|
حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
الدعوة إلى الله بين الرفق والشدة... محمود عبد الحفيظ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فإن الناظر في الشرع الشريف يرى أن خلق الرحمة والرفق واللين كان هو الأصل في منهج الأنبياء -عليهم صلوات وسلامه- في دعوتهم إلى الله -تعالى- ومعاملتهم مع الخلق، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلا رَعَى الغَنَمَ) فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: (نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ) (رواه البخاري)، فكان رعي الأنبياء للغنم ليحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم وسياستها بشرع الله -تعالى-، مع في مخالطتها من حصول الحلم والشفقة منهم على الناس. وقد بيَّن الله -عز وجل- لنا في كتابه الكريم وكذا النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنته وسيرته الشريفة كيف أن الدعوة إلى الله لابد أن تكون برفق وشفقة، بل وخوف على الناس من عدم الإيمان واتباع الوحي المنزل. فهذا مؤمن آل فرعون يقول في دعوته لقومه: (يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ . مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ . وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ) (غافر:30-32)، فأظهر لهم مشاعره الصادقة وخوفه الحقيقي عليهم. وهذا الخليل إبراهيم -عليه السلام- قال الله عنه: (إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا) (مريم:42)، فناداه بقوله: (يا أبتِ)؛ ليذكره بالعلاقة التي بينهما والتي تقتضي كمال الشفقة، وهذا استمالة لقلبه وترغيبًا له في الإيمان. وقد أمر الله موسى وهارون -عليهما السلام- بإلانة القول لفرعون استمالة لقلبه لدعوة الحق، فقال -تعالى-: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:43-44). وامتدح الله النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران:159)، وقال -عز وجل-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128). وبلغ من شفقته -صلى الله عليه وسلم- وحرصه على هداية الناس أن كادت نفسه الشريفة أن تتلف حزنًا على مَن ضل ولم يؤمن حتى واساه الله بقوله: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) (فاطر:8). وأمر الله -تعالى- أن تكون الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، بل أمرنا الله -تعالى- بإحسان القول إلى كل الناس -فكيف في مقام الدعوة إليه؟!- فقال -تعالى-: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة:83)، فدخل في ذلك حتى الكفار، بل قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لَوْ قَالَ لِي فِرْعَوْنُ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، قُلْتُ: وَفِيكَ، وَفِرْعَوْنُ قَدْ مات" (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني). وقال أيضًا: "لَوْ قَالَ لِي فِرْعَوْنُ خَيْرًا لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ" (رواه ابن أبي الدنيا في الصمت). وإنالمتأمل في خلقه -صلى الله عليه وسلم- ورفقه ولينه في دعوته يجد عجبًا... ! ومن ذلك: طريقته مع الأعرابي الذي تبول في مسجده الشريف وهم به الصحابة فما كان منه -عليه الصلاة والسلام- إلا أن قال: (دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ أَوْ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ) (متفق عليه)، وآخر يجذبه بشدة وغلظة يطلب منه عطاءً فيضحك -صلى الله عليه وسلم- ويأمر له بعطاء رغم نكارة ما فعله الأعرابي، وثالث يشهر عليه السيف فيعفو عنه -صلى الله عليه وسلم-، وغير ذلك كثير... فما أوسع صدره وما أعظم حلمه وشفقته وإحسانه إلى الناس -صلى الله عليه وسلم-! فقد كان يعطي العطاء حتى يخرج من عنده الرجل ينادي في قومه: "يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لا يَخَافُ الْفَقْرَ"(رواه مسلم وابن حبان واللفظ له). بل لما دخل عليه يهود وقالوا: السَّام عَلَيْكَ. ما زاد على أن قَالَ: (وَعَلَيْكُمْ) فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَهْلاً يَا عَائِشَةُ عليكِ بالرِّفق وإِياك وال***َ والفُحْشَ). قَالَت: أَو لم تسمع مَا قَالُوا؟ قَالَ: (أَو لم تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ) (متفق عليه). فدل ذلك على أن الأصل في كل معاملات المسلم استعمال الرفق وحسن الخلق؛ خصوصًا في باب الدعوة إلى الله وإنكار المنكر، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلا اللِّعَانِ، وَلا الْبَذِيءِ، وَلا الْفَاحِشِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: (لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاحِشًا، وَلاَ لَعَّانًا، وَلاَ سَبَّابًا، كَانَ يَقُولُ عِنْدَ المَعْتَبَةِ: مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ" (رواه البخاري). وقد يتصور البعض أن كونه على الحق فيما يدعو إليه من معروف أو فيما ينكره من منكر يسوِّغ له التغليظ على الناس والكلام فيهم بما يشتهي رغم أن هذا السلوك قد يؤدي إلى تنفيرهم ومزيد بعدهم عن الحق فيكون متسببًا في ذلك مستحقًا لوعيد الله: (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل:94)، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ) (متفق عليه)، وقال لمعاذ -رضي الله عنه-: (أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟!)؛ وذلك لما أطال الصلاة فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلاَةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا، فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا البَارِحَةَ، فَقَرَأَ البَقَرَةَ، فَتَجَوَّزْتُ، فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ -ثَلاَثًا-؟! اقْرَأْ: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى وَنَحْوَهَا) (متفق عليه). قال فضيلة الشيخ محمد إسماعيل المقدم -حفظه الله-: "بعض الناس يعتبر أن الانتصار للحق والغيرة عليه تبيح له أن يستعمل ألفاظًا لا تليق حتى لو كانت حقًا، حتى لو كان هذا الشخص يستحق السباب بألفاظ معينة لكن غيرتك على الحق لا تسوِّغ لك أن تستعمل ما لا يليق بك أنت من الألفاظ السوقية... فهذا تنفير لهؤلاء الناس من أن يتوبوا أو يئوبوا إلى ربهم -سبحانه وتعالى-". فمتى كان بوسع الداعي إلى الله استعمال الرفق والعدول عن الشدة فعل؛ فإن الرفق لا يأتي إلا بخير، إلا أن مبدأ الرفق واللين في الدعوة ليس قاعدة مضطردة لا يُخرج عنها بحال، بل قد وجدت بعض صور الشدة في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن دون خروج عن حد الأدب والخلق الحسن؛ إذ لا علاقة بحال بين استعمال الشدة -عند الحاجة إليها- وبين استعمال الكلام الفاحش والألفاظ المبتذلة والسوقية دون حاجة شرعية تدعو إلى ذلك. فقد أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على أبي السنابل لما قال لسُبَيْعَة بنت الحارث -وقد وضعت حملها بعد وفاة زوجها بخمس عشرة ليلة-: كَأَنَّكِ تُحَدِّثِينَ نَفْسَكِ بِالْبَاءَةِ؟ مَا لَكِ ذَلِكَ حَتَّى يَنْقَضِيَ أَبْعَدُ الأَجَلَيْنِ، فَانْطَلَقَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا قَالَ أَبُو السَّنَابِلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ، إِذَا أَتَاكِ أَحَدٌ تَرْضَيْنَهُ فَائتِينِي بِهِ) (رواه أحمد وصححه الألباني، وأصله في الصحيحين)، وهذا تغليظ من النبي -صلى الله عليه وسلم- على أبي السنابل -رضي الله عنه- الذي أفتى بهذا دون بينة. وقال -صلى الله عليه وسلم- لمن قال له: "مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ": (أَجَعَلْتَنِي وَاللَّهَ عَدْلاً، بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وقال لثالث: (بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ) لمن خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ، قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوِيَ) (رواه مسلم). وهذه الصور التي استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها الشدة أحيانًا -سواء المذكورة ها هنا أو غيرها- كانت تتعلق بحق الله -سبحانه- وحرماته أو شريعته من تقوُّل بغير علم أو غلو في الدين ونحو ذلك... مع أمن المفسدة في استعمال الشدة في هذه الوقائع، أما إذا كان الأمر متعلقًا بشخصه الشريف -صلى الله عليه وسلم-؛ فكان أبعد الناس عن الانتقام لنفسه كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: "مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ، إِلا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ بِهَا لِلَّهِ" (متفق عليه). فاستعمال الشدة في الدعوة وفي الإنكار على المسيء والخاطئ تدور على المصلحة وجودًا وعدمًا فإن كانت الشدة -إن احتيج إليها- تؤدي إلى زيادة الابتعاد عن الالتزام بالحق واتباعه لم يكن فيها مصلحة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- هجر كعبًا بن مالك وصاحبيه -رضي الله عنهم-؛ لما في ذلك من المصلحة، وأما من عُلم مِن حاله أو غلب على الظن أن هجرته ومقاطعته لا تنفعه، بل ربما ضرته فلا تشرع حينئذٍ هجرته، والله -عز وجل- نهى عن سب آلهة المشركين -وإن كان في ذلك مصلحة إظهار عجزها وبيان عوارها- لما كانت تؤدي لاجتراء المشركين على سب الله -تبارك وتعالى-. ومن هذا الباب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لقريش إذ اشتدوا عليه: (لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني)، فكان لكلمته عليهم أثرًا عظيمًا في انزجارهم وكفهم عنه، في حين أنه الذي قال -صلى الله عليه وسلم- لمن استأذن عليه: (ائْذَنُوا لَهُ، بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ، أَوِ ابْنُ العَشِيرَةِ) (متفق عليه)، فلما دخل عليه ألان له القول وانبسط إليه -وهذا أيضًا للمصلحة شفقة على الرجل لعدم نفرته ومزيد غوايته-. قال ابن القيم -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ) (النحل:125): "جعل -سبحانه- مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق؛ فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعانِد الحق ولا يأباه يُدعى بطريق الحكمة، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يُدعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة، والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن. هذا هو الصحيح في معنى هذه الآية... " (مفتاح دار السعادة). والحكمة ليست هي الرفق دائمًا؛ فلربما كانت الشدة والحزم أحيانًا هي الحكمة التي ينبغي أن نتعامل بها، لكن بميزان المصلحة الشرعية في ذلك،فينبغي إذن على الداعي إلى الله -تعالى-، بل على كل مسلم أن يضع اللين في محله والشدة في محلها، وإلا وقع فساد عظيم وشر مستطير. ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مُضِرٌّ كوضع السيف في موضع الندى وهذه وصية الشيخ ابن باز... قال -رحمه الله-: "قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ) (رواه مسلم)، ولا سيما في هذا العصر، هذا العصر عصر الرفق والصبر والحكمة، وليس عصر الشدة، الناس أكثرهم في جهل، في غفلة وإيثار للدنيا، فلابد من الصبر، ولابد من الرفق حتى تصل الدعوة، وحتى يبلَّغ الناس وحتى يُعلَّموا، ونسأل الله للجميع الهداية" (مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- 8/376). وبنحو هذا الذي ذكره الشيخ ابن باز -رحمه الله- كانت هذه الفتوى الطيبة لـ د."ياسر برهامي" على موقع صوت السلف، والتي بعنوان: كيف نتعامل مع الطاعنين في التيار الإسلامي؟ ما الفرق بين التساهل والتسامح، ففي الآونة الأخيرة يُكال السباب والطعن لرموز التيار الإسلامي، ولما نرد بأقل بكثير مما يقال يدون علينا: أهذا هو الإسلام؟! فمتى نظهر القوة والرد الغليظ حتى يرتدع مَن يكيلون لنا السباب، ويعلنون محاولاتهم إسقاط التيار الإسلامي من الإخوان والسلفيين؟ ومتى نعمل الآية: (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (التوبة:73)؟ الجواب: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- احتمل مِن ابن سلول أضعاف ما نسمعه عنا؛ رعاية للمصلحة، و-بحمد الله- لم يتأثر التيار الإسلامي بما يُكال له مِن تهم، ولا بد للبذرة أن تنمو نموًا طبيعيًا حتى تصبح شجرة، وليس بين يوم وليلة. ولا شك أن البعض منا يستعمل الغلظة -أحيانًا- حسب ما يراه مناسبًا، والبعض يستعمل اللين، وعمومًا نرى أن وقتنا الحاضر الرفق فيه أولى" (انتهى). وللحديث بقية -إن شاء الله- في الجزء الثاني من هذه المقالة في تفنيد ورد شبهات السالكين مسلك ال*** والشدة ووحشي الألفاظ في الدعوة إلى الله...
__________________
|
#2
|
|||
|
|||
الدعوة إلى الله بين الرفق والشدة (2) شبهات وجوابها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد تكلمنا في الجزء الأول من هذه المقالة عن هدي الأنبياء -عليهم صلوات الله وسلامه- في الدعوة إلى الله، وكيف أن استعمال الرفق واللين هو الأصل في دعوتهم، وأن الشدة وإن كان لها موضع -إن احتيج إليها- إلا أنه يدور على المصلحة الشرعية وجودًا وعدمًا -كما مرَّ بيانه-. وللأسف رأينا نفرًا من الدعاة انتهج نهجًا يخالف ما أمر الله -تعالى- به وما كان عليه السلف -رضوان الله عليهم- في الدعوة إلى الله -تعالى- بالحكمة والموعظة الحسنة، فخرج على الناس يؤصِّل منهج السب والشتم "ويشخصن إنكار المنكر"، ويلفظ بوحشي الألفاظ ويتهجم على مَن خالفه بكلمات قاسية وعبارات جارحة أقرب إلى التعيير والفضيحة منها إلى النصح والإرشاد للخير، بل وصل الحال ببعضهم أن عرض صورًا عارية لبعض الفنانات على رؤوس الأشهاد مسوِّغًا ذلك بأنه على الحق فيما يقول! وتحولت بعض الفضائيات إلى ميدانٍ للتناحر والتراشق بالألفاظ السيئة بما قد يوحي للبعض أن الدعوة لا يمكن أن يكون لها مكان وسط هذا الركام والزخم الممتلئ بالهمز واللمز والمعايرة! ووصف بعضهم خيم المعارضين بالزنا دون بينة؛ الأمر الذي حذر منه شيخنا د."محمد إسماعيل المقدم" -حفظه الله-! وبعضهم وهو الذي قام فيما مضى بحرق الإنجيل ودعا إلى التبول عليه، والآن لا يجد ما يطعن به على "الدعوة السلفية" إلا أنها صارت تقر لبس البدل خصوصًا د."محمد إسماعيل" ود."ياسر برهامي" -لا ندري لماذا في هذا التوقيت بالذات؟!- اللذان سكتا على تنازلات أعضاء "حزب النور" الذين يرتدون البدلة، بل والكرافتة دون الجلابية على حد قوله! - خرج على الناس وقال -منتقدًا بعض الإعلاميين- ما نصه: "إن القرآن شتم أمثالك: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) (الأعراف:176)، هذا سب أم ليس بسب؟ ربك الذي يسب، ربك الذي يشتم... الشتيمة دي من عند الله، السب ده من عند الله!". وجهل هؤلاء أو تناسوا لزوم الأدب وحسن الخلق في الدعوة إلى الله خاصة ومع الناس عامة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلا اللِّعَانِ، وَلا الْبَذِيءِ وَلا الْفَاحِشِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الأدب هو الدين كله". فالأصل المقرر إذن أن يكون المسلم عف اللسان لين القول، بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن سب الشيطان، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لاَ تَسُبُّوا الشَّيْطَانَ وَتَعَوَّذُوا بِالله مِنْ شَرِّهِ) (رواه الديلمي، وصححه الألباني)؛ وذلك لأن السب لا يدفع ضرره ولا يغني من عداوته شيئًا، ولا مصلحة شرعية في سب الشيطان ولم يرتب الشرع ثوابًا على ذلك، وإنما في الاستعاذة بالله من شره واللجوء إلى الله -تعالى-؛ فإنه المالك لأمره الدافع لكيده عمن شاء من عباده. إلا أن ذلك قـُيـِّد بجواز لعن الشيطان في حالة الوسوسة والكيد كما لعنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ) ثُمَّ قَالَ: (أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ) ثَلاثًا، وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاةِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ قَالَ: (إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ، وَاللَّهِ لَوْلا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَة) (رواه مسلم). ومما يؤسف له أكثر... اغترار بعض العاملين في الحقل الدعوي ومجال الدعوة إلى الله بهذا النهج واستمرائهم له حتى سمعنا من يقول: "إن هذه هي الطريقة المُثلى التي تفلح مع هؤلاء المارقين من الليبراليين والعلمانيين والفنانين والإعلاميين... !". وإذا ما نُصح أحدهم باستعمال النصوص الداعية إلى الرفق بالمدعوين وحسن الخلق في معاملة الخلق "كما هي طريقة الأنبياء وأتباعهم" وأن هذا الأصلح في زماننا عد ذلك ضعفًا وخنوعًا! واحتجوا لطريقتهم هذه ببعض النصوص الشرعية -التي اشتبه عليهم فهمها وجعلوها أصلاً في هذا الباب- كالآتي: - قالوا: إن الله -تعالى- قال في القرآن: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) (الجمعة:5)، وقال عن الكافرين: (إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان:44)، وقال: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) (الأعراف:176)، وقال: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) (البقرة:13)، وقال: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) (المائدة:64)، وقال: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ . سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ . وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ . فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) (المسد). والجواب: إن هذا كله لا حجة لهم فيه: فإن هذا الذي ذكروه ليس من قبيل الشتم والسب ونعوذبالله أن نصفه -سبحانه- بما لم يرد في الكتاب ولا السنة؛ خاصة ما ظاهره النقص، والأفعال الإلهية هي منصفاته -عز وجل- وهي الصفات الفعلية؛ فلا يجوز أن يوصف الرب بأنه يسب أويشتم، وإنما هذا من قبيل التشبيه التمثيلي حيث شبَّه الله -تعالى- الكافر الذي لم ينتفع بما أعطاه الله من العقل والحواس وقد جاءته البينات والآيات بحال الحمار الذي يحمل على ظهره الكتب ولا يدري ما فيها. وبحال الأنعام التي ليس لها همٌّ إلا الشهوات البهيمية من طعام وشراب وشهوة وهي خاضعة لله مستسلمة له تعرف منافعها وتتبع مالكها، والكافر بخلاف ذلك، بل يزيد عليها الكافر بأنه قد يسعى بالفساد في الأرض ويصد عن سبيل الله فهو أضل منها وأبعد عن الانتفاع. وشبَّه -عز وجل- المنسلخ من آياته الذي استوى في حقه إيتاء الآيات والتكليف بها والتعظيم من أجلها وعدم ذلك شبهه بحال الكلب يدلع لسانه بكل حال، إن تحمل عليه -أي تشدّ عليه وتهيجه- أو تتركه غير متعرض فلهثه موجود في الحالتين جميعًا؛ فهذا تشبيه في صفة معينة، لا أنه حمار أو كلب! ثم إن وصف الإنسان -الذي كرَّمه الله وأحسن خلقه- بهذه الأوصاف من الكذب كما نص على ذلك "النووي" -رحمه الله- وغيره. وأما قوله -تعالى-: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ): فهذا إخبار من الله بحق وعدل عن حقيقتهم وحالهم وأنهم أولى بما رموا به المؤمنين من السفاهة وضعف العقل، ثم إن هذا كان في مقابلة وصفهم للمؤمنين -وفيهم رسول الله- بأنهم سفهاء. ومثله قوله -تعالى-: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا): فهو إما خبر أو دعاء عليهم بالشح والبخل بأن يخلق -سبحانه- فيهم الشح الذي يجعلهم منبوذين من الناس، ومِن ثَمَّ كان اليهود أبخل خلق الله، وحكم عليهم باللعن -وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله-؛ لسوء أدبهم معه -سبحانه- وجحودهم لنعمه، قال الآلوسي -رحمه الله- ما ملخصه: "ويجوز أن يكون المراد بغل الأيدي الحقيقة، بأن يغلوا في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم". فأين فيما ذكروه أن الله سب وشتم -تعالى الله عن ذلك-؟! ثم إن هذا كله ليس فيه تعيين لأحد من الناس أو ذكره بعينه. وأما (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ... ): فمعناها: خسرت يداه، فهذا إخبار عن حاله وعن حال امرأته حمالة الحطب وتصوير لما هما عليه في النار. فليس في "القرآن الكريم" شتم وسب أو شيء من ذلك -حاشاه-. - وقالوا: ذكر الله -تعالى- في القرآن أن موسى -عليه السلام- قال لفرعون: (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) (الإسراء:102). والجواب: قول موسى -عليه السلام- لفرعون: (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا): كان نذارة وتهديدًا لفرعون بالنكال ووبال العاقبة والثبور -وهو العذاب والهلاك- إذا تمادى في طغيانه وغيه، وردًا على فرعون في قوله له: (إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) (الإسراء:101)، مقارعة له وإظهارًا لكونه لا يخافه وأنه يعامله معاملة المثل كما قال -تعالى-: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة:194)، والمقام مقام كبر واستعلاء من فرعون. وموسى -عليه السلام- قال ذلك بحق وعلم "وليس فيما قاله فحش وسوء أدب أو عدوان"؛ فهل في هذا القول من موسى -عليه السلام- لفرعون شَبَه "ولو من بعيد" مما يقوله البعض الآن على الفضائيات من كلمات مبتذلة وألفاظ خادشة للحياء منفرة للملتزمين أصلاً فضلاً عن غيرهم؟! - وقالوا: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يشتم ويسب ويلعن! واستدلوا: بحديث عائشة -رضي الله عنها- "وما شابهه" أنها قالت: دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلانِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ، لا أَدْرِي مَا هُوَ فَأَغْضَبَاهُ، فَلَعَنَهُمَا وَسَبَّهُمَا، فَلَمَّا خَرَجَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَصَابَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، مَا أَصَابَهُ هَذَانِ، قَالَ: (وَمَا ذَاكِ؟) قَالَتْ: قُلْتُ: لَعَنْتَهُمَا وَسَبَبْتَهُمَا، قَالَ: (أَوَ مَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ عَلَيْهِ رَبِّي؟ قُلْتُ: اللهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا) (رواه مسلم). والجواب: أولاً: إن نسبة السب والشتم واللعن إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وإطلاقه على هذا النحو "وكأنه هدي له أو سنة عنه" لا يجوز؛ لأن مثل ذلك ورد عنه على سبيل الاستثناء والندرة وعقوبة وزجرًا وتعزيرًا لمن وقع في مخالفة شرعية -كما سيأتي بيانه-. ثانيًا: إن هذا الحديث لا يفيد بحال جواز ما هم عليه من الألفاظ المكشوفة والكلمات النابية، فهذان الرجلان اللذان أغضبا النبي -صلى الله عليه وسلم- استحقا توبيخ النبي -صلى الله عليه وسلم- لهما، ولا يشك مسلم أن السب الذي قصدته أم المؤمنين لا يمكن أن يصل بحال إلى ما تعارف عليه الناس اليوم من الكلمات البذيئة والفاحشة، فمثل هذا لا يظن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحال! ومعروف أن السب لغة واستعمالاً عند العرب أعم وأوسع من الشتم والقذف فلا يلزم أن يكون بالألفاظ الخارجة والكلمات الخادشة للحياء والتي قد تصل أحيانًا إلى حد القذف والرمي بالفاحشة من البعض أو الوساطة فيها كقول بعضهم عن أحد الإعلاميين "قواد ابن قواد"، فهذا أبو ذر -رضي الله عنه- يقول: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلاً وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَشَكَانِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لِي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ) (رواه البخاري وأبو داود واللفظ له)، فكان مجرد التعيير -بحقيقة واقعة أن أمه أعجمية- يسمى سبًا، وقد أنكره النبي -صلى الله عليه وسلم- على أبي ذر. وقد نهى الله -تعالى- عن سب آلهة المشركين لما سيؤدي إليه من مفسدة لا لذاته، ولا يقال أو يظن بأن السب الذي هو مباح، بل مندوب عند أمن هذه المفسدة يشمل استعمال الألفاظ الخارجة عن حدود الشرع والأدب -دون أن تدعو المصلحة الشرعية إلى ذلك على سبيل الاستثناء-، وإنما كان من هذا السب تسفيه آلهة المشركين وبيان عجزها وضعفها، وأنها لا تملك لنفسها -فضلاً عن غيرها- ضرًا ولا نفعًا. فزعموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يسب ويشتم مع إغفالهم ما أجاب به العلماء في ذلك ونقله النووي -رحمه الله- وغيره: "أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ سَبِّهِ وَدُعَائِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْوِهِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، بَلْ هُوَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي وَصْلِ كَلامِهَا بِلا نِيَّةٍ كَقَوْلِهِ: تَرِبَتْ يَمِينُكَ... وَلا كَبِرَتْ سِنُّكِ، وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ لا أَشْبَعَ اللَّهُ بطنه، ونحو ذلك لا يقصدون بشَيْء مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ، فَخَافَ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- أن يصادف شَيْء مِنْ ذَلِكَ إِجَابَةً فَسَأَلَ رَبَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَرَغِبَ إِلَيْهِ فِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ رَحْمَةً وَكَفَّارَةً وَقُرْبَةً وَطَهُورًا وَأَجْرًا، وَإِنَّمَا كَانَ يَقَعُ هَذَا مِنْهُ فِي النَّادِرِ وَالشَّاذِّ مِنَ الأَزْمَانِ وَلَمْ يَكُنْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاحِشًا وَلا مُتَفَحِّشًا وَلا لَعَّانًا وَلا مُنْتَقِمًا لِنَفْسِهِ" (انتهى من شرح النووي على صحيح مسلم). فلا ندري كيف يجعلون حديث: "فَلَعَنَهُمَا وَسَبَّهُمَا" -وما شابهه على ندرة هذه الوقائع- أصلاً في جواز ما هم عليه معرضين عن المُحكَم والمقرر في هديه وسيرته -صلى الله عليه وسلم- من عفة لسانه ورحمته بالخلق فعن أنس -رضي الله عنه- قال: لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَبَّابًا، وَلا فَحَّاشًا، وَلا لَعَّانًا، كَانَ يَقُولُ لأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ -أي عند العتاب-: (مَا لَهُ! تَرِبَ جَبِينُهُ) (رواه البخاري)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً) (رواه مسلم)؟! - وقالوا: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعْضُوهُ بِهِنَّ أَبِيهِ وَلا تُكَنُّوا) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني). والجواب: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ) معناه: الانتساب إلى القبيلة والعشيرة، كأن يقول: يا لفلان... من الافتخار والتكبر والتعاظم على الغير، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَأَعْضُوهُ بِهِنَّ أَبِيهِ وَلا تُكَنُّوا): قال ابن الأثير: "أي: قولوا له: اعضض بأير أبيك، ولا تكنوا عن الأير بالهن، تنكيلاً له وتأديبًا". فهذا عقوبة لمن وقع في ذلك، وعلى هذا عمل الصحابة -رضي الله عنهم-، فَعَنْ عُتَيِّ بْنِ ضَمْرَةَ قَالَ: رَأَيْتُ عِنْدَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ -رضي الله عنه- رَجُلاً تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعَضَّهُ أُبَيٌّ وَلَمْ يُكْنِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ، قَالَ: كَأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمُوهُ؟ فَقَالَ: إِنِّي لا أَهَابُ فِي هَذَا أَحَدًا أَبَدًا، إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ وَلا تَكْنُوهُ) (أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني)، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه كنَّى في هذا الحديث ولم يصرِّح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في منهاج السنة: "قال أهل العلم: يجوز التصريح باسم العورة للحاجة والمصلحة... " (انتهى). وذكر ابن القيم -رحمه الله- الحكمة من ذكر هن الأب فقال في زاد المعاد: "ذكر هن الأب لمن تعزى بعزاء الجاهلية فيقال له: اعضض هن أبيك، وكان ذكر هن الأب ها هنا أحسن تذكيرًا لهذا المتكبر بدعوى الجاهلية بالعضو الذي خرج منه، وهو هن أبيه، فلا ينبغي له أن يتعدى طوره" (انتهى). ونظير ذلك أيضًا: ما صرَّح به -صلى الله عليه وسلم- من لفظ الزنا الصريح كما في قصة ماعز -رضي الله عنه-؛ ولا غضاضة في ذلك ولا ينافي ذكر ذلك حياءه -صلى الله عليه وسلم- وما نهانا عنه من البذاءة والفحش؛ "إذ أن محل وجود الحياء في غير حدود الله"، وهو قد فعل ذلك لمصحة راجحة ومبالغة منه في الاستفصال قبل إقامة حد الرجم على ماعز -رضي الله عنه-؛ فهذا لكمال شفقته ورحمته -صلى الله عليه وسلم-. فتبين بهذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك على سبيل الاستثناء لمن تعزى بعزاء الجاهلية والانتساب إليهم كبرًا وتفاخرًا، لا أن يكون هذا أصلاً! - وقالوا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- سب الواصلة والمستوصلة فقال: (لَعَنَ اللَّهُ الوَاصِلَةَ وَالمُسْتَوْصِلَةَ) (متفق عليه). والجواب: ما ورد في اللعن على النمص وغيره... وبيان العقوبة المترتبة على فعله ليس فيه فحش أو بذاءة، وهذا إخبار من النبي -صلى الله عليه وسلم- عن لعن الله -تعالى- لمن يفعل ذلك؛ للتنفير مِن فعل هذه المخالفات، ومعلوم الفرق بين لعن النوع ولعن المعين. - وقالوا: أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- كان يسب ويشتم، ودليل ذلك أنه قال لعروة بن مسعود في قصة الحديبية: (امْصُصْ بِبَظْرِ اللاتِ) (رواه البخاري)، وأقره النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم ينكر عليه أنه قال تلك الكلمة! والجواب: نزيدهم على ما ذكروه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أقر الصديق -رضي الله عنه-، فإنه كذلك سكت على المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- وهو يضرب بنعل سيفه على يد عروة كلما امتدت يده لتمسك بلحية النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسكت كذلك على الصحابة الذين تبركوا بنخامته وتقاتلوا على وضوئه الشريف -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي كان ينهى عن أقل من ذلك من القيام له ونحوه. وقد علمنا ماذا ذكر عروة لما رجع إلى قريش، فقد قال عروة: "أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى المُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا" (رواه البخاري). فكانت مواقف الصحابة من توقير النبي -صلى الله عليه وسلم- والشدة على عروة؛ إظهارًا لقوتهم وبأسهم واستعدادهم التام لنصرة الإسلام وجلدهم في مواجهة قريش وقتالها، وكان في هذا مصلحة للإسلام وأهله ونصرة له في إظهار شوكته وقوته، وترهيبًا لأعداء الله من الاستخفاف بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ومن سماهم عروة أوشابا خليق أن يفروا ويدعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال عروة للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَإِنِّي لأَرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ" (رواه البخاري)، فكان أن رد عليه الصديق -رضي الله عنه- بقوله: "امْصُصْ بِبَظْرِ اللاتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟!". فكان ما قاله الصديق -رضي الله عنه- إيثارًا للمصلحة التي ترتبت على ذلك، مع كونه لم يخرج في ذلك عما نهى الله عنه من سب آلهة المشركين فإنه إنما نُهي عن سبها إذا كان يؤدي إلى مسبة الله -تعالى-، وأما إذا لم تكن هناك تلك المفسدة فلا يمنع منها حينئذٍ وهذا ما فعله الصديق -رضي الله عنه-، ولم يتهجم عروة على الله -عز وجل- أو النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان الصديق في قوله هذا ممتثلاً للشرع الشريف ومقدرًا لميزان المصلحة والمفسدة، كما أنه كان يعلم أن هناك مانعًا يمنع عروة من الرد فقد قال عروة: "أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأَجَبْتُكَ" (رواه البخاري). فتبين بهذا أن مثل هذا التشديد لا يُصار إليه لمجرد أن المخالف يستحق التشديد ويستحق أن يُتعامل معه بغلظة وانتهار... أو بزعم التفرقة بين الفعل وبين رد الفعل ويجعلون هذا مسوِّغـًا لقول ما يشتهون باسم "رد الفعل!". بل لابد من النظر في ميزان المصلحة والمفسدة وعواقب الأمور، فإن هذا يساء استغلاله ويستخدم في تنفير الناس عن دين الله وعن الملتزمين. وقد امتنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن *** عبد الله بن أبي ابن سلول وقال: (لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) (متفق عليه)، مع كونه رأس النفاق وقد استحق أشد من تغليظ القول وهو ال***، ومع ذلك لم يأمر -صلى الله عليه وسلم- ب***ه؛ لأن المفسدة المترتبة على ذلك أكبر من مصلحة ***ه. ومما سبق يَظهر لنا أن ما استدلوا به من نصوص ليست هي الأصل في منهج الداعي إلى الله، وإنما كانت استثناءً، وفي أحوال تدعو إليها المصلحة الشرعية دون خوف مفسدة تنتج من ذلك. ونهدي لإخواننا الدعاة هذه الكلمة الطيبة لـ د."ياسر برهامي": "لو كان الصحابة -رضي الله عنهم- تربيتهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- تربية قسوة وغلظة لما أحبتهم الشعوب ودخلت في الإسلام، والصحوة الإسلامية تحتاج جدًّا إلى الرفق واللين في هذا التوقيت، فالغلظة والشدة تنفـِّر الناس منا ونحن في مرحلة لا تحتمل ذلك، خصوصًا مع العجز عن فرض الحق وإنهاء قضايا الخلاف، فنظل في صراعات طويلة المدى وربما كان التشدد من البعض في غير موضع التشدد واستعمال ال*** في غير موضعه.... مما يؤدي إلى تفلت ونفرة قطاعات من الناس، فالنسبة التي يستحقها التيار الإسلامي أكبر بكثير مما وقع في الانتخابات أو الاستفتاءات وهذا بسبب غلظة بعض الدعاة وتكبر بعض الاتجاهات الإسلامية على الناس فلابد من الانتباه إلى هذه القضية ودراستها جيدًا، وليس فقط أن نسبة المؤيدين للتيار الإسلامي أكثر من غيرهم" (بتصرف من شرح النووي على مسلم باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، محاضرة 2). والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيء الأخلاق فإنه لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
مشكوووووووووووووووووووور والله يعطيك العافية
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|