#1
|
|||
|
|||
وظيفة العلماء في تثبيت الأمراء .. نموذج تاريخي
أسوق إليكم نصاً جلياً متميزاً جرى الحديث فيه بين القاضي الفاضل وزير صلاح الدين وبين صلاح الدين الأيوبي رحمة الله عليهما ، وهو يوضح بجلاء مهمة العلماء في تثبيت المجاهدين و ولاة الأمور . ومناسبة هذا النص أن صلاح الدين رحمه الله تعالى كان قد اشتكى لوزيره القاضي الفاضل تباطؤ نجدة سائر الأمراء له ، و أنه يكاد ينفرد بالقيام بجهاد الكفار الصليبين ، وكان صلاح الدين على أسوار عكا مرابطاً ، وكان وزيره القاضي الفاضل في مصر مساعداً لابن صلاح الدين الوالي عليها ، فتأمل أخي القارئ عظمة هذا النص و جمال معانيه . قال القاضي رحمه الله تعالى : (( ولا شبهة أن مولانا - عز نصره - في أشغال شاغلة ،وأمور متشددة ، وقضايا غير واحدة ولا متعددة ، ولكن قد ابتلي الناس فصبروا ، وأضجرتهم الأيام فما ضَجِروا ، وأي عبادة أعظم من عبادته التي قام بهاوالناس عنها قعود ،وصبر في طلب جنتها على ناري الحرب و الوقت ذواتي الوقود . غير أن مولانا إذا ذكر نصيبه من الإقدام فلا ينسى نصيبه من الحزم ، و لا يعجل يالأمور الخطيرة ، ولا يُقدم بالعدد القليل على العدة الكثيرة ، فالمولى إذا أقبل كان واحداً و إذا أدبر كان مُقَوَّماً بجميع الخلق ولا يطمع بأن يقوّم به الألف ، ولا يكره المولى أن تطول مدة الابتلاء بهذا العدو فثوابه يطول ، و حسناته تزيد ، وأثره في الإسلام يبقى ، وفتوحاته بمشيئة الله يعظم موقعها و العاقبة للتقوى ، ولينصرن الله من ينصره ، والله تعالى يشكر لمولانا جهاده بيده وبرأيه ، وبولده و بخاصته ، وبعامة جنده )) . ومن كتاب آخر : (( إنما أُتينا من قِبَل أنفسنا ، ولو صدقناه لعجل لنا عواقب صدقنا ، ولو أطعناه لما عاقبنا بعدوّنا ، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به ، فلا يستخصم أحد إلا عمله ، ولا يلم إلا نفسه ، ولا يرج إلا ربه ، ولا تنتظر العساكر أن تكثر ، ولا الأموال أن تحضر ، ولا فلان الذي يُعتقد عليه أن يقاتل ، ولا فلان الذي ينتظر أنه يسير ، فكل هذه مشاغل عن الله ليس النصر بها ولا نأمن أن يكلنا الله إليها ، والنصر به واللطف منه ، والعادة الجميلة له ، و نستغفر الله سبحانه من ذنوبنا فلولا أنها مَسَدُّ طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل ، وفيض دموع الخاشعين قد غسل ، ولكن في الطريق عائق ، خار الله لمولانا في القضاء السابق واللاحق . والآراء تختلف بحضرتك ، والمشورات تتنوع بمجلسك ، فقائل : لم لا نتباعد عن المنزلة ، و آخر: لم لا نميل إلى المصالحة ، و متندم على فائت ما كان فيه حظ ، ومشير بمستقبل ما يلوح فيه رشد ، و مشير بالتخلي عن عكا ، وما كأنها طليعة الجيش ولا خَرَزة السلك إن وهت تداعى السلك ، فألهمك الله قتل الكافر ، وخلاف المخذّل ، والتجلد و تحت قدمك الجمر ، و أفرشك الطمأنينة و تحت جنبك الوعر . لا شبهة أن المملوك قد أطال ، ولكن قد اتسع المجال ، وما مراده إلا أن يشكر الله على ما اختاره له ويسره عليه ، وحببه إليه ، فرب ممتحن بنعمة ، ورب منعَم عليه بمشقة ، و كم مغبوط بنعمة هي داؤه ، ومرحوم من بلوى هي دواؤه ، ويريد المملوك بهذا أن لايتغير لمولانا - أبقاه الله - وجه عن بشاشة ، ولا صدر عن سَعة ، ولا لسان عن حسنة ، ولا تُرى منه ضجرة ، ولا تُسمع منه نهره ، فالشدة تذهب و يبقى ذكرها ، و الأزمة تنفرج و يبقى أجرها ، وكما لم يُحدث استمرار النعم لمولانا - عز نصره - بطراً فلا تُحدث له ساعات الامتحان ضجراً . و المملوك بأن يسمع أن مولانا - عز نصره - على ما يعهده من سعة صدر أسرُّ منه بما يسمعه من بشائر نصره ، وياليتني كنت معهم ، وماذا كانت تصنع الأيام إما شيباً من مشاهدة الحروب ، فقد شبنا والله من سماع الأخبار ، أو غُرماً يمكن خُلفه من الوفر فقد غرمنا والله في بُعد مولانا ما لا خُلف له من العمر ، أو مرض جسم فخيره ما كان الطبيب حاضره ، ولقد مرضنا أشد المرض لفراقه غير أن التجلد ساتره )).كنت قد سقت في الحلقة الماضية نصاً ثميناً لمكاتبة جرت بين صلاح الدين المقيم في عكا مرابطاً و وزيره القاضي المقيم في مصر ، و كان الحديث بينهما قد جرى بمناسبة تألم صلاح الدين من تباطأ نصرة سائر الأمراء له . وها أنذا أسوق نصاً آخر مكملاً لذلك النص الأول حيث يقول القاضي الفاضل : (( يا مولانا: أليس الله تعالىاطلع على قلوب أهل الأرض فلم يؤهل ولم يستصلح ولم يختر ولم يُسهل ولم يستعمل ولم يستخدم في إقامة دينه و إعلاء كلمته و تمهيدسلطانه وحماية شعاره و حفظ قبلة موحديه إلا أنت ، هذاوفي الأرض من هو للنبوة قرابة ، ومَن له المملكة وراثة ، ومن له في المال كثرة ، ومن له في العدد ثروة ، فأقعدهم و أقامك و كسَّلهم ونشَّطك ، وقبضهم وبسطك ، وحبب الدنيا إليهم و بغَّضها إليك ، و صعبها عليهم وهونها عليك ، و أمسك أيديهم و أطلق يدك ، و أغمد سيوفهم و جرّد سيفك ، وأشقاهم و أنعم عليك ، وثبطهم و سيرك : (( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عُدة ولكن كرِه الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين )). نعم و أخرى أهم من الأولى أنه لما اجتمعت كلمة الكفر من أقطار الأرض وأطراف الدنيا ما تأخر منهم متأخر ولا استبعد المسافة بينك و بينهم مستبعد ، وخرجوا من ذات أنفسهم الخبيثة ، لا أموال تنفق فيهم ، ولا ملوك تحكم عليهم ، ولا عصا تسوقهم ،ولا سيف يزعجهم ، مُهطعين إلى الداعي ، ساعين في أثر الساعي ، وهم من كل حَدَب ينسلون ، و من كل بر وبحر يقبلون ، كنت يا مولانا - كما قيل - أبقاك الله : ولست بملك هازم لنظيره **** ولكنك الإسلام للشرك هازم هذا وليس لك من المسلمين كافة مساعدة إلا بدعوة ولا مجاهد معك إلا بلسانه ، ولا خارج معك إلا بهمّ ، ولا خارج بين يديك إلا بالأجرة ، ولا قانع منك إلا بزيادة ، تشتري منهم الخطوات شبراً بذراع ، و ذراعاً بباع ، تدعوهم إلى الله و كأنما تدعوهم إلى نفسك ، و تسالهم الفريضة كأنك تكلفهم النافلة ، و تعرض عليهم الجنة وكأنك تريد أن تستأثر بها دونهم )). ومن كتاب آخر : ((و عسكرنا لا يشكو - والحمد لله - منه خوراً ، و إنما يشكو منه ضجراً ، والقوى البشرية لا بد أن يكون لها حدّ ، والأقدار الإلهية لها قصد ، و كل ذي قصد خادم قصدها ، و واقف عند حدها ، و إنما ذكر المملوك هذا ليرفع المولى من خاطره مقت المتقاعس من رجاله كما يثبت فيه شكر المسارع من أبطاله ، قال تعالى : (( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر )) . أختم لك أخي القارئ النقل عن القاضي الفاضل الذي ثبّت به صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى يوم أن تباعدت بهم الديار ، فالقاضي الفاضل بمصر ، و ذاك مرابط على أسوار عكا رحمهما الله تعالى ، وتمام النص هذا يفهم منه كيف كانت راية الجهاد صافية و مفاهيمه واضحة ظاهرة متوافقة مع أحكام الشرع المطهر ، فكان مما قاله له : (( ولا بد أن تنفذ مشيئة الله في خلقه ، لا رادَّ لحكمه ، فلا يتسخط مولانا بشيء من قدره ، فلأن يجري القضاء وهو راض مأجور خير من أن يجري وهو ساخط موزور ، من شكا بثه وحزنه إلى الله شكا إلى مشتكى و استغاث بقادر ، ومن دعا ربه خفياً استجاب له استجابة ظاهرة ، فلتكن شكوى مولانا إلى الله خفية عنا ، ولا يقطع الظهور التي لا تشد إلا به ، ولا يُضيّق صدوراً لا تنفرج إلا منه ، وما شرد الكرى ، و أطال على الأفكار ليل السُّرى إلا ضائقة القوت بعكا ، ولم يبق إلا ضعف نعم المعين عليه ترويح النفس و إعفاؤها من الفكر ، فقد علم مولانا بالمباشرة أنه لا يُدبر الدهر إلا برب الدهر ، ولا ينفذ الأمر إلا بصاحب الأمر ، وأنه لا يقلّ الهم إن كثر الفكر . قد قلت للرجل المقسَّم أمرُه **** فوض إليه تنم قرير العين وكل مقترح يجاب إليه إلا ثغراً يصير نصرانياً بعد أن أسلم ، أو بلداً يخرس فيه المنبر بعد أن تكلم ، يا مولانا : هذه الليالي التي رابطت فيها والناس كارهون ، وسهرت فيها والعيون هاجعة ، و هذه الأيام التي ينادي فيها : ياخيل الله اركبي ، وهذه الساعات التي تزرع الشيب في الرؤوس هي نعمة الله عليك ، و غراسك في الجنة : (( يوم تجدُ كل نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً )) ، وهي مُجَوِّزاتك على الصراط ، وهي مثقلات الميزان ، و هي درجات الرضوان ، فاشكر الله عليها كما تشكره على الفتوحات الجليلة ، و اعلم أن مثوبة الصبر فوق مثوبة الشكر . من ربط جأش أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : (( لو كان الصبر و الشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت )) ، و بهذه العزائم سبقونا و تركونا لا نطمع في اللحاق بالغبار ، و امتدت خطاهم و نعوذ بالله من العثار ، ما استعمل الله في القيام بالحق إلا خير الخلق ، وقد عرف ما جرى في سير الأولين ، وفي أنباء النبيين ، و أن الله تعالى حرض نبيه صلى الله عليه وسلم على أن يهتدي بهداهم ، و يسلك سبيلهم ، ويقتدي بأولي العزم منهم . و ما ابتلى الله سبحانه من عباده إلا مَن يعلم أنه يصبر ، و أمور الدنيا ينسخ بعضها بعضاً و كأنَّ ما قد كان لم يكن ، و يذهب التعب ويبقى الأجر ، وإنما يقظات العين كالحلم ، و أهم الوصايا أن لا يحمل المولى هماً يضعف جسمه ، ويضر مزاجه ، و الأمَّه بنيان وهو - أبقاه الله تعالى - قاعدته ، والله يثبت تلك القاعدة القائمة في نصرة الحق . و مما يستحسن من وصايا الفرس : (( إن نزل بك مافيه حيلة فلا تعجز ، و إن نزل بك ماليس لك فيه حيلة - والعياذ بالله - فلا تجزع )) ، ورب واقع في أمر لو اشتغل عن حمل الهم به بالتدبير فيه مع مقدور الله لانصرف همه ، و ما تشاؤون إلا أن يشاء الله . هذا سلطان هو - بحول الله - أوثق منه بسلطانه ، قاتلت الملوك بطمعها و قاتل هذا بإيمانه ، و إذا نظر الله إلى قلب مولانا لم يجد فيه ثقة بغيره ، ولا تعويلاً على قوة إلا على قوته فهنالك الفرج ميعاده ، واللطف ميقاته ، فلا يقنط من روح الله ، ولا يقل متى نصر الله ، وليصبر فإنما خلق للصبر ، بل ليشكر فالشكر في موضع الصبر أعلى درجات الشكر ، وليقل لمن ابتلَى : أنت المعافي ، و ليرض عن الله سبحانه فإن الراضي عن الله هو المسلم الراضي )) . وكتب السلطان إلى القاضي الفاضل كتاباً من بلاد الفرنج يخبره عما لاح له من أمارات النصر و يقول : ما أخاف إلا من ذنوبنا أن يأخذنا الله بها. فكتب إليه الفاضل : (( فأما قول المولى : إننا نخاف أن نؤخذ بذنوبنا ، فالذنوب كانت مثبته قبل هذا المقام وفيه محيت ، و الآثام كانت مكتوبة ثم عفي عنها بهذه الساعات وعَفيت ، فيكفي مستغفراً لسان السيف الأحمر في الجهاد ، ويكفي قارعاً لأبواب الجنة صوت مقارعة الأضداد ، ولعَين الله موقفك ، وفي سبيل الله مقامك و منصرفك ، و طوبى لقدم سعت في منهاجك ، و طوبى لنفس بين يديك قَتلت و قُتلت ، و إن الخواطر تشكر الله فيك و عن شكرها لك قد شُغلت )).
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|