#1
|
|||
|
|||
لا تكن حاسدا
ما أكثرَ ما يخاف الناس من عيون الحاسدين! يقرأ العقلاء من المؤمنين سورة الفلق، ويستعيذون بالله من شرِّ كل حاسد، بينما يعلِّق الدَّهْماءُ والعامة دليلَ جهلهم بمحكمات الشرع الحنيف، بما يصور للرَّائين هذا الواقع الذي تُطالعه العيون من هذه الأشياء المعلَّقة على الأبواب والسيارات، وعلى صدور الأطفال، وعلى رقاب الدوابِّ؛ مثل: خمسة وخميسة، وكيزان الذرة الحمراء، ونعل قديم، وتمائم أخرى، كلها في ميزان الشرع من المنهيَّات والأعمال الشِّركيَّة. * بينما تميز أهل التحضُّر في مجتمعاتنا بما يُروِّجون له بالتقليد الحضاري المزعوم، على طريقة مسك الخشب، أو الإشاحة بالأصابع الخمس، ولكلِّ فريقٍ طريقتُه في دفع خطر العين الحاسدة. * وأعمق عقد المشاكل في باب الحسد، هو أن هناك قطاعاتٍ عريضةً تضمُّ الملايين من المسلمين، يتوهَّمون أن قلوبهم بعيدةٌ عن مظنات الأحقاد، وأنهم مبرَّؤون من شظايا النظرات الحاسدة للناس، وهم غُلاة التبحُّر في فنون الحسد! بل ما أكثرَ هؤلاء الذين يتوهمون النقاء والصفاء في أنفسهم إلى أبعد مدًى مع وصف غيرهم به، مع أنهم غارقون في مستنقعه، بيد أنهم يظنون أن نفوسهم بريئة من التحاسد، وعيونهم مترفعة عن سموم النظرات التي تروم زوال نِعَمِ الله عن الناس! * وليس من التعقُّل ولا حُسن الفهم - أن يثق العاقل بقول إنسانٍ مهما كان وزنُه، ويجافي ما جاء عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من الوقوع في شركِ التحاسد، وهو ضرورة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ما خلا جسدٌ من حسدٍ، ولكن الكريم يخفيه، واللئيم يُبديه"، وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم العلاج والوقاية معًا لمن وقع بمحض بشريته في لَمَّة عين، أو شرارة تحاسُدٍ في قلبه وخاطره؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ((في المؤمن ثلاثُ خصالٍ ليسَ منها خصلة إلا له منها مخرج: الطِّيَرة والحسد والظن؛ فمخرجه من الطيرة ألا يردَّه، ومخرجه من الظنِّ ألا يُحقِّقَ، ومخرجه من الحسد ألا يبغِي))؛ (البغوي في شرح السنة 6/ 499، وقال: حديث مرسل عن علقمة بن أبي علقمة)، وعبَّر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عن حدوث هذا التحاسد لعموم الأُمَّة، فقال: ((ثلاث لم تَسلمْ منها هذه الأمَّة: الحسد والظنُّ والطِّيَرةُ، ألا أُنبئُكم بالمخرج منها؟ إذا ظننْتَ فلا تُحقِّق، وإذا حسَدْتَ فلا تَبغِ، وإذا تطيَّرْتَ فامضِ))؛ (الهيتمي المكي في الزواجر 1/ 83، وقال: حديث مرسل عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه). * بيد أننا كثيرًا ما نسمعُ من كثيرٍ من الناس في دَرَج حواراتهم أو حديثهم أنهم ما حسدوا أحدًا من الناس طول حياتهم، وأن عيونهم غير جائعة إلى النعم، يدركهم الخوف الشديد من وصف الناس لهم بالتحاسد، على أساس أنه عيبٌ يُعير به بعضُهم بعضًا، لا على أنه ذنب شائن، مُهلك للزَّرع والنسل والحسنات، قاتلٌ للوئام والمحبة بين المسلمين، فكل ما يَحذرون منه هو نعتهم بالحاسدين؛ لأن ذلك عيب وفضيحة حياتيَّة محضة، ويشعر المنعوت بالتحاسد بالشنآن، ويدب الرعبُ في نفسه إذا وصفه الخلق بذلك على جهة المعايرة والتنقُّص، والأَوْلَى أن يرقُب ذاته، وأن يحاول اكتناه سرِّه بينه وبين نفسه "ومَن كتم داءَه قتَله"، فربما كانت فيه تلك الذميمة، ولو بقدرٍ ضئيل، المهم ألا يكون حاسدًا؛ خوفًا من الله، لا فزعًا من عباد الله. * وعندما يَشتهر أحدُهم بكثرة الحسد، فإن الناس ينعتوه بأنه صاحبُ عينٍ صفراءَ حاسدةٍ، كأنه متخصص في الحسد! ثم يُلصقون بثمرات عينه الصفراء تلك كلَّ بلاء واقع، وهمٍّ ليس له دافع! فكلما سقط جدارٌ، أو نفَقت دابة، أو انكسر عظم، أو دَهِمَ العبادَ بلاءٌ مستطير، نسبوا - بلا مراجعة - هذا البلاءَ إلى عين الحسود المشهورة بين القوم بالعين الصفراء. * وربما يكون للبعض الحق في صور بعينها، وعلى أشخاص بعينهم يَحِق للناس الحكم عليهم بذلك؛ لِمَا يجدونه من تطلُّعهم إلى نِعَم الله التي عند الناس، وعلى ما يسمعونه منهم من دوام الحديث عنها بنفسيَّة المتعجب من كثرتها عند غيرهم. * فهناك أشخاص كذلك على هذه الشاكلة؛ كاليهود الذين حسدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه على دينهم وإيمانهم؛ قال الله تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النساء: 54]. * والحاسد ذو خطر عظيم، ونفسية قد بلغت حدًّا من الخبث على قدر ضرره، وقد تؤثِّر عينُه في المحسود سلبًا وإضعافًا وشرًّا قد يصل إلى حد الهلاك، فتكون نظراته كسُمِّ الأراقم والعقارب، وعلى هذا فحسنات الحاسدين في مهب الريح، فقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والحسدَ؛ فإنَّ الحسد يأكل الحسناتِ، كما تأكل النارُ الحطَبَ، أو قال: العُشبَ))؛ (المنذري في الترغيب والترهيب 4/ 30، وإسناده صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه). وقال عبدالله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله، قيل له: ومن يعادي نِعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله. يقول الله تعالى في بعض الكتب: الحسود عدو نعمتي، متسخط لقضائي، غيرُ راضٍ بقسمتي. * ولمنصور الفقيه: ألا قلْ لمِن ظلَّ لي حاسدًا أتدري على مَن أسأتَ الأدبْ أسأتَ على الله في حُكْمِهِ إذا أنتَ لم ترْضَ لي ما وهَبْ (القرطبي؛ الجامع لأحكام القرآن ج3، ص251، بتحقيق هشام سمير البخاري، دار عالم الكتب – الرياض 2003م). * ولِم التحاسد في دنيا فانية، وحلالُها حسابٌ، وحرامُها عقاب، وهي صائرة كلُّها إلى زوال؟ على رأي من قال: منافسةُ الفتى فيما يزولُ على نقصانِ هِمَّتِه دليلُ ومختارُ القليل أقلُّ منه وكلُّ فوائدِ الدنيا قليلُ * ومما أُثِر في ضرر التحاسد قول ابن مالك النحوي: الحسد يسُد باب الإنصاف، ويصُد عن جميل الأوصاف. وقال الأصمعي: رأيت أعرابيًّا بلغ عمره مائة وعشرين سنة، فقلت له: ما أطولَ عمرَك! فقال: تركت الحسد فبقِيت. وقالوا: لا يَخلو السيد من ودود يَمدح، وحسودٍ يَقدح. وقيل لعبدالله بن عروة: لِمَ لزمتَ البدو وتركتَ قومك؟ فقال: وهل بقِي إلا حاسدٌ على نعمة، أو شامتٌ على نكبة. * وقال الشاعر: يا طالبَ العيش في أمنٍ وفي دَعَةٍ رغدًا بلا قترٍ صَفوًا بلا رَنَقِ خلِّصْ فؤادَك من غِلٍّ ومِنْ حسدٍ فالغِلُّ في القلب مثْلُ الغلِّ في العُنُقِ (شهاب الدين محمد بن أحمد الإبشيهي؛ المستطرف في كل فن مستظرف ص286 ط1/ 2002 م، بتحقيق د. مصطفى محمد حسين الذهبي، دار الحديث - القاهرة). * وفي معنى الغِبطة يُحمَد الحسدُ، وهي بمعنى رجاء ما للقرين والمشابه من النعم بغير تَمنِّي زوالِها، فقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلت الخضراء، ولا أقلَّت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أَوفى من أبي ذر شِبهِ عيسى ابن مريم))؛ فقال عمر بن الخطاب كالحاسد: يا رسول الله، أفتعرف ذلك له؟ قال: ((نعم، فاعرِفوه))؛ (سنن الترمذي 3802، وقال: حسنٌ غريبٌ)، وقد كان عمر بن الخطاب مغتبطًا، ولم يكُ حاسدًا؛ إذ إنه لو كان كذلك لعرَفه النبي صلى الله عليه وسلم ولنهاه عن ذلك، ولعل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يُرسِّخ المعنى في نفوس الأصحاب الكرام. وأكثر أسباب التحاسد بين الناس تتلخص في مجموع المتلاقين على الدوام؛ من جيرة وأقارب، وأرحام وأصهار، وشركاء في تجارة أو صنعة، وزملاء المهنة الواحدة والعمل المشترك، أو أرباب التنافس المجتمعي؛ كأصحاب الوظائف القيادية، والمتنافسين إلى مقاعد يترشحون لها؛ حيث يَلف الجميع ثوبَ غيرة الأقران، ومن هنا يعتمل الحسد في النفوس، وتَلتهب العيونُ الجائعة بلظاها إلى النعم التي عند الناس؛ لتمنِّي الاستحواذ والتملُّك، وقلَّما ينجو القلب، ونادرًا ما تنكسر العين عن هذا المصير. * وأخيرًا: نسوق مع كل الود بيان التبرؤ من الحسد وأهله في مجال تربية النفوس: لا تكن حاسدًا، ولا شبه حاسدٍ؛ لأنه نارٌ تتَّقِد في الصدور تؤذي صاحبها أول الناس، وهو سوس يَنخَر في القلوب يكاد يُهلكها ويُدمرها، وغُصَّة في الحلْقِ لا تَطيب معها الحياة. لا تكن حاسدًا؛ حتى لا تكون بين الناس آفةً، وهم يعلمون ذلك عنك ويُسِرُّون بالأمر لأنفسهم، وأمامك لا يعلنون، ولو أنفق الإنسان عمرَه في هذا المنحدر من المشاعر الخبيثة، ما غيَّر في أقدار الله شيئًا، وليس له من رِزقه إلا ما كتبه الله له. ومن التوفيق للعبد أن يُراجِع نفسه في كرَّات متتالية للمحاسبة العاجلة في هذا المضمار؛ حتى لا تفترس قوارضُ البغضاء والحسد المحبَّةَ بين القلوب، وحتى نَلقى الله تعالى بقلب سليم، يُبيض الله به الوجوه، وينجينا من النار. وما أجملَ وأكرم وأعطر أن يغسل الإنسان قلبَه من هذه الأدران والمنغصات قبل أن يُسلم عينيه لوفاة المنام، فلربما تكون آخر أنفاسِ العمر، فيَقضيها مع الناس على وداع سعيد بدل الأحقاد والأنكاد؛ ليَلقى أمثالَه من أصحاب القلوب المتطهرة في جنات الخلود! الشيخ حسين شعبان وهدان
__________________
|
#2
|
|||
|
|||
بارك الله فيك
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|