#1
|
||||
|
||||
الشيخ محمد الغزالى رحمه الله
شغل الشيخ محمد الغزالي حيزًا كبيرًا من الفعل على مستوى الحركة الإسلامية، من حيث معاركها الفكرية والسياسية، بل وخلافاتها الداخلية أيضًا، وعلى مستوى أطروحاته المتميزة، والتي تعكس روح البرنامج السياسي والاقتصادي والاجتماعي للحركة الإسلامية المعاصرة. وُلِد الشيخ محمد الغزالي في قرية "نِكْلَا العنب" بمحافظة البحيرة، في 22 أيلول "سبتمبر" سنة 1917م؛ حيث حفظ القرآن الكريم في كُتَّاب القرية، وأكمل حفظه ولم يتم عشر سنوات من عمره، ثم تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في معهد الإسكندرية الديني، ثم التحق بكلية أصول الدين عام 1937م وحصل منها على درجة العالمية سنة 1941م، ثم حصل على إجازة الدعوة والإرشاد من كلية اللغة العربية سنة 1943م، وعمل واعظًا بالأزهر الشريف إلى أنْ أصبح مديرًا للدعوة والإرشاد سنة 1971م. اعتُقِل الشيخ محمد الغزالي مرتين: مرة في 1949م، ثم مرة أخرى سنة 1965م؛ بسبب انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين. عمل الشيخ محمد الغزالي محاضرًا في عددٍ من الجامعات الإسلامية مثل: الأزهر، جامعة أم القرى بمكة المكرمة، ثم رئيسـًا للمَجْمَع العلمي لجامعة الأمير عبد القادر الإسلامية في الجزائـر. ارتبط الشيخ محمد الغزالي منذ شبابه المبكِّر بجماعة الإخوان المسلمين؛ حيث عاصر هذه الحركة منذ بداياتها الأولى، ومارَس النضال السياسي والفكري في عهد الْمَلكية، ثم عهد الجمهورية "عبد الناصر، السادات، حسني مبارك". وبقدر ما أثار الشيخ محمد الغزالي من قضايا حيوية من خلال مقالاته الكثيرة في الدوريات المختلفة، أو من خلال محاضراته الهامَّة- بقدر ما أثار من خلافات معه أو حوله، أو ردود فعل مؤيدة أو معارضة، وهذا شأن أي مفكر يقرِّر أنْ يناقش القضايا الحية المطروحة على الساحة والتحديات التي تواجه الأمة الإسلامية، ولا يلوذ بالقضايا الميتة أو التي لا رصيد لها في الواقع. وهكذا، فإنَّ دراسة حياة الشيخ محمد الغزالي هي دراسة في الوقت نفسه لجزءٍ هام من تاريخ الحركة الإسلامية في مصر وحركة الإخوان المسلمين- خصوصًا- بدءًا من الإمام الشيخ "حسن البنا" حتى الآن. كانت أفكارُ الشيخ الغزالي واجتهاداته الفقهية مرتبطةً دائمًا بأحوال المسلمين في وقتها، سواء أصاب أم أخطأ؛ فإنَّه اختار الطريق الصعب، ولم يتدثر بعباءة السكون والاكتفاء بطرح القضايا الكلية دون الخوض في الواقع الذي تعيشه الحركة الإسلامية أو الذي تعيشه جماهير المسلمين. ففي مواجهة الأوضاع الاقتصادية المتردية والاجتماعية الظالمة التي كانت تعيشها مصر قبل 1952م من رأسمالية زراعية بَشِعَة ،وظلم مستمر للفلاحين والعمال، وتفاوت طبقي رهيب- كانت كلمات ومقالات ودراسات الشيخ محمد الغزالي، التي تدافع عن حقوق الفلاحين الفقراء والعمال المطحونين في مواجهة الرأسمالية والملكية. وهكذا جاءت دراساته الهامة مثل "الإسلام والأوضاع الاقتصادية، الإسلام المفترى عليه بين الرأسمالية والشيوعية". وفي مواجهة الاستعمار الإنجليزي الجاثم على صدر مصر في ذلك الوقت، والاستعمار الجاثم على صدور جماهير الشعوب المستضعفة في العالم الثالث عمومًا- كان كتابه "الاستعمار.. أحقاد وأطمـاع". وفي مرحلة الستينيات- حيث تزايد المد الاشتراكي في العالم الإسلامي، مع ما ارتبط به من قمع هائل للحركة الإسلامية- جاءت دراسات الشيخ محمد الغزالي لتؤكد هوية الأمة، وأنَّ خَلَاصها ليس إلَّا في الإسلام مثل كتابه: "الإسلام والمناهج الاشتراكية"، وكذلك مجموعة دراساته عن سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو دراساته التي تدعو إلى الصبر والصمود في مواجهة المحنة، وتُحَدِّد أبعادها مثل "كيف نفهم الإسلام؟"، "من معالم الحق". وفي المرحلة التالية حيث انتشرت مفاهيم القشرية والجمود والاهتمام بالقضايا الجانبية- جاء كتابه الهام "السُّنَّة النبويَّة"، الذي وصفه البعض بأنَّه "بيروسترويكا" إسلامية، وقد أثار هذا الكتاب ردود فعل حادة ومنتقدة، لدى بعض قطاعات الحركة الإسلامية التي تميل إلى الأخذ بالأصعب والأشد في أمور الإسلام، إلَّا أنَّ ذلك لم يَفُتَّ في عضد الشيخ بل زاده تصميمًا على خوض المعركة ضد الجمود والشكلية والاهتمام بالقضايا الجانبية على حساب القضايا الجوهرية للأمة. وقد كان الشيخ محمد الغزالي دائمًا كمفكر يبادر إلى الرد على كل هؤلاء الذين يحاولون النيل من الإسلام كدينٍ شامل، أو يروجون للمذاهب المادية مثل الشيوعية وغيرها؛ فقد أصدر كتابه "من هنا نعلم"؛ ردًا على الأستاذ خالد محمد خالد الذي حاول أنْ يدعي أنَّه لا سياسة في الدين ولا دولة في الإسلام في كتابه "من هنا نبدأ"، وقد تراجع الأستاذ خالد محمد خالد عن هذه الأقوال فيما بعد. كما أصدر الشيخ محمد الغزالي كتابه "الإسلام في مواجهة الزحف الأحمر" كردٍّ على الترويج للشيوعية في مصر والعالم الإسلامــي. وإذا حاولنا أنْ نكوِّن رؤية في فكر الشيخ محمد الغزالي من خلال كتبه ودراساته المنشورة- نجد أنَّه يميل دائمًا إلى فتح باب الاجتهاد، والاهتمام بالقضايا الحيوية المطروحة، وينحاز صراحةً إلى مدرسة الرأي في الفقه الإسلامي على اعتبار أنَّ الفقه الإسلامي قد انقسم منذ البداية إلى مدرستين هما: مدرسة الحديث، ومدرسة الرأي، وكان الغزالي يرى ضرورة التقريب بين المذاهب المختلفة ويرى أنَّ التعصب هو نقيض التدين، وأنَّه لم يكن من أخلاق مؤسـسي المذاهب ذاتهــم. والشيخ الغزالي يربط الدعوة بالعمل الاجتماعي والسياسي عمومًا، وهو يرى أنَّ الحرية هي أهم مبادئ الإسلام. ومن هنا، فإنَّه دائمًا يدافع عن الحريات باعتبار أنَّ ذلك فريضة إسلامية، وينعى على الاستبداد والمستبدين، ويرى أنَّهم أشد فتكًا وخطرًا على الإسلام من الكفار، ومن النادر أنْ نجد مقالًا أو كتابًا يخلو من الهجوم على الاستبداد والمستبدين، وقد أفرد لهذا الموضوع دراسة خاصة هي: "الإسـلام والاستبـداد السياسـي". ويرى الشيخ محمد الغزالي أنَّ العدل مع الكفر أدوم وأبقى من الإسلام مع الظلم، وبداهة فإنَّه لا يتفق الإسلام مع الظلم، كما أنَّ العدل لا ينبع إلَّا من الإسلام؛ لأنَّه منهج الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكنَّ الشيخ محمد الغزالي يقصد أنَّه يرفض الاستبداد والظلم ولو كانت اللافتة المرفوعة هي لافتة الإسلام؛ لأنَّ الأمر هنا يكون كذبًا وادعاءً. ويرى الشيخ محمد الغزالي أنَّ على المسلم أنْ يناضل من أجل الحرية بأوسع مدلولاتها، وأنَّه مع التعددية السياسية، سواء في إطار الإسلام أو حتى في خارج الإطار؛ لأنَّ الجماهير قادرة على لفظ كل ما هو غير إسلامي في حالة سيادة الحريات وفي جو الانفتاح الفكري، وفي هذا الصدد يحرص الشيخ محمد الغزالي على التأكيد على حق تشكيل الأحزاب وغيرها من الحريات. ولم تقتصر رؤية الشيخ محمد الغزالي على الحريات السياسية، بل دعا صراحةً إلى ضرورة النضال من أجل الفقراء، وضد كل ظلم اجتماعي أو اقتصادي. ويرى الشيخ محمد الغزالي أنَّ المنهج الإسلامي هو منهج المستضعفين في مواجهة المستكبرين، وأنَّ الإسلام يوفِّر حق الحياة الكريمة لكل إنسان، بصرف النظر عن دينه أو ***ه أو لونه، وأنَّ على المسلم أنْ يعمل من أجل تعديل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لصالح الفقراء والمستضعفين. وينعى الشيخ محمد الغزالي دائمًا على القومية عمومًا والقومية العربية خصوصًا؛ لأنَّها دعوة جاهلية من ناحية، ولأنَّها استثبات استعماري من ناحية ثانية، ولأنَّها تُفرِّق المسلمين من ناحية ثالثة، وخاصة هؤلاء الذين يعيشون في البلاد العربية مثل: البربر في المغرب العربي، والزنوج في السودان، والأكراد في العراق، والنوبيين في مصر، وغيرهم الذين لا يجمعهم إلَّا الإسلام وحــده. ولا يَفْتَأ الغزالي في صراحةٍ وشجاعة يقول: إنَّ المسلمين حاليًّا متخلفون, إنَّ هذا يسيء إلى الإسلام ويسيء إلى المسلمين أنفسِهم، وإنَّه يجب على كل مسلم أنْ يعمل بكدٍّ ودأب لتحصيل العلم والمعرفة والتفاني في عمله؛ حتى لا نصاب بالمزيد من التخلف على اعتبـار أنَّ التقدم العلمي والصناعي هو تراث إنساني، وأنَّ علينا أنْ نحوز فيه السبق لا أنْ نكتفي باستهلاك منتجات غيرنا، أو فتات موائدهم العلمية والصناعية. وفي الوقت نفسه علينا أنْ ندرك أنَّنا أمة صاحبة حضارة متميزة ومتفوقة، وأخص ما ندعو إليه هو العلم والتعلم والإيجابية في الحياة الدنيا وتعميرها. إذن، فالشيخ محمد الغزالي يمثل مشروعًا فكريًّا متكاملًا، مستمدًّا من الإسلام بصورة أصيلة وواعية ومجتهدة، في نفس الوقت فهو يؤكد على تميزنا الحضاري، ويتصدى لمحاولات التغريب والتذويب الحضاري الذي نتعرض له، وهو أيضًا يقدم برنامجًا اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا مستمدًّا من الإسلام، ومراعيًا ظروف الواقع الذي نعيشه في نفس الوقت. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإنَّ أكثر التُّهم والانتقادات التي وجهت، ومازالت توجه، إلى الحركة الإسلامية- هو غياب برنامج تفصيلي لتلك الحركة، وبالطبع فإنَّ هذه التهمة باطلة من أساسها لأسباب كثيرة ليس هنا مجال مناقشتها، وهي تهمة تستخدمها العلمانية لمجرد ذرِّ الرماد في العيون. إلَّا أنَّه على كل حال فإنَّ مواقف وكتابات الغزالي تشكِّل برنامجًا سياسيًّا متكاملًا؛ فهو قدَّم أطروحة حضارية ناقشت طبيعة مجتمعاتنا وطبيعة تركيبتها الحضارية والإنسانية، كما قدَّم أطروحة في الانتماء، رافضًا الانتماء القومي الضيِّق، ومنحازًا إلى الانتماء العالمي كمسلمين، وكأمة إسلامية تستوعب في داخلها بدون قهر أو تعصب وبمنتهى الاحترام، وتأكيدًا لذاتية كل المذاهب والأديان والآراء الأخرى. وعلى المستوى الاقتصادي قدَّم أطروحاته الاقتصادية التي ناقشت أوضاع المسلمين، وحددت طرق علاجها، بل وطرق التصدي للظلم الاقتصادي والتفاوت الطبقي. وعلى المستوى ذاته جاءت أطروحاته السياسية والاجتماعية والتربوية، وإنَّ مجرد قراءة في عناوين كتبه وأبحاثه ومقالاته تعطيك برنامجًا متكاملًا، برنامجًا سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، ومن خلال مواقفه العلمية نجد أنَّه مارَس النضال السياسي دائمًا ضد الاستبداد، وضد الظلم الاقتصادي، وضد هؤلاء الذين حاولوا الإساءة إلى الإسلام أو رسول الإسلام محمد- صلى الله عليه وسلم. ودفع الغزالي الثمنَ من حريته مرات: مرة سنة 1949م، وثانية سنة 1965م، ثم ثالثة حيث أُجْبِر على الهجرة عام 1973م بعد أحداث الكلية الفنية العسكرية "1973". كان الشيخ محمد الغزالي من أكثر الذين حرَّضوا الفلاحين للثورة ضد ظلم كبار ملَّاك الأراضي، ودافع بعلمه ونفسه عن هؤلاء الفلاحين الذين انتفضوا ضد كبار ملاك الأراضي في كُفُور نجم، وبهوت، وميت فضالة، وغيرها من قرى الريف المصري سنة 1949م - 1951م. وقاد الشيخ محمد الغزالي المظاهرات من الأزهر الشريف ضد تطاول رسَّام الكاريكاتير المعروف "صلاح جاهين" على الرسول الأعظم محمد- صلى الله عليه وسلم-، وفَضَّل الهجرة إلى خارج مصر، وبعد عودة الشيخ محمد الغزالي قاد الرجل بنفسه المظاهرات الأسبوعية، التي كانت تخرج من مسجد الفسطاط بضاحية مصر القديمة؛ حيث كان الشيخ الغزالي يخطب ضد كامب ديفيد، أو المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، أو التصدي لتغيير قانون الأحوال الشخصية بما يلائم هوى السيدة "جيهان السادات" حرم الرئيس المصري الراحل أنور السادات. ولم ينقطع الشيخ الغزالي عن حركته النضالية حتى بعد أنْ تم إبعاده قسرًا عن منبر مسجد الفسطاط في الثمانينيات، ومازال ينتهز الفرصة للخطابة من خلال "صلاة العيد" في الخلاء، أو خلال الدعوات التي تأتيه من طلاب الجامعات، أو التجمعات الحزبية والسياسية المختلفة، وفي كل مرة يناقش الشيخ محمد الغزالي أوضاع الشعب المصري وكل الشعوب العربية والإسلامية، ولا يترك فرصة إلَّا واستغلَّها للتنديد بالاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، وحتى ممارسة النقد الذاتي للحركة الإسلامية. وظلَّ الرجل مدافعًا حتى آخر يوم في حياته؛ حيث لفظ أنفاسه الأخيرة في أوائل مارس 1996م، رحم الله الرجل وجزاه عن أمته خيــرًا.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
|
العلامات المرجعية |
|
|