#1
|
|||
|
|||
الاعتزاز بالدين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8]. قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به؛ أذلنا الله»[1]. وروى الترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ، بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ»، قَالَ: كَانَ أَحَبَّهُمَا إِليهِ عُمَرُ[2]. وقال ابن مسعود رضى الله عنه: «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر»[3]. العز خلاف الذل، والعز في الأصل القوة والشدة والغلبة، يقال: عز، يعز بالفتح إذا اشتد، ورجل عزيز: منيع لا يُغلب ولا يُقهر، وعز يعز بالكسر عزًّا وعزة وعزازة وهو عزيز؛ قلَّ حتى لا يوجد[4]. قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54]. أي جانبهم غليظ على الكافرين، لين على المؤمنين. وأما قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 139]. فإن العزة تعني المنعة والقوة، والمعنى: أيطلبون - أي أهل النفاق - عند الكافرين المنعة والقوة باتخاذهم أولياء من دون أهل الإيمان[5]. ﴿ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 139] أي فإن المنعة والنصرة من عند الله الذي له المنعة، فهلَّا اتخذوا أولياء من المؤمنين حتى يعزهم الله. «أما العزة المنسوبة لله عز وجل ورسوله والمؤمنين في قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8]، فإن عزة الله قهره من دونه، وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم، وقيل: المعنى: ولله الغلبة والقوة ولرسوله وللمؤمنين، وقيل: المقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب الله تعالى، والالتجاء إلى عبوديته، والانتظام في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد»[6]. كما قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10]. وبعض الناس تجده يتنازل عن أشياء من دينه لرضى الكفار وبيان تسامح الإسلام، وهذا من الذل وليس من العز، فالمسلم يرفع رأسه بهذا الدين ويفخر به، فهو صالح لكل زمان ومكان، وهو الدِّين الذي أكمله الله فلا يحتاج إلى زيادة، ورضيه لعباده فلا يحتاجون إلى شيء بعده، قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]. وإلى الأمثلة التي تبين اعتزاز الصحابة ومن بعدهم بهذا الدِّين العظيم: المثال الأول: روى البخاري في صحيحه أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أرسل جيشًا إلى كسرى واستعمل عليهم النعمان ابن مقرن، حتى إذا كانوا بأرض العدو، خرج إليهم عامل كسرى في أربعين ألفًا، فقام ترجمان فقال: ليكلمني رجل منكم، فقال المغيرة: سل عما شئت، قال: من أنتم، قال: نحن أناس من العرب، كنا في شقاء شديد، وبلاء شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينا نحن كذلك، إذ بعث رب السموات ورب الأرضين - تعالى ذكره وجلت عظمته - إلينا نبيًّا من أنفسنا نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قُتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك رقابكم[7]. المثال الثاني: روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله ابن مسعود** رضى الله عنه قال: انطلق سعد بن معاذ معتمرًا، قال: فنزل على أمية بن خلف، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد، فقال أمية لسعد: انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت، فبينما سعد يطوف إذا أبو جهل فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة؟ فقال سعد: أنا سعد، فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمنًا وقد أويتم محمدًا وأصحابه؟ فقال: نعم، فتلاحيا بينهما، فقال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم، فإنه سيد أهل الوادي، ثم قال سعد: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام، قال: فجعل أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك، وجعل يمسكه، فغضب سعد فقال: دعنا عنك، فإني سمعت محمدًا صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟ قال: نعم، قال: والله ما يكذب محمد إذا حدَّث، فرجع إلى امرأته فقال: أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي؟ قالت: وما قال؟ قال: زعم أنه سمع محمدًا صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلي، قالت: فوالله ما يكذب محمد، قال: فلما خرجوا إلى بدر، وجاء الصريخ قالت له امرأته: أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: فأراد أن لا يخرج، فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي، فسر يومًا أو يومين، فسار معهم، ف***ه الله[8]. ويظهر في الموقف السابق شجاعة سعد وشدته على الكافرين، واعتزازه بدينه، فمع أنه بمكة لوحده، إلا أنه كان يهدد سادات قريش في عقر دارهم. المثال الثالث: لما قدم عمر الشام، عرضت له مخاضة فنزل عن بعيره، ونزع موقيه[9]، فأمسكهما بيده وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنيعًا عظيمًا عند أهل الأرض، صنعت كذا وكذا، قال: فصك في صدره، وقال: أَوَّهْ[10]، لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس، وأحقر الناس، وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله[11]. المثال الرابع: ما حصل في سنة 699هـ، وذلك أن ملك التتر غازان قدم إلى دمشق فخرج إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واجتمع به وكلمه بغلظة، فكف الله يد غازان عنه، وذلك أنه قال لترجمان الملك غازان، قل له: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا؛ فغزوتنا، وأبوك وجدك هولاكو كانا كافرين، وما عملا الذي عملت. عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت. وجرت له مع غازان وقطلوشاه وبولاي أمور قام فيها كلها لله، وقال الحق ولم يخش إلا الله. وحضر قضاة دمشق وأعيانها إلى مجلس غازان، فقدم إليهم غازان طعامًا فأكلوا إلا ابن تيمية رحمه الله، فقيل: ألا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه مما قطعتم من أشجار الناس، ثم إن غازان طلب منه الدعاء، فقال في دعائه: اللَّهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وجهادًا في سبيلك فأيده وانصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر فافعل به واصنع... يدعو عليه، وغازان يؤمن على دعائه، وقضاة دمشق قد خافوا ال*** وجمعوا ثيابهم خوفًا أن يبطش به غازان فيصيبهم من دمه، فلما خرجوا قال قاضي القضاة ابن الصعري لابن تيمية رحمه الله: كدت تهلكنا معك، ونحن ما نصحبك من هنا، فقال: ولا أنا أصحبكم[12]. المثال الخامس: ما حصل للسلطان عبدالحميد الثاني رحمه الله عندما أتى إليه اليهود وعرضوا عليه تسليم فلسطين مقابل مبالغ مالية من الذهب الخالص، فكان جوابه: إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبًا فلن أقبل، إن أرض فلسطين ليست ملكي، إنما هي ملك الأمة الإسلامية، وما حصل عليه المسلمون بدمائهم لا يمكن أن يباع، وربما إذا تفتت امبراطوريتي يومًا يمكنكم أن تحصلوا على فلسطين دون مقابل. يقول المستشرق الغربي (شاتلي): إذا أردتم أن تغزوا الإسلام وتكسروا شوكته، وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كلّ العقائد السابقة واللاحقة لها، والتي كانت السبب الأول والرئيسي لاعتزاز المسلمين وشموخهم، وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم، فعليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم، والأمة الإسلامية بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم، وكتابهم «القرآن» وتحويلهم عن كلّ ذلك بواسطة نشر ثقافتكم وتاريخكم، ونشر روح ال*****ة، وتوفير عوامل الهدم المعنوي. اهـ [13]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. [1] جزء من حديث في مستدرك الحاكم (1/ 236-237)، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال محققه: سنده صحيح. [2] برقم 3681 وقال: هذا حديث صحيح غريب، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 204) برقم 2907. [3] صحيح البخاري برقم 3684. [4] مقاييس اللغة ( 4/ 38)، والمفردات للراغب ص563، ولسان العرب: عزز (5/ 374). [5] تفسير الطبري رحمه الله (4/ 2598) بتصرف. [6] تفسير البغوي (8/ 133) بتصرف، وتفسير ابن كثير رحمه الله (2/ 435). [7] برقم 3159. [8] برقم 3632. [9] الموق الخف، النهاية (4/ 372). [10] كلمة توجع. [11] تقدم تخريجه ص27. [12] الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله للشيخ محمد عزيز شمس، والشيخ علي العمران، بإشراف الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله ص686 - 687. [13] من كتاب حقبة من التاريخ للشيخ عثمان بن محمد الخميس، مقدمة الشيخ الدكتور محمد أحمد إسماعيل المقدم للكتاب - طبعة دار الإيمان - مصر. د. أمين بن عبدالله الشقاوي
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|