أكذب الناس - عبد الرازق أحمد

[أ/محمد ابراهيم]

اعتاد فلاحو قرية اسكتلندية على التجمع في إحدى ساحاتهم كل أحد لممارسة بعض الألعاب كي يروحوا عن أنفسهم بعد أسبوع كامل من الحرث والفلاحة. وكانت أغرب ألعابهم آخرها، فيها يتحلق الناس حول منصة صغيرة بوسط الميدان حول أكذب ثلة من أبناء القرية. وكان المتبارون يتنافسون فيما بينهم للحصول على لقب "أكذب الناس" ويختلقون القصص والحكايات التي لم يخطر على بال القرويين السذج انتحالها، وكان التصويت والاقتراع السري هما الوسيلة الشائعة للتحكيم بين المتبارين. ثم يكرم أكذب ثلاثة على منصة التتويج، فينال الأول حجرا كريما، ويحصل الثاني على حجر رحى، أما الثالث فيحصل على حجر مِسَنٍّ.
وذات يوم اجتمع أهل القرية كعادتهم ليحكموا بين المتبارين، فمر بهم راهب عائد لتوه من الدير، فأوقف بغلته ليستفسر عما يجري. وحين أخبره أحد القرويين بالقصة أنكر فعلتهم، وصعد على المنصة ليعظ أناسا ضلوا طريق الرب واستحلوا الكذب وقول الزور واتخذوا من الكذب صنعة يثابون عليها، وأقسم الرجل وعيناه تفيضان من الدمع حزنا على حال هؤلاء اللاهين، وفي ختام موعظته أقسم الرجل أنه لم يكذب مرة واحدة طوال عمره. وبعد أن انتهى الراهب من كلمته تقدم راعي الحفل نحوه وأحنى رأسه ووضع بين يديه الحجر الكريم وسط تصفيق الحاضرين وهتافهم.
هكذا تحولت مظاهراتنا الصاخبة فوق منصات الميادين إلى نوع من الرقص فوق جثث الشهداء ورفاق النضال. وهكذا وجد الشعب نفسه بين ثلة من المتنافسين على الأحجار غير الكريمة في سوق نخاسة تباع فيه المبادئ فوق الأرصفة ووسط الباحات وفي غرف الأحزاب الضيقة. هكذا وجدنا أنفسنا بين ثلة من الدجالين الذين يتاجرون بأصوات الشعوب ودموع الثكالى ودماء الشهداء. واكتشفنا فجأة أن فجرنا الكوني حمل كاذب، وأن النهار الوليد سَقْطٌ حملت به ليالينا السوداء الملبدة بالغبار والغيوم ذات عهر، وأن القادمين إلى بئر يوسف ليسوا تجار خلاص بل بائعي هوى ونخاسة وعِرض وتاريخ. واكتشفنا عرينا فجأة، وأصبح أقصى أمانينا أن ننعم بسلام النفي في بئر النسيان. فالنفي خير من الرقص وبيع الأصوات والأثداء لكل من يدفع الثمن.
واكتشفنا أن غيرة قابيل هي أقوى النزعات البشرية وأنها عصا الساحرة التي من شأنها أن تنقلنا جميعا فوق مقشة خشبية من قاع زجاجة القهر إلى عنقها، ثم إلى عنق زجاجة أكثر ضيقا وسماكة وغلظة. وهكذا تحول رافعو المشاعل فجأة إلى رافعي شُعَل، وتحولت نار بروميثيوس إلى نار نيرونية تتقدم نحو قصر تاريخنا لتحرقه وتأتي على ما تبقى من مستندات تبرئ ساحتنا أمام الأجيال القادمة التي ستلعن ثورتنا حتما ذات يوم.
هكذا اكتشفنا فجأة أن سارقي النار المقدسة يزيفون وعينا ويسحبون حناجرنا بأحبال غليظة من المكر والدجل الرخيص ليقودونا كالنعاج نحو قصور شهواتهم لنعبد عجلهم المقدس الذي ظنناه قد سقط للأبد تحت أقدام التاريخ ذات صياح. أخيرا وبعد طول صراع مع فلولنا المُتَثَوِّرين، وجدنا أنفسنا عرايا أمام مسالخ التاريخ كيوم ولدتنا أمهاتنا دون ورقة توت تستر خيبتنا أو جدار نحتمي به من خريف حزن كوني قادم، في انتظار نهاية مأساوية لحكاية بدأتها شهرزاد بصوتها الناعم وختمتها صناديق الاقتراع بجلبة محمومة وقلق غير مبهم. واكتشفنا بعد طول شك أننا لا نميز بين أحجارنا الملونة، وأن أصحاب القصات والمنصات هم أصحاب الرأي وأصحاب النهى وأصحاب اللاءات وأصحاب النعم.
واكتشفنا أن أصواتنا قابلة للمراهنة والمزايدة والبيع، وأن طهاة الأكاذيب هم أصحاب الشورى وأصحاب المبادرات وأصحاب الحق في المتاجرة بدماء الشهداء ودعوات المهمشين ولافتات الطرق. واكتشفنا أن طبيب الحي ليس إلا ذئبا يرتدي عباءة ثورة فقدت خصوبتها فوق أرصفة الميادين التي لم تعد تحسن الصهيل أو البكاء على الراحلين. وأدركنا أن تبديل اللافتات لايحتاج إلى مزيد من الأقمشة الملطخة بدماء يوسف، ولا إلى مزيد من الدعاية الرخيصة للرغبات المتسلقة فوق أحزان البسطاء. لأننا اكتشفنا مؤخرا أن العقاب حق على الجميع وليس فقط على ساكني غرف التاريخ المظلمة ، لأننا جميعا نجيد صناعة الأكاذيب ونستحق عن جدارة أحجار التاريخ الملونة.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات