#1
|
|||
|
|||
أسباب النجاة من الفتن
الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم. * أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. * أيها المسلمون إن المسلم في هذه الحياة معرَّض للفتن في دينه وديناه، ولاسيما في آخر الزمان فإنها تكثر الفتن وتتنوع، فتن الشُّبهات وفتن الشهوات، فتن تعمي وتصم، وتَغُرُّ الإنسان، وتذهب عقله، وتورده المهالك، إلا من عصمه الله. * عبادَ الله، لقد أخبرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بظهورِ الفتنِ في الدّين والدّنيا، والفتنة في الدّين تكون بما يصدّ عن الإيمان بالله جلّ وعلا والقيام بأمره واتّباع هديِ نبيّه، والفتنة بالدّنيا بما يحصُل من ال***ِ والعدوان والخوف وفعل الفواحش، وأكل الحرام وغير ذلك، عافانا الله وإياكم من ذلك. * قال صلى الله عليه وسلم: "يتقارب الزمان، ويقبض العلم، وتظهر الفتن، ويُلقى الشح، ويكثر الهرج" قالوا: وما الهرج؟ قال: «ال***» متفق عليه. * عباد الله، إنَّ الفتنَ سبب للشرور والمحن والعقوبات الإلهية وفساد البلادِ والعباد، إذَا لم تُتقى وتُحذر ويُعمل فيها بما شرعه الله عند وقوعها، يقول الله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾ [الأنفال: 25]. * قال ابن كثير تفسيره: "هذهِ الآية وإن كان المخاطَبُ بها هم صحابةَ رسولِ الله لكنَّها عامّة لكلِّ مسلم؛ لأنّ النبيَّ كان يحذِّر من الفتَن". * عبادَ الله لقد بينت الشريعةَ الإسلاميّةـ أسباب النجاة والسلامة من الفتن قبل وقوعها، كما أوضحت السبل التي ترفع أضرارها وآثارها بعدَ حُلولِها. ورسمت للأمة المسارَ الصحيحَ للتعامل معها، فينبغي للمسلم أن يعرف هذه الأسباب الشرعية التي تَقِيْهِ بإذن الله من غوائل الفتن وشرورها، ومن هذه الأسباب ما يلي: الأوّل: محاولةُ الابتعاد عن مواطِن الفتَن، ومجانبة أسبابها، والفِرار عن مواقعِها، خاصّة عامّة المسلمين، كما قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾ [الأنفال: 25]، وقال صلى الله عليه وسلم: "يوشِك أن يكونَ خيرَ مالِ المسلم غنمٌ يتبعُ بها شعَف الجبال ومواقِعَ القطر؛ يفِرّ بدينه من الفتن" أخرجه البخاري. * والبعد عن مواطن الفتن أسلم للإنسان؛ فإنه لايأمن على نفسه حينما يقترب منها ويرى بريقها، قال صلى الله عليه وسلم "ستَكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائِم، والقائم خيرٌ من المَاشي، والمَاشي فيهَا خير من السَّاعي، من تَشرَّف إليها تستَشرِفه، ومن وجَد فيها ملجأً أو معاذًا فليعُذ به" أخرجه مسلم. * السبب الثاني: الاعتصامُ بالكتاب والسنّة، فإن الاعتصام بهما سبب للنجاة من الفتن، والسلامة من الشقاق الافتراق، كما قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]. * قال ابن كثير: "قال مجَاهد وغيرُ واحد من السلف: "أن يُردَّ التنازُع في ذلك إلى الكتاب والسنّة". وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطَب النبيّ في حجّة الودَاع فقال: "يا أيّها النّاس، إنّي تركتُ فيكم ما إن اعتصَمتُم به فلن تضلّوا أبداً: كتابَ الله وسنّتي" أخرجه البيهقي. * عبادَ الله، ومِن تَمَام هذا الاعتصَام ولوازمِه تحقيقُ تقوَى الله جلّ وعلا والإنابة إليه والثبَات على دينه والاستقامَة على شرعِه، فالتقوَى سبيلٌ للمخارج من الأزماتِ والمحَن ومن القلاقل والفتن، قال تعالى ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، ويقولصلى الله عليه وسلم: ((بادِروا بالأعمالِ فتنًا كقِطَع الليل المظلم، يصبِح الرجل مؤمناً ويمسِي كافراً، ويمسِي مؤمناً ويصبِح كافراً، يبيع دينَه بعرضٍ من الدنيا)) رواه مسلم. * والفتنُ إنّما يقوَى تأثيرُها وتظهَر آثارُها على ضِعاف الإيمان ومتَّبعي الشهوات، فلا تجِد الفتَن حينئذ مقاوِماً ولا مدافعاً، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلمقال: "إنَّ أمّتكم هذه جُعل عافيتها في أوّلها، وسيصيب آخرَها بلاء وأمورٌ تنكِرونَها، وتجيء فتنٌ يرقّق بعضُها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكَتي، ثم تَنكشِف، ثم تجيء الفتنة فيقول: هذِه هذه، فمَن أحبَّ أن يُزحزَح عن النار ويُدخَل الجنّة فلتأتِه منيّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليَأتِ إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتَى إليه". أخرجه مسلم. * السبب الثالث: من أسباب النجاة من الفتن عباد الله: أن يلزَم المسلمُ حالَ الفتنِ جماعةَ المسلمين وإمامَهم، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يرضَى لكم ثلاثاً، ويكرَه لكم ثلاثاً. فيرضَى لكم أن تعبدُوه ولا تشرِكوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرَّقوا. ويكرَه لكم قيلَ وقال، وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال". أخرجَه مسلم. * وقال صلى الله عليه وسلم"ثلاثُ خصالٍ لا يَغِلُّ عليهنّ قلبُ مسلمٍ أبداً: إخلاصُ العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإنَّ دعوتَهم تحيط بهم من ورائِهم) أخرجه أحمد والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. * قال ابن عبد البر: "مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ الْقَلْبُ عَلَيْهِنَّ وَمَعَهُنَّ غَلِيلًا أَبَدًا، يَعْنِي لَا يَقْوَى فِيهِ مَرَضٌ وَلَا نِفَاقٌ إِذَا أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ وَلَزِمَ الْجَمَاعَةَ وَنَاصَحَ أُولِي الْأَمْرِ. * وقال ابن تيمية: " أي هذه الخصال الثلاث لا يحقد عليها قلبُ مسلم بل يحبها ويرضاها وقال: وهذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده وتجمع الحقوق التي لله ولعباده، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة". * وقال ابن القيم: "أي لا يبقى في القلب غِلٌ ولا يحمل الغلَ مع هذه الثلاثة، بل تنفي عنه غلَّه، وتنقيه منه، وتخرجه منه". * السبب الرابع: الصّبر والحلم وعدم العَجلة، فبذلك تتقى الشرور وتَخْمدُ الفتن، ويُقطع الطريق أمام المتربِّصين، يقولسبحانه وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]. * قال شيخ الإسلام: "ولا تقَع فتنةٌ إلا مِن تَرك ما أمَر الله، فإنّه سبحَانه أمر بالحَقّ، وأمر بالصّبر، فالفتنَة إمّا من ترك الحقّ، وإمّا مِن ترك الصبر". * وعن الزبير بن عَديّ قال: أتَينا أنسَ بن مالك فشكونا إليه ما نلقَى من الحجّاج فقال: اصبروا، فإنّه لا يأتي عليكم زمانٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه حتّى تلقوا ربَّكم سمعتُه من نبيّكم. أخرجه البخاري. * السبب الخامس: الرجوعُ إلى العلماء الربانيّين الصادقين أهل البصيرة والنظر في مقاصد الشريعة ومآلات الأمور، وسؤالهم والأخذ عنهم، كما قال جل وعلا: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83]، فإن الفتن والحوادث قد تشتبه على عامة الناس ولاسيما الشباب فيسارعوا بحسن قصد وحماس إلى فعل أمور لا تحمد عقباها كما يحصل في كثير من البلاد. * قال ابن تيمية - رحمه الله -: "إذا وقعت الفتنةُ عجزَ العقلاءُ فيها عن دفع السُّفهاء، ولم يسلَم من التلوُّث بها إلا من عصمَه الله". * فاتقوا الله أيها المؤمنون، وابتعدوا قدر طاقتكم عن أسباب الفتن، واعتصموا بالكتاب والسنة عند حلولها، والجؤوا إلى الله في دفعها قال تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3]. * أقول هذا القول، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم. * الخطبة الثانية الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنِه، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه. * أما بعد: عبادَ الله، ومن اسباب النجاة من الفتن الالتجاءُ إلى سبحانه بالدعاء الصادق أن يجنّبَنا الفتن وشرورها. * ومِن الأدعية التي أمَر بها النبيّ دبر كلّ صلاةٍ بعدَ التشهّد الأخير ِ التعوّذُ بالله من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ـ * ومن الأدعية المأثورة (اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن) فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابة رضي الله عنهم بهذا الدعاء كما في صحيح مسلم. * فتعوذوا بالله تعالى من الفتن، وادعوه سبحانه أن يجنبكم إياها، فإن المؤمن لايأمن على نفسه منها، نسأل الله العافية والثبات على دينه حتى الممات، ونعوذ به من الفتن ما ظهر منها وما بطن. * أيها المسلمون في هذه الظروف القاسية التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم، من حروب و*** وعدوان وتهجير، فضلا عن فتن الشهوات ينشغل كثير من الناس بالفتن وأخبارها، ويتابعون مستجداتها ليلاً ونهارًا، في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وينشغلون عن العبادة والدعاء الذَين هما أحوج ما تكون إليهما الأمة، ولذلك ورد الترغيب في العبادة وقت الفتن كما قال صلى الله عليه وسلم "العبادة في الهرج كهجرة إليَّ". اخرجه مسلم. والمراد بالهرج هنا الفتنة. * وعلى الشباب خاصة أن يجتهدوا في تحصيل العلم الشرعي الذي يحميهم بإذن الله من غوائل الفتن، وليحذروا تضييع أوقاتهم في متابعة الأخبار وتحليل الأحداث السياسية والخوض في قضايا الأمة الكبرى، ولْيَكلوا الأمر لأهله من قادة الأمة وعلمائها فهو أصلح لدينهم ودنياهم وخير لأنفسهم وأمتهم. * هذا وأكثروا -رحمكم الله- من الصلاة والسلام على الهادي البشير والسراج المنير، فقد أمركم الله سبحانه بذلك فقال - عز وجل -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]... أ. د. إبراهيم بن صالح بن عبدالله الحميضي
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|