#8
|
||||
|
||||
![]()
ولسنا نود أن نتتبع تفاصل هذه القضية الشهيرة بأكثر من ذلك، ولكن الذي نود أن ننوّه به هنا هو أن التحقيق كان يتجه في أحيان كثرة إلى ذكر الشيخ الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر، وإلى اصطياد القرائن أو الأقوال التي تثبت علمه أو علم غيره من كبار العلماء، بمشروع اغتيال كليبر بيد أن التحقيق لم يسفر في النهاية عن شيء من ذلك.
وعلى أثر التحقيق أنشئت محكمة عسكرية لمحاكمة المتهمين من تسعة أعضاء، وعقدت في اليوم التالي 15 حزيران. واستغرق هذا اليوم استجواب المتهمين، وفي اليوم التالي 16 حزيران، ألقى المدعي العام مرافعته، وكانت عنيفة ملتهبة، وطالب برؤوس المتهمين، ما عدا مصطفي أفندي البورصلي، وبعد اختتام المرافعات، أصدرت المحكمة حكمها الاتي: 1- أن تحرق لسليمان الحلبي يده اليمنى، ثم يعدم فوق الخازوق، وتترك جثته حتى تفترسها الجوارح. 2- أن يعدم عبد القادر الغزي، على الخازوق أيضاً، وأن تصادر أمواله. 3- أن يعدم كل من محمد الغزي، وعبد اللَّه الغزي، وأحمد الوالي، بقطع الرأس، ثم توضع رؤوسهم فوق الرماح، وتحرق جثثهم. وقضى ببراءة مصطفي أفندي البورصلي، وإطلاق سراحه. وفي اليوم التالي الأربعاء 26 محرّم سنة 1215 (19 حزيران سنة 1800) قام الفرنسيون بتشييع الجنرال كليبر في موكب عسكري حافل، وعلى إثر دفنه في بقعة تقع أمام باب القصر العيني، أُخذ الخمسة المحكوم عليهم، إلى التل القريب المعروف بتل العقارب، ونفذت فيهم الأحكام الصادرة عليهم. وهكذا فجع الأزهر مرة أخرى، في ظلّ الاحتلال الفرنسي، في عدد من طلابه، بعد أن فُجع في ثورة القاهرة الأولى، في عدد من علمائه، بيد أن الفجيعة كانت في كل مرة عنوان زعامته الروحية والوطنية، وكان مصرع كليبر بيد سليمان الحلبي أحد أبنائه القدماء انتقاماً للأزهر لما أصابه من اعتداء المحتلين بانتهاك حُرمه، وتدنيس قدسيته، ولم تكن "مغازاة" سليمان في سبيل اللَّه، بعيدة عن هذا المعنى. وعلى إثر دفن الجنرال كليبر، وتنفيذ الحكم في قاتله، رأى الفرنسيون أن يتخذوا نحو الجامع الأزهر بعض الإجراءات التحفظية، بعد أن اقتنعوا مما أثبته التحقيق أن الأزهر كان مهد المؤامرة، وقد أوى إليه القاتل ودبر فيه جريمته، وبعدما زادت شكوكهم في موقف علمائه، ففي يوم الجمعة 28 محرّم سنة 1215هـ (21 حزيران سة 1800) ذهب الجنرال منو إلى الأزهر، ومعه حاكم المدينة الجنرال بليار، والاغا (أي المحافظ)، وطافوا به، وأمروا بحفر بعض الأماكن للتفتيش عن السلاح، وكتبوا أسماء المجاورين (الطلاب)، في قوائم، وأمروا بأن لا يبيت بالجامع أحد من الغرباء، وأن لا يسمح بإيواء أي شخص افاقي، وأخرجوا منه سائر الطلبة الترك (ومنهم الشوام)، وتوجس المجاورون من هذه الإجراءات، فشرعوا في نقل متاعهم وكتبهم، وإخلاء الأروقة، ونقلوا الكتب الموقوفة بها إلى أماكن أخرى خارج الجامع، وساد الجامع وأروقته جو من الوحشة والركود. وعندئذٍ رأى شيخ الجامع الشيخ الشرقاوي وزملاؤه، أن استمرار الدراسة في مثل هذا الجو أمر متعذر، وأنه من الأفضل أن يغلق نهائياً، حتى تتحسن الأحوال وتزول الشكوك، ففي عصر ذلك اليوم نفسه ذهب المشايخ، الشرقاوي، والمهدي والصاوي، وقابلوا الجنرال منو، واستأذنوه في قفل الجامع وتسميره. وفي صباح اليوم التالي، أخرج سائر المجاورين، وأغلقت أبواب الجامع الشهير، وسمرت في سائر الجهات، وكانت هذه أوّل مرة في تاريخه يغلق فيها، بعد أن لبث منذ إنشائه نحو ثمانية قرون ونصف، مفتوح الأبواب لكلّ طالب وقاصد. وكذلك أغلقت مدرسة (جامع) محمد بك أبي الذهب المواجهة للجامع الأزهر وسمرت أبوابها، وأخرج منها الطلبة الأتراك. ثم عمد الفرنسيون على إثر هذه الحوادث، إلى اتباع سياسة القمع والعسف، وفرض الإتاوات الثقيلة، ونهب الدور والمتاع. وحاول الجنرال منو في نفس الوقت أن يتقرب إلى المصريين، فأعلن اعتناقه للإسلام، وتزوّج سيدة مصرية من رشيد، وتسمّى بعبد اللَّه جاك منو. وأعاد تأليف الديوان في تشرين الأول سنة 1800، بعد أن لبث معطلاً بضعة أشهر، وكان أعضاؤه في هذه المرة تسعة فقط، معظمهم أيضاً من كبار علماء الأزهر وهم: الشيخ عبد اللَّه الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر، ورئيس الديوان، والشيخ محمد المهدي، والشيخ سليمان الفيومي، والشيخ محمد الأمير، والشيخ مصطفي الصاوي، والشيخ عبد الرحمن الجبرتي، المؤرخ، والشيخ علي الرشيدي، والسيد خليل البكري، والشيخ موسى السدسي، وعُين الشيخ إسماعيل الزرقاني قاضياً، والشاعر السيد إسماعيل الخشاب، أميناً لمحفوظات الديوان وكاتباً لسلسلة التواريخ، وهي عبارة عن محاضر جلسات الديوان، وسجل الحوادث اليومية الهامة. ومما هو جدير بالذكر، أنه كان بين مشاريع الجنرال منو أن يصدر جريدة يومية بالعربية عنوانها "التنبيه" وصدر القرار بذلك بالفعل، وعين السيد إسماعيل الخشاب رئيساً لتحريرها، ولكن القرار لم ينفذ، ولم تصدر الجريدة. هذا وبينما كان الجنرال منو منهمكاً في مشاريعه، كان الإنكليز والترك، يعدون معداتهم الأخيرة لاجتياح مصر. وفي آذار سنة 1801 نزل الإنكليز إلى الإسكندرية، وهرع منو في قواته للقائهم، ونشبت بين الفريقين معركة هزم فيها الفرنسيون، وتابع الإنكليز بعد ذلك زحفهم حتى القاهرة. وتحرّك الجيش العثماني في نفس الوقت من العريش، وسار حتى وصل إلى مقربة من القاهرة، وهزمت كذلك القوات الفرنسية التي تصدّت لوقفه، وعندئذٍ تحرّج موقف الفرنسيين، وأدركوا أنه لا مفرّ من النزول على ضغط الحوادث، وقررّوا المفاوضة في عقد الصلح، وانتهت المفاوضات بين الفريقين على أن يتم جلاء الجنود الفرنسيين عن مصر، ومعهم أسلحتهم وأمتعتهم، ووقعت المعاهدة في 31 اب سنة 1801، وتم جلاء جميع الفرنسيين عن البلاد في منتصف شهر تشرين الأول، وبذلك اختتمت من تاريخ مصر صفحة مشجية، فياضة بالحوادث والمحن، ولكن فياضة في نفس الوقت بعوامل اليقظة والنهوض. وكان قد مضى على إغلاق الجامع الأزهر زهاء عام، فما كادت، تذاع أنباء الصلح، وتأهب الفرنسيين للجلاء، حتى بادر أولو الأمر بفتح أبوابه، وكنسه وتنظيفه، وإعداده لاستقبال الطلاب والأساتذة، ويضع الجبرتي تاريخ افتتاح الجامع في يوم الاثنين 24 صفر سنة 1216هـ. ويضعه علي المبارك في المحرّم سنة 1216هـ. وفي يوم الجمعة التالي حضر الوزير حسن باشا ومعه الشيخ السادات، وأديّا صلاة الجمعة بالجامع بمناسبة افتتاحه، وكان يوماً حافلاً. وكان لافتتاح الأزهر، بعدما توالى عليه خلال الاحتلال الفرنسي من الحوادث المؤسفة، أطيب وقع في النفوس
__________________
![]() العلم النافع .. صدقة جارية |
العلامات المرجعية |
|
|