم عزيزُ مصر في الفتى محتداً شريفاً، وأصلاً كريماً.. إنّ وجهه ليُنبئ عن أرومةٍ طيّبة العناصر، عريقة الأصول!.. وأوصى به زوجه خيراً، فيوسفُ ليس عبداً كبقيّة العبيد!.. وأحسن يوسُفُ الخدمة في بيت سيّدِه، وأخلَصَ في ذلك... فهو بينَ أهليه حقّاً، فشتّان بينهم وبين الّذين خلّفهم وراءه في أرض كنعان!.. يوسف وامرأةُ العزيز: وشبَّ يوسفُ، الغُلامُ اليافع، في بيت سيّده، على نعمةٍ، وخضيل عيش... واشتدّت فتُوّتُه، وظهرت نجابتَهُ، وتفجّرت وسامتُه، فكأنّه - لحسنِه وجمالِه- لامن طينَةِ البشرِ، بل ملاكٌ كريمٌ !.. ولاحظت سيّدته فيه الشّباب الغضَّ المتألّق، فلا حقته بنظراتها،.. ثمّ أخذت تتراءى له، وتبتسمُ، وتمُدُّه بالغُنجِ والدَّلالِ!. ويُطرقُ يوسفُ أمام ذلك كلّه، بخفر العذراءِ الحييَّة.. فليسَ لهُ إلاّ الإخلاصَ العفَّ الأمينَ، في بيت سيّده الجديد، ومولاه!.. ولكنّ سيّدة القصر مازالت تتقرَّبُ إلى يوسُفَ، فيُعرضُ عنها حيياًّ!.. فتزداد به تعلُّقاً، وله تعرُّضاً.. لقد شُغِفت به حُبّاً!.. وتتعرَّضُ له متصابيةً، وقد برّحت بها لواعج الشوق، وعصف بها الغرامُ!.. وتدنو منه، مراودةً أيّاه، فينفر، كالطّائر الفزع!. ويفرُّ أمامها،.. فتُلاحِقُهُ من غُرفةٍ، في القصر، إلى غرفةٍ، حتى الباب،.. وتشُدُّه من قميصِهِ فتشُقُّه!.. وإذ بعزيز مصر، في الباب، وجهاً لوجهٍ، وقد فغرَ فاهُ مدهوشاً!.. وقبلَ أن يستجمع العزيزُ شتات أفكاره، {قالت: ماجزاءُ من أرادَ بأهلِكَ سوءاً إلاّ أن يُسجَنَ أو عذابٌ أليمٌ} ولايُطيق يوسفُ، مكراً من سيّدته، وكذباً، {قال: هي راودَتني عن نفسي} ويظهر على عزيزي مصر الارتباك، فهو محتارٌ في أمره، لايدري مايفعل.. ويصل بعض أهل امرأة العزيز، فيُفاجأ، إذ الموقف فاضحٌ.. ينذرُ بعاصفةٍ وإعصارٍ!.. ويسكتُ الجميعُ، ويُطرقون، فمن يُحصحصُ صدقاً من كذبٍ، وحقاَّ من باطل؟.. ويهديه رُشدُهُ إلى اقتراحٍ، يقودُ إلى الحقيقة النّاصعة: { إن كان قميصُه قُدَّ (أي: شُقَّ) من قُبُلٍ، فصدَقَتْ وهُوَ من الكاذبينَ. وإن كان قميصُهُ قُدَّ من دُبُرٍ، فكذَبَت وهُوَ من الصّادقينَ. فلمّا رأى قميصَهُ قُدّ من دُبُرٍ، قال: إنّهُ من كيدِكُنَّ، إنَّ كيدَكُنَّ عظيمٌ}. وكان عزيزُ مصر حكيماً في موقفه، فلملم الموقف، محاذراً تفجيره،.. فليس للقُصور أن تنبعث منها رائحة فضيحة!.. وليس لهذا الأمر أن يتكرّر أو أن يشيع.. فيلتفت إلى يوسفَ المطرق برأسه، فيواسيه: -{يوسف، أعرض عن هذا} لاعليك!... وانسَ ما حدث، وكأنّه لم يكُن!.. وينظرُ إلى زوجه، الّتي تكادُ تتهاوى من فرط حياءٍ وندمٍ وخجلٍ،.. فعليها أن تتُوبَ من فعلتها، وتندم على مابدر منها، ولاتعود لمثلها أبداً،.. - أما أنت، فتوبي {واستغفري لذنبِكِ إنّكِ كنتِ منَ الخاطئين} يوسفُ ونسوةُ المدينة ولم يكن لحادثٍ كهذا أن يمر ببساطة وسهولةٍ ويُسر،.. فألسُنُ الناس لاترحم!.. ووصل الخبر إلى إحدى سيّدات المدينة، فباحت به إلى إحدى صويحباتها،.. ومن ثم عمّ النبأ وشاع، فتناقلته السن سيدات المجتمع في كلّ محفلٍ ونادٍ!.. وسمعت زليخا بحديثهنَّ، فسُمعتُها أصبحت مضغةً في كلّ فمٍ!.. فأرسلت إليهنّ، وقد هيّأت لهُنَّ مجلساً وثيراً،.. فلما حضرن استقبلتهُن بحفاوةٍ وجميل لقاء، وأكرَمتهُنّ، وقد استقر بهن المجلس وقدمت لهن من الفاكهة صحاف البرُتقال، {وآتت كلّ واحدةٍ منهنَّ سكّيناً} وكانت قبل ذلك، قد ألبست يوسُف فاخر اللّباس، وزيّنتهُ، فتألّق مشعشعاً!.. فلمّا انتظم عقد مجلسهنّ قالت: {اخرج عليهنّ. فلمّا رأينهُ أكبرنَهُ وقطّعنَ أيديهنَّ، وقُلن: حاشَ لله، ماهذا بشراً، إن هذا إلاّ ملكٌ كريمٌ}. وتعلّقت أنظار السيدات المجتمعات بهذا الفتى الأغرّ الوسيم، الوضئ المُحيّا، المشعِّ الطّلعة، فشهقن منبهرات.. وتمتمن: - ليس على الأرض كهذا الجمال اليوسفيِّ السّاحر الأخّاذ!.. بينما كانت تسيلُ أيديهنَّ دماً، إذ قد حززن أسابعهُنَّ، دون أن يشعرن لمّا رأينه، وهنَّ، لدهشتهن، يحسبن أنّهن يحززن ماقدّم لهنَّ من برتقال!.. وتلتفت سيدة القصر إلىالنسوة، وقد طاشت عقولهنّ، فهنّ بما رأين، منبهرات، مأخوذات وتقول لهنّ بلهجة عتاب" {فذلكنَّ الّذي لُمتُنَّني فيه}، فما قولُكُنَّ بعدما رأيتُنَّ؟.. ويُجبنَ: لقد رأينا من الجمال مالا يوصفُ، ومن الحسن مالايُدركُ، ممّا تحارُ به الأفهام وتطيش به الألبابُ، وتنخلعُ له القلوبُ،.. وبالتالي، فلآلوم على سيدة مصر أن يتعلّق قلبُها بهذا الجمال الملائكيِّ المدهش.. وليس السّماع كالمعاينة!.. وتتابع زليخا، بجُرأة السّيِّدة الخطيرة الشأن، تبوح بدخيلة فؤادها، إلى من هُنّ دونها من سيّدات مجتمع مصر، دون حرج. فليس بين امرأتين سرٌ مكتومٌ..: {وبقد راودتهُ عن نفسه فاستعصمَ، ولئن لم يفعل ما آمُرُهُ ليُسجننَّ وليكوناً من الصّاغرين}. فأقبلت السَّيِّداتُ على يوسُف لائماتٍ، عاذلاتٍ،.. - يوسفُ، وأنت في ريعان الشّباب، وميعة الفتوّة، هلاّ رقَّ قلبُكَ لسيدتك الهائمة بك، فعطفت عليها بلفتة غرام تطفئُ ماتُعاني من الهوى المُمِضِّ، والوجد الملتهب؟. وتناولته كلّ واحدةٍ منهنّ بالقول الخلوب، والاستعطاف الرقيق. والدَّلّ المغناج.. فأشاح بوجهه عنهُنَّ، يأبى الخيانة، وسُبُل الغواية والضّلال!.. ودعا ربّه أن يصرف عنه كيدهُن، فالسّجن أحبُّ إليه من دعوات الفُجور، وإلاّ فليس لهُ إلاّ أن يصبو إليهنَّ، وإن على كُرهٍ منه، بعد طويل تمنُّعٍ وإباءٍ!.. {فاستجاب له ربُّهُ فصرفَ عنهُ كيدَهُنَّ إنّهُ هو السّميعُ العليمُ}. وأدخل يوسُفُ، بعد ذلك، السجن، بوشايةٍ ملفّقةٍ، واتّهامٍ كاذبٍ، حيثُ استقرَّ به المقامُ هناك، بضع سنين، وقد انقطعت أخبارُه عن العالمين!.. يوسف في السجن ووجد يوسفُ في سجنه بعض متّسع من الوقت ليُبثَّ أفكاره بين هؤلاء السيئي الطّالع الذين تصمُّهم عتمةُ السجن فما من إلهٍ إلاّ الله الواحد القهارُ!.. فلا"رَعْ" -اي الشمسُ- بإلهٍ، ولا"إبيس"- أي العجلُ- بإلهٍ أيضاً،.. ولاهذه الأصنامُ جميعاً بألهةٍ. إنّها حجر منحوتٌ!.. فالله وحدهُ، خالقُ السموات وما فيهن، والأرضين، وما عليهن. وهو ربَّ العالمين!.. بذلك بشّر إبراهيمُ من قبلُ، وإليه دعا من بعده، جدُّ يوسفَ، إسحقُ، وأبوه يعقوبُ!.. {ودخل معه السجن فتيان} فأصغيا إلى دعوته، فوجداها حقاًّ.. إنّهما ساقي الملك، وخازن طعامه، سيقا الى السجن ليُحاكما بعد ذلك.. ووجد الفتيان في يوسف رجاحة عقل وشرف نفسٍ وعلوَّ همّةٍ، لم يجداها في غيره.. فأتياه يوماً ليُنبّئهُما بتأويل حلم رأياه: قال الأول: لقد رايت فيما يرى النائم إني أقدّم للعزيز خمراً.. وقال الثاني: بينما رأيتُ أنا، أنِّي أحملُ على رأسي خبزاً، فتأتي الطيرُ، وتأكُلُ منه. ويجد يوسفُ في المناسبة فرصة سانحة ليُبشّر بدينه، ودين آبائه: يعقوب وإسحق وإبراهيم.. فهو الدّين الحقُّ القيم {ولكنّ أكثر الناسِ لايعلمون} ثم يلتفت إلى الأول منهما، قائلاً: لاأخالك إلاّ ناجياً، عمّا قريب، وستعود إلى بلاط الملك، ساقياًله، ونديماً، تقدّم له كؤوس الخمر. فإن كان ذلك، ولابدَّ من أنّه سيكون، فاذكرني عند سيّدك الملك". ثم التفت الى الثاني، أما أنت، فستُصلبُ بعد خروجك من السّجن.. ويبتسم الثاني، وكأنه كان غير صادق في ما زعم من رؤيا، ويحاول الاعتراض فيرفع يوسف كلتا يديه بوجههما، قائلاً لهما: هذا أمرُ الله وقضاؤه فيكما، فقد {قُضي الأمرُ الذي فيه تستفتيان!..}. ويكون مانبّأهُما به يوسف: إذ سرعان مايستدعى الرجلان، فيخرجان من السجن، ويمثلان أمام القضاء، فتبرّأُ ساحة الأول، فيعود ساقياً للملك، ونديماً.. وتثبت على الثاني التُّهمة، فيُقتل صلباً.. وتمرُّ، بعد ذلك على يوسف في سجنه بضعُ سنين، وقد عانى فيها ما لايعلمُهُ إلا الله!.. رؤيا عزيز مصر وخرج العزيزُ، صباح يومٍ، على العلماء المحتشدين في بلاطه، وقد تغيّر وجههُ، وكأنّ غمامةً من كآبةٍ تطوف على جبينه، لاتفارقُهُ.. فماذا تخبِّئُ لهُ الأقدار؟ ويسأله أحدهم، وقد بدا عليه اهتمامٌ: - ماالأمرُ يامولايَ؟ - رؤيا، رأيتها البارحة، لاتزال ماثلة في وجداني.. ونصب عينيَّ، أبداً!.. - هاتها!.. وفينا كلُّ مفسِّرٍ، عليمٍ!.. _ {إني أرى سبع بقراتٍ سمانٍ، يأكُلهنَّ سبعٌ عجافٌ (ج.عجفاء: أي هزيلة) وسبعَ سُنبلاتٍ خضرٍ، وأُخرَ يابساتٍ، ياأيُّها الملأُ أفتُوني في رؤيايَ إن كنتُم للرُّؤيا تعبُرون} ويطرق الكهنةُ في المجلس، والعلماءُ.. ولايجدون لرُؤيا الملك تأويلاً.. ويستغرقون في التفكير، ولايهتدون، إنّهم أمام طلّسم مستغلقٍ!.. وظهر عليهمُ العجزُ وبان الارتباكُ.. - {قالوا: أضغاثُ أحلامٍ وما نحنُ بتأويل الأحلامِ بعالمين} وكان ساقي الملك يستمع إلى ذلك كلّه، فذكر رؤياه عندما كان سجيناً، وصاحبه، وذكر تأويل يوسُف للرُّؤيا. وطلب يوسف إليه أن يذكُرَهُ أمام عزيز مصر.. وها هي ذي المناسبةُ، فيصيحُ: - سيّدي، سيّدي، في السّجن فتىً اسمُهُ يوسُفُ، عليمُ بتفسي الأحلام، وتأويل الرُّؤى، فلو شئت استدعيته، فتقعُ فيه على الخبير!.. ويأمره الملكُ: هيّا!.. اعرض عليه رؤياي، وهلُمّ إليَّ بما يقول!.. ويسرعُ ساقي الملك إلى السجن، ومعه بضعةُ رجال من الشُّرطة،.. فيدخلون على يوسف ويسلّم عليه ساقي الملك، ويعتذر إليه، فقد أنساه الشيطان أن يذكره أمام الملك وها هو ذا بابُ الفرج ينفتح على يوسف، فبعد اللّيل، فجرٌ وشمسٌ وضياءٌ!.. ثم يستمع يوسف، بعد ذلك، إلى رؤيا الملك، مليّاً ويقولُ للرسول، بلهجة الواثق، المطمئنِّ،: هاك تأويلها!..: - تستقبلون سبع سنين فيها لين عيشٍ ورخاءٌ، وازدهار وعطاءٌ.. تتلوهنَّ سبعُ سنين - على نقيض سالفاتها- كوالحُ، شدادٌ، فيها ينقُصُ ماءُ النِّيل، وينحسرُ خيرُه، فلا يعودُ إلى سابق عطائه،.. وينقطعُ الغيثُ، فلا تغُلُّ الأرضُ، وتصابون بالدّواهي وعظائم الأمور، فيعُمُّ قحطٌ وجدبٌ، وتبتلون بشظف عيش وقسوة حياة. وبعد ذلك، تقبل الأيام عليكم بوجهها من جديدٍ، بعد إدبارٍ، فيخصبُ وادي النّيل، ويُمرعُ، ويعُمَّ الخير أرض مصر كلّها.. وتغاثون حنطةً وشعيراً فتأكلون، وسمسماً وزيتوناً، وعنباً، فتعصرون!.. فإن كان ذلك- وهو كائنٌ لامحالة- فذروا ما حصدتم في سنبله، ودعوه في أهرائكم باستثناء ماأنتم بحاجة إلى أكله، حتى يقضي الله أمراً كان مقضياً!.. ويعودُ الرّسول إلى قصر الملك، يهرولُ، مُسرعاً.. إن تفسير الرؤيا أعجبُ من الرؤيا ذاتها، وأغربُ!.. ويُنبِّئُ الملك، أمام العلماء المحتشدين في بلاط القصر، تفسير الرؤيا التي رآها.. فينبهرون جميعاً.. ويقول قائلهم: إن هذا لذو علمٍ عليمٌ. ويقول آخرُ: بل، إنّ هذا من وحي السّماء!.. ويلتفت الملك إلى ساقيه، مُنتهراً إياه: ماذا تنتظرُ؟.. هيَّا!.. عليّ بيوسف سريعاً!.. ويُسرعُ ساقي الملك إلى يوسف، يزُفُّ إليه بُشرى اطلاق سراحه، داعياً إياه لمقابلة الملك. ويقابل يوسف ذلك ببرودة أعصاب، فيُبهتُ الرَّسولُ!.. إنّ يوسُفَ يأبى أن يغادر السّجن دون إثبات براءته، ولو بعد حينٍ. فيقول للرّسول: -{ارجع إلى ربّك(بمعنى الملِك) فاسألْه ما بالُ النِّسوة اللاّتي قطّعن أيديهن، إنّ ربي ركيدهنّ عليمٌ}. ويدعو عزيزُ مصر النّسوة، وفي طليعتهنّ زوجه زليخا، فلا يشهدن ليوسف إلا بكل مكرمة وخلقٍ رفيع.. وتجد السيدة زليخا الفرصة مؤاتية لتزيح عن نفسها همّاً طالما أقلق مضجعها، وأقضّه.. فتصرّح على رؤوس الأشهاد بأنّها هي التي راودته عن نفسه، فاستعصم وأبى!.. والكلُّ يعلم ذلك.. فلم مجانبة الحقيقة والقول الصّواب؟.. فما كان من عزيز مصر بعد ظهور الحقيقة ببراءة يوسف، إلاّ أن دعا يوسف إليه يستخلصهُ لنفسه رجلاً قوياً، بعد ما كان استخلصهُ لنفسه غلاماً فتياًّ!.. ويسلِّمه خزائن مصر، وهو الخبير العليم، يُشرف عليها، متصرّفاً في أمورها كما يرى.. إن يوسف وزير مال واقتصاد من طراز نادر، رفيع!.. وهو الجدير بأن تسلّم إليه مقاليد الأمور، وتُناط به المهمّاتُ، في حوالك الأيام!.. وينهض يوسف بالهمهمة الموكلة إليه، خيرُ نهوض.. فقد قرعت المجاعة أبواب الناس قاطبةً، وهجم عليهم الجوع فعضَّهم بأنيابٍ حِدادٍ!.. وتلاقي خُطَّتُه في خزن القمح والمؤن، وتوزيعها على الناس كلّهم، بالعدل والقسطاس، نجاحاً عظيماً!.. فهي التي خلَّصت شعب مصر من براثن مجاعة، وخطوبٍ عِظامٍ!.. يوسف وإخوته وكما في مصر جدبٌ وقحطٌ، عامّان، كذلك في أعالي الجليل، حيث اجتاح الجفاف أرض كنعان، وضربها قحط أسود، كالحٌ!.. وتهيّأ إخوة يوسف ليمتاروا (أي: يجلبوا) حنطةً من مصر، حيث يقوم على ذلك ملكٌ حدت باسمه الرُّكبانُ!.. وساروا بقافلتهم متوجهين إلى أرض النيل، حتى وصلوا إلى مصر،.. ودخلوا على العزيز، فعرفهم واحداً واحداً، وهم له منكرون. وتقرب إليهم عزيزُ مصر، مستفسراً عن أحوالهم، وعن الجهة التي أتوا منها. فعرَّفوه بأنفسهم: فهم أبناءُ نبيِّ الله يعقوب إبن إسحق بن إبراهيم.. كان لهم أخٌ من أبيهم، أكلهُ الذِّئب في الفلاة، وبقي شقيقُهُ الصغير، واسمُهُ بنيامين، في عهدة أبيه.. ورحَّب بهم العزيز، ووعدهم بجزيل الإحسان.. وتظاهر أنه يريد التثبُّت من صحَّة دهواهُم، فطلب إليهم أن يأتوه بأخيهم الصَّغير، هذا.. ووجد إخوةُ يوسف في ذلك صعوبةً.. فليس من السَّهل أن يتنازل عنه أبوه، وذكرى يوسف، لاتزال تفعل في نفسه رغم ماانقضى عليها من دهرٍ طويلٍ.. ولكنّ عزيز مصر أصرَّ على طلبه. فتلبيةُ طلبهم من الحنطة مشروطةٌ بإحضار أخيهم بنيامين، فانصاعوا لأمره، مكرَهين!... وأمدَّهم يوسف بكيل بعيرٍ من الحنطة، وردَّ إليهم ما دفعوه من مالٍ، جعلَهُ في رحالهم، تشجيعاً لهم على العودة، وإحساناً!.. وقفلوا راجعين!.. وعرضوا على أبيهم ما طلبه عزيزُ مصر، هذا الأريحيُّ الكريمُ، وما اشترطهُ عليهم من إحضار أخيهم بنيامين. فاستعبر يعقوب باكياً، وتأوَّه كالملدوغ: {وا أسفى على يوسُفَ!..} وبكى أبناؤه وهم يرون أباهم الشيخ قد ابيضَّت عيناه حُزناً على يوسف، وكمداً، وأسفاظص، وفارقت ثغره الإبتسامةُ، فهو في حزنٍ مقيمٍ!.. وأحاط الإخوة بأبيهم، فلم لايأمنهم على أخيهم بنيامين؟.. انهم عشرة حوله يُفدُّونه بالمهج والأرواح. فقال لهم يعقوب: {هل آمنكُمُ عليه إلاّ كما أمنتكُم على أخيه من قبلُ. فاللهُ خيرٌ حافظاً وهو أرحمُ الرّاحمين}. فأطرقوا خجلاً، ولم ينبسوا ببنت شفةٍ، إنّ أباهم ليقول حقاً!.. وبعد لأي (أي: جهد) سمح يعقوب لأولاده باصطحاب أخيهم بنيامين إلى عزيز مصر فهبُّوا إلى رحالهم، فرحين.. واستوقفهم أبوهم: - "مهلاً!.. ولكن شرط أن تحافظوا عليه محافظتمك على أنفسكم، أو أشدّ، ولاتفرِّطا به أبداً" وأخذ عليهم بذلك ميثاقاً غليظاً!. ثم نصحهُم بألاّ يدخلوا المدينة من باب واحد، فهم عشرةُ رهطٍ، يضافُ إليهم أخوهم بنيامين. يؤلّفون قافلة كاملة، فمن الممكن أن يجتاحهم أذىً، أو أن تُصيبهم عينٌ بسوء!.. وسارت القافلةُ على اسم الله، يُحيط بها دعاءُ يعقوبَ، وتكلأُها عين الله!.. يوسف وبنيامين ها هي ذي القافلة تحطُّ في أرض مصر الرّحال .ويتوجَّهُ أبناء يعقوب العشرة بأخيهم بنيامني إلى عزيز مصر، فما كانوا في حديثهم السّابق، معهُ، الاّ صادقين!.. ويستقبلهم العزيز ببشاشة وجه طلقٍ، وترحابٍ نديٍّ!.. ويحين موعدُ الطّعام، فيجلسُ كلٌّ إلى أخٍ له، يشاطرُهُ الغداء.. ويومئ العزيز إلى بنيامينَ، فيأخذُه من يده، ويتغدّيان معاً.. ويرمُقُ أبناء يعقوب أخاهم بنيامين، وهو يؤاكلُ الملك، بطرفٍ حسودٍ!. وفي غفلة عن أعيُنهم يهمسُ يوسفُ في أذن بنيامين: {إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون} ويوصيه بألاّ يبوح هذا السرِّ أمام إخوتِه، أبداً!.. ولمّا جهّزهم الملكُ بجهازهم، موفياً لهم الكيل، أمر بوضع صواع الملك (الصواع، أو الصاع: مكيال نصف مد) في رحل أخيه بنيامين. وما أن ابتعدت القافلة قليلاً، حتى استوقفها صارخٌ: - على رسلكم!.. تريَّثوا قليلاً!.. - ماالأمرُ، أيّها الحرسيُّ؟. - لقد فقدنا صواعَ الملك، وهو كما تعلمون، من الذّهب الخالص. إنني كفيلٌ لمن يجئُ به، بكيل بعيرٍ من الحنطة، وما هذا الكيلُ بيسير!.. - والله ما كنا لنخون، وماكنّا لنسرقُ، ولالنعيثُ في الأرض فساداً، نحن، ياهذا، أبناءُ نبيٍّ ابن نبيٍّ، فاتّق الله في أمرنا!.. - مادمتم لتقولون ذلك، فهيّا إلى العزيز، ليرى رأيه في ماتقولون!.. ويعود أبناء يعقوب إلى عزيز مصر... - مالخطبُ أيّها العزيز؟ - إننا نفقد الصُّواع الذهبيَّ الذي نكيلُ به الحنطة للنّاس، فلعلَّ أحدكُم سرقه!. - سرقه؟.. أترى في وجوهنا سيماء لُصوصٍ، وسُرّاقٍ؟.. - لعلّه يكون في أحد أحمال هذه الحنطة التي على الإبل، فهيّا، وأنزلوا ماعليها من أحمالٍ!.. ويُسرع أبناء يعقوب ينيخون الجمال، وينزلون ما عليها من أحمال حنطةٍ، وهم يقولون: والله ماكنّا سارقين!.. ويقول لهم العزيزُ، وهم يفُكُّون أربطة رحالهم: - ماجزاءُ من سرقه إن تبيَّن أنه في رحال أحدكُم؟.. فيجيبون: كما يقضي بذلك، عندكُم القانون. -يتحمَّلُ وحده العقاب دون الآخرين. - وهو كذلك!.. ويتقدم العزيز فيتحسَّسُ أحمال إخوته العشرة، وهم يبتسمون،.. فلا يجد شيئاً.. ثم يمدُّ يمينه إلى حمل بنيامين فيستخرج الصُّواع منه،.. ويرفعُه في وجوههِم!.. وتعقُلُ الدَّهشة ألسنةَ أبناء يعقوبَ، ويسطع الغضبُ من عيونهم، فتظهرُ وجوههم حمراء دكناء!.. فمتى كان هذا الحمل الوديع لصّاً خطيراً؟.. {قالوا: إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبلُ} فيرمقهم عزيز مصر بنظرة كالصّاعقة؛ فما زال هؤلاء الرّجالُ على ضلالهم القديم!.. ويجيلُ نظراته في هؤلاء العشرة من الرجال، وقد اعتراهم خزيٌ كاسحٌ، { قال: أنتم شرٌّ مكاناً والله أعلمُ بما تصفون} وأمر عزيزُ مصرَ ببنيامينَ فأوقِفَ جانباً.. ولمّا رأى أخوتُه ذلك، ذكروا أباهم، والمواثيق الّتي أخذها عليهم، والعهود.. إنّه لآمرٌ، جدُّ فظيعٌ!.. ووقفوا أمام عزيز مصر مستعطفين... {قالوا: ياأيّها العزيزُ إنّ له أباً شيخاً كبيراً، فخُذ أحدنا مكانه إنّا نراك من المحسنين. قال: معاذ الله أن نأخُذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده إنّا إذاً لظالمون} فأطرقوا!.. إنّ العزيز ليقول حقّاً ويحكمُ عدلاً!.. يهمُّون بالإنصراف، وقد اكتسحهُم همٌّ ثقيلٌ، فبأيِّ وجهٍ سيُلاقون أباهم، وقد أخذ عليهم موثقاً من الله، غليظاً، وعاهدوه، فما قُدِّرَ لهم الوفاء؟ ويضرب كبيرُهُم الأرض بقدمه، قائلاً لإخوته: - ويحكُم!.. أنسيتُم عهدكُم لأبيكم. بئس ماتعودون به إليه،.. أمّا أنا، {فلن أبرح الأرض حتّى يأذن لي أبي، أو يحكُم الله لي وهو خيرُ الحاكمين}. وعاد أبناء يعقوب إلى أبيهم، مطرقي الرؤوس، منكّسي الهامات، كأنّهم وراء جنازةٍ يسيرون.. ويخبرنه بالحدث، فيضربُ يعقوبُ رأسه بكلتا يديه!.. بالأمس فرّطوا بيوسف، واليوم ببنيامين،.. وأجهش الشيخ منتحباً.. ورماهم بغليظ القول، أشدّ من السّياط لسعاً، واتَّهمهم بالتَّفريط والتّقصير، سوؤ النيّة، والتّقدير!.. ولكنّ الشّيخ الكبير لايزالُ على عظيم ثقة ببقاء يوسف جيّاً يُرزق، وبأن بنيامين سيعود إليه يوماً!.. ولكن: أين يكونُ الأول؟... ومتى يعودُ الثاني؟.. وغالبهُ حزنٌ وقهرٌ قغلباه. فاستسلم لمشيئة الله، وكأنّ قبله تقطّعهُ المدى!.. وقال لأبنائه: {يابنيَّ اذهبوا فتحسسّوا من يوسفَ وأخيه ولاتيأسوا من روح الله إنّه لاييأسُ من روح الله إلاّ القوم الكافرون}. خاصةً، وأنّ القحط والجفاف عادا يضربان أرض شماليِّ الجليل، فالسّنواتُ عجافٌ، شدادٌ، مهازيلُ. المفاجأة ويذكرُ أبناء يعقوب عزيز مصر، وعدله، وكرم يده، وشمائله الحسان، وأخاهُم لديه.. فيجمعون مابحوزتهم من مالٍ يسيرٍن ويتوجَهون به إلى بلاد العزيز.. ويدخلون عليه قائلين: ياأيُّها العزيزُ، لقد ابتُلينا بأمورٍ عظامٍ، وخُطوبٍ جسامٍ إذ شحّت السّماءُ، وأجدبت الغبراءُ، فأصابت أهلينا البأساءُ والضّرّاء، وجئناك بما أبقت عليه الأيام النّكداءُ، والخطوب النّكراءُ، وهو مالٌ جدُّ يسيرٌ، وقليلٌ حقيرٌ، {فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا إنّ الله يجري المتصدّقين} { قال: هل علمتُم مافعلتُم بيوسُفَ وأخيه إذ أنمت جاهلون}. ويستعيدون في أذهانهم صورة أخيهم يوسف، كفلقة القمر اشراقاً ولألاءً، إنّه، وربِّ ابراهيمَ- لهو!.. وقد القت النعماء عليه مسحةً من مزيد بهاءٍ وإشراقٍ.. فيا للمُفاجأة الصّاعقة!.. ويصرخُ بعضُ إخوته، وقد داهمتهُم المُفاجأةُ فأخرجتهُم عن طورهم، وتأدُّبهم أمام عزيز مصر، {قالوا: أإنّك لأنت يوسُفُ!} ويجيبهم بكل هدوءٍ: {قال: أنا يوسفُ وهذا أخي قدْ منَّ الله علينا، إنّه من يتّق ويصبِر فإنَّ الله لايُضيعَ أجرَ المحسنين}. فاعترفوا بخطيئتهم، وقد تطأطأت منهم الرُّؤوسُ، فلا يستطيعون النّظر إلى وجه إخيهم خجلاً من فعلتهم الشَّنعاء... واستأذنُوه أن يعودوا إلى أبيهم بالبُشرى، فإذن لهم.. وجهّزهم بما ناءت به العيرُ، وبقميصٍ له، طلب إليهم أن يلقُوه على وجه أبيهم حينَ يصلون!.. وقفلت العيرُ، وئيدةً، بطيئةً، بما عليها من أحمالٍ ثقالٍ، وقد توجّه بها أبناء يعقوب إلى بلادهم في شماليِّ الجليل، وقد علا صوتُ الحادي، فأخذت العيرُ تجدُّ في المسير!.. وأخيراً،.. وصلت العير إلى مواطنها، وأشرف أبناءُ يعقوب على أبيهم، وقد حمل البشيرُ قميص يوسف، وأخذ يعدو نحو أبيه.. فصاح يعقوبُ: {إني لأجِدُ ريحَ يوسُفَ} وطُرِحً قميصُ يوسفَ على وجه يعقوب المتغضِّن، الّذي لايبين منه إلاّ لحيةٌ كثّةٌ، مرسلةٌ على سجيّتها، تعلوها عينان غائرتان، غاض فيهما النّورُ، .. فارتدَّ بصيراً!... وسجد لله شكراً؟، وقد ردَّ إليه يوسفَ بعد طولِ غيابٍ.. فيا للبُشرى التي لايُحيطُ بها وصفٌ، وكأنّها لغرابتها، من عالم الخيال!.. وبعد عدَّة أيام تهيَّأ يعقوبُ، وأهلُ بيته جميعاً، للتوجُّهِ إلى مصر حيث العزيزُ، العزيزُ!.. وشهدت أرضُ كنعان قافلةً تحملُ خليطاً من رجالٍ ونسوةٍ، وصبيةٍ صغارٍ، وبعض مالٍ، ومتاعٍ،.. وفي مقدّمتها شيخٌ مهيبٌ وقورٌ، يحث راحلته إلى أرض الكنانة!. رواية ورد في إحدى الرّوايات، أنّ بعض أملاك السّماء استأذنوا الله أن يشهدوا لحظة لقاء يوسُفَ بأبيه يعقوبَ، فأُذن لهم، إنّها من اللّحظات النّادرة في التاريخ!.. وشاهدت الملائكةُ في هذا اللِّقاءِ عجباً: الشيخ يفتحُ ذراعيه، صائحاً، ساعة شاهد إبنه، ويعدو نحوه، وكأنّه يطير.. وكذلك فعل يوسُفُ!.. ويصل كلٌّ منهما إلى صاحِبه.. ويرتمي كلٌّ منهما في حِضن الآخر.. ويتعانقان.. حتى يكادَ جسداهما يلتصف الواحدُ منهما بالآخر!.. وقد تحدّرت منهما دموع الفرح بسخاء، فتقطّرت على الأرض، غزاراً.. كما شهد هذا اللّقاء خلقٌ من المصريين، اصطفُّوا مرحّبين، وقد اغرورقت عيونهم بالدّموع.. وآوى يوسف أبويه وإخوته إليه في القصر، وقد أحاطوا به.. وانتظم عقدُ لقاء يوسُف بأبويه وإخوته أجمعين، وقد خرّوا له سُجّداً.. فالتفت يوسفُ إلى أبيه قائلاً: {ياأبت هذا تأويل رؤيايَ من قبلُ قد جعلها ربّي حقاًّ} ويهزُّ الشيخ برأسه، وقد طفرت من عينه دمعةٌ حرَّى.. ويُردِفُ يوسف، قائلاً، بصوتٍ متهدِّج، وقد رفع كلتا يديه إلى السَّماء: -{ربّ قد آتيتني من المُلك، وعلّمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السّموات والأرض، أنتَ وليِّي في الدُّنيا والآخروة، توفّني مسلماً وألحقني بالصّالحين}. نهاية المطاف كان موكبُ يوسُفَ يشقُّ المدينة، وحوله جندٌ وحرسٌ، وحشمٌ وخدمٌ.. وقد تجمهر الناسُ على جانبي الطريق ليحظوا بمشاهدة عزيز مصر، ومليكهم العادل المحبوب... وكانت عجوزٌ شمطاءُ قد اقتعدت إحدى زوايا الطّريق، والنّاسُ حولها في هرجٍ ومرجٍ ووصخبٍ وضوضاء... فعزيزُ مصر، يشقُّ موكبُه الجماهير المحتشدة بعناءٍ، وقد تدافعت نحوهُ هاتفةً باسمِه، فهو بين مسلِّم عليه، ومسفِّق لهُ، وملوّحٍ من بعيدٍ.. وينعطف الموكبُ الملكيُّ بالقرب من العجوز، فتدعو بصوتٍ عالٍ كالهُتاف: - سبحان من صيَّرَ العبيدَ ملوكاً بطاعته، والملوك عبيداً بمعصيتِهِ!.. ويصلُ الصَّوتُ إلى مسامع العزيز، فيأمر الموكبَ بالتوقُّفِ، ويسألُ عن صاحبة الهُتاف، .. فيؤتى بالعجوز إليه.. ويسألها عزيزُ مصر عن سبَبِ هُتافها، وعن اسمِها، وعن حاجتها... ويقشعرُّ بدنُ العزيز، وقد عرف العجوز الّتي ذهبت بنضارتها السُّنون... إنّها زليخا!.. وقد قلب لها الدَّهر ظهرَ المجنِّ!.. وكم لها في قلبه من ذكريات لاتزولُ، وكأنّها محفورةٌ على صخر أصمَّ... وكم لها في ماضية من تاريخٍ حافلٍ، ومزدحمٍ بالأحداث!... ويطحبُها معه في الموكب الملكيِّ... ويُدخلُها القصر متوكِّئةً على عصاها، وقد احدودب ظهرها، واضمحلّت قواها.. ويراها يوسف كذلك، فتطفحُ عيناهُ بالدّمع.. فيدعو الله أن يُعيدَ إليها نضارةَ الصِّبا، وريعان الشَّباب، كما كانت أيّام تركُضُ خلفهُ في القصر وتُغلِّقُ الأبوابَ... تقولُ الرواية: إن الله يستجيبُ لنبيِّه دعوتَه.. فإذا بزليخا تعودُ كما كانت أيّام زمان، تتألّقُ نضارةً، وتتفجَّر عنفُوانَ شبابٍ. وينظرُ إليها يوسُفُ وقد عادت تميسً تيهاً، ودلالاً... ويطلبُ يدها للزواج فتقبلُ... ويُسدَلُ السِّتار على زواج يوسف من زليخا، كما شاء الله لهما ذلك.. فهما سعيدان!.. وعلى عودة أهله إليه جميعاً فهم في النّعيم يتقلّبون!... ويرى الناسُ ذلك، ويسمع به آخرون، فيعجبون عجباً شديداً.. فهم لايكادون يصدِّقون، فالقصَّة تكاد تدخُلُ في باب الأساطير!.. ولكنّها من أنباء الغيب، ووحي السماء.. {وما أكثرُ النّاس -ولو حرصت- بمؤمنين!...} (صدق الله العلي العظيم) |
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|