اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > قصر الثقافة > قضايا سياسية وأخبار مصرية وعربية وعالمية

قضايا سياسية وأخبار مصرية وعربية وعالمية منتدى يختص بعرض كافة الأخبار السياسية والإقتصادية والرياضية في جميع أنحاء العالم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-09-2012, 01:13 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,986
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي

سنوات الخداع - الحلقة الرابعة عشر
شهدت السنوات من 2003 وحتى خريف 2005 الكثير من الشد والجذب غير المعلن بين إيران والمجتمع الدولى. فمن جهة، كانت هناك لحظات تفاؤل نتجت عن صدور إعلان طهران، وتعهد إيران بالتزام الشفافية إزاء برنامجها النووى، ومن جهة أخرى ظهرت خلافات دولية حادة حول كيفية التعامل مع ملف إيران النووى. والواقع أن هذه الفترة شهدت كل المظاهر التى اتصف بها هذا الصراع المعقّد: التضحية بالحلول العملية فى سبيل مبادئ شديدة الغموض، والآثار السلبية لسياسات متشددة فى غير محلها، وتصعيد المواقف تمامًا كلما ظهرت دلائل معارضة جديدة.
أصبحت الوكالة -وبوجه خاص اجتماعات مجلس المحافظين- ساحة للصراع بين المواقف المتعارضة بشأن إيران. وكان من بين القضايا التى ثار حولها الخلاف فى المجلس فى مارس عام 2004 نوع أجهزة الطرد المركزى التى تستخدمها إيران فى تخصيب اليورانيوم، وما إذا كانت قاصرة على نموذج أولى من طراز «1-P» زودتها به باكستان أو إذا ما كان هذا النموذج قد تم تطويره إلى أكثر من ذلك وثبت بعد التحقيق والتفتيش خارج إيران أنها ربما سعت إلى إنتاج نموذج أكثر تطورًا من طراز «2-P»، وكان كلا الطرازين منقولين عن طراز أوروبى تمكّن من نقله العالم النووى الباكستانى عبد القدير خان فى أثناء عمله فى منشأة للتخصيب فى هولندا.
حتى هذه اللحظة لم يكن لدى مفتشى الوكالة علم بالعمل الذى يجرى بشأن الأجهزة من طراز «P-2». لكننا كنا نعرف أن الإيرانيين كانوا يحاولون البحث والتطوير لمختلف جوانب دورة الوقود النووى. كان هذا الطراز أكثر تقدمًا من سابقه وأكثر قدرة على التخصيب. وكان من غير المرجح أن يتخلى الإيرانيون عن العمل على إنتاج هذا الطراز إذا أُتيحت لهم الفرصة لذلك.
وأكد مفتشو الوكالة هذه النقطة. وفى يناير 2004 أقر الإيرانيون بأنهم كانوا قد تلقوا فى أواخر 1994 رسومات لأجهزة طرد من طراز «P-2». وقام مهندسو إحدى الشركات الخاصة فى طهران بإجراء اختبارات محدودة، بناءً على تكليف من منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، على تصميم معدل لأجهزة «P-2». ولم تكن إيران قد أشارت إلى ذلك فى إخطارها للوكالة فى أكتوبر 2003.
وكان هناك موضوع آخر يتعلق بمركز «لافيزان شيان» للبحوث الفنية الواقع فى إحدى ضواحى طهران. وكان قد ذكر احتمالا بأن يكون هذا المركز منشأة للبحوث حول أسلحة الدمار الشامل. وكانت الوكالة قد تلقت معلومات عن أن المركز اشترى أجهزة للكشف عن الإشعاعات. وأظهرت صور السواتل التى أخذت بعد أغسطس 2003 أن هذا المركز قد أزيل وأن أبنيته هُدمت ورفعت أنقاضه، مما يوحى بأن هناك محاولة للإخفاء.
وذكر الإيرانيون أن هذا المركز كان تابعًا لوزارة الدفاع، وكان يقوم بالبحوث لتطوير وسائل صد الهجمات والحوادث النووية، وأنه أزيل بعد أن صدرت التعليمات للوزارة بإعادة الأرض المقام عليها المركز إلى بلدية طهران بعد نزاع بين هاتين الجهتين الحكوميتين. وبالنظر إلى ماضى إيران فى الإخفاء والخداع فإن مسائل مثل اختبار أجهزة «P-2»، وهدم موقع يقال إنه خاص بأسلحة الدمار الشامل، أثارت الشبهات بطبيعة الحال.
لقد كان الموقف معقدًا بالفعل، لأنه بالرغم من هذه الإشكاليات كانت إيران قد قدمت بالفعل بعض الخطوات الإيجابية فى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية منذ أكتوبر 2003، حيث تمكن مفتشو الوكالة بمقتضى موافقة إيران على تطبيق البروتوكول الإضافى بصفة مؤقتة إلى حين دخوله حيز النفاذ من زيارة مواقع التخصيب وغيرها من المنشآت دون اختلاف حول ما إذا كانت هناك مواد نووية استخدمت فيها أم لا، بما جعل الوكالة تشعر بأنها أخيرا بدأت تكوِّن صورة أوضح عن طبيعة النشاطات النووية لإيران.
لكن فى الوقت نفسه فإن التعاون الإيرانى مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يكن دائمًا ومتواصلا ولم يكن ذلك بالتأكيد فى مصلحة إيران. ومن أمثلة ذلك القرار المفاجئ للسلطات الإيرانية بوقف زيارة كانت مقررة لمفتشى الوكالة فى مارس لـ«ناتانز» وبعض المواقع الأخرى، وذلك قبل أيام فقط من توجه المفتشين إلى إيران بدعوى أن موعد الزيارة يوافق بدء العام الإيرانى الجديد، وهو العذر الذى لم يكن لأحد أن يأخذه على محمل الجد، لأن موعد العام الإيرانى الجديد كان معروفًا لطهران لدى تحديدها موعد زيارة المفتشين، ولم تكن طهران تريد الإفصاح عن السبب وراء قرارها إلغاء زيارة المفتشين وأعطى الإيرانيون، مرة أخرى، انطباعًا بأنهم يريدون إخفاء شىء ما.
ثم قام حسن روحانى بزيارتى مرتين لمطالبة الوكالة برفع ملف إيران من أجندة اجتماعات مجلس المحافظين المقررة فى مارس، باعتبار أن ذلك سيعطى إشارة بأن قلقنا تجاه إيران قد تناقص. ولكن الأمر لم يكن محل توافق، ففى حين دعم الأوروبيون المطلب الإيرانى، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، التى كانت تسعى لإحالة ملف إيران إلى مجلس الأمن، أصرت على أن يبقى الملف على أجندة اجتماعات شهر مارس.
ومن جانبى فقد أكدتُ للجميع أن جدول أعمال مجلس محافظى الوكالة لن يكون أداة لخدمة أى أغراض سياسية، وأخبرتُ الإيرانيين والأوروبيين أننى على استعداد لرفع الملف الإيرانى من على أجندة أعمال مجلس المحافظين لاجتماع شهر مارس فورًا فى حال ما حصلت الوكالة على إجابات للأسئلة التى تطرحها على إيران، أما فى حال عدم حدوث ذلك، فإن الملف سيبقى على جدول الأعمال دون تغيير.
على أية حال فإن الصك الرسمى الذى تُحدد الدول الأعضاء مواقفها بناء عليه ليس هو جدول الأعمال، ولكن القرارات التى يعتمدها المجلس فى اجتماعاته. ومن المتعارف عليه أن القرارات تصاغ ويتم التفاوض عليها بواسطة ممثلى الدول الأعضاء دون تدخل من أمانة الوكالة. وفى حالة إيران، كانت مشروعات القرارات تأتى عادة من الدول الأوروبية الثلاث صاحبة المبادرة، لمحاولة إيجاد حل للمسألة، ثم توزع بعد ذلك على باقى الدول.
لكن الأمر كان بالغ التعقيد، فلأول مرة تنقسم الدول الغربية هكذا حول ما ينبغى فعله، فلقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية، مدعومة من كندا وأستراليا تريد أن يُصاغ مشروع القرار الذى يطرح على مجلس المحافظين صياغة متشددة تدين إيران، وكانت الدول الأوروبية الثلاث المتفاوضة مع إيران تسعى للتخفيف من هذه الصيغة.
وفى إيران كان المفاوضون النوويون يؤكدون للصحافة الإيرانية وللمؤسسات السياسية فى طهران أن استمرار التعاون مع الوكالة له فوائده السياسية لصالح إيران، وعلى هذا فإن قيام مجلس المحافظين بتبنى صيغة متشددة تجاه إيران كان من شأنه أن يُضعف موقف هؤلاء المفاوضين. فى الوقت نفسه فإن الدول النامية كانت بدورها غير راضية عن صياغة المسودة الأولى لمشروع القرار.
وفى ما يمثل سابقة، طلب الإيرانيون وساطتى، وفعل الأمريكيون الشىء نفسه من خلال رسالة نقلها إلىّ سفير الولايات المتحدة الأمريكية فى ڤيينا من وزير الخارجية الأمريكى «كولين باول»، وفى النهاية تم التوصل إلى قرار توافقى قَبِل به الأمريكيون والإيرانيون. وعلى الرغم من أن الأمر انتهى بصورة مُرضية، إلا أنه أصبح من الواضح أن مجلس المحافظين صار مسرحًا للتجاذب والاختلافات حول الملف الإيرانى بصورة تنذر بالمزيد من الانقسام الدولى.
وبعد أيام من اجتماع مجلس المحافظين ذهبتُ للقاء الرئيس الأمريكى «بوش» بناءً على دعوة غير متوقعة. كنت قبل فترة وجيزة قد نشرت مقالا فى صحيفة «نيويورك تايمز» حول مسألة منع انتشار الأسلحة النووية وسبل مكافحة الانتشار السرى لهذه الأسلحة، وهو الأمر الذى كان «بوش» قد تطرق إليه بدوره فى خطاب أخير له. ولقد جاءت دعوة «بوش» للزيارة قبيل انعقاد اجتماع مجلس المحافظين عبر وزير الخارجية الأمريكى «كولين باول»، وهى الدعوة التى قبلتها بالطبع، وإن كنت فضلت أن لا تأتى الزيارة إلا بعد الانتهاء من أعمال مجلس المحافظين، خشية أن يُنظر إليها على أنها تؤثر على الموقف الذى سأعرضه أمام المجلس.
وقُبيل لقائى مع «بوش» التقيت مع «ريتشارد آرميتاج» مساعد وزير الخارجية الأمريكى الذى ذكّرنى ببوادر حُسن النية التى أبدتها واشنطن إزاء طهران من خلال المساعدات الإنسانية التى قدمتها لإيران بعد تعرض مدينة بام الإيرانية لزلزال شديد التدمير فى ديسمبر من عام2003، وهى المساعدات التى رفضتها إيران فى البداية ثم عادت وغيرت موقفها. وقد تصادف أن ذلك جاء بعد أسبوع من توقيع إيران البروتوكول الإضافى وما تبعه من تصريحات إيجابية أدلى بها «باول» حول إمكانية الحوار مع طهران، لكن الأمور لم تتطور أكثر من ذلك.
واستقبلنى «بوش» بحديث ودود حول لعبة البيسبول التى أهتم بها وأتابعها، وتحدثنا قليلا عن أحد الفرق، ثم انتقل اللقاء، الذى تم بمشاركة «آرميتاج» ووزير الطاقة «سبنسر إبراهام» و«كوندوليزا رايس» و«بوب جوزيف» الذى يعمل مع «رايس» فى مجلس الأمن القومى، إلى ملف الأسلحة النووية، وكان يرافقنى الأمريكى «دافيد واللر» نائب المدير العام لشؤون الإدارة بالوكالة، وهو صديق أثق فيه. وقد بادر «بوش» بالقول: «سمعت أن لديك أفكارًا حول تعزيز نظام منع انتشار الأسلحة النووية».
وقدمتُ له عرضًا موجزًا للأفكار التى تضمنتها مقالة «نيويورك تايمز»، مشيرا إلى أهمية السعى لتقليل استخدام اليورانيوم عالى التخصيب للأغراض السلمية، والتوسع فى استخدام اليورانيوم منخفض التخصيب، لا سيما فى المفاعلات البحثية، بما يمثل تقليلا مباشرًا لمخاطر انتشار الأسلحة النووية، مشيرًا إلى أن عملية تحويل مفاعلات الأبحاث من استخدام يورانيوم عالى التخصيب إلى يورانيوم منخفض التخصيب ستحتاج إلى نحو 50 مليون دولار كل عام على مدى أربعة أو خمسة أعوام، فكان تعليقه «إن هذا لا يبدو بالمبلغ الكبير»، ثم وجّه سؤاله لوزير الطاقة الأمريكى حول «ما إذا كان من الممكن تنفيذ هذه الخطة»، فأجابه «إبراهام»: «بالطبع يمكننا تنفيذ هذا الأمر». وقد نما إلى علمى فى ما بعد أن وزارة الطاقة الأمريكية كانت تعمل على خطة مشابهة، ولكن بعد هذا اللقاء مع «بوش» أصبحت تتابع تنفيذ الخطة بتعليمات مباشرة من الرئيس.
من ناحية أخرى، تطرقتُ فى حديثى إلى ضرورة تقليل عدد الدول المالكة لدورة الوقود النووى الكاملة، مشيرًا إلى أنه يوجد بالفعل نحو 13 دولة لديها القدرة للوصول إلى المراحل النهائية لهذه الدورة، قلت إننا إذا حاولنا الحيلولة دون زيادة هذا العدد من الدول، فإن الدول التى شارفت على الحصول على التكنولوجيا اللازمة لتشغيل الدورة الكاملة للوقود النووى لن تكون بالضرورة سعيدة بأية خطوات تُتخذ فى هذا الصدد.
وعند تلك النقطة انتقل الحديث منطقيًّا إلى الملف الإيرانى، ولأن أجواء النقاش كانت جيدة فقد قررت أن أنتهج الصراحة الكاملة، وذكرت أنى -بصرف النظر عن الخلافات الأيديولوجية- لا بد أن يكون هناك تحرك جاد للتعامل مع إيران على نحو عملى من خلال منح طهران حزمة جيدة من الحوافز يصعب عليها رفضها، ثم العمل بعد ذلك للوصول إلى وَقْف طوعى لحصول أى دولة أخرى على التكنولوجيا اللازمة لامتلاك دورة الوقود النووى، فما كان من «بوش» إلا أن قال: «أنا مستريح لهذا الشخص الذى يفكر بصورة براجماتية». وقد كان هذا التعليق مفاجئًا لى.
ثم قال «بوش» إنه يود أن يكون هناك تحرك قانونى نحو منع الدول التى تمتلك منشآت لتشغيل دورة الوقود النووى من نقل هذه التكنولوجيا إلى دول أخرى، فأشرت إلى أن ذلك يتعارض مع ما تسمح به معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، وأن النجاح فى هذا الصدد من الأرجح أن يتحقق من خلال توافق دولى على فرض حظر طوعى على نقل هذه التكنولوجيا، على أن يكون ذلك مقترنًا بضمانات حول توفير الوقود النووى، مع تأكيد الدول النووية التزامها بنزع الأسلحة النووية.
وفى ما يخص إيران على وجه التحديد أكدتُ للرئيس «بوش» أن إطلاق التهديدات فى وجه طهران لن يجدى، فالمهم أن تكون هناك أسباب لتحفيز إيران على التعاون، مشيرًا إلى أن «الحل الأمثل للتعامل مع الملف الإيرانى يكمن فى الجمع بين الدبلوماسية، والتحقق من خلال الوكالة الدولية مما يجرى على الأرض هناك».
ومرة ثانية فاجأنى الرئيس «بوش»، حيث قال لى إن ما اقترحتُه «لا يمثل فقط الحل الأمثل، بل هو الحل الأوحد، بخلاف الحل الإسرائيلى»، مشيرًا إلى أن «هناك خشية أن تلجأ إسرائيل لاستخدام القوة» ضد إيران.
ولقد تريثتُ على أمل أن يُفصح عن شىء ما حول التوجهات الإسرائيلية فى هذا الشأن، ولكنه لم يقل شيئًا واضحًا، وظل حديثه يتسم بالتعميم الشديد، فلم أكن أعرف إذا ما كانت لديه معلومات بالفعل حول الخطط الإسرائيلية أم أنه ليست لديه معلومات محددة. وألمح «بوش» فى هذه الجلسة إلى أن هدف الولايات المتحدة الأمريكية من تشديد الضغط على إيران هو تفادى لجوء إسرائيل لاستخدام القوة، وتذكرت محادثة دارت بينى وبين وزير الخارجية البريطانى «جاك سترو» و«يوشكا فيشر» وزير الخارجية الألمانى، حيث قالا لى إن الدول الأوروبية الثلاث المشاركة فى المفاوضات النووية إنما تسعى لأن تكون «درعًا بشريّة» لإيران من خلال الحوار الذى تأمل أن يحول دون قيام الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل بتوجيه ضربة لإيران.
ولقد شهدت هذه المرحلة تباينًا للرؤى داخل الإدارة الأمريكية حول سبل التعامل مع إيران، فكان جناح الصقور يرى ضرورة توجيه ضربة عسكرية لإيران والقيام بعملية لتغيير النظام الحاكم بها دون أن يأخذوا أى عظة مما حدث فى العراق. لقد كان هؤلاء الصقور ينظرون إلى إيران بوصفها تهديدًا لوجود إسرائيل، وكانوا يرفضون أى حوار قد يعطى أى شرعية للنظام بها. أما الجناح الآخر والذى كنت أعتقد أنه كان يضم الرئيس «بوش» نفسه و«كوندوليزا رايس»، بغض النظر عن التصريحات المتشددة التى يدليان بها، فقد كان يرى أن الحوار والتفاوض هما الطريق الأمثل للتعامل مع هذا الأمر، لكنهم كانوا يُصرون فى الوقت نفسه على أن الطريق إلى التفاوض يجب أن تسبقه تلبية إيران مجموعة من الشروط المسبقة. وكان هناك فريق ثالث يضم مسؤولين مثل «باول» و«آرميتاج»، وكان يميل إلى الدخول فى حوار دون شروط مسبقة عن قناعة أن الحل للملف الإيرانى هو بالضرورة حل دبلوماسى.
وكنت قد أحضرتُ معى رسالة من حسن روحانى، نيابة عن النظام الإيرانى، تفيد باستعداد إيران للدخول فى حوار مع الولايات المتحدة حول جميع القضايا، بما فى ذلك البرنامج النووى لطهران، وقضايا أوسع تتعلق بالأمن الإقليمى. ولقد كانت هذه الرسالة مكتوبة على صفحة واحدة من ورق أبيض لا يحمل أى إشارة لهوية الراسل، كما أن الرسالة لم تكن تحمل توقيعًا، ولكننى قمت بتقديم هذه الرسالة إلى «بوش» مؤكدًا أنها موجهة من روحانى، ومشددًا على أهمية شروع الولايات المتحدة فى حوار مع إيران.
وكان تعقيب «بوش»: «أحب أن يكون الحديث بين القادة بصورة مباشرة، ولكننى لا أظن أن الزعيم الإيرانى مستعد لذلك، لأنه منشغل جدًّا بأفكار تدمير إسرائيل»، وكان ذلك إشارة منه إلى آية الله خامنئى. ثم أشار «بوش» إلى أن إيران تحتجز نحو 40 من عناصر «القاعدة» من أصول سعودية ومصرية كورقة للتفاوض، مع علمها باهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بالوصول إلى هذه العناصر.
وفى المجمل شعرتُ أن «بوش» كان يؤكد -على طريقته الخاصة- اعتقادى بأن الحوار بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن يجلب الكثير من الفوائد للطرفين، بما فى ذلك قيام إيران بدعم فُرص الأمن فى العراق بالنظر إلى العلاقة التى تربطها مع الشيعة هناك. ولقد أشرتُ إلى أن الحوار هو أحد دلائل الاحترام، وأنه بالنسبة إلى دول الشرق الأوسط وثقافتها، فإن إبداء الاحترام هو أمر أساسى فى اتجاه الوصول إلى تسوية سلمية لأية مشكلة.
وكان هناك العديدون فى النظام الإيرانى الذين يودون إعادة العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية بهدف التوصل إلى «صفقة كبرى» تشمل ملفات الأمن والتجارة، ونظرة إسرائيل إلى الخطر العسكرى الإيرانى، وأمورًا أخرى تتعلق بتطبيع كامل للعلاقات بين طهران وواشنطن. وهذا كان فى رأيى فحوى رسالة روحانى، ولكن لم يَبْد لى أن «بوش» أو «رايس» كانا فى هذا الوقت على استعداد للتعامل مع آفاق مثل هذا التوجه.
وقرب نهاية اللقاء اقترحتُ عقد مؤتمر دولى لدعم أهداف نظام منع انتشار الأسلحة النووية، وعلى الفور لاقى هذا الاقتراح قبولا واضحًا من «رايس» التى قالت إنه «طالما فكرت فى أننا نحتاج لمثل هذا المؤتمر»، وكان واضحًا أن الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن وسيلة لإثبات الزعامة الدولية، خصوصًا فى هذا العام الانتخابى الذى كان ملف أسلحة الدمار الشامل فيه ملفًا بارزًا.
وقد منحنى هذا الاجتماع بعض أسباب التفاؤل، حيث إن الاجتماع كان أكثر عمقًا مما كنتُ قد توقعت، ثم زادت أسباب التفاؤل خلال لقاء تالٍ مع «جورج تنيت» مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الذى يتمتع بمهنية عالية وقدرة على الحديث المباشر، وقد لاحظتُ تحسب «تنيت» من استخدام العبارات المبالغ فيها حول تقييم الوضع بالنسبة إلى البرنامج النووى فى إيران، وهو ما مثَّل اختلافًا كبيرًا عن لغة الاستخبارات قبل حرب العراق. وكان «تنيت» نفسه مقتنعًا بأن الهدف من البرنامج النووى الإيرانى هو إنتاج أسلحة نووية، غير أنه أقر بأنه لم يكن لديه دليل مباشر على ذلك، أو حسب لغة العاملين فى أجهزة المخابرات، لم تكن لديه «معلومات يمكن التحرك على أساسها»، وبالتالى فلقد كان «تنيت» يأمل أن تنكشف النوايا الإيرانية فى مرحلة ما من مراحل التفتيش على منشآتها النووية.
ولقد قدم لى «تنيت» بذلك توضيحا لِما كنت أسمعه عبر وسائل الإعلام الأمريكية ومن المسؤولين الأمريكيين حول تأكد واشنطن من سعى إيران لامتلاك الأسلحة النووية، على الرغم من عدم تقديم أى دليل على ذلك. وفى ما استطعتُ أن أخلص إليه فإن أجهزة المخابرات الأمريكية تمكنت من خلال تتبع لمحادثات تليفونية وما إلى ذلك، أن تضع يدها على انخراط بعض أفراد الحرس الثورى الإيرانى فى البرنامج النووى الإيرانى، بما فى ذلك القيام ببعض المشتريات الخاصة بهذا البرنامج، ولكن لم تكن هناك معلومات تفيد بوجود رابطة بين هذا البرنامج وبين برنامج نووى عسكرى. وبالتالى فإن التحرك الأمريكى كان يهدف للضغط على إيران فى انتظار التوصل إلى دليل دامغ أو فى انتظار أن يتقدم شخص ما بمعلومات حاسمة فى هذا الصدد.
ولم تكن إيران تساعد نفسها فى علاقتها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإخفاؤها المتعمد لمعلومات حول جهود تطوير أجهزة التخصيب من طراز «P-2» وإلغاؤها المفاجئ للزيارة المقررة لمفتشى الوكالة إلى «ناتانز» خلق انطباعًا سلبيًّا لدى الوكالة. ورأيتُ أنه لا بد أن يتم الحديث مع طهران بصورة حاسمة، وقررتُ أن أقوم بنفسى بهذه المهمة من خلال زيارة لطهران.
وفى طهران أخبرتُ كل مسؤول التقيتُ به بدءًا من الرئيس خاتمى ووصولا إلى وزير الخارجية كمال خرازى أننى سئمت سياسة المماطلة والتأخير التى تتبعها إيران فى تعاملاتها مع الوكالة. ولقد أبديتُ للرئيس خاتمى -على وجه التحديد- معاملة جافة تختلف عما أبديته خلال آخر لقاء جمعنى به، لأنه وببساطة خدعنى فى ذلك اللقاء، واخترت أن لا أدخل فى مواجهة حول هذا الأمر، واكتفيت بأن يكون حديثى معه دالا على أن موقفى منه قد تغير.
كما أحطتُ الرئيس خاتمى وكل من قابلتهم بأن صبر مجلس محافظى الوكالة أخذ فى النفاد، وأن إيران لم يعد لديها نفس القدر من الدعم والمساندة، وأن ملفها أصبح خلافيّا. وأكدتُ لهم أنه لم يعد أمام إيران سوى التعاون المتواصل والأمين مع الوكالة، وأن أى شىء خلاف ذلك سيُلحق الأذى بالموقف الإيرانى.
فى الوقت نفسه أحطتُ روحانى وخاتمى بالنقاط الأساسية التى خلصت إليها من لقائى مع «بوش»، بما فى ذلك تشكك الرئيس الأمريكى فى نوايا إيران للحوار. وأخبرتهم أن الولايات المتحدة الأمريكية تنتظر أن تقوم إيران بتسليم عناصر «القاعدة» المحتجزين لديها إلى بلادهم، كما أخبرتهم بعدم ارتياح واشنطن لما أبدته طهران من تردد فى قبول المساعدات الإنسانية الأمريكية فى أعقاب زلزال «بام» فى ديسمبر 2003
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-10-2012, 11:14 AM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,986
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي

سنوات الخداع - الحلقة الخامسة عشر

محمد البرادعى وكولين باول
أبدى خاتمى استياءه من التشكك الأمريكى، وأشار إلى تحسن العلاقات بين واشنطن وطهران فى عهد الرئيس الأمريكى كلينتون، الذى جعل خاتمى يقدم اعتذارا لأُسر الرهائن الأمريكيين الذين كان قد تم احتجازهم فى إيران عند اندلاع الثورة الإسلامية، وقال إنه فى ردها على هذه اللفتة قامت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت بالاعتراف بدور المخابرات المركزية الأمريكية فى عملية الإطاحة برئيس الوزراء مصدق فى 1953، وإعادة الشاه إلى موقعه، كما أنها أيضا قامت برفع الحظر عن الصادرات الإيرانية من الكافيار والفستق والسجاد وقد فتحت هذه اللفتة الباب أمام تجارة بملايين الدولارات.
وألح خاتمى فى القول على أن مجىء إدارة الرئيس بوش كان السبب وراء تراجع التقدم الحادث فى العلاقات الأمريكية الإيرانية، وذلك على الرغم من الدعم الذى قدمته طهران لحرب الولايات المتحدة فى أفغانستان وفى أثناء الاستعداد للحرب على العراق، مشيرا على وجه التحديد إلى لقاءات تمت فى هذا الصدد فى السليمانية بكردستان العراق ولندن. وقال خاتمى إنه فى مقابل هذه المساعدة وهذا التعاون فإن كل ما جنيناه هو أنه أصبح يطلق علينا أننا جزء من محور الشر.
كما أبدى وزير الخارجية خرازى أيضا استياءه إزاء المساعدة الأمريكية بعد زلزال بام، وقال إنه بعد عقود من العقوبات والمقاطعة الاقتصادية التى خلفت آثارا مروعة فإن الولايات المتحدة الأمريكية تأتى بعد الزلزال لتقدم لنا عشرة ملايين دولار، كما لو كانت صدقة. وأضاف: إن هؤلاء ليس لديهم أى تقدير لذهنية الآخرين وطريقة تفكيرهم.
فى الوقت نفسه أبدى خرازى استعداد طهران للتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية فى ما يخص عناصر القاعدة، لكنه أضاف أن إيران تريد فى المقابل أن تتعاون الولايات المتحدة الأمريكية معها فى ما يتعلق بمجاهدى خلق؛ وهى منظمة مسلحة من المعارضين الإيرانيين الذين يسعون للإطاحة بالنظام الإيرانى.
وأبدى الإيرانيون استعدادا لمزيد من التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولكنهم لفتوا إلى أن الانطباع السائد فى طهران هو أن العلاقة بين إيران والوكالة لم تفد إيران بشىء، بل إن المتشددين الذين أصبحت لديهم أغلبية فى البرلمان الإيرانى يلومون الحكومة الإيرانية على قرارها وقف تخصيب اليورانيوم، لمجرد إرضاء الغرب دون الحصول على أى شىء فى المقابل، وأن المعتدلين الذين كانوا يسعون لحل سلمى وتحسين العلاقات مع الغرب لم يعد لديهم نفس التأثير فى دوائر اتخاذ القرار أو فى الرأى العام.
وأشار روحانى إلى أنه إذا جاء تقريرى حول تطورات الوضع بالنسبة إلى إيران فى اجتماع يونيه لمجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتقييم سلبى، فإنه وزملاءه لن يكون بمقدورهم الاستمرار فى التعاون مع الوكالة أو حتى الاحتفاظ بمناصبهم. لقد كان المعتدلون يأملون على الأقل فى الحصول على رد فعل إيجابى من الأوروبيين حتى يتمكنوا من إبلاغ الرأى العام فى بلادهم أن السياسة التى يتبعونها هى سياسة مجدية.
كانت مشكلة الإيرانيين حسبما كنت أراها أنهم بالغوا فى الاحتفاء ببرنامجهم النووى أمام شعبهم، بل إنهم قدموه على أنه بمثابة جوهرة التاج بالنسبة إلى الإنجازات العلمية للأمة الإيرانية، وبالتالى أصبح من الصعب عليهم أن يشرحوا أسباب قرار تعليق العمل فى هذا البرنامج، وبالطبع فهم لم يهتموا بأن يبلغوا الشعب الإيرانى أن أسباب وقف نشاط البرنامج النووى إنما ترجع إلى أن إيران قد خدعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية لسنوات طويلة، واختاروا بدلا من ذلك أن يخبروا مواطنيهم أن الضغوط التى تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية على الوكالة هى السبب وراء تباطؤ عملية التحقق من تفاصيل البرنامج النووى الإيرانى. ولم يكن الموقف الإيرانى فى هذا الشأن يختلف عما كان عليه الأمر فى العراق وكوريا الشمالية، فادعاء كل من واشنطن وطهران سوء نية الطرف الآخر من أجل الاستهلاك المحلى.
والحقيقة أنه بمجرد إطلاق حملة الدعاية من طرف ضد الآخر فإنه يصعب السيطرة عليها أو كبح جماحها، ولعل ما تعرضت له شخصيّا أحيانا من جانب الصحافة الإيرانية يوضح كيف يُصنع الرأى العام، حيث نشرت جريدة «طهران تايمز» أن البرادعى أصبح شخصا سلبيّا ومحبطا بالنظر إلى الضغوط الشديدة من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية. وسألنى الصحفيون الإيرانيون مرارا كيف أتعامل مع هذه الضغوط. قلت مبتسما: إننى أتعرض لضغوط من الجميع، سواء من الأمريكيين أم الإيرانيين أم غيرهم. ولكننى فى الحقيقة لم آخذ الأمر بهذه الخفة، لأنه أصبح واضحا بالنسبة إلىّ، ليس فقط من هذه الأسئلة، ولكن أيضا من مجمل التغطية الصحفية، أن البرنامج النووى الإيرانى أصبح بالفعل مسألة مرتبطة بالكرامة الوطنية فى إيران، ولم يكن هذا مما يسهل التوصل إلى حل حول الخلافات القائمة.
ومما زاد الأمر صعوبة أن الإيرانيين كان لديهم اعتقاد بأنهم يملكون أوراقا يستطيعون بها الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية، مثل تعقيد الوضع على الساحة العراقية بصورة أكبر، كما أشار روحانى إلى ذلك فى حديثه معى، وهو الأمر الذى حاولت أن أُثنيه عنه.
وعند عودتى من طهران اقترحت على كين بريل؛ السفير الأمريكى، وعلى جون وولف مساعد وزير الخارجية الأمريكى، النظر فى إيجاد طريق لبدء الحوار مع طهران أو على الأقل إبداء بادرة لحسن النيات. وقلت لهما: إذا ما كنا جميعا نتفق على أن الهدف هو أن لا تحصل إيران على السلاح النووى فيجب علينا أن نتفق على استراتيجية تمكننا من تحقيق هذا الهدف فى النهاية.
وأبلغت ممثلى الدول الأوروبية الثلاث بنفس الرأى، وأوضحت لهم أن موقف المتشددين يقوى فى إيران بسبب ضعف النتائج التى تخرج بها طهران من التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقلت لهم إن السياسة القائمة على ممارسة الضغوط لن تكفى وحدها، خصوصا أن أحدا فى الغرب ليس لديه الدليل على أن إيران تطور سلاحا نوويّا. وأشرت إلى أنه فى حال لم تحصل إيران على حوافز فإن النظام قد يلجأ إلى عديد من الخطوات من بينها إعادة تخصيب اليورانيوم، أو التراجع عن الالتزام بالبروتوكول الإضافى، أو حتى الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية كليّا.
ولكن كل هذا لم يؤد إلى النتيجة المبتغاة، وعوضا عن ذلك تبنى مجلس المحافظين فى يونيه موقفا يستنكر عدم تعاون إيران تعاونا كاملا فى التوقيت السليم وبصورة إيجابية مع الوكالة. وبالطبع فإن هذه الانتقادات كان لها ما يبررها إلى حد ما، ولكنها أدت إلى إغضاب طهران بصورة شديدة. لقد كان من شأن هذا التقييم أن يقوى موقف المتشددين الرافضين التعاون مع الوكالة الدولية، وبالفعل فبعد عدة أسابيع أبلغت طهران الوكالة أنها ستعاود برامجها لتطوير أجهزة التخصيب ولكن دون استخدام مواد نووية. ولقد طالبتُ طهران بإعادة النظر فى هذا الموقف، ولكن مطالبتى لم تؤد إلى أى نتيجة، وبالفعل بدأت إيران فى إعادة تشغيل المنشآت التى كانت الوكالة قد أغلقتها ووضعت بذلك حدّا للوقف الطوعى للبحث والتطوير فى مجال التخصيب.
بعد ما حدث فى اجتماع مجلس المحافظين فى يونيه، وما تبعه، توجهت بنداءات شخصية إلى كولين باول ومعاونيه فى الخارجية الأمريكية للبدء فى الانخراط فى حوار مباشر مع إيران، مشيرا إلى أن كل ما تحتاج إليه إيران هو ستة أشهر تستطيع خلالها، فى ظل استمرار عدم وجود دليل على سعيها لامتلاك سلاح نووى، أن تجعل عملية تخصيب اليورانيوم أمرا واقعا، وأن ثمن وقفه سيكون باهظا. وأشرت فى الوقت نفسه إلى أن الاقتراح الذى يردده البعض بإحالة الملف الإيرانى إلى مجلس الأمن لن يجدى، لأن الرد الإيرانى على هذه الخطوة قد يكون بالانسحاب تماما من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وهو ما يعنى أننا سنكون أمام نموذج مكرر لحالة كوريا الشمالية.
وفى إحدى المحادثات المغلقة التى أجريتها مع كولين باول قال لى «لو أن الأمر بيدى لالتقيت غدا وزير الخارجية الإيرانى خرازى».
وكانت المشكلة فى تحليل باول هو أن الشعور المعادى لإيران فى الولايات المتحدة الأمريكية لم يضعف منذ أزمة احتجاز الرهائن الأمريكيين فى السفارة الأمريكية بطهران عند اندلاع الثورة الإسلامية؛ وهو ما يجعل من الصعب البدء فى حوار مباشر بين أمريكا وإيران. ومن جانبها أبدت كوندوليزا رايس أيضا تجاوبا غير متوقع مع حديثى، وطرحَتْ علىَّ بعض الأسئلة حول روحانى وشخصيته، مبدية الانطباع بأنها على الأقل ليست رافضة فكرة الحوار.
وفى خلال لقاء جمعنى به فى منزله الصيفى فى موسكو، قدم الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إسهاما بنّاءً؛ فلقد أبدى بوتين، عكسا لما كان يردَّد فى الغرب، رفضه إصرار إيران على الحصول على الأسلحة النووية وتشكك فى احتياجها إلى القدرات المتعلقة بالتخصيب، غير أنه قال إن إيران فى الوقت نفسه يجب أن تحصل على حزمة من المساعدات الجذابة بما فى ذلك التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية. وأيد فكرة وجود ضمان دولى لإمدادها بوقود المفاعلات. وفى اللقاء نفسه تقدم بوتين باقتراح لإنشاء مستودع دولى للوقود النووى المستنفد، ولقد رحبت بهذه الفكرة بشدة لأننى كنت أعتقد أنه سيكون لها إسهام إيجابى فى الحد من مخاطر الانتشار وفى تحقيق بعض أسباب الأمان النووى، وخرجت من لقائى مع بوتين يحدونى الأمل فى أن تُسهم روسيا فى إيجاد حل ما للأزمة الإيرانية.
بالتوازى مع ذلك كان خبراء الوكالة يبذلون كل ما فى وسعهم للتعرف على مصدر جزيئات اليورانيوم المخصب التى عُثر عليها فى أماكن مختلفة فى إيران، وما إذا كانت مماثلة لتلك المستخدمة فى البرنامج النووى الباكستانى، وهو الأمر الذى كان يتطلب الحصول على عينات بيئية من أجهزة الطرد المستخدمة فى باكستان، ولكننى علمت بعد ذلك من سفير باكستان أن واشنطن أبلغتهم أن باكستان تعاونت مع الوكالة بما فيه الكفاية، وبدا لى من هذا أن البعض فى واشنطن كان لا يريد تسوية هذه المسألة؛ بحيث تستمر معلقة للضغط على إيران.
شعرت بالسأم من تلك المناورات التى تدور خلف الأبواب المغلقة، وما تؤدى إليه من إبطاء فى تحقيق أى تقدم، وناشدت باكستان التعاون بشدة، وهى ما قررت أن تفعله ولكن على الطريقة التى تتناسب مع كونها ليست عضوا فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وهو ما اضطررنا معه إلى أن نقبل أن يقوم خبراء باكستانيون بإمدادنا بالعينات المطلوبة عوضا عن أن يقوم مفتشو الوكالة بالذهاب إلى المواقع النووية الباكستانية، التى هى مواقع عسكرية، لأخذ العينات. وتم الاتفاق على أن يتم نقل العينات بآلية محددة تضمن أنه لا يتم التلاعب بها.
ومع منتصف أغسطس تبين لنا أن العينات التى حصلنا عليها من باكستان مقاربة إلى حد كبير لتلك التى وجدناها فى ناتانز وفى شركة «كالاى» مما يدعم ما كانت إيران قد قالته. ولكننا كنا ما زلنا ندرس العينات للوصول إلى نتيجة قاطعة.
وكنا نقترب من موعد اجتماع مجلس المحافظين المقرر فى شهر سبتمبر 2004، وكنت أشعر أننا سنواجَه مرة ثانية بنفس الأسلوب من جانب الولايات المتحدة وإيران: حملة إعلامية أمريكية شديدة ضد إيران تدّعى الحصول على دليل جديد على سعى إيران للحصول على أسلحة نووية، ومعلومات مهمة تقدمها إيران للوكالة أو دعوتها لزيارة مواقع معينة، ولكن فى وقت متأخر قبل إصدار التقرير الدورى للوكالة بما يحول دون تمكّن الوكالة من التحقق منها وإدراجها فى تقريرها إلى مجلس المحافظين.
وكما هى عادته فى سعيه للتأثير على مناقشات المجلس، كان جون بولتون هو من أطلق شرارة البدء هذه المرة من خلال حوار مع برنامج «نيوز نايت» على الـ«بى بى سى»، حيث أشار إلى عودة إيران إلى تصنيع أجهزة الطرد، ومن ثَمَّ فإنه لم يعد كافيا قصر معالجة الملف الإيرانى فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأضاف بنوع من السخرية: تلك المنظمة الرائعة وغير المعروفة القابعة فى ڤيينا. واقترح بولتون إحالة ملف إيران إلى مجلس الأمن الدولى، وكان أعجب ما فى هذا الاقتراح أنه يأتى من بولتون الذى لم يكن أبدا من دعاة الدبلوماسية متعددة الأطراف.
وبعد ثلاثة أيام من بدء اجتماعات المجلس، وقبل مناقشة برنامج إيران النووى، أذاعت محطة «إيه بى سى» صورا ملتقطة بالقمر الصناعى لموقع عسكرى فى بارشين؛ على بُعد أربعين كيلومترا جنوب شرق طهران، ومع هذه الصور أذاعت القناة التليفزيونية الأمريكية تعليقا لـديفيد أولبرايت مدير أحد المعاهد الأمريكية المتخصصة فى دراسة قضايا الأمن، خصوصا مع ما يتعلق منها بقضايا الانتشار النووى. وفى تعليقه قال أولبرايت إنه يعتقد أن هذه الصورة قد تكون لموقع أُجريت فيه اختبارات لتفجيرات نووية. عقب ذلك مباشرة نقلت وكالة «الأسوشيتد برس» تصريحا نقلا عن مصدر رفض ذكر اسمه فى بعثة الولايات المتحدة الأمريكية بڤيينا يوجه إلىَّ النقد لأننى لم أُشر فى تقريرى الذى قدمته حول إيران إلى موقع بارشين، مع التلميح أننى تعمدت عدم الإشارة إلى هذا الأمر.
وكان هذا الادعاء لا أساس له من الصحة بالمرة، ولم يكن وراءه من دافع سوى محاولة الإيحاء بانحياز الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والحقيقة أن الوكالة كانت قد أثارت ملف موقع بارشين مع طهران، وأن المعلومات التى لدينا كانت تفيد بأنه موقع عسكرى استُخدم لصنع واختبار متفجرات كيميائية. وكانت الوكالة عازمة على الاستمرار فى أسئلتها لإيران حول هذا الموقع، ولكن فى تلك اللحظة لم يكن هناك أى دليل على الإطلاق بارتباط هذا الموقع بأى نشاطات نووية. ولم تساعد مثل هذه الألاعيب الأمريكية بطبيعة الحال على إقناع الإيرانيين بعدم استئناف إنتاج أجهزة الطرد المركزى.
وفى منتصف أكتوبر 2004 تحققت خطوة متقدمة. فقد أفادت الدول الأوروبية الثلاث التى لم تتوقف عن محاولة إيجاد حل دبلوماسى؛ باستعداد إيران للدخول فى حوار حول مستقبل برنامجها النووى. وقد طالبت الدول الأوروبية إيران، كشرط مسبق لبدء التفاوض، أن تعود لوقف نشاطاتها النووية بما فى ذلك إنتاج الأجهزة الخاصة بالتخصيب، وجاء الرد الإيرانى إيجابيّا حيث وافقت طهران على أن تتوقف جميع هذه النشاطات فى الوقت الذى تُجرى فيه المفاوضات.
وكان التوقيت بالغ الحساسية؛ حيث إن مزاج السياسة الداخلية الإيرانية كان يتجه نحو التشدد.
وحسب ما خلصت إليه من نقاش مع سيروس ناصر؛ وهو واحد من ألمع وأذكى المفاوضين الإيرانيين، فإن كل المرشحين للانتخابات الرئاسية القادمة فى إيران ينتمون إلى التيار المتشدد الذى يدعو إلى المواجهة مع الغرب. وبالطبع فكان مما يخدم هذا التيار أن يدعو إلى المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية ليحصل على مزيد من الأصوات، حتى إذا تحول بعد عام أو عامين أو نحو ذلك ليحاول الحصول على رصيد سياسى جديد بالعمل على الحصول على تسوية سياسية مع واشنطن. وفى الوقت نفسه كان من شأن ذلك التوجه أن يقوّى من شوكة الحرس الثورى الإيرانى؛ وهو ما يعنى النكوص عن عديد من الإصلاحات التى شهدتها إيران خلال السنوات القليلة السابقة.
وحسب ما قاله لى ناصرى فى تلك المقابلة، فإنه بغض النظر عمن سيتم انتخابه للرئاسة فإنه ولأسباب محلية سيستحيل على إيران أن تستمر فى وقف برنامجها للتخصيب النووى؛ لأنه لا يمكن لأى زعيم إيرانى أن يوقف ذلك البرنامج النووى الذى تحملت إيران كثيرا فى سبيله. وتطرق الحديث مع ناصرى لما تردد عن احتمالات عمل عسكرى أمريكى أو إسرائيلى ضد المنشآت النووية الإيرانية، وهو الأمر الذى لم يبد لى أن الإيرانيين كان لديهم كثير من القلق بشأنه؛ لأن إيران بدا أن لديها التكنولوجيا النووية لإعادة بناء أى منشأة قد يُجرى هدمها فى خلال أشهر قليلة وبعيدا عن الأعين وهكذا قال لى ناصرى.
وفى ظل كل ذلك كان الاقتراح الأوروبى بالوقف الاختيارى لأنشطة التخصيب فرصة لإيران لا يمكن إهدارها، ولكن الخلاف انصبّ على ما يمكن وصفه تحديدا بأنه أنشطة متعلقة بالتخصيب. فإعلان طهران فى أكتوبر 2003 يقوم على الوقف الاختيارى لجميع أنشطة تخصيب اليورانيوم وتجهيزه، فهل يشمل ذلك المرحلة التحضيرية لتحويل اليورانيوم؟ وهل يشمل صنع أجهزة الطرد؟ وبعد مناقشات فنية مطولة أصبح من الواضح ضرورة اللجوء إلى محكم.. وهكذا قررت إيران والدول الأوروبية الثلاث اللجوء إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وهكذا وجدنا أنفسنا مرة أخرى فى مفترق طرق بين التكنولوجيا والسياسة. حيث إن التوصيف الفنى البسيط لما يمكن اعتباره أنشطة تخصيب كان سيقتصر على وقف استخدام مواد نووية فى أجهزة الطرد المتوالية، وكان من شأن ذلك أن يناسب إيران كثيرا، ولكن ذلك لم يكن ليرضى الأوروبيين الذين أرادوا لإيران أن تتحرك فى إطار بناء الثقة، وبالتالى فإن التعريف الذى كانوا سيقبلون به كان أوسع كثيرا من ذلك التعريف الذى ترضى به إيران. وبالرغم من كل الجهود التى بذلتها الوكالة لتقديم التعريفات المطلوبة إلا أن عام 2004 اقترب من الانتهاء بينما لم يكن قد تم التوصل إلى اتفاق بعد.
وكان الغرب قد بدأ يشعر بنفاد الصبر بينما كانت إيران مستمرة دون توقف فى نشاطاتها النووية بما فى ذلك إنتاج غاز «UF6»؛ وهى مادة التلقيم اللازمة للتخصيب، ثم قامت فى شهر أغسطس بتجهيز 37 طنّا من الكعكة الصفراء وهى مادة مركزة من اليورانيوم، من أجل تجربة خطوط الإنتاج فى منشأة تحويل اليورانيوم فى أصفهان.
وفى النهاية توصلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى تعريف كان الطرفان على استعداد للقبول به مما فتح الباب أمام توقيع اتفاقية باريس فى 14 نوفمبر، واتفق الطرفان على التفاوض بحسن نية، ووافقت إيران على وقف جميع أنشطة تحويل اليورانيوم، وتجميع واختبار أجهزة الطرد، بل ووَقْف استيراد مكوناتها. وأقرت إيران بأن استمرار عملها بوقف نشاطات التخصيب، حسب التعريف الذى تم التوصل إليه، هو أمر ضرورى لاستمرار التفاوض.
ولقد ساد التفاؤل بما يكفى لوضع خطة للتفاوض تتجاوز الملف النووى لتشمل جملة من القضايا الاقتصادية والسياسية والأمنية، بما فى ذلك الاتفاق على ضمانات مؤكدة للتعاون فى مجال التكنولوجيا النووية السلمية. بل إن الدول الأوروبية وافقت على تقديم دعم لإيران للتفاوض من أجل الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. كما اتفق الطرفان على العمل من أجل مكافحة الإرهاب بما فى ذلك نشاطات تنظيم القاعدة وجماعة مجاهدى خلق. كما أعرب الجانبان عن دعمهما عملية سياسية تؤدى إلى وصول حكومة عراقية منتخبة إلى الحكم.
وفى أثناء التوقيع قام روحانى، بوصفه كبير المفاوضين النوويين الإيرانيين بالتركيز على عدة نقاط، طالب الجميع بأخذها فى الاعتبار؛ وأولها أن قرار إيران بوقف النشاطات النووية كان قرارا اختياريّا، وليس هناك إلزام قانونى بشأنه، وثانيها أن المفاوضات التى ستُجرى لا يجب أن يكون الهدف من ورائها محاولة دفع إيران نحو وقف قدرتها على تطوير دورة الوقود النووى الكاملة، ولم يكن هناك خلاف حول تلك النقطة الأخيرة؛ لأن الأوروبيين كما ذكروا لم يكونوا يسعون للحيلولة دون تطوير إيران دورة الوقود النووى، بل الحصول على ضمانات لها مصداقية أن البرنامج النووى الإيرانى هو برنامج للأغراض السلمية فقط.
وتحركت إيران بسرعة لتنفيذ الاتفاق، وبعد أسبوع واحد أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران قد قامت بالفعل بتنفيذ ما تعهدت به.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 02-10-2012, 08:22 AM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,986
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي

سنوات الخداع - الحلقة السادسة عشر
كان لتوقيع اتفاقية باريس، كما اتُّفِق على تسميتها، أثر إيجابى على اجتماع مجلس محافظى الوكالة فى شهر نوفمبر. وفى البداية بدا أن الأمريكيين كانوا يشعرون بالرضا، بل إنهم أعربوا عن التقدير للعرض الشامل الذى قدمتُه حول أعمال التفتيش التى تمت فى إيران حتى ذلك الوقت، فى ما مثَّل اختلافًا كبيرًا عن المواقف الأمريكية المعتادة، والتى استمرت حتى أشهر قليلة مضت عندما أثاروا الضجة المفتعلة حول موقع «بارشين».
والأكثر من ذلك أن أمريكا لم تعمل على إيقاف قرار مجلس المحافظين الصادر عن اجتماع نوفمبر حول إيران على الرغم من عدم رضا واشنطن عنه، وعلى الرغم مما قالته «جاكى ساندرز» مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية، وأحد أقرب معاونى «بولتون»، من أن شيئًا ذات قيمة لم يتغير فى الملف الإيرانى، وإن الولايات المتحدة الأمريكية كانت «تتوقع للأسف ما جاء فى هذا التقرير»، وإنها كانت أيضًا على استعداد لإحالة ملف إيران إلى مجلس الأمن بمفردها دون الحصول على توافق من مجلس المحافظين، ولكنهم مع ذلك تركوا القرار يمر.
أما الإيرانيون فكان لديهم تفاؤل بأنهم حققوا نقلة كبيرة فى التعامل مع هذا الملف، وبالتالى ادّعى ناصرى أنه راح فى إغفاءة فى أثناء الاجتماع بينما كانت «ساندرز» تُدلى بكلمتها، بينما وصف روحانى دعم مجلس المحافظين لاتفاقية باريس بـ«الانتصار الكبير».
ثم أدلى روحانى بحديث لـ«بى بى سى»، وقال: «إن العالم بأسره تجاهل دعوة أمريكا لإحالة ملف إيران إلى مجلس الأمن». وفى محاولة فى ما يبدو للحصول على إعجاب الإيرانيين، بالغ روحانى بعض الشىء فى وصفه الحالة المزاجية «المنهزمة» لمندوبة الولايات المتحدة الأمريكية، وقال: «إن المفاوضات القادمة هى فرصة تاريخية لإيران والدول الأوروبية أن تثبت أن الدبلوماسية القائمة على القرارات الأحادية لا تجدى».
وكان التوصل إلى الاتفاق هو الجزء الأسهل من عملية التفاوض، ولقد بدا واضحًا لى من خلال محادثاتى مع الأوروبيين أنهم يعلمون يقينًا بوجوب تقديم حزمة حوافز مشجعة للإيرانيين، فى نهاية التفاوض. وكان الألمان هم الأكثر تفاؤلًا بالنتائج المتوقعة للمفاوضات، بينما اتسم الموقف البريطانى بالتحفظ حرصًا على عدم إغضاب الأمريكيين. أما الفرنسيون فقد اتخذوا موقفًا وسطًا بين الألمان والبريطانيين، غير أنهم جميعًا بدوا متفائلين، خصوصًا بعد أن دعمت مجموعة الثمانى الاتفاق وأقرت تقديم تنازلات كبيرة لإيران.
بعد ذلك تزايدت التوقعات طوال عدة أشهر، بأن تؤدى عملية التفاوض هذه إلى إيجاد حل للأزمة الإيرانية. وكانت إيران تتعاون بقوة مع الوكالة ولم يبقَ سوى بعض المسائل الواجب التعامل معها فى ما يتعلق بالتفتيش. وبحلول جلسة مجلس المحافظين فى مارس 2005 فإن ملف إيران لم يكن على الأجندة للمرة الأولى فى نحو عامين، وهو الأمر الذى سارع الإيرانيون بالإشارة إليه على أنه دليل على حدوث تقدم. بل إن البعض أشار إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت على استعداد ربما للتعاون مع الأوروبيين فى تقديم حوافز إلى إيران.
لكن مع الوقت بدأ القلق الإيرانى يتزايد، حيث لم تكن المفاوضات تحقق التقدم المرجوّ، وكان روحانى يقع تحت ضغط كبير من حكومته ليأتى بثمار التعاون الذى أبداه فى صورة ملموسة وواضحة. وكان روحانى يُلح على الأوروبيين للموافقة على قيام إيران باستئناف بعض جوانب عملياتها النووية ولو على مستوى البحث والتطوير. وحسبما فهمت فإن خطة إيران كانت تهدف إلى استكمال منشأة لتحويل اليورانيوم دون أن تصل إلى مرحلة تطوير هذه العملية لأغراض التصنيع، وكذا مشروع صغير للتخصيب. على أن يتم الاتفاق بعد ذلك مع الأوروبيين على إيقاف منشأة التخصيب الكبيرة فى «ناتانز» لعدد من السنوات. هذا الأمر صاغه روحانى فى صورة مقترح مكتوب تقدم به إلى الدول الأوروبية المفاوضة فى مارس 2005، مشيرًا إلى أن إيران يمكن أن تبدأ التخصيب بخمس مئة جهاز طرد يمكن أن تزداد مع الوقت إلى ثلاثة آلاف، وهى تقل كثيرًا عن الأربعة والخمسين ألف جهاز التى يمكن تشغيلها فى «ناتانز» عندما تعمل بكامل طاقتها. وأشار روحانى إلى أن هذا المقترح هو صياغة أولية قابلة للتعديل فى ضوء المناقشات مع الأوروبيين. وكان أهم ما فى الأمر بالنسبة إليه الرسالة التى يوجهها إلى الشعب الإيرانى بأن برنامج التخصيب الإيرانى ما زال جاريًا. وكان بوسع الوكالة أن تراقب الأنشطة فى المنشأة الصغيرة، كما أن إيران كانت ستوقف أنشطتها لأغراض التصنيع. وكانت إيران تأمل فى الحصول مقابل ذلك على مفاعلات الطاقة النووية من الغرب وغيرها من أشكال التكنولوجيا، والاتفاقات التجارية والحوافز الإضافية.
وكانت الانتخابات الرئاسية الإيرانية تقترب، حيث كان الموعد المقرر لها هو يونيو، وكانت لهجة الحوار السياسى فى إيران تحتدم. وفى مايو قالت إيران إن عدم تقديم الأوربيين عرضًا محددًا لإيران يمثل مخالفة لاتفاقية باريس، بل إن طهران هددت باستئناف النشاطات النووية التى كانت قد أوقفتها، وطالب الأوروبيون بمزيد من الوقت لصياغة مقترح يقدمونه إلى الإيرانيين الذين وافقوا على الانتظار حتى منتصف أغسطس.
وفى منتصف يونيو انتخب الإيرانيون محمود أحمدى نجاد، وهو واحد من أكثر الرجال المتشددين من بين كل الذين كانوا يخوضون انتخابات الرئاسة الإيرانية. وبعد هذه الانتخابات مباشرة، وقبل حصول إيران على المقترح الأوروبى، كانت طهران تلمّح بالفعل إلى اعتزامها استئناف بعض من الأنشطة التى كانت قد أوقفتها، وعادت أجواء التشاؤم لتسود الدوائر الدبلوماسية.
وبعد شهرين بدت المفاوضات على وشك الانهيار الكامل، حيث جاء العرض الأوروبى خاليًا من الكثير من النقاط المتفق عليها خلال اجتماع باريس، كما أنه جاء خاليًا من أى إشارة إلى تقديم مفاعلات نووية لتوليد الطاقة، واقتصر على عرض تقديم مفاعلات للأغراض البحثية.
وكان بإمكان الفرنسيين أن يقدموا إلى إيران تكنولوجيا مفاعلات القوى لو لم تكن شركة «آريفا» الفرنسية المنتجة للمفاعلات النووية تخشى إغضاب الولايات المتحدة الأمريكية حرصًا على معاملاتها التجارية مع السوق الأمريكية، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد رفضت منح «آريفا» الموافقة على تقديم مفاعل لإيران، ومن ثَمَّ اقتصر العرض الأوروبى على إشارة مبهمة إلى منح إيران إمكانية الوصول إلى أسواق التكنولوجيا النووية الأجنبية.
وقد قال لى بعضهم إن الأوروبيين حاولوا تطبيق سياسة إيران فى التفاوض القائمة على المساومة، كما يحدث فى المحلات التجارية، بمعنى أن لا يقدموا أقصى ما لديهم فى العرض الأول، ولكن النتائج كانت كارثية لأن العرض لم يكن فقط متواضعًا، بل إنه وصل إلى الدرجة التى يمكن وصفه بأنه جسَّد تعاليًا على إيران. ووصل الأمر إلى حد أن الأوروبيين ذكروا أنهم سيتولون العلماء الإيرانيين برعايتهم إذا لم تعد هناك حاجة إليهم بعد أن يتوقف التخصيب فى إيران. لقد تحدث اتفاق باريس، شأنه شأن إعلان طهران، عن التزام إيران بتقديم «ضمانات موضوعية» عن الطبيعة السلمية لأنشطتها النووية. لكن الأوربيين بدؤوا يحاولون تفسير ذلك فى العرض المقدم منهم على أنه التزام بحظر الأنشطة الخاصة بدورة الوقود النووى على عكس كل التصريحات والبيانات التى أدلى بها روحانى وزملاؤه.
وحاول الإيرانيون حَمْل الأوروبيين على النظر فى إمكانية قيام إيران بتحويل اليورانيوم على الأقل، بوصف أن ذلك من شأنه أن يُحسن من صورة النظام أمام الرأى العام، وأن يشير إلى أن إيران لم تتخل تمامًا عن إنجازاتها النووية. وكان هناك اقتراح بأن تقوم إيران بإنتاج «uf6» ثم تصدّره إلى جنوب إفريقيا لتخزينه. ولكن العواصم الغربية لم تكن مستعدة للقبول بالطلب الإيرانى. وقبل أن يعلن الأوروبيون عن مقترحهم كنت قد أشرت عليهم بالنظر فى أن يتضمن المقترح إشارة إلى إمكانية استئناف إيران لبعض من النشاطات التى قررت إيقافها، وذلك لأننى كنت أخشى انهيار المفاوضات بصورة كاملة.
ولأن الفرنسيين كانوا قد تولوا صياغة العرض الأوروبى فقد ذهبت مباشرة إلى المدير السياسى فى وزارة الخارجية الفرنسية «ستنسيلاس دولابولاى» بهذا المقترح، ولكن جاء الرد بأن هذا المقترح متأخر لأن التوافق قد تم التوصل إليه بين الأطراف الأوروبية الثلاثة، ولم يعد من الممكن تعديله.
وقبل الإعلان عن العرض الأوروبى ألمحتْ فرنسا لإيران بفحواه، فكان ذلك مخيبًا لآمال الإيرانيين الذين شعروا أن أشهر من المفاوضات ذهبت هباء.
وفى 3 أغسطس تولَّى أحمدى نجاد الحكم، وقام بإعادة تشكيل الحكومة، وكان من بين الذين تم إعفاؤهم من مناصبهم روحانى وفريقه المعاون، وتم تعيين على لاريجانى أمينًا عامًّا لمجلس الأمن الوطنى الأعلى فى إيران. وبدأت إيران بسرعة فى تزويد منشأة التحويل فى أصفهان بأكسيد اليورانيوم. وبعد إعلان المقترح الأوروبى فى العاشر من أغسطس قررت إيران استئناف كامل نشاطاتها وفضت الأختام التى كانت الوكالة قد وضعتها على المنشأة.
وعقد مجلس محافظى الوكالة الدولية جلسة خاصة حث فيها إيران على العودة إلى وقف أنشطتها النووية، وفى 24 سبتمبر ذهب المجلس إلى أبعد من ذلك بالإشارة إلى أن تاريخ إيران الطويل من محاولة إخفاء الحقائق، وعدم الإبلاغ عن أنشطتها يعد من قبيل «عدم الامتثال»، وهى إشارة توحى بأن احتمال إحالة الملف إلى مجلس الأمن أصبح مؤكدًا.
وبهذا بدأت مرحلة جديدة من مراحل الأزمة النووية الإيرانية.
ينص نموذج اتفاق الضمانات النابع من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية على أن قرار إحالة الدول التى توصم بـ«عدم الامتثال» من عدمه هو أمر يخضع لتقدير مجلس المحافظين. وبالنسبة إلى حالة إيران كنت دومًا أسعى لتفادى استخدام تعبير «عدم الامتثال» وأستخدم تعبيرات أخرى، مثل خرق أو انتهاك الالتزامات لتفادى التأثير على مجلس المحافظين. ومن جانبه لم يكن المجلس مندفعًا نحو إحالة إيران إلى مجلس الأمن، واكتفى باستخدام هذا الاحتمال كوسيلة من وسائل الضغط والتفاوض، مع العلم أن أمريكا كانت تود لو تم إحالة الملف إلى مجلس الأمن منذ البداية وأنها كانت تلوم على الوكالة عدم استخدام تعبير «عدم الامتثال».
ومما جعل مسألة إحالة موضوع إيران إلى مجلس الأمن محل شك أنه فى ذلك التوقيت لم تكن هناك أى مستجدات فى ما يتعلق بما يمكن وصفه بعدم امتثال إيران، وهو الأمر الذى كان معروفًا منذ عامين. بل إن الفترة الأخيرة قد شهدت تطورات إيجابية تتعلق بقيام الوكالة بنشاطات محددة فى ما يتعلق بالتحقق من طبيعة النشاطات النووية للبرنامج الإيرانى. وبالتالى فإن إحالة الملف إلى مجلس الأمن كان يهدف بالأساس إلى وقف التخصيب الذى تقوم به إيران، وهو الأمر الذى يعتبر من حقها حسب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، عن طريق الإشارة إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بتهديد السلم والأمن الدوليين.
ولطالما سُئلت إذا ما كان العرض الأوروبى بالصورة التى جاء عليها قد أهدر فرصة للتوصل إلى اتفاق نهائى حول البرنامج النووى الإيرانى؟ وما إذا كانت محدودية العرض والضغوط التى مارستها أمريكا على الشركة الفرنسية لعدم منح إيران التكنولوجيا الفرنسية قد أهدر هذه الفرصة؟ والإجابة عن هذا السؤال أمر صعب لأن أحدًا لا يعلم يقينًا ما الذى كانت ستكون عليه الأمور لو اختلفت بعض المعطيات، ولأن أحدًا لا يستطيع الجزم بالنوايا الحقيقية لأى من الأطراف: إيران، والدول الأوروبية، وأمريكا. لقد كان الموقف بالغ التعقيد.
لكن الواضح هو أن إيران كانت تعتقد أن تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية كان يمكن أن يَحُول دون تحويل ملفها إلى مجلس الأمن، وأنها كانت تنظر للتفاوض مع الأوروبيين على أنه بداية الطريق للتوصل إلى تفاهم مع الأمريكيين. وإزاء عدم تحقق هذه النتائج، الأمر الذى بات واضحًا بحلول أغسطس 2005، قررت طهران الحد من تعاونها مع الوكالة على أمل أن يؤدى ذلك إلى تنازلات من الغرب. وكما اتضح فى الشهور والسنوات التالية فإن الموقف الغربى المتشدد والإصرار على رفض المطلب الإيرانى باستعادة جزء صغير من نشاطها النووى لم يؤدِّ إلى شىء.
إن محاولة تغليب مبادئ نظرية على التفكير العملى لم تؤدِّ إلى شىء. وفى اعتقادى أنه لو جاء العرض الأوروبى أفضل قليلًا وتضمن مزايا محددة لإيران، لكانت إيران قد استمرت فى وقف برنامجها للتخصيب، أو حتى قصرته على عمليات البحث والتطوير، مع استمرار التفاوض للوصول إلى اتفاق. إن ما كانت إيران تسعى للحصول عليه هو التكنولوجيا الغربية، سواء التكنولوجيا النووية لتوليد القوى أم غيرها من أنماط التكنولوجيا التى حالت العقوبات الأمريكية المفروضة دون حصول إيران عليها. ولكن المعارضة الأمريكية حالت دون تحقيق ذلك الهدف، وكانت النتائج متوقعة بأن تعود إيران إلى أنشطة تحويل اليورانيوم ثم تخصيبه، وأن ترفع سقف المطالب مع مرور الوقت.
ولم يفقد المجتمع الدولى الأمل مباشرة فى التوصل إلى حل، ففى نوفمبر 2005 كان هناك مقترح لتقوم إيران بأولى مراحل تحويل اليورانيوم فى منشآت أصفهان ثم شحن الناتج من «uf6» إلى روسيا لتخصيبه ثم استخدامه وقودًا للمفاعل الإيرانى، إلا أن قوى الرفض ضد هذا المقترح كانت شديدة.
ليبيا الاكتشاف والتفكيك
فى مايو 2003 وبينما كنا منشغلين بالكشف عما تخفيه إيران مما يتعلق ببرنامجها النووى، علمت لأول مرة، من مسؤول بريطانى أنه ربما يكون هناك ما يستدعى القلق بشأن ليبيا، وأشار إلى مفاعل بحثى نووى بمدينة تاجورا شرق طرابلس، ولم يحدد الأسباب التى تثير هذا القلق. وعندما طرحت عليه أسئلة حول هذا الأمر قال إنه سيرتب لى زيارة إلى لندن حيث أستطيع أن أحصل على معلومات أكثر توثيقًا وعمقًا.
وعندما نما أمر هذا اللقاء إلى علم بعض أعضاء الخارجية الأمريكية من المحافظين الجدد طلبوا من بريطانيا عدم إطلاع الوكالة الدولية للطاقة الذرية على ما لديها من معلومات. وكان هذا الموقف متطابقًا مع طبيعة تفكير تلك المجموعة ونظرتها إلى الأمم المتحدة ومنظماتها، والقائم على أفضلية عمل الولايات المتحدة بمفردها وليس فى إطار المجتمع الدولى. نظرة قاصرة ولكنها كانت سائدة فى أثناء ولاية الرئيس بوش الابن.
وعلى الرغم من أن السلوك البريطانى إزاء مثل هذه الأمور كان يتسم بدرجة أعلى من التفهُّم بالنسبة إلى أهمية المنظمات الدولية فى إدارة المشكلات الدولية فإننى وبعد مضى ثمانية أشهر على هذا اللقاء لم يكن لدىّ أى معلومات إضافية حول هذا الملف.
وفى الثامن عشر من ديسمبر 2003 علمت من «جراهام أندرو»، وهو بريطانى ال***ية وواحد من مساعدىّ المقربين، أنه تلقى رسالة من بلاده تفيد بقرب الإعلان عن أمر هام بشأن ليبيا، مشيرا إلى أن أهمية الإعلان المتوقع كبيرة لدرجة أنه ربما يأتى على لسان الرئيس «بوش» ورئيس الوزراء «بلير». ورأى «أندرو» أنه ربما يكون من الأفضل أن أرجئ رحلة كنت أعتزم القيام بها إلى الهند اليوم التالى بعد تأجيل متكرر.
وفى مساء اليوم ذاته تلقيت رسالة من معتوق محمد معتوق نائب رئيس الوزراء الليبى لشؤون العلوم والتكنولوجيا، الذى أخبرنى أن وزير خارجية ليبيا على وشك الإعلان عن اعتزام بلاده القيام بتفكيك برنامج للأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل كانت بحوزتها. وبالنسبة إلىّ فإن أمر امتلاك ليبيا أسلحة دمار شامل كان جديدًا تمامًا، واقترح علىّ معتوق أن يقوم بزيارة إلى فيينا ليطلعنى على مزيد من التفاصيل، وهو ما تم الاتفاق عليه وبالتالى تأجلت زيارتى إلى الهند مرة أخرى.
وبالفعل فى اليوم التالى وصل معتوق وهو رجل قصير القامة له شعر مصبوغ باللون الأسود ومعه وفد مرافق من نحو 20 شخصًا من الدبلوماسيين والعلماء والمسؤولين، كان سلوكه بادى الاحترام والمهنية. وبعد المجاملات التقليدية دخلت إلى اجتماع منفرد وحديث مباشر مع معتوق، الذى ظل لسنوات عديدة ضمن دائرة الحكم فى ليبيا.
وملخص القصة أن ليبيا تقوم منذ سنوات بتنفيذ برنامج لتخصيب اليورانيوم، وأشار إلى أن ليبيا حصلت على المعدات والتكنولوجيا النووية والمواد اللازمة لتطوير البرنامج عن طريق العالِم النووى الباكستانى الشهير عبد القدير خان، ومن خلال شبكة من الشركات والأفراد.
وبينما كنت أستمع لمعتوق أدركت أن ما يخبرنى به لا يتعلق فقط بما قامت به ليبيا للحصول على سلاح نووى، ولكن بما يدور فى السوق السوداء للتكنولوجيا والمواد النووية. ولقد أشار معتوق فى حديثه إلى المساعدة التى تلقتها ليبيا من بعض أصدقائها فى جنوب إفريقيا، كما أشار إلى حادثة تسرب بعض المعلومات المخابراتية التى أدت إلى غارة إيطالية على سفينة شحن ألمانية كانت تنقل معدات نووية إلى ليبيا صُنعت فى ماليزيا.
وأكثر ما أقلقنى فى ما قاله لى معتوق إن خان كان قد زار ليبيا مؤخرًا ومعه كيسان عليهما اسم ترزى فى كراتشى، ولكن فى الحقيقة فإن ما كان بداخل هذين الكيسين هو تصميمات لتصنيع السلاح النووى، وقد ذكر خان لمعتوق عندما أعطاه هذين الكيسين أنه «قد تحتاجون إلى تلك المعلومات فى المستقبل»، وقد ذكر معتوق أنه ما زال يحتفظ بهذين الكيسين فى الخزانة الخاصة به.
ويجب أن أُقر بأننى ذُهلت من مدى اتساع الأنشطة النووية السرية لليبيا كما وصفها معتوق. وفى الوقت نفسه فإننى كنت أفكر فى ما يمكن أن تحصل عليه الوكالة من معلومات إضافية عن تلك الأنشطة من خلال التفتيش حيث إن ليبيا هى طرف فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
وأخبرنى معتوق أن حكومته دخلت فى مفاوضات سرية مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية لمدة تسعة أشهر للوصول إلى صفقة تقوم ليبيا بموجبها بالتخلى عن برنامجها لأسلحة الدمار الشامل، وأشار إلى أن ليبيا «أرادت أن تخبر الوكالة، ولكنهم لم يسمحوا لنا أن نقوم بذلك». اعتدلت فى مقعدى ولم أعلق بشىء على تلك الملاحظة الأخيرة.
وفى اليوم التالى زارنى مسؤولون أمريكيون وبريطانيون فى منزلى للنقاش حول ملف ليبيا، ولم أَسْع لإخفاء استيائى وقلت لهم بصراحة: «أنا لا أفهم ما الصعوبات فى الموضوع، فأمريكا وبريطانيا وليبيا، أعضاء فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، والمفترض حسب ما تقتضيه هذه المعاهدة أنه على أمريكا وبريطانيا أن تبلغا الوكالة عندما تصل لهما معلومات تفيد بأن ليبيا تقوم بخرق التزاماتها المقررة فى الاتفاقية، بحيث تستطيع الوكالة أن تتخذ الإجراءات اللازمة».
ولم يعلق ضيوفى على ما قلت، ولكن بعد فترة وجيزة تلقيت اتصالًا هاتفيًّا من وزير الخارجية البريطانى «جاك سترو»، يعتذر لى عن عدم إطلاعى على المعلومات التى قال لى إنها لم تكن متاحة سوى لما لا يزيد على أربعة أشخاص فى الحكومة البريطانية.
وبعد ذلك اتصل بى وزير الخارجية الأمريكية «كولن باول»، الذى عبّر عن نفس الموقف، مشيرًا إلى أن قرار إبقاء الأمر قيد السرية الشديدة إنما يرجع إلى أن أحدًا لم يكن واثقًا من الطريقة التى ستسير بها المفاوضات مع الجانب الليبى، ولم يكن أحد يريد أن يتعرّض للحرج فى حالة ما لم تنجح المفاوضات.
ولم أجد فى ما قاله «باول» ما يقنعنى. وفى ما بعد علمت من أحد المسؤولين فى المخابرات البريطانية أن السبب وراء التكتم الشديد الذى أحاط بهذا الأمر كان يتعلق بالرغبة فى عدم وصول أى معلومات عنها إلى المتشددين فى الولايات المتحدة الأمريكية خشية إفساد المفاوضات الهادفة للتوصل إلى تسوية سلمية لملف أسلحة الدمار الشامل الليبية. وبالتالى كان هناك حرص أن لا يُعلموا بالأمر إلا عندما يتم التوصل إلى اتفاق مع ليبيا.
لم يكن ذلك هو الفارق الوحيد، فالأمريكيون عادة ما يكون لديهم رؤى محددة حول كيفية تفسير المعلومات الأولية، بينما ينظر إليها البريطانيون بغير جمود بحيث يتركون الوقائع تتحدث عن نفسها. ومما يلفت الانتباه ما ذكره لى معارفى فى بريطانيا من أنه على الرغم من قيام رئيس المخابرات المركزية الأمريكية بإحاطة الرئيس الأمريكى بما لديه من معلومات كل صباح، فإن المخابرات المركزية الأمريكية نادرًا ما تشارك فى صنع القرار، على خلاف الحال بالنسبة إلى المخابرات البريطانية.
قيل لى إن نشأة البرنامج النووى الليبى، وغيره من برامج أسلحة الدمار الشامل لدى القذافى، جاءت ردًّا على الغارات التى قامت بها الولايات المتحدة فى أبريل 1986، والتى قتلت فيها ابنة القذافى المتبناة.
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 03-10-2012, 09:22 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,986
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي

سنوات الخداع - الحلقة السابعة عشر
قررت أن أتخذ موقفًا إيجابيًّا إزاء كل ما يجرى، فاصطحبت فريقًا من خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتوجهنا إلى طرابلس فى زيارة استغرقت الأيام القليلة التى تفصل بين عطلة عيد الميلاد ورأس السنة. واصطحبَنَا الليبيون إلى مستودعات المعدات النووية، حيث وجدنا أن برنامجهم كان محدودًا. قيل لنا إنهم كانوا قد بدؤوا تركيب عدد قليل من أجهزة الطرد المتتابعة لاختبارها فقط، وإن مجموعة من تسعة أجهزة هى فقط التى اكتملت، وإن أيًّا منها لم يختبر بمواد نووية. وقال لنا الليبيون إنهم لم يقتربوا بعد من الوصول إلى مراحل الإنتاج الصناعى، كما أنه ليس لديهم برنامج لصنع سلاح نووى.
وكان من الواضح أن ليبيا لديها نحو عشرين جهاز طرد كامل ومكونات لمئتى جهاز آخر من طراز «P–1»، وهو الجيل الأول من الطراز الباكستانى الذى رأيناه فى إيران، وأنها كانت قد طلبت عشرة آلاف جهاز من طراز «P–2» الأكثر تقدمًا، ولكن العديد من مكوناتها الرئيسية لم يكن قد سُلّم بعد. ويبدو أن عبد القدير خان قد حاول المساعدة عن طريق إحدى الشركات فى جنوب إفريقيا، ولكن مسعاه لم ينجح فلجأ إلى شركة أخرى فى ماليزيا، ولكن الليبيين كانوا قد كشفوا عن برنامجهم قبل تصنيع هذه المعدات.
وفى تصريحات صحفية حول ما رأيتُ فى ليبيا وصفتُ حال البرنامج النووى لطرابلس بأنه فى أولى مراحله. غير أننى بالرغم من ذلك كنت قلقًا، حيث إن معدات تحويل اليورانيوم كان قد تم تركيبها بأسلوب منهجى ومنظم فى شكل وحدات، الأمر الذى يدل على أن طرابلس كانت قد حصلت على مساعدة فنية جيدة ومتقدمة من جهة ما، وأن من وضع هذا التصميم السهل ربما يكون فى ذهنه أن يتكرر ذلك مع دول أخرى.
ولم يكن أحد يعلم على وجه الدقة عدد الأشخاص الذين نقل لهم عبد القدير خان ما لديه من معلومات، رغم كثرة ما سمعناه من آراء وشائعات، وفى الوقت نفسه كان القليلون فى ليبيا هم الذين يعلمون حجم المبالغ المالية التى حصل عليها خان نظير الخدمات التى قدمها إلى ليبيا. وبالتالى فإن السؤال المُلِحّ فى أذهاننا جميعًا كان يدور حول العملاء الآخرين الذين استطاعوا التعامل مع هذه الشبكة السرية للإمدادات النووية وتوافرت لهم الموارد المالية اللازمة لدفع مقابل هذه الخدمات.
وبينما كنت فى ليبيا تلقيت دعوة للقاء العقيد معمر القذافى؛ وهو اللقاء الذى تم فى ثكنة باب العزيزية العسكرية فى وسط طرابلس.
وانتظرتُ لقاء القذافى فى غرفة باردة، وكنت سعيدًا بارتداء معطفى فى هذه اللحظات. ثم جاء لتحيتى واحد من أقرب معاونى القذافى؛ وهو بشير صالح بشير الذى أكد لى التزام ليبيا بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعاونًا كاملا. وبعد فترة قصيرة دخل وزير الخارجية عبد الرحمن شلقم إلى الغرفة ودعانى إلى الدخول للقاء العقيد القذافى. وتم اصطحابى إلى غرفة جيدة التدفئة، بها القليل من الأثاث ومكتب كبير ومكتبة واسعة بها مجموعة قليلة من الكتب العربية المتناثرة على رفوفها.
وخلف هذا المكتب كان العقيد القذافى يجلس مرتديًّا جلبابًا ليبيًّا تقليديًّا، ودعانى أنا وشلقم لنجلس على المقاعد المواجهة للمكتب من الناحية الأخرى. ولقد تحدث القذافى بصوت خفيض أكثر مما توقعت، وجاء حديثه به قدر من الود وأيضا قدر من التحفظ.
وما زلت أتذكر بوضوح الكلمات الأولى التى قالها لى خلال هذه الجلسة: «الحقيقة أنا لا أفهم لماذا تكرهك الحكومة المصرية! لقد قال لنا المصريون إنهم يستطيعون مساعدتنا فى تفكيك برنامج أسلحتنا النووية بصورة أفضل من الوكالة الدولية التى ترأسها، ومن العاملين فيها».
ثم سألنى القذافى إذا ما كنت ناصريًّا. وقال: «لقد نشأتَ فى زمن عبد الناصر ولا بد أنك من أشد معجبيه؟»، فأجبتُه بالنفى؛ وهى الإجابة التى ربما خيبت آماله، لأنه كان ينظر إلى عبد الناصر على أنه مثله الأعلى، وأضفت قائلا «إن عبد الناصر كانت لديه أفكار ومبادئ جيدة جدّا، لكن كثيرا من هذه الأفكار وهذه المبادئ أخفق فى التطبيق العملى».
ثم بدأ القذافى يتحدث عن قراره تفكيك الأسلحة النووية التى بحوزة ليبيا، بعد أن وصل إلى قرار أن مثل هذه الأسلحة لا تسهم فى زيادة الأمن الليبى. وأعرب القذافى عن اعتقاده بأنه لا ينبغى لأى دولة، سواء فى الشرق الأوسط أو فى العالم بأسره أن تقتنى الأسلحة النووية. ولقد اتفقتُ مع هذا الطرح بالكامل وبكل حماس. ثم بدأ القذافى يتحدث عن أمور أخرى، بما فى ذلك مكانة ليبيا التى كان يرى أنها على صغر حجمها -من وجهة نظره- لها مكانة كبيرة على ساحة السياسة الدولية، وأخذ يسوق بعض الوقائع للتدليل على ما قاله، ولم تكن كل هذه الوقائع إيجابية على كل الأحوال.
وبدا لى مما قاله القذافى أنه غير متابع لتطورات التحالفات والتغييرات على الساحة الأمنية فى العالم، ومن ذلك أننى عندما تحدثت إليه عن مظلة التأمين النووى لحلف الأطلسى (الناتو) فإنه أمسك بقلم رصاص وبدأ يدون بعض الملحوظات.
والحقيقة أن القذافى تحدث بحماس خلال هذا اللقاء عن رغبته فى تطوير ليبيا، وعن رغبته فى تحسين البنية التحتية، وبناء مزيد من الطرق، وكذلك عن رغبته فى أن يحصل الطلاب الليبيون على مِنح دراسية فى الجامعات الغربية، وأن تحقق ليبيا تقدمًا فى مجال العلوم والتكنولوجيا. وسألنى القذافى عما إذا كنت أستطيع أن أثير هذه الأمور مع «جورج بوش» و«تونى بلير» لأحصل على دعمهما لأفكاره بالنسبة إلى مستقبل ليبيا.
وخلال اللقاء نفسه طلب منى القذافى أن أُدلى بتصريحات تفيد بأن ما قامت به ليبيا ينبغى أن يكون مثلا يُحتذى لغيرها من دول الشرق الأوسط، بما يمكن أن يجعل هذه المنطقة خالية من الأسلحة النووية. وأكدت للقذافى دعمى جهود إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، كما وعدته أن أتحدث مع الأمريكيين والبريطانيين عن تقديم الدعم الاقتصادى لليبيا. وبالفعل فقد أثَرْت هذا الأمر مع «جاك سترو»، وزير الخارجية البريطانى، وعدد من المسؤولين الأمريكيين الذين وعدوا بأن يُبدوا تجاوبا إزاء الاحتياجات الليبية، حيث كانوا يرون أنه من مصلحة الجميع أن تحقق ليبيا نقلة نوعية اقتصادية ومالية بما يسمح بتطبيع العلاقات بين طرابلس والمجتمع الدولى.
ولم تكن زيارتى ليبيا، والتى أتت مباشرة بعد الإعلان الذى قام به «بوش» و«بلير»، مُرحّبًا بها من قِبل جميع المعنيين فى واشنطن، حيث أراد بعض المسؤولين الأمريكيين أن يحصلوا وحدهم على التقدير الكافى للكشف عن برنامج ليبيا السرى لأسلحة الدمار الشامل وأن يتفاوضوا هم مع طرابلس من أجل تفكيكه وإنهائه.
وبالنسبة إلى فإن مسألة التقدير لم تكن ذات بال، وما كان يشغلنى فعلا فى هذا الصدد هو أن أمريكا وبريطانيا لم تقوما بالوفاء بالالتزامات المقررة عليهما بوصفهما طرفين فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، فى ما يتعلق بوجوب إبلاغ الوكالة عن البرنامج السرى الليبى للأنشطة النووية. ولكن بعد أن حصلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية على هذه المعلومات أصبح لزاما عليها أن تقوم بواجبها القانونى بمتابعة هذا الملف.
وفى 2 يناير 2004، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية تصريحات لرئيس الوزراء الليبى شكرى غانم يطالب فيها الولايات المتحدة الأمريكية بالوفاء بما تعهدت به من التزامات بموجب الصفقة التى قامت ليبيا على أساسها بتفكيك برنامجها للأسلحة النووية، وأهمها رفع العقوبات التى طال عليها الأمد، ومن بينها أن تقوم واشنطن بإنهاء الحظر المفروض على شركات النفط الأمريكية إزاء التعامل مع ليبيا، وكذلك أن ترفع الحظر عن أرصدة ليبية قيمتها مليار دولار أمريكى. وأشار غانم فى نفس التصريحات إلى أن ليبيا ترى أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية هى المسؤولة عن تفكيك برنامج التسلح النووى الليبى.
ولأن هذه التصريحات جاءت بعد أيام قليلة من زيارتى ليبيا فلقد أثارت بالطبع الحساسية الأمريكية. كما نقلت «نيويورك تايمز» فى نفس المقال الذى تضمن تصريحات غانم، تصريحات منسوبة إلى مصدر بالإدارة الأمريكية وصف فيه زيارتى ليبيا بأنها «محاولة غير موفقة للدعاية». وحسب ما نقلته «نيويورك تايمز» عن المسؤول نفسه فإن تفكيك البرنامج الليبى للأسلحة النووية سيتولاه خبراء أمريكيون وبريطانيون. وبدا من تصريحاتهم أن الولاية القانونية الصريحة للوكالة الدولية للطاقة الذرية فى ما يتعلق بالتحقق من الأنشطة النووية فى الدول الأطراف فى المعاهدة لم تكن أمرًا يدخل فى الحسبان لديهم.
كما أن الأمريكيين لم يرُق لهم ما صرحتُ به بأن الوصف المبدئى للبرنامج النووى الليبى يوضح أن هذا البرنامج فى مراحله الأولى وبالنسبة إليهم فإن دور المخابرات الأمريكية والبريطانية فى الكشف عن البرنامج الليبى النووى كان سيكون أكبر لو أنه تم تصوير هذا البرنامج على أنه فى مراحل متقدمة، وأنه يمكن لليبيا أن تكون قريبة من إنتاج أسلحة نووية. وفى كل الأحوال فإن تقييمى الأول تَوافق مع ما خلص إليه خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية والذين قاموا بزيارات متتالية إلى ليبيا فى الأسابيع والشهور التالية لزيارتى، للتحقق من تفاصيل وطبيعة البرنامج الليبى.
والمثال الجيد على ذلك هو منشأة تحويل اليورانيوم فى صلاح الدين. فقد تبين أن العلماء الليبيين كانوا يعملون من الثمانينيات على مستوى الاختبارات المعملية والتجريبية فى أنشطة تحويل اليورانيوم بمساعدة أحد العلماء الأجانب. وفى سنة 1984 طلبت ليبيا من الخارج معدات منشأة تجريبية لتحويل اليورانيوم فى شكل مكونات محمولة تسلمتها فى 1986، ثم تم تخزينها فى مواقع مختلفة بالقرب من طرابلس حتى سنة 1998 عندما تم تجميعها جزئيًّا ونقلها إلى موقع الخلة. وفى فبراير 2002 بدأ العلماء الليبيون اختبارات «على البارد»، لكنهم عادوا بعد شهرين، وبسبب مخاوف من اختراقات أمنية، بتفكيك المنشأة وتعبئة كل مكوناتها وشحنها إلى موقعها الحالى فى صلاح الدين.
فماذا كان حجم قدرات تحويل اليورانيوم فى موقع صلاح الدين؟ دلت تحاليل العينات التى أخذناها، على أن ليبيا لم تستخدم اليورانيوم فى أى وقت فى هذه المنشأة. وكانت الوحدة التجريبية ذات قدرة محدودة، وليس بإمكانها إنتاج غاز «هيكسا فلورايد» من اليورانيوم، وهو مادة التلقيم اللازمة لتخصيب اليورانيوم. وحتى على المستوى المعملى لم يقم العلماء الليبيون بإنتاج «UF6» محليًّا.
كذلك فإن دورة الوقود النووى لديهم كانت محدودة النطاق والقدرة، كما كانت تفتقر إلى الخبرة العملية. ولم تكن هناك أى عمليات تعدين أو طحن، فقد اقتصرت قدرات التخصيب لديهم على عدد محدود من أجهزة الطرد التى لم يكن بها أى مواد نووية سواء للإنتاج أو لمجرد الاختبار. لقد اشتروا ورش آلات دقيقة لإنتاج أجهزة الطرد محليّا. لكن أجزاءها ظلت فى صناديقها التى تم شحنها فيها. وفى المفاعل البحثى فى تاجورا قاموا بتشعيع عدة مجموعات من أجزاء اليورانيوم معظمها لا يزيد على جرام واحد، وقاموا بفصل البلوتونيوم من اثنين منها بكميات ضئيلة للغاية. ولم يقوموا بأى عمل يتعلق بالتسلح النووى. كانوا قد تلقوا تصميمات، ولكن هذه التصميمات ظلت حبيسة «الأكياس» التى جاءت فيها وظلت محفوظة كما هى فى خزينة معتوق.
وبينما كان عمل مفتشى الوكالة ما زال فى بداياته فقد كانت وكالات الأنباء الغربية تنقل عن مسؤولين فى بريطانيا وأمريكا أن خبراء من البلدين فى طريقهم إلى ليبيا لتفكيك برنامجها للتسلح النووى وشحن المعدات إلى خارج ليبيا. فما كان منى إلا أن اتصلت بمندوب بريطانيا لدى الوكالة «بيتر جينكنز» وقلت له بصراحة ودون مواربة إنه فى حال حدوث ذلك قبل أن تنهى الوكالة عملها، فإننى لن أتردد فى الدعوة إلى عقد اجتماع لمجلس محافظى الوكالة لأخبرهم «أننى بسبب تدخلات بريطانيا وأمريكا فإننى لم أعد قادرًا على القيام بالمسؤوليات القانونية التى تقع على عاتقى بموجب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وأرجوك أن تبلغ حكومتك بموقفى هذا». كنت قد سئمت من تلك الألاعيب وقررت أننى لن أبقى صامتًا.
وبعد أيام قليلة اتصل بى «كولين باول» ليخبرنى أنه سيرسل «بولتون» ونظيره البريطانى «ويليام إهرمان» إلى فيينا ليتناقشا معى حول سبل التعاون بشأن الملف الليبى. وقال لى «باول»: «إنه ينبغى علينا أن نحترم اختصاص الوكالة؛ فى إشارة إلى التفويض القانونى للوكالة الدولية للطاقة الذرية بمقتضى معاهدة منع الانتشار». ثم أضاف «باول»: «وبالطبع نحن أيضا لدينا مصالحنا».
وأجبته: «إننى أتفهم ذلك، ولكننى فى الوقت نفسه لدىّ تفويض من قِبل الدول أعضاء الوكالة ولا يمكنى بأى حال التفريط فيه».
وقد قرر «باول» أن يتوقف عند هذا الحد، وأبلغنى أنه التقى «بولتون» صباح اليوم وأن «بولتون» «يتطلع جدّا للقائى»!
لم أكن واثقًا من مسألة تطلع «بولتون» للقائى، لأننى أتذكر من خلال لقاء سابق لى معه، لدى توليه منصب مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الحد من التسلح والأمن الدولى، قوله إنه سيضطر إلى العمل بطريقة مخالفة لما كان يكتبه، مشيرًا بذلك إلى انتقاداته اللاذعة حول الأمم المتحدة ومنظماتها. ولكن رسالة «باول» المبطنة لى كانت مطمئنة، وهى أن «بولتون» قادم إلى فيينا بتعليمات محددة بأن لا يثير المشكلات.
وفى الحقيقة فإن اللقاء الذى تم بينى وبين «بولتون» بعد هذه المكالمة اتسم بالمهنية. وقد بدا «بولتون» حريصًا على التوصل إلى اتفاق، وبدورى قلت له إننى لا أعتزم التنازل عن الصلاحيات الممنوحة للوكالة ولا عن المسؤوليات المنوطة بها. وفى خلال هذا اللقاء اتفقنا على أن الوقت سيُترك لمفتشى الوكالة للانتهاء من عملهم المتعلق بالتفتيش والتحقق وأخذ العينات، ثم ستتاح الفرصة بعد ذلك للخبراء من أمريكا وبريطانيا لأن يقوموا بتفكيك برنامج ليبيا النووى تأسيسًا على الاتفاق المقرر بين هذه البلدان الثلاثة.
وانتهت المقابلة بصورة ودية، وهو الأمر الذى استراح له جدّا «وليليام إهرمان» الذى يبدو أنه كان يتوقع احتكاكًا بينى وبين «بولتون». والحقيقة أن الاتفاق تم تنفيذه أيضًا بسلاسة دون حدوث أى مشكلات بين مفتشى الوكالة وخبراء أمريكا وبريطانيا.
ومما سهل مهمة مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بصورة تكاد تكون غير معتادة، هو التعاون الكامل والابتعاد عن المراوغة من قِبل الليبيين. وإلى جانب ذلك فقد حرص معتوق على القيام بزيارات دورية لى فى فيينا للتأكد من انتظام العمل وعدم وجود أى عوائق. لقد كان عملنا فى ليبيا تغييرًا إيجابيًّا بالمقارنة بالتجارب التى مررنا بها فى العراق وكوريا الشمالية وإيران. وبنهاية يناير كان مفتشو الوكالة قد أنهوا الجزء الأكبر من المرحلة الأهم فى عملية التفتيش والتحقق، ومباشرة بعد ذلك تم تفكيك معدات مخصصة لتشغيل دورة الوقود النووى، وحسب الاتفاق الذى تم بين واشنطن وطرابلس تم شحن هذه المعدات إلى أمريكا.
وفى الثالث والعشرين من فبراير توجهتُ إلى طرابلس لإجراء محادثات، ووجدت فى الفندق الذى أقيم فيه عددًا كبيرًا من رجال الأعمال الغربيين، خصوصًا من العاملين فى مجال البترول، وبعد ذلك تسربت معلومات حول قرب رفع العقوبات المفروضة على التعامل مع ليبيا. وخلال حديثى مع المسؤولين الليبيين الذين كانوا يحاولون اللحاق بكثير من التطورات المتتالية بدا لى أنهم يمكن أن يقعوا فريسة للاستغلال فى هذه المرحلة التى تشهد انفتاحًا جديدًا على ليبيا.
وخلال حديثى مع وزير الخارجية شلقم قال لى إن المشكلة التى تواجه ليبيا هى نقص الكفاءات من المديرين، وبالطبع فإن ذلك كان أمرًا متوقعًا، كون أن ليبيا قد تعرضت للعزلة الدولية لأكثر من عشرين عامًا. وخلال هذه الأعوام العشرين فإن الكثير من الكفاءات والعقول الليبية كانت قد هاجرت، وباستثناء بعض الليبيين الذين حصلوا على التعليم فى الخارج وبعض كبار المهنيين والعلماء النوويين، فإن حظوظ ليبيا من كفاءات الوظائف الحكومية كانت محدودة للغاية.
ومن المسؤولين القليلين التى كانت لديهم خبرة الشؤون الدولية موسى كوسا رئيس المخابرات الليبية، الذى كان قد ذهب لاستكمال دراسته العليا فى العلوم الاجتماعية بجامعة ميتشيجان، وخلال هذه الدراسات قام بكتابة رسالة الماجستير عن معمر القذافى. كما أن شلقم أيضا عاش سنوات طويلة فى الغرب، من بينها السنوات التى أمضاها سفيرًا لبلاده لدى إيطاليا. وقد تبادلتُ الحديث مع الاثنين حول ضرورة اكتساب ليبيا الكفاءات والمهارات التفاوضية، وضرورة أن تحصل ليبيا على عوائد مناسبة وعادلة مقابل مواردها الطبيعية.
وتطرق الحديث مع شلقم وكوسا أيضا إلى التعقيدات التى تحيط بالعلاقات مع دول شمال إفريقيا، وإلى الاتهامات التى تواجه ليبيا فى العالم العربى بعد إعلانها تخليها عن برامج أسلحة الدمار الشامل بأنها باعت ثلاثين عامًا مما يطلق عليه المواقف «الثورية» فى الكثير من الموضوعات.
وقد علمتُ خلال هذه المحادثات أن النظام المصرى -على وجه الخصوص- كان مستاءً من أن ليبيا لم تُخطره عن برامجها لأسلحة الدمار الشامل التى كانت تحاول تطويرها، أو عن مفاوضاتها مع أمريكا وبريطانيا. وكان الرئيس مبارك قد قال فى أحد خطاباته قبل فترة وجيزة من الكشف عن برنامج ليبيا للأسلحة النووية: «أنا أعلم ما لدى ليبيا.. والليبيون ليس لديهم أسلحة دمار شامل». وبالطبع فإن الكشف عن هذا البرنامج مثَّل إحراجا له.
وأرسل الليبيون عبد الله السنوسى رئيس المخابرات العسكرية الليبية وصهر القذافى، إلى مصر لمحاولة تطييب خاطر مبارك، ومع ذلك فإن الصحافة المصرية وجهت النقد إلى القذافى على تخليه عن برنامج التسلح، وهو ما أتبعه القذافى بإنهاء دخول المصريين ليبيا دون تأشيرات، وكان ذلك القرار قاسيًا بالنظر إلى أنه كان هناك قُرابة نصف مليون مصرى يعملون فى ليبيا فى ذلك الوقت. وفى النهاية قرر المصريون وضع حد لانتقادات الصحافة المصرية للقذافى، وبعثت القاهرة بوفد من الحكومة المصرية لمحاولة حمل القذافى على تعديل قراره.
ولم يكن من الصعب أن يخلص المتابع لهذا الأمر إلى أن العلاقات الليبية- المصرية تحكمها الأهواء والانفعالات اللحظية، لا التعاون القائم على التخطيط المنطقى.
من جانبهم كان لدى المسؤولين الليبيين الكثير من النقد للحكومة المصرية، خصوصًا فى ما أشاروا إليه من «تقدم مبارك فى العمر بدرجة لم يعد من الممكن معها أن يقدم الكثير، سواء على الصعيد الداخلى لمصر أم للعالم العربى». وعلق أحدهم قائلا «أنت تعلم أهمية مصر من حيث قيادة العالم العربى، فإذا توقفت القيادة المصرية فإن العالم العربى لا يتحرك كثيرًا، أما إذا تحركت مصر للأمام فإن العالم العربى سيتبعها».
لم تُسهم حملة إعلامية أطلقها وزير الطاقة الأمريكى «سبنسر إبراهام» فى تحسين موقف ليبيا فى العالم العربى. ففى السادس عشر من مارس اتصل بى معتوق ليعرب لى عن غضبه مما يقوم به «إبراهام» الذى أحضر عددًا كبيرًا من الصحفيين ليصوروا بأنفسهم المعدات النووية التى أرسلتها ليبيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد قرارها التخلى عن برنامج التسلح النووى، بينما وصفه «إبراهام» بأنه «انتصار كبير للغاية»، وأن هذه المعدات هى مجرد بداية لما سيصل من ليبيا. وأضاف «إبراهام» أنه «بأى معيار موضوعى، فإن الولايات المتحدة الأمريكية والعالم المتحضر بأسره أصبح أكثر أمانًا، نتيجة الجهود التى أدت إلى تخلص ليبيا من هذه المواد النووية».
وبغض النظر عن الإهانة التى تضمنتها تصريحات «إبراهام» فى حديثه عن «العالم المتحضر»، فإن تقييمه لما كان يمكن أن يتسبب فيه البرنامج النووى الليبى كان تقديرًا مبالغًا فيه إلى درجة كبيرة، خصوصًا فى ما قاله عن امتلاك ليبيا أربعة آلاف جهاز طرد، لأن معظم هذه الأجهزة لم يكن قد اكتمل. ولفت هذا الأمر انتباه المتخصصين داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، واستدعى انتقاداتهم. وكان من بين هؤلاء «ديفيد أولبرايت» رئيس واحد من أهم المعاهد المتخصصة فى دراسات الأمن النووى والذى قال «إن الحديث عن أن البرنامج الليبى كان خطيرًا جدًّا وأننا يجب أن نكون جميعًا سعداء، هو جزء من حملة دعائية مبالغ فيها يقوم بها البيت الأبيض للحصول على مكاسب سياسية».
ولقد جاء اتصال معتوق بى وأنا فى واشنطن للقاء الرئيس «بوش»، وطالبنى معتوق بالتدخل لدى الأمريكيين لوقف مثل هذه الأنشطة الدعائية التى تضر بصورة ليبيا فى الداخل وفى العالم العربى، وتجعل ليبيا تبدو وكأنها خضعت لرغبة الولايات المتحدة الأمريكية فى تفكيك برنامجها للتسلح.
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 03-10-2012, 11:57 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,986
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي

سنوات الخداع - الحلقة الثامنة عشر
لم أكن واثقًا ما إذا كان الأمريكيون غير مدركين أن ما قاموا به يمثل إحراجا لليبيا، أو ما إذا كانوا غير مهتمين بهذا الأمر من الأساس. لكن بالنسبة إلى اليبيين كان من الضرورى أن يكون واضحًا للإعلام أن قرار طرابلس التخلص من الأسلحة النووية كان قرارًا متفقًا عليه بين الطرفين، وأنه تم تنفيذه بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد مناقشة طويلة، وفى ضوء قوانين دولية، وتحت إشراف منظمة دولية. ولم تكن للولايات المتحدة الأمريكية الكثير من الشعبية فى العالم العربى فى هذه السنوات، وبالتالى فإن آخر ما كانت تريده ليبيا أن تبدو أنها قد خضعت لضغوط أمريكية عنيفة.
وفى اليوم التالى التقيت «بوش»، وعندما تطرق الحديث إلى ليبيا أعرب لى عن شكره للتعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ومن جانبى أشرت إلى الحساسيات التى تحيط بالتعامل فى هذا الملف، وأشرت على وجه الخصوص إلى الاستياء الليبى جراء الطريقة التى تم بها عرض المعدات الليبية أمام وسائل الإعلام. وأضفت أنه ينبغى على الولايات المتحدة الأمريكية أن تتوخى الحذر فى أن لا تصور القذافى أمام العالم العربى على أنه الرجل الذى خان أمته من أجل العلاقات مع الغرب، مشيرًا إلى أن القذافى لا يحتاج إلى المزيد من النقد فى هذه اللحظة، وأن استمرار أمريكا وبريطانيا فى تصويره على أنه رجل مهزوم لن يخدم على الإطلاق مستقبل العلاقات بين ليبيا وكل من أمريكا وبريطانيا.
ولقد تفهم «بوش» الأمر على الفور وقرر إلغاء استعراض آخر لوصول المعدات الليبية إلى أمريكا بناءً على أوامره. وقال لى «بوش» إنه سيرسل «بيل بيرنز» مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط إلى ليبيا ليعرب لطرابلس عن التقدير لقرارها التخلى عن برامج أسلحة الدمار الشامل. كما أكد لى «بوش» «الالتزام بتطبيع العلاقات مع ليبيا»، وطلب منى إذا ما سنحت الفرصة أن أنقل مودته إلى القذافى.
لكن التعقيدات المحيطة بتعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع ليبيا لم تنته، ففى مايو 2004 أخبرنى معتوق أن «جون بولتون» يلح على ليبيا لتوقيع اتفاقية ثنائية بشأن أسلحة الدمار الشامل مع الولايات المتحدة الأمريكية. وبموجب الاتفاقية المقترحة من «بولتون» فإن واشنطن سيكون لها الحق فى اتخاذ تدابير، تشمل أعمال التفتيش، فى حال ما قامت ليبيا بخرق التزاماتها المقررة فى الاتفاقية أو فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. كما أخبرنى معتوق كذلك أن واشنطن تريد من طرابلس رفع شرط السرية المفروضة على سجلات الوكالة الدولية للطاقة الذرية الخاصة بليبيا حتى تتمكن الولايات المتحدة من الاطلاع عليها.
ونصحت معتوق بأن لا يستجيب إلى أى من المطلبَيْن، وأننى لا أوافق على أن يطَّلع أى شخص على ملفاتنا. فشرط السرية إجراء اعتيادى فى كل ما يتعلق بنظام الضمانات فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما أن ليبيا لا تحتاج إلى التوقيع على ضمانات إضافية، لأن الضمانات التى تلتزم بها ليبيا مع الوكالة كافية، وبالتالى فإن مثل هذا التوقيع لا يمكن فهمه إلا على أنه رخصة غير مبررة من ليبيا للأمريكيين للتدخل فى أى وقت. وبالطبع لم يكن من الصعب إقناع معتوق بذلك.
وفى يونية التقيت شكرى غانم، رئيس وزراء ليبيا الذى أصبح فى ما بعد وزيرا للبترول فى مؤتمر فى فرنسا. وكانت تربطنى بغانم صداقة منذ السنوات التى عمل فيها مديرا للدراسات فى منظمة الأوبك بڤيينا. وأراد غانم أن يُعرفنى بأحدهم: سيف الإسلام القذافى، ثانى أبناء العقيد القذافى، والمسؤول عن التوصل للاتفاقية بين ليبيا وأمريكا وبريطانيا حول برنامج ليبيا للأسلحة النووية.
وعندما وصلا إلى منزلى قام غانم بتقديم سيف الإسلام ثم انصرف، وكان واضحًا أن سيف الإسلام كان يسعى للحصول على النصح حول جملة من القضايا، وبدأ بطرح أسئلة حول صورة ليبيا فى الولايات المتحدة الأمريكية وفى الغرب عموما. ولم أجد هناك داعيا لمحاولة إخفاء الحقيقة أو تجميلها، فقلت له إن «الغرب لا يثق فى ليبيا، وإنه سيكون عليكم بناء الثقة معهم، وهذا الأمر سيستغرق وقتا». ثم أضفت أنه من الناحية الأخرى فإن ليبيا تثبت الآن أنها تريد أن تأخذ منحى جديدًا بوصفها عضوًا مسؤولا فى المجتمع الدولى، وهو ما يعنى أنه يحق لليبيين طلب المساعدة فى مجالات مثل التعليم والإدارة المالية وغيرها من الاحتياجات الوطنية.
وتحدث سيف الإسلام عن افتقار ليبيا للكفاءات الإدارية الرفيعة فى الحكومة، فكان اقتراحى له اعتماد آلية للتدريب تقوم على إرسال بعض من الإداريين الليبيين إلى الخارج للتدريب والاستعانة فى نفس الوقت ببعض الكفاءات الخارجية لتقديم دورات تدريبية لليبيين فى بلادهم. فى الوقت نفسه كان على ليبيا أن تعمل على تطوير بنيتها التحتية فى أسرع وقت ممكن.
ولقد لاحظت أن عزلة ليبيا عن العالم خلال العقود الماضية كانت لها أثر سلبى كبير على البلاد، ففى عام 1964 كان هناك خط طيران مباشر بين نيويورك وطرابلس، التى كانت تعد فى ذلك الوقت واحدة من المدن المزدهرة على ساحل المتوسط. وفى عام 1970 لجأ الشيخ زايد آل نهيان حاكم الإمارات إلى ليبيا ليحصل على قرض وليجرى عملية جراحية، وبالطبع منذ ذلك الحين تحولت الإمارات العربية المتحدة إلى قوة اقتصادية صاعدة، بينما تراجع حال ليبيا كثيرًا عامًا بعد آخر.
إن أسلوب القذافى فى الحكم يمكن أن يوصف على أقل تقدير بأنه مختلف، ففى أحد الأعوام قرر القذافى وقف مهنة الحلاقة لأنه لم يكن يعتقد أنها مهنة منتجة، وهو ما دفع الليبيين خلال تلك الفترة إلى أن يعتمدوا على أنفسهم فى تهذيب شعرهم، أو للحلاقة فى الخفاء.
كما كان للقذافى أيضا طريقة غريبة فى التعامل مع الشخصيات الدولية، بما فى ذلك قراره لقاء «كوفى أنان» فى خيمة فى وسط الصحراء فى منتصف الليل خلال زيارة الأمين العام للأمم المتحدة لليبيا، لأن القذافى كان مستاءً من قيام الأمم المتحدة بفرض بعض العقوبات على ليبيا مؤخرًا. وإضافة إلى ذلك فإن وصول «أنان» إلى خيمة القذافى استغرق ساعتين مر خلالهما فى دوائر عبر الصحراء فى عتمة الليل مع اختراق صمت الصحراء المطبق لأصوات حيوانات كان «أنان» لا يراها أو يعرف ماهيتها بالضبط.
وفى عام 2004 قام الرئيس الفرنسى «شيراك» لأول مرة بزيارة إلى ليبيا فأحضره القذافى أيضا إلى خيمته، وفى أثناء المباحثات دخل عمال النظافة لتنظيف الخيمة، وبعد أن انصرفوا دخلت عنزة تتجول فى الخيمة.
وإذا ما صدقت مثل هذه الروايات فلا يمكن بسهولة معرفة السبب وراء مثل هذه التصرفات غير المألوفة، وعما إذا كان السبب هو إبداء عدم رضا القذافى عن بعض السياسات التى تتبعها الأمم المتحدة أو فرنسا، أو التأكيد على أن القذافى لا يلتزم بالقواعد البروتوكولية المتعارف عليها فى التعامل مع الشخصيات الدولية الرفيعة.
وفى كل الأحوال فإن آثار عدم الخبرة الناجمة عن سنوات العزلة الطويلة على ليبيا كانت بادية فى الأوجه، سواء فى ذلك نقص الكفاءات الإدارية أم البنية التحتية المتدهورة أم السياسات الداخلية والخارجية «الفريدة» من نوعها، وذلك كله بينما ممثلو الشركات الدولية يتوافدون على ليبيا للحصول على صفقات لاستغلال الموارد الليبية.
ولا بد من القول إننى مع ذلك كنت مندهشا بأن ليبيا، على الرغم من كل العزلة التى تعرضت لها، وعلى الرغم من العقوبات الدولية التى فرضت عليها، فإنها تمكنت بسهولة من تطوير برنامج لأسلحة الدمار الشامل بما فى ذلك برنامج بدائى لتطوير السلاح النووى.
وفى الحقيقة فإننى كنت قلقا من رغبة الكثيرين فى التعامل بسرعة مع هذا الوضع، دون النظر بعمق إلى الدواعى وراء مثل هذا البرنامج النووى السرى، سواء فى ليبيا أم غيرها، والذى تم تطويره عبر عدة عقود من الزمن. فمثل هذه الدواعى لا تستأصل بتوقيع اتفاق واحد أو بعقوبات تفرض على عجل أو بحملة قصف خاطفة أو حتى بخطوات دبلوماسية متفرقة، فتفكيك المعدات والمواد الخطرة هو خطوة أولية فقط فى عملية معقدة. والتغيير الحقيقى فى مثل هذه الحالات يتطلب التزاما طويل الأجل بإقامة علاقات قائمة على الاحترام والثقة المتبادلة. والنجاح النسبى الذى يمكن أن تحققه ليبيا فى إقامة مثل هذه العلاقات مع شركائها الدوليين سيتضح فقط بمرور الوقت.
وقد كنت دائما، وما زلت، منزعجا لرغبة بعض الدول فى ممارسة الخداع وحجب المعلومات بالمخالفة لالتزاماتها الدولية: فليبيا خرقت التزاماتها المقررة حسب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وكلٌّ من أمريكا وبريطانيا حجبت عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية معلومات استخباراتية كشفت عن برنامج ليبى سرى للتسلح النووى إلى أن قررت الكشف عن هذه المعلومات فى الوقت الذى يناسبها هى، ثم قامت بعد ذلك بنشر أحاديث مبالغ فيها عن هذا البرنامج لتحقق أهدافا دعائية.
تساءلت كثيرا وما زلت: إلى أى مدى يمكن أن يتسامح المجتمع الدولى مع مثل هذه الممارسات؟ وإلى أى مدى يمكن أن تستمر قبل أن تأخذ فى النَّيل من مصداقية نظام منع التسلح النووى بكامله؟
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 04-10-2012, 12:17 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,986
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي

سنوات الخداع - الحلقة التاسعة عشر
لقد مثّل الكشف عن الشبكة السرية لعبد القدير خان الحلقة الثالثة فى سلسلة من التغيرات العميقة فى الوضع النووى حول العالم. كان التطور الأول هو خرق دول أعضاء فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لالتزاماتها المقررة فيها، بسعيها سرّا لتطوير أسلحة نووية، كما كان الحال بالنسبة إلى العراق وكوريا الشمالية. ولم تكن ليبيا سوى المثال الأحدث على ذلك. أما الحلقة الثانية فكانت قيام الإرهابيين بتفجيرات الحادى عشر من سبتمبر فى الولايات المتحدة، وهو ما جعل الكثيرين يتوقفون أمام هذا الأمر ويفكرون فى ما يمكن أن يكون عليه الحال لو أن المجموعات الإرهابية دخلت إلى سوق المواد المشعة. ورأى الخبراء النوويون أن من لديه القدرة على القيام بمثل هذا العمل المنظم والمعقد يمكن له أيضا أن يضع يديه على مواد الإشعاع، التى يمكن أن يصنع منها «قنبلة قذرة» أو الأسوأ أن يتمكنوا من الحصول على كمية كافية من المواد النووية يتمكنون بها من صُنع قنبلة نووية حتى ولو كانت بدائية. ولقد زاد القلق من مثل هذا الوضع عندما تم الكشف عن دلائل تفيد بمحاولة تنظيم القاعدة الحصول على أسلحة دمار شامل.
وتمثلت ردة فعل المجتمع الدولى على هذا الأمر فى اتخاذ سلسلة متصاعدة من الإجراءات لتقييم كيفية حماية الدول لمنشآتها النووية وللمواد المشعة التى بحوزتها. وفى خلال شهور ارتفعت ميزانية الوكالة الدولية للطاقة الذرية المخصصة لأغراض الأمن النووى من مليون دولار إلى 30 مليون دولار، وقد جاءت الزيادة فى أغلبها من إسهامات طوعية. وقامت الوكالة بإرسال فِرق للبحث فى مصير المواد المشعة المهملة فى دول الاتحاد السوفييتى السابق مثل جورجيا وغيرها. فى الوقت نفسه تم رفع مستوى التأمين الفعلى على كل محطات القوى النووية والمفاعلات البحثية وغيرها من المنشآت النووية. وتحرك العالم بموازاة ذلك لإعادة تقييم السيناريوهات المحتملة للقيام بأعمال تخريبية فى المنشآت النووية.
ولم يكن الرد على هذا التهديد موحدًا عبر العالم. فقد بادرت الدول الغربية والمنظمات الأهلية فى كثير من هذه الدول بتقديم إسهامات طوعية لدعم أعمال الأمن النووى التى تقوم بها الوكالة. غير أن الدول النامية أصرّت على أن لا تأتى هذه الزيادة من الميزانية العادية للوكالة. وفى المناقشات التى دارت فى الكواليس أشاروا إلى أن الوكالة عليها، كما جرت العادة، أن توجد التوازن المطلوب بين تقديم التمويل للنهوض بالتكنولوجيا النووية للأغراض السلمية مثل علاج مرض السرطان أو تحسين الإنتاجية الزراعية وبين تحقيق الأمن النووى، فقد كانت هذه الدول تخشى أن تصبح هذه الاستثمارات الضخمة الجديدة بندا دائما فى ميزانية الوكالة وتصبح بالتالى ملزمة بالمساهمة فيها.
وقد كان هذا الخلاف فى المواقف مؤشرًا جديدًا من ضمن مؤشرات التباين بين تعاطى دول الشمال ودول الجنوب مع الشأن النووى إجمالا. وكان عديد من الدول النامية يرى أن أخطار التهديدات النووية تستهدف فى المقام الأول الدول المتقدمة صناعيّا وغالبيتها غربية، وبالتالى فعلى الدول الغربية أن تدفع فاتورة تأمين منشآتها، وكانت هذه الرؤية قاصرة، لأن الأحداث أكدت لنا أن الأخطار تهدد كذلك الدول الصغيرة والأقل نموّا كما دلت عليه محاولات تهريب المواد النووية والمواد المشعة، وهى المحاولات التى تشير معلومات الأجهزة الأمنية فى العالم إلى أنها لا تفرق بين الدول المتقدمة والدول النامية. وقد دل على ذلك أيضا تزايد الطلب من جميع أنحاء العالم على خدمات الأمن النووى التى تقدمها الوكالة. وبالفعل فقد قامت الوكالة خلال السنوات التالية لأحداث الحادى عشر من سبتمبر بتقديم الدعم الفنى للنهوض بترتيبات حماية للمواقع النووية فى أكثر من 30 دولة، كما قامت بعقد المئات من ورش العمل والدورات التدريبية للتوعية بأسباب وطرق الأمن النووى فى أكثر من 120 دولة، ذلك إلى جانب قيامها بتوزيع ما يزيد على 3000 معدة لتقصى أى تسريبات إشعاعية وتأمين نحو 5000 مصدر للمواد المشعة فى العديد من بلدان العالم.
وفى أوائل عام 2004 كنا بصدد مواجهة تغيرات جديدة كشفت عنها التطورات التى رأيناها فى إيران وليبيا، وهى وجود سوق سوداء للمواد والمعدات النووية. ولأن كل سوق يقوم على أساس العرض والطلب فقد كان واضحًا بالنسبة إلينا أن الطلب موجود سواء من قِبل بعض الدول، أم من قِبل بعض الجماعات المتطرفة التى تسعى للحصول على المواد النووية وعلى تكنولوجيا الأسلحة النووية. أما جانب العرض فقد كان متاحًا من خلال شبكة عبد القدير خان والمتعاملين معه. وفى السنوات التالية، ومع زيادة أعمال المراقبة والمتابعة من قِبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن قاعدة البيانات لدى الوكالة رصدت أكثر من 1300 حالة لمحاولة تهريب غير مشروع للمواد النووية والمواد المشعة. لقد كنا بصدد اكتشاف سوق كبيرة للبضائع النووية تخدم كل العملاء حسب الطلب.
لكن السؤال هو: ما الذى يدفع شخصا مثل عبد القدير خان ليقوم بما قام به؟ والإجابة تأتى مما قاله خان نفسه عن ذكريات طفولته فى الهند، حيث ذكر أنه شاهد مذبحة للمسلمين على أيدى الغالبية الهندوسية. وبعد فترة ليست بالطويلة غادر خان الهند مهاجرا مع أسرته إلى باكستان، حيث استقر هناك منذ عام 1947، عندما تم تقسيم الهند إلى الهند وباكستان. وبعد نحو عقدين من الزمن وعندما كان خان يدرس فى بلجيكا للحصول على درجة الدكتوراه وقعت باكستان فى قبضة حرب طاحنة مع الهند تعرض خلالها الجيش الباكستانى لهزيمة ساحقة تم معها اقتطاع جزء من شرق باكستان ليصبح بنجلادش. وفى عام 1974 عندما قامت الهند بأول تفجيراتها النووية كان خان يعمل فى شركة «urenco» وهى إحدى الشركات العاملة فى مجال تخصيب اليورانيوم، والمملوكة لبريطانيا وألمانيا الغربية وهولندا وتقوم بإنتاج أنواع متطورة من أجهزة الطرد المركزى المستخدمة لتخصيب اليورانيوم، وهى الشركة التى سرعان ما أصبحت لاعبًا مهمّا فى سوق الوقود النووية.
ولا يمكن لأحد أن يحكم على وجه التحديد من توالى فصول هذه القصة عما إذا كان الدافع وراء تصرفات خان مرتبطا بالحماسة الوطنية، أو الرغبة فى دعم المسلمين الذين رآهم يتعرضون للقمع، أو بمجرد الطموحات والمكاسب الشخصية، ولم تمكن باكستان الوكالة الدولية للطاقة الذرية من استجواب خان بطريق مباشر حتى تستطيع أن تكوّن تصورًا وراء أهدافه وعملائه.
ولكن كان من الواضح أنه عندما عاد خان إلى باكستان ليرأس معامل البحوث الهندسية، التى سميت باسمه من بعد، فإن الموارد والإمكانات اللازمة قد سخرت له، والتى استطاع على أساسها أن يحقق نقلة كبرى فى قدرات باكستان النووية. ولقد لجأ خان فى ذلك لاستخدام معلومات وتكنولوجيا استحوذ عليها بطريقة غير قانونية من خلال عمله فى شركة «urenco» شملت تصميمات لأجهزة الطرد ومجموعة كبيرة من قوائم الاتصالات وأسماء الشركات التى يمكن من خلالها شراء المعدات والمواد اللازمة لتخصيب اليورانيوم وغيرها من أجزاء دورة الوقود النووى. وإلى جانب تطوير القدرات النووية الباكستانية فمن المؤكد أن خان استخدم السوق النووية السوداء والتى بدأت فى التوسع منذ الثمانينيات فى أن يحقق لنفسه ثروة تقدر بـ400 مليون دولار. واستمر خان فى عمله هذا لمدة سنوات، وعندما تم كشف ما يقوم به فإن الشبكة التى كوَّنها كانت قد توسعت وتوغلت بشكل كبير على المستوى الدولى.
وبعد أن حصلنا على أول حصيلة من المعلومات حول ما كان خان يقوم به فى إيران وفى ليبيا قام «أوللى هاينونين»، أحد المدراء المسؤولين عن نظام الضمانات بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعملية دراسة وبحث موسَّعَيْن فى نشاط هذه الشبكة غير القانونية. ومن خلال هذه الدراسة والتحريات اللتين اشترك فيهما مع «هاينونين» عدد كبير من المعاونين تمكنَّا من أن نضع أيدينا على معلومات مهمة حول المتعاونين مع خان، ووسائل تحويل الأموال فى إطار هذه الشبكة، بل ووضعنا أيدينا أيضا على أسماء بعينها وتواريخ محددة لتحويلات مالية تمت عبر بنوك تم رصدها لعمليات إمداد الجهات والدول المختلفة بهذه المواد والتكنولوجيا النووية، إلى جانب قائمة بأسماء الوسطاء.
وبالطبع فإنه بالتوازى مع عملنا هذا كانت أجهزة المخابرات الرئيسية فى العالم تقوم بدورها بعمليات الرصد للأذرع المختلفة لهذه الشبكة غير القانونية وكانت تمدنا بمعلومات مهمة تساعدنا فى عملنا المتعلق بالكشف عن تفاصيل البرامج النووية سواء فى إيران أم ليبيا أم كوريا الشمالية أم غيرها.
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 04-10-2012, 12:18 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,986
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي

سنوات الخداع - الحلقة التاسعة عشر
لقد مثّل الكشف عن الشبكة السرية لعبد القدير خان الحلقة الثالثة فى سلسلة من التغيرات العميقة فى الوضع النووى حول العالم. كان التطور الأول هو خرق دول أعضاء فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لالتزاماتها المقررة فيها، بسعيها سرّا لتطوير أسلحة نووية، كما كان الحال بالنسبة إلى العراق وكوريا الشمالية. ولم تكن ليبيا سوى المثال الأحدث على ذلك. أما الحلقة الثانية فكانت قيام الإرهابيين بتفجيرات الحادى عشر من سبتمبر فى الولايات المتحدة، وهو ما جعل الكثيرين يتوقفون أمام هذا الأمر ويفكرون فى ما يمكن أن يكون عليه الحال لو أن المجموعات الإرهابية دخلت إلى سوق المواد المشعة. ورأى الخبراء النوويون أن من لديه القدرة على القيام بمثل هذا العمل المنظم والمعقد يمكن له أيضا أن يضع يديه على مواد الإشعاع، التى يمكن أن يصنع منها «قنبلة قذرة» أو الأسوأ أن يتمكنوا من الحصول على كمية كافية من المواد النووية يتمكنون بها من صُنع قنبلة نووية حتى ولو كانت بدائية. ولقد زاد القلق من مثل هذا الوضع عندما تم الكشف عن دلائل تفيد بمحاولة تنظيم القاعدة الحصول على أسلحة دمار شامل.
وتمثلت ردة فعل المجتمع الدولى على هذا الأمر فى اتخاذ سلسلة متصاعدة من الإجراءات لتقييم كيفية حماية الدول لمنشآتها النووية وللمواد المشعة التى بحوزتها. وفى خلال شهور ارتفعت ميزانية الوكالة الدولية للطاقة الذرية المخصصة لأغراض الأمن النووى من مليون دولار إلى 30 مليون دولار، وقد جاءت الزيادة فى أغلبها من إسهامات طوعية. وقامت الوكالة بإرسال فِرق للبحث فى مصير المواد المشعة المهملة فى دول الاتحاد السوفييتى السابق مثل جورجيا وغيرها. فى الوقت نفسه تم رفع مستوى التأمين الفعلى على كل محطات القوى النووية والمفاعلات البحثية وغيرها من المنشآت النووية. وتحرك العالم بموازاة ذلك لإعادة تقييم السيناريوهات المحتملة للقيام بأعمال تخريبية فى المنشآت النووية.
ولم يكن الرد على هذا التهديد موحدًا عبر العالم. فقد بادرت الدول الغربية والمنظمات الأهلية فى كثير من هذه الدول بتقديم إسهامات طوعية لدعم أعمال الأمن النووى التى تقوم بها الوكالة. غير أن الدول النامية أصرّت على أن لا تأتى هذه الزيادة من الميزانية العادية للوكالة. وفى المناقشات التى دارت فى الكواليس أشاروا إلى أن الوكالة عليها، كما جرت العادة، أن توجد التوازن المطلوب بين تقديم التمويل للنهوض بالتكنولوجيا النووية للأغراض السلمية مثل علاج مرض السرطان أو تحسين الإنتاجية الزراعية وبين تحقيق الأمن النووى، فقد كانت هذه الدول تخشى أن تصبح هذه الاستثمارات الضخمة الجديدة بندا دائما فى ميزانية الوكالة وتصبح بالتالى ملزمة بالمساهمة فيها.
وقد كان هذا الخلاف فى المواقف مؤشرًا جديدًا من ضمن مؤشرات التباين بين تعاطى دول الشمال ودول الجنوب مع الشأن النووى إجمالا. وكان عديد من الدول النامية يرى أن أخطار التهديدات النووية تستهدف فى المقام الأول الدول المتقدمة صناعيّا وغالبيتها غربية، وبالتالى فعلى الدول الغربية أن تدفع فاتورة تأمين منشآتها، وكانت هذه الرؤية قاصرة، لأن الأحداث أكدت لنا أن الأخطار تهدد كذلك الدول الصغيرة والأقل نموّا كما دلت عليه محاولات تهريب المواد النووية والمواد المشعة، وهى المحاولات التى تشير معلومات الأجهزة الأمنية فى العالم إلى أنها لا تفرق بين الدول المتقدمة والدول النامية. وقد دل على ذلك أيضا تزايد الطلب من جميع أنحاء العالم على خدمات الأمن النووى التى تقدمها الوكالة. وبالفعل فقد قامت الوكالة خلال السنوات التالية لأحداث الحادى عشر من سبتمبر بتقديم الدعم الفنى للنهوض بترتيبات حماية للمواقع النووية فى أكثر من 30 دولة، كما قامت بعقد المئات من ورش العمل والدورات التدريبية للتوعية بأسباب وطرق الأمن النووى فى أكثر من 120 دولة، ذلك إلى جانب قيامها بتوزيع ما يزيد على 3000 معدة لتقصى أى تسريبات إشعاعية وتأمين نحو 5000 مصدر للمواد المشعة فى العديد من بلدان العالم.
وفى أوائل عام 2004 كنا بصدد مواجهة تغيرات جديدة كشفت عنها التطورات التى رأيناها فى إيران وليبيا، وهى وجود سوق سوداء للمواد والمعدات النووية. ولأن كل سوق يقوم على أساس العرض والطلب فقد كان واضحًا بالنسبة إلينا أن الطلب موجود سواء من قِبل بعض الدول، أم من قِبل بعض الجماعات المتطرفة التى تسعى للحصول على المواد النووية وعلى تكنولوجيا الأسلحة النووية. أما جانب العرض فقد كان متاحًا من خلال شبكة عبد القدير خان والمتعاملين معه. وفى السنوات التالية، ومع زيادة أعمال المراقبة والمتابعة من قِبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن قاعدة البيانات لدى الوكالة رصدت أكثر من 1300 حالة لمحاولة تهريب غير مشروع للمواد النووية والمواد المشعة. لقد كنا بصدد اكتشاف سوق كبيرة للبضائع النووية تخدم كل العملاء حسب الطلب.
لكن السؤال هو: ما الذى يدفع شخصا مثل عبد القدير خان ليقوم بما قام به؟ والإجابة تأتى مما قاله خان نفسه عن ذكريات طفولته فى الهند، حيث ذكر أنه شاهد مذبحة للمسلمين على أيدى الغالبية الهندوسية. وبعد فترة ليست بالطويلة غادر خان الهند مهاجرا مع أسرته إلى باكستان، حيث استقر هناك منذ عام 1947، عندما تم تقسيم الهند إلى الهند وباكستان. وبعد نحو عقدين من الزمن وعندما كان خان يدرس فى بلجيكا للحصول على درجة الدكتوراه وقعت باكستان فى قبضة حرب طاحنة مع الهند تعرض خلالها الجيش الباكستانى لهزيمة ساحقة تم معها اقتطاع جزء من شرق باكستان ليصبح بنجلادش. وفى عام 1974 عندما قامت الهند بأول تفجيراتها النووية كان خان يعمل فى شركة «urenco» وهى إحدى الشركات العاملة فى مجال تخصيب اليورانيوم، والمملوكة لبريطانيا وألمانيا الغربية وهولندا وتقوم بإنتاج أنواع متطورة من أجهزة الطرد المركزى المستخدمة لتخصيب اليورانيوم، وهى الشركة التى سرعان ما أصبحت لاعبًا مهمّا فى سوق الوقود النووية.
ولا يمكن لأحد أن يحكم على وجه التحديد من توالى فصول هذه القصة عما إذا كان الدافع وراء تصرفات خان مرتبطا بالحماسة الوطنية، أو الرغبة فى دعم المسلمين الذين رآهم يتعرضون للقمع، أو بمجرد الطموحات والمكاسب الشخصية، ولم تمكن باكستان الوكالة الدولية للطاقة الذرية من استجواب خان بطريق مباشر حتى تستطيع أن تكوّن تصورًا وراء أهدافه وعملائه.
ولكن كان من الواضح أنه عندما عاد خان إلى باكستان ليرأس معامل البحوث الهندسية، التى سميت باسمه من بعد، فإن الموارد والإمكانات اللازمة قد سخرت له، والتى استطاع على أساسها أن يحقق نقلة كبرى فى قدرات باكستان النووية. ولقد لجأ خان فى ذلك لاستخدام معلومات وتكنولوجيا استحوذ عليها بطريقة غير قانونية من خلال عمله فى شركة «urenco» شملت تصميمات لأجهزة الطرد ومجموعة كبيرة من قوائم الاتصالات وأسماء الشركات التى يمكن من خلالها شراء المعدات والمواد اللازمة لتخصيب اليورانيوم وغيرها من أجزاء دورة الوقود النووى. وإلى جانب تطوير القدرات النووية الباكستانية فمن المؤكد أن خان استخدم السوق النووية السوداء والتى بدأت فى التوسع منذ الثمانينيات فى أن يحقق لنفسه ثروة تقدر بـ400 مليون دولار. واستمر خان فى عمله هذا لمدة سنوات، وعندما تم كشف ما يقوم به فإن الشبكة التى كوَّنها كانت قد توسعت وتوغلت بشكل كبير على المستوى الدولى.
وبعد أن حصلنا على أول حصيلة من المعلومات حول ما كان خان يقوم به فى إيران وفى ليبيا قام «أوللى هاينونين»، أحد المدراء المسؤولين عن نظام الضمانات بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعملية دراسة وبحث موسَّعَيْن فى نشاط هذه الشبكة غير القانونية. ومن خلال هذه الدراسة والتحريات اللتين اشترك فيهما مع «هاينونين» عدد كبير من المعاونين تمكنَّا من أن نضع أيدينا على معلومات مهمة حول المتعاونين مع خان، ووسائل تحويل الأموال فى إطار هذه الشبكة، بل ووضعنا أيدينا أيضا على أسماء بعينها وتواريخ محددة لتحويلات مالية تمت عبر بنوك تم رصدها لعمليات إمداد الجهات والدول المختلفة بهذه المواد والتكنولوجيا النووية، إلى جانب قائمة بأسماء الوسطاء.
وبالطبع فإنه بالتوازى مع عملنا هذا كانت أجهزة المخابرات الرئيسية فى العالم تقوم بدورها بعمليات الرصد للأذرع المختلفة لهذه الشبكة غير القانونية وكانت تمدنا بمعلومات مهمة تساعدنا فى عملنا المتعلق بالكشف عن تفاصيل البرامج النووية سواء فى إيران أم ليبيا أم كوريا الشمالية أم غيرها.
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 03:46 AM.