التعريف بالطلاق وأحكامه العامة
نبين في هذا الفصل ماهية الطلاق وأثره الشرعي بالعدة، كما نوضح أداته أو صورته بالخارج، ثم نذكر مقصوده والحكمة من مشروعيته، وذلك في ثلاثة مباحث كما يلي.
المبحث الأول
ماهية الطلاق وأثره الشرعي بالعدة
أولًا: ماهية الطلاق أو حقيقته
إن أصول البحث الفقهي عن حكم الطلاق الشفوي للزوجة الموثق عقد زواجها بصفة رسمية عند ولي الأمر المختص يقتضي الوقوف على ماهية الطلاق أو بيان حقيقته للقاعدة الفقهية المنطقية التي تقول "إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، والتصور كما يقول الجرجاني في "التعريفات" هو "حصول صورة الشيء في العقل وإدراك الماهية من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات".
وماهية الشيء كنهه وحقيقته الذهنية. وأصل الماهية أنها جواب عن سؤال ما هو كذا، أو ما هي كذا؟ كما أن الكمية هي الجواب عن سؤال كم كذا؟. فإذا قلنا ما هو الطلاق؟ فإن الجواب عن هذا السؤال يصير ماهية للطلاق. وإذا ثبت هذا الجواب في الخارج فإنه يسمى حقيقة تجعل الشيء هو هو. أما الماهية بمعنى المرتب الشهري فهي كلمة منسوبة إلى "ماه" ومعناها بالفارسية شهر، وتجمع على ماهيات.
والطلاق في اللغة يطلق على الحل ورفع القيد، وهو اسم مصدر يستعمل استعمال المصدر. تقول: طلق تطليقًا فهو طلاق. ويرادفه الإطلاق، وقيل الطلاق يكون للمرأة والإطلاق يكون لغيرها، كما يقال طلقت المرأة وأطلق الأسير. وقد ترتب على هذا الفرق عند بعض اللغويين بين الطلاق وبين الإطلاق اختلاف عند الفقهاء في وقوع الطلاق بلفظ الإطلاق من عدمه.
أما الطلاق في اصطلاح الفقهاء فهو عند الحنفية والمالكية: "رفع قيد النكاح"، وعند الشافعية والحنابلة "حل قيد النكاح". والرفع والحل قريبان؛ لأن الرفع هو الإزالة على وجه لولاه لبقي ثابتًا، نقيض الوضع. والحل هو الانفكاك على وجه لولاه لبقي معقودًا، نقيض الشد. والمقصود بقيد النكاح ملكه وهو الاختصاص الحاجز عن التزويج بزوج آخر، كما ذكر الكاساني ت587هـ في "بدائع الصنائع".
وبهذا يتبين أن حقيقة الطلاق أو ماهيته تقوم على حل رباط الزوجية بعد أن كان معقودًا، فالواجب عند إثبات الطلاق أو الحكم به أن تتحقق إزالة رابطة الزوجية أو عصمتها على وجه يبدأ الزوجان منه ترتيب ما يعتقدان من حكم ديني. فإذا لم يتمكن الزوجان أو أحدهما من الشروع في الأثر المترتب على الطلاق بسبب عدم حدوثه على وجه يرتب أثره فلا يجوز وصفه بالطلاق اصطلاحًا؛ لأن الفقهاء اصطلحوا على تعريف الطلاق بأنه حل رباط الزوجية أو رفعه، وليس مجرد التلفظ به بلفظ مفرغ عن مضمونه لا يحدث رفعًا أو حلًا لرباط الزوجية حقيقة، ولذلك قال الماوردي (ت450هـ) من الشافعية في "الحاوي الكبير"، والمرداوي (ت885هـ) من الحنابلة في "الإنصاف" أنه قيل في تعريف الطلاق: أنه تحريم بعد تحليل كالنكاح تحليل بعد تحريم.
ثانيًا: الأثر الشرعي للطلاق بالعدة
نكتفي ببيان الأثر الشرعي بالعدة للطلاق دون سائر الآثار الأخرى كالمستحقات المالية من المتعة وحلول مؤخر الصداق والإرث بضوابطه، وكذلك المستحقات الإنسانية كالحضانة والرضاع والإحداد؛ لأن الحكم بالعدة يقطع بإزالة قيد النكاح ويثبت حقيقة الطلاق.فإذا قلنا بصحة الطلاق على حقيقته الاصطلاحية وهي "حل قيد النكاح" فإن الشرع يرتب عليه تلقائيًا بحكم الدين الإسلامي الذي يؤمن به أهله ثبوت العدة على المطلقة أو إخلاء سبيلها لتحل للخطاب بدون عدة ودون أن يتوقف هذا الأثر الشرعي على إرادة بشرية. وإذا كان الدين الإسلامي يعلق وقوع الطلاق على إرادة الزوج واختياره فإنه جعل أثر هذا الطلاق بالعدة أو عدمها سماويًا لاستنقاذ الزوجة من التعسف والشح الإنساني.
ويختلف الأثر الشرعي للطلاق لكل من الزوجين وتزداد الزوجة بأحكام العدة أو عدمها باختلاف وضع طلاقها أن يكون قبل الدخول، أو بعد الخلوة، أو بعد الدخول، كما سنوضحه بعد بإذن الله.
أما أثر الطلاق على الزوج فيعطيه الحق الشرعي أن يتزوج بأخت الزوجة ونحوها ممن لا يجوز الجمع بينها وبين زوجته كعمتها وخالتها وخامسة سواها عند أكثر أهل العلم بعد انتهاء مدة عدة مطلقته الرجعية؛ لأن الرجعية في حكم الزوجة. أما إذا كان الطلاق بائنًا بكل صوره فلا يجب على الزوج الانتظار مدة عدة مطلقته البائن عند جمهور الفقهاء خلافًا للحنفية.
والعدة في اللغة مأخوذة من العد والحساب والإحصاء. وهي في اصطلاح الفقهاء تطلق على المدة التي تتربص فيها المرأة ذات الزوج أو من في حكمه قبل زواجها من آخر بعد انتهاء الزواج السابق أو ما في حكمه. والحكمة منها مترددة بين معرفة براءة الرحم، أو الوفاء بالزوج السابق، أو التعبد دينًا.
ونذكر فيما يلي أحكام العدة للمطلقة في أوضاعها الثلاثة (قبل الدخول، أو بعد الخلوة، أو بعد الدخول).
(1)العدة للمطلقة قبل الدخول
أجمع الفقهاء على أنه لا عدة للمطلقة قبل الدخول، فإذا وقع الطلاق اصطلاحًا بانحلال قيد النكاح حقيقة لم يعد للمطلق ولاية شرعية على مطلقته قبل الدخول، وصار لها الحق الشرعي في استقبال الخطاب والزواج بمن تريد منهم؛ لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحًا جميلًا" (الأحزاب:49).
(2)العدة للمطلقة بعد الخلوة
الخلوة في اللغة اسم للمكان الخالي. تقول: خلا الرجل أي وقع في مكان خال. وتقول: خلا الرجل بزوجته وإليها ومعها، أي انفرد بها واجتمع معها في خلوة.
ويرى الحنفية أن الخلوة الصحيحة بالمعقود عليها هي التي لا يكون معها مانع من الوطء سواء كان هذا المانع حقيقيًا كالمرض وصغر السن، أو شرعيًا كالصوم والإحرام، أو طبيعيًا كالطرف الثالث المؤثر أو التواجد في الطريق العام.
ويرى المالكية أن الخلوة الصحيحة بالمعقود عليها هي خلوة الاهتداء من الهدوء والسكون بحيث يسكن كل من الزوجين لصاحبه ويطمئن إليه وتكون بإرخاء الستور أو غلق الباب، ولا يمنع من خلوة الاهتداء الموانع الشرعية كالحيض والصوم والإحرام؛ لتجرؤ الناس على تلك الموانع غالبًا.
ويرى الحنابلة أن الخلوة الصحيحة بالمعقود عليها هي التي لا يكون معها مانع طبعي من الوطء كالطرف الثالث. أما الموانع الشرعية كالحيض والصوم والموانع الحقيقية كالمرض وصغر السن فليس مانعًا من أثر الخلوة الصحيحة.
ويرى الشافعية في الجديد أن الخلوة لا تقوم مقام الدخول في ثبوت العدة أو استكمال المهر.
وقد اختلف الفقهاء في حكم العدة للمطلقة بعد الخلوة الصحيحة بها وقبل إعلان الدخول في عقد الزواج الصحيح على مذهبين في الجملة.
المذهب الأول: يرى وجوب العدة على المطلقة بعد الخلوة بها في عقد الزواج الصحيح. أما في عقد الزواج الفاسد فلا عدة على المرأة إلا بالدخول. وهو مذهب الجمهور قال به الحنفية والمالكية والحنابلة والقديم عند الشافعية. وحجتهم: (1)عموم قوله تعالى: "وقد أفضى بعضكم إلى بعض" (النساء:21). وقد قال الفراء: الإفضاء الخلوة دخل بها أو لم يدخل بها؛ لأن الإفضاء مأخوذ من الفضاء وهو الخالي، فكأنه قال: وقد خلال بعضكم إلى بعض. وبهذا وجبت العدة بالدخول الصحيح؛ احتياطًا لحق الله تعالى. (2)أن الخلوة الصحيحة قد حصل بها تسليم للمرأة نفسها، كما يحصل هذا التسليم بالدخول الشكلي، مع أن هذا الدخول قد لا يرتب دخولًا حقيقيًا ولكنه سبب يفضي إليه، فأقيم الدخول الشكلي مقام الدخول الحقيقي احتياطًا من باب إقامة السبب مقام المسبب فيما يحتاط فيه، فكذلك أقيمت الخلوة الصحيحة مقام الدخول في وجوب العدة.
المذهب الثاني: يرى عدم وجوب العدة على المطلقة بالخلوة بها دون الدخول الحقيقي أو إعلانه. وهو مذهب الشافعية في الجديد والظاهرية. وحجتهم: ظاهر قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها" (الأحزاب:49).
(3)العدة للمطلقة بعد الدخول
أجمع الفقهاء على وجوب العدة للمطلقة بعد الدخول، وهي لا تخرج عن ثلاثة أنواع بحسب حال المرأة، كما يلي.
(أ)العدة بالقروء. وهي للمطلقة التي تحيض، وعددها ثلاثة للحرائر؛ لقوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" (البقرة:228). والقرء لفظ مشترك يطلق على طهر المرأة كما يطلق على حيضها، ولذلك فقد اختلف الفقهاء في المقصود منه في عدة المرأة على مذهبين.
المذهب الأول: يرى أن المراد بالقرء في عدة المرأة الطهر. وهو مذهب الجمهور قال به المالكية والشافعية ورواية للحنابلة ومذهب الظاهرية، وروي عن عائشة وزيد بن ثابت وابن عمر وغيرهم من السلف. وحجتهم: (1)ما أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم عن ابن عمر، أنه طلق زوجته وهي حائض، فأخبر عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء". قالوا: فالرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى الطهر وأخبر أنه العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء، فصح أن القروء هي الأطهار. (2)ما أخرجه مالك في "الموطأ" عن عائشة قالت: "إنما الأقراء الأطهار".
المذهب الثاني: يرى أن المراد بالقرء في عدة المرأة الحيض. وهو مذهب الحنفية والرواية الثانية للحنابلة، وروي عن الخلفاء الأربعة وابن مسعود وغيرهم من السلف. وحجتهم: (1)أن المعهود في لسان الشرع هو استعمال القرء بمعنى الحيض، فقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن أم حبيبة بنت جحش أنها استحيضت فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنتظر أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي. كما أخرج أبو داود بسند صحيح عن عروة بن الزبير أن فاطمة بنت أبي حبيش شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم، فقال: "إنما ذلك عرق فانظري إذا أتى قرؤك فلا تصلي فإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء". (2)أن العدة شرعت لبراءة الرحم، وهذا يحصل بالحيض لا بالطهر.
(ب)العدة بالأشهر. وهي للمطلقة التي لا تحيض، وعددها ثلاثة أشهر قمرية للحرائر؛ لقوله تعالى: "واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن" (الطلاق:4). قالوا: أي واللائي لم يحضن فعدتهن كذلك ثلاثة أشهر؛ لأن الأشهر هنا بدل الأقراء. والأصل مقدر بثلاثة فكذلك البدل. قالوا وإنما كان الحساب بالأشهر القمرية لعموم قوله تعالى: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج" (البقرة:189).
(ج)العدة بوضع الحمل. وهي للمطلقة الحامل؛ لقوله تعالى: "وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن" (الطلاق:4). ولأن القصد الظاهر من العدة هو براءة الرحم، وهذا يحصل بوضع الحمل.