اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > الاقسام المميزة > مصر بين الماضى و الحاضر

مصر بين الماضى و الحاضر قسم يختص بالحضارة و التاريخ المصرى و الاسلامى

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14-06-2015, 01:47 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي قصة أصحاب الأخدود دراسة وتحليل


قصة أصحاب الأخدود (1)




محمود العشري


تمـهيد
الحمد لله وكفَى، وصلاةً وسلامًا على عبادِه الذين اصطَفى، سبحانَك لا عِلم لنا إلا ما علمْتنا؛ إنَّك أنت العليم الحَكيم، اللهمَّ علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وهيِّئ لنا مِن أمرنا رشدًا.
أما بعد:
فإنَّ الثبات على دِين الله - سبحانه وتعالى - مطلَب أساسي لكلِّ مسلم صادِق يريد سلوكَ الصراط المستقيم بعزيمة ورشد، ومِن أعظم الوسائل التي تعين على هذا الثبات: الإقبال على القُرآن والسُّنة وتدبر قصصهما ودراستها للتأسِّي والعمل.
إنَّ للقصة أثرًا عميقًا في النفوس؛ لما تحتويه من عناصِر التشويق وجوانب الاعتبار والاتِّعاظ؛ وهي وسيلةٌ يستخدمها الدُّعاة والهُداة والمصلِحون للوصول إلى قلوبِ الناس وعقولهم؛ كي يرتقوا بهم من الظلمات إلى النور، ويأخذوا بأيديهم إلى الطريقِ القويم، فيُسلِموا وجوههم إلى الله - سبحانه وتعالى.
وإنَّ هذا القرآن ليس مجرَّد كلام يُتلَى، ولكنَّه دستور شامِل؛ دستور للتربية، كما أنَّه دستور للحياة العمليَّة، ومِن ثَمَّ فقد تضمن عرْضَ تجارِب الدعوة الإيمانيَّة في الأرض من لدن آدَم - عليه السلام - وقدَّمها زادًا للأمَّة في جميع أجيالها؛ تجارِبها في الأنفس، وتجارِبها في واقِع الحياة؛ كي تكون الأمَّة على بيِّنة مِن طريقها، وهي تتزوَّد له بذلك الزاد الضخْم، وبذلك الرصيد المتنوِّع.
ومن ثَمَّ جاء القصص في القرآن والسُّنة بهذه الوفْرة الملحوظة، وبهذا التنوُّع وبهذا الإيحاء.
وكانتْ قصص بني إسرائيل هي أكثرَ القصص ورودًا في القرآن والسُّنة؛ وذلك لأسباب كثيرة، مِن أهمها: أنَّ الله - سبحانه وتعالى - عَلِم أن أجيالاً من أمة الإسلام ستمرُّ بنفس الأدوار والأطوار التي مرَّتْ بها أجيال بني إسرائيل، وأنَّ أجيالاً مِن أمَّة الإسلام ستقِف من دِينها وعقيدتها مواقفَ شبيهة بمواقِف بني إسرائيل؛ فعرَض الله - عزَّ وجلَّ - عليها مزالق الطريق مصورةً في تاريخ بني إسرائيل؛ لتكونَ لها عظةً وعبرة.
إنَّ هذا القرآن - وكذا السُّنة - يَنبغي أن يُقرأ وأن يُتلقَّى مِن أجيال الأمة المسلِمة بوعي، وينبغي أن يتدبَّر على أنه توجيهات حيَّة، تتنزل اليوم؛ لتعالج مسائل اليوم ولتنير الطريق إلى المستقبَل، لا على أنَّه مجرَّد كلام جميل يُرتَّل، أو على أنه سجل لحقيقة مضتْ ولن تعود.
ولن ننتفعَ بهذا القرآن - وكذا السُّنة - حتى نقرأه لنلتمس عندَه توجيهات حياتنا الواقِعة في يومنا وفي غدِنا؛ كما كانتِ الجماعة المسلِمة الأولى تتلقاه؛ لتتلمس عندَه التوجيه الحاضر في شؤون حياتها الواقعة، وحين نقرأ القُرآن - وكذا السُّنة - بهذا الوعي سنجِد عنده ما نُريد، وسنجد فيه عجائبَ لا تخطُر على البال الساهي!
سنجد كلماتِه وعباراتِه وتوجيهاته حيَّة، تنبض وتتحرك وتشير إلى معالِم الطريق، وتقول لنا: هذا فافعلوا، وهذا لا تفعلوه، وهذا عدوٌّ لكم وهذا صديق، وكذا فاتخذوا مِن الحيطة وكذا فاتِّخذوا من العدَّة، وتقول لنا حديثًا مفصَّلاً دقيقًا في كلِّ ما يعرض لنا من الشؤون، وسنجد عندئذٍ في القرآن متاعًا وحياة، وسنُدرِك معنَى قول الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم ﴾ [الأنفال: 24]، فهي دعوة للحياة؛ للحياة الدائمة المتجدِّدة لا لحياة تاريخيَّة محدودة في صفحة عابِرة من صفحات التاريخ.
ولقدْ قصَّ الله - سبحانه وتعالى - علينا أحسن القَصص لنأخذَ العظة والعِبرة؛ قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ﴾ [يوسف: 3].
بَيْد أنَّه لا ينتفع بهذا القصص إلا أصحابُ القلوب التقيَّة النقيَّة، وأصحاب الفِطر والعقول السويَّة؛ قال الله ربُّ البرية - سبحانه وتعالى -: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111].
فمِن خلال القَصص القرآني والنبوي تَظهر السنن الربَّانية واضحةً جلية؛ حيث يجعل الله - سبحانه وتعالى - النَّصر والتمكين للمؤمنين، ويجعل الهلاك والعذاب والنكال للكافرين والمكذِّبين؛ كما قال الله رب العالمين - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120].
فالقَصص القرآني والنبوي وسيلةٌ عظيمة من وسائل تربية الأمَّة وتثبيتها على طريقِ الحق، فبدلاً مِن أن تنشغل الأمَّة بالأكاذيب التي تُبثُّ في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، فعليها أن تنشغلَ بالقصص الحق الذي جاء في الكتاب والسُّنة؛ لتأخذَ العِظة والعِبرة، ولتعلم يقينًا أنه لا نجاة للأمَّة إلا بالعودة إلى دِين الله - سبحانه وتعالى - والسَّير على سُنة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم .
والقصَّة في القرآن والسنَّة لها أهداف ومقاصد سامية، فمن بينها:
بيان أنَّ الرسل جميعًا أُرسلوا برسالة واحدة؛ وهي الدعوةُ إلى الله - سبحانه وتعالى - وإخلاص العبادة لله الواحِد القهَّار، وأداء التَّكاليف التي أُنيطت بالناس.
بيان أنَّ القرآن مِن عند الله - سبحانه وتعالى - وأن ما اشتمَل عليه مِن قصص للسابقين لا عِلمَ به، وإنَّما علم مِن لدن الله - سبحانه وتعالى - فالرسول إنَّما يبلغ عن ربِّه القائل: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 49]، فجاء القُرآن بهذا القصص الحقّ، وحكَاه بالصِّدق؛ ليكونَ عبرةً وعِظة للناس؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ﴾ [آل عمران: 62]، وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ﴾ [الكهف: 13].
ومِن أهداف القصص القرآني: تثبيتُ فؤاد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتخفيف ما أصابه مِن أذَى قومه وحثه على الاقتداء بالأنبياء السابقين، وتبشيره بأنَّ العاقبة الحسنة ستكون له، أمَّا تثبيت فؤاده - صلَّى الله عليه وسلَّم - فنَراه في قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 49]، وأمَّا التخفيف عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لما أصابه مِن أذَى قومه، ففي قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 52 - 55].
وأمَّا دعوته إلى الاقتِداء بالأنبياء السابقين في صبْرهم فنراه في قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]، وأمَّا تبشيرُه بنصْر الله فنجده في قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأنعام: 34].
ومن أهداف القصة القرآنية:
تنبيه الإنسان مِن الغفلة والرقود، وإبعاده عن مهاوي الانحراف والسُّقوط.
التحذير مِن أخطار البُعد عنِ الاستقامة والصَّلاح والحق.
تصويب مناهِج الآدَاب والسُّلوك، والدفْع إلى الحياة الإيجابيَّة بهمَّة وعزيمة.
تصحيح العقيدة وغرْس بُذور الإيمان بالله - سبحانه وتعالى - ربًّا واحدًا.
تربية النَّفْس وتقويم السُّلوك وغرْس الشُّعور الفيَّاض بالإيمان المتوقِّد بمشاعِر الود والخير.
التذكير بأحداث الأُمم الغابِرة والأقوام البائِدة؛ الذين تنكَّبوا عن صراطِ الهداية وهَدي الأنبياء والمصلحين.
ومِن العِبَر التي نستخلصها مِن القصص القرآني:
بيان حُسن عاقبة المؤمنين؛ الذين ثبَتوا على الحق، وابتعدوا عنِ الباطل، وتابوا توبةً صادِقة، وشَكَروا الله على نِعمه؛ بأنِ استعملوها فيما يُرضي الله - سبحانه وتعالى .
بيان سوء عاقِبة المكذِّبين؛ الذين أصرُّوا على كُفرهم ولم ينصتوا لنصائح أنبيائهم؛ واستحبوا العمَى على الهُدى، وجحدوا نِعم الله بأن استعملوها فيما يسخط الله - سبحانه وتعالى .
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله-: "ولهذا قصَّ الله علينا أخبارَ الأمم المكذِّبة للرُّسل وما صارتْ إليه عاقبتهم، وأبقَى آثارهم ودِيارهم عبرةً لمن بعدَهم وموعظة، وكذلك مسخ مَن مسخ قردةً وخنازير؛ لمخالفتهم لأنبيائهم، وكذلك خسف مَن خسف به، وأرسل عليه الحجارة مِن السماء، وأغْرَقه في اليمِّ، وأرسل عليه الصيحة، وأخذه بأنواع العقوبات؛ وإنما ذلكم بسببِ مخالفتهم للرُّسل وإعراضهم عمَّا جاؤوا به، واتخاذهم أولياء مِن دونه.
وهذه سُنته - سبحانه وتعالى - فيمَن خالف رُسله وأعرض عما جاؤوا به، واتبع غيرَ سبيلِهم؛ ولهذا أبقَى الله - سبحانه وتعالى - آثارَ المكذِّبين لنعتبر بها ونتَّعظ؛ لئلاَّ نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم، كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 34 - 35]، وقال- سبحانه وتعالى -: ﴿ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الصافات: 136 - 138]؛ أي: يمرُّون عليهم نهارًا بالصباح وبالليل، ثم قال: ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾، وقال - سبحانه وتعالى - في مدائن قوم لوط: ﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ﴾ [الحجر: 74 - 76]؛ يعني: مدائنهم بطريق مقيم يرَاها المار بها، وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... ﴾ [الروم: 9].
وهذا كثيرٌ في الكتاب العزيز: يخبر الله - سبحانه وتعالى - عن إهلاك المخالفين للرُّسل ونجاة أتْباع المرسلين؛ ولهذا يذكُر - سبحانه وتعالى - في سورة الشُّعراء قِصَّة موسى وإبراهيم، ونوح وعاد وثمود، ولوط وشعيب، ويذكر لكل نبيٍّ إهلاكَه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم، ثم يختم القصة بقوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 121 - 122]، فختم القصة باسمين مِن أسمائه تقتضيهما القصة وهو: ﴿ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾، فانتقم مِن أعدائه بعزَّته وأنْجَى رسله وأتباعهم برحمته".
لقدْ كان من المتوقَّع أن يكون الانقطاع الزمني للرِّسالة قبلَ البعثة أثرًا سلبيًّا على نفوس الجماعة الصغيرة المؤمِنة الأولى التي كانتْ تعايش اغترابًا يكاد يقتُل الدفء في قلوب أفرادها، ويمكن الحيرة مِن عقولهم، ألم يكونوا يقولون ما لا يقوله الناس؟! ويفعلون ما لا يفْعل الناس؟! ويشعرون بما لا يَشعُر به الناس؟!
لقدْ كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على وعيٍ كامل بما يعتمل في نفوسهم، فلم يدَّخرْ عصبًا مِن أعصابه وهو يذود عن تلك العقيدة التي غرسَها فيهم مِن خطر النفور البشري الطبيعي من وحشةِ الاغتراب.
بَيْدَ أنَّ صُراخ الطبيعة البشرية كان أخطرَ مِن ألاَّ تتدخل العناية الإلهية في الأمر مباشرة، فاقتضتْ حِكمة الله - سبحانه وتعالى - أن يدرك الجيلُ الأولُ أنهم ليسوا منقطعين، بل موصولين إلى خِبرة بشرية عميقة تربض في عُمق الأرْض كالجبال والأشجار موصولة بجذورها في الأرْض، وأن يُدركوا أنَّ لهم إخوةً أشباهًا لهم كانوا يقولون مِثل ما هم يقولون، ويفعلون مِثل ما هم يفعلون، ويَشعُرون بما هم يشعُرون.
وهكذا امتلأ الوحيُ بالقَصص التاريخي؛ لتكونَ كلُّ قصَّة جسرًا لهم عبر الزمان يأتيهم منه الأُنس المطمئِنُ لقلوبهم، والخبرة الضابطة لحرَكتِهم، والحق المبطل لتحريف عدوِّهم، والذِّكرَى المثبتة لهم، والموعظة التي تحدوهم، حتى المقام المحمدي نفْسه كان بحاجةٍ إلى هذا التثبيت؛ ﴿ وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120].
وهكذا كانتْ قِصَّة أصحاب الأخدود، المجملة في سورة البروج، والمفصَّلة في الحديث المشهور، والمتأمَّلة بين دفتي هذا الكتاب - بإذن الله.
فمَع قصة أصحاب الأخدود، ومع سورة البروج نعيش هذه الصفحات - إن شاء الله.
سورة البروج:
المقروءة.. آيات ميسَّرة في تهجُّد مِحنة وبلاء.
والمسموعة.. صوت أنفاس أخيرة في حياة الشُّهداء.
والمكتوبة.. خدش أظافِر مستضعفة في حائِط سجن لتكون أفقًا وسماءً.
والمروية.. قصَّة تِبيان عن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم .
أصحاب الأخدود:
وقْفٌ لازم في قِراءة تاريخيَّة للدعوة.
أصحاب الأخدود:
درسٌ تامٌّ في منهجها.
أصحاب الأخدود:
تجرِبة كاملة في واقعِها.
وهذا هو الطريق
إنَّ أصل هذه القصَّة حديثٌ عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكل مَن يروي حديثًا عن الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إمَّا أن يكون مِن الرُّواة المتخصِّصين في الرِّواية - مثل أبي هريرة وابن عبَّاس - وإمَّا أن يكونَ صحابيًّا غير متخصِّص دفَعه إلى الرِّواية: إمَّا ارتباط الأحكام التي يتضمَّنها الحديث بمعيشته - مِثل عدي بن حاتِم الذي روَى أحاديث الصَّيْد؛ لأنَّه كان صيادًا - وإمَّا أن يكونَ الدافع إلى الرِّواية هو عُمق التأثر بمعاني الحديث.
وراوي هذا الحديث ممَّن دفعهم عُمق التأثُّر بالمعنى إلى الرِّواية، فهو صهيب الرُّومي الذي كان مستضعفًا في مكَّة، وأراد أن يهاجِر مع الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم يتمكَّن، فحاول الفرار بعدَ الهجرة، فعلم المشرِكون بخبره فتعقَّبوه، فلما اقتربوا منه قالوا له: جِئتنا فقيرًا فاغتنيتَ عندنا، فهل تريد أن تذهبَ بهذا المال إلى محمَّد؟! فقال لهم: إذا أخبرتُكم عن مكان المال تتركونني؟ قالوا: نعَم، فدلَّهم على مكان المال، فترَكوه، فذهَب إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأخْبَره، فقال له: ((رَبِح البيع، ربِح البيع))؛ والحديث أخرَجه الحاكمُ والطَّبراني، وقال الحاكِم: صحيح على شرْط مسلم، وصحَّحه الألباني.
وفي صُهيب نزَل قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ ﴾ [البقرة: 207].
وقدْ روَى خبَّاب بن الأرتِّ جزءًا مِن هذا الحديث عن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو الذي ذكَر فيه العَذاب الذي تعرَّض له أصحابُ الدعوة والشق بالمناشير - كما سيَجيء في القصَّة - إنْ شاء الله.
ويَكْفي لمعرفة خبَّاب أن يكونَ هو الناطق برجاء كلِّ المستضعفين حيث يقول - كما رَوى عنه البخاري -: "أتيتُ النبيَّ وهو متوسِّد بُردة وهو في ظلِّ الكعبة، وقد لقينا مِن المشركين شدَّة، فقلت: ألاَ تدْعو الله لنا؟"، وفي رواية: " ألاَ تستنصِر لنا".
كما يَكفي لمعرفة خبَّاب أن يكون آخِذَ سورة الشعراء مِن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد رَوى الإمام أحمد عن معدي كرِب قال: أتيْنا عبدالله فسألناه أن يقرأ علينا (طسم المائتين)، فقال: ما هي معي، ولكن عليكم بمَن أخذَها من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: خبَّاب بن الأرتِّ، قال: فأتينا خبَّابَ بن الأرتِّ فقرأها علينا - رضي الله عنه؛ والحديث أخرجه أحمدُ في المسند مِن طريق وكيع بن الجرَّاح عن أبيه عن أبي إسحاقَ عن معدي كرِب الهمداني عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وإنْ كان والد وكيع فيه كلام، وأبو إسحاق - هو السَّبِيعي - قد اختلَط، ومعدي كرِب لم يروِ عنه غيرُ أبي إسحاق - فيما علمتُ - وسكَت عنه البخاريُّ في التاريخ، إلا أنَّ الحافظ السيوطي قد جوَّده في الدرِّ المنثور، وصحَّحه الشيخ شاكر في شرْح المسند، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": رواه أحمد ورجالُه ثِقات، ورواه الطبراني.
تنبيه: المراد من (طسم المائتين): سورة الشعراء لا سورة القصص، يدلُّ على ذلك أمور:
منها: أنَّ المائتين هي الشعراء؛ لأنَّها (227) آية بينما القصص (88) فقط.
ومنها: أنَّ الهيثميَّ في "مجمع الزوائد" بوَّب لها (سورة طسم الشعراء).
ومنها: أنَّ السيوطي ذكَره في "الدر المنثور" تحتَ سورة الشعراء.
ومنها: أنَّ السيوطي حين ذكَره، ذكَر لفظ أبي نُعيم في الحلية وفيه: نسأله عن طسم الشعراء.
ومنها: أنَّ الشيخ شاكر شرَحه مبينًا أنَّ المراد سورة الشعراء لا القصص.
نعم ذكَره الحافظ ابن كثير عندَ سورة القصص، وكرَّره السيوطي في سورة القصص.
وفي صحيح الترمذي ملاحظةٌ في غاية الأهمية في رِواية هذا الحديث، وهي: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يذكُر مع هذا الحديث حديثًا آخَرَ عن صهيب قال: كان رسولُ الله إذا صلَّى العصر همس - والهمس في قول بعضهم: تحرّك شفتيه كأنَّه يتكلَّم - فقيل له: إنَّك يا رسولَ الله، إذا صليت العصر همستَ؟ قال: ((إنَّ نبيًّا من الأنبياء كان أعجب بأمَّته فقال: مَن يقوم لهؤلاء، فأوْحَى الله إليه أنْ خيِّرهم بين: أن أنتقم منهم، وبيْن أن أسلِّط عليهم عدوًّا لهم؟ فاختاروا النقمة، فسلَّط عليهم الموت فمات منهم في يومٍ سبعون ألفًا)).
قال: وكان إذا حدَّث بهذا الحديث حدَّث بهذا الحديث الآخَر: عن صهيب أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((كان ملك...)).
وبذِكْر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لهذين الحديثَين معًا ودائمًا يتحقَّق بُعدان أساسيان لقضية واحِدة؛ وهي قضيةُ العلاقة بين العدَد والفاعلية القدرية للعدد؛ حيث يمثِّل الحديث الأوَّل بُعد الكثرة الفاقدة لفاعليتها بالعُجب بهذه الكثرة، وهو مضمونُ الحديث الأوَّل، والقِلَّة المحقِّقة لفاعليتها بتجرُّدها مِن حولها وقوَّتها إلى حولِ الله وقوَّته، وهو مضمونُ هذا الحديث؛ حيث لم يتجاوزْ أصحاب الدعوة فيه ثلاثةَ أفراد (الراهب والغلام والجليس)، يُتَمِّم هذا البُعدَ ما ورد عن القصَّة في القرآن؛ حيث جاء قول المفسِّرين في قول الله: ﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ [البروج: 3] أنَّ الشاهِد هو يوم عرَفة، والمشهود هو يوم الجمُعة، وكلاهما يمثِّلان الكثرةَ المحقِّقة لفاعليتها بعُبوديتها وتواضعها.
ولعلَّنا ننتبه إلى أنَّ هذه الملاحظة المهمَّة؛ ملاحظة ذِكْر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - للنبي الذي أُعجب بأمته، وحديث: ((كان ملك)) واردة عن صهيب أيضًا.
إنَّه حديث المستضعَفين.
ودرْس الذين عاشوا الدعوةَ في أيَّام الآلام والعذاب.
وهذه هي القِيمة الأساسية للقصَّة.
يتبعها أنَّ القصَّة تجرِبةٌ كاملة للدعوة: ففي أحداثِها كل مراحِل العمل وأساليبه، مِن بداية الدعوة الفرديَّة إلى مرحلة الإيمان الجَماعي، متضمنة النقلة المرحليَّة الأساسية للدعوة من السِّريَّة إلى العَلنيَّة.
كما أنَّ أحداثها تحقيقٌ مباشِر لقدَر الله - سبحانه وتعالى - ممَّا يجعل هذه القصَّةَ مجالَ بحث دقيق لتحديد منهج الدعوة بتصوُّر القدَر والأسباب؛ ليصبح هذا المنهج قادرًا على تحقيقِ الواقع الإسلامي الذي نسْعَى إليه.
فعسَى الله- سبحانه وتعالى - أن يجعلَ هذه القصَّةَ العظيمة حاديًا لنا لنثبتَ على إيماننا وتوحيدنا حتى نلقَى ربنا - سبحانه وتعالى - على الإيمان والتوحيد، والله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبُنا ونِعم الوكيل.
﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 44].
محمود العشري
أولاً: القصَّة مِن كتاب الله - سبحانه وتعالى - وتفسير سورة البروج
قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ [البروج: 1 - 22].
هذه السُّورة القصيرة تعرِض حقائق العقيدة، وقواعِد التصوُّر الإيماني، أمورًا عظيمة، وتشع حولها أضواء قوية بعيدة المدَى، وراء المعاني والحقائق المباشرة التي تعبِّر عنها نصوصُها، حتى لتكاد كل آية - وأحيانًا كل كلمة في الآية - أن تفتح كوةً على عالَمٍ مترامي الأطراف مِن الحقيقة.
والموضوع المباشر الذي تتحدَّث عنه السُّورة هو حادِث أصحاب الأخدود.
والموضوع هو أنَّ فِئةً من المؤمنين السابقين على الإسلام - قيل إنَّهم مِن النصارى الموحِّدين - ابتلوا بأعداء لهم طُغاة قساة شرِّيرين، أرادوهم على ترْك عقيدتهم والارتداد عن دِينهم، فأبوا وتمنَّعوا بعقيدتهم، فشقَّ الطغاة لهم شقًّا في الأرض، وأوقدوا فيه النار، وكبُّوا فيه جماعة المؤمنين فماتوا حرقًا، على مرأًى مِن الجموع التي حشدها المتسلِّطون؛ لتشهدَ مصرَع الفئة المؤمنة بهذه الطريقة البشِعة، ولكي يتلهَّى الطغاة بمشهَد الحريق؛ حريق الآدميِّين المؤمنين: ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 8].
إنَّها القصَّة التي سجَّل الله - سبحانه وتعالى - خاتمتها في كتابه، وبيَّن النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بدايتها وسياقها؛ لتكونَ عِبرةً للمؤمنين والمؤمنات في كلِّ زمان ومكان، ولتكون حاديًا لنا جميعًا لنثبت على إيمانِنا وتوحيدنا مهما كانتِ الصعاب.
فالمؤمن الذي ذاق طعمَ الإيمان وحلاوته لا يفرِّط في دِينه ولو وضعوا المناشير فوقَ رأسه، وفصلوا لحمه عن عظمه؛ لأنَّه يعلم يقينًا أنَّ الدنيا كلها لا تساوي عندَ الله جناحَ بعوضة، وأنها ساعات معدودة سرعان ما تَنتهي، وبعدَها يقِف الإنسان بين يدي ربِّه - سبحانه وتعالى - ليسأله عن إيمانه وتوحيده، فمَن مات على التوحيد سعِد سعادةَ الدنيا والآخِرة، ومَن ترَك دِينه مِن أجل دُنياه شقِي في الدُّنيا والآخِرة.
وهكذا يكون حال أهْل التوحيد والإيمان: يشتدُّ عليهم البلاء في الدُّنيا ليسعدوا بالراحة الأبديَّة في جنة الرَّحمن - جلَّ جلاله.
وهكذا يكون ثبات أهلِ التوحيد والإيمان؛ فهم أكثرُ الناس ثباتًا أمامَ المِحن والفِتن والابتلاءات، وهم أكثرُ الناس رِضًا بقضاء الله - سبحانه وتعالى - لأنهم ينظُرون إلى الدنيا كلها بنظرة أهل الإيمان الذين يعلمون يقينًا أنَّ الدنيا بكلِّ ما فيها لا تُساوي عندَ الله جَناح بعوضة.
ويعلمون أنَّ الله - سبحانه وتعالى - سيُجبر كسر المؤمِن مع أوَّل غمسة في الجنة عندما يحطُّ المؤمن رحله في جنة الرَّحمن التي فيها ما لا عينَ رأت ولا أُذن سمعتْ ولا خطَر على قلْب بشر.
تبدأ السُّورة الكريمة بالقسَم العظيم: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴾ [البروج: 1 - 4]، فتربط بيْن السَّماءِ وما فيها من برُوج هائلة، واليومِ الموعودِ وأحداثه الضِّخام، والحشودِ التي تشهده والأحداثِ المشهودَة فيه، تربط بين هذا كله وبيْن الحادِث ونِقمة السَّماء على أصحابه البُغاة.
ثم تعرِض المشهد المفجِع في لمحات خاطِفة، تودع المشاعِر بشاعة الحادِث بدون تفصيل ولا تطويل، معَ التلميح إلى عَظمة العقيدة التي تعالتْ على فِتنة الناس مع شدَّتها، وانتصرتْ على النار وعلى الحياة ذاتها، وارتفعتْ إلى الأوج الذي يشرف الإنسان في أجياله جميعًا، والتلميح إلى بشاعة الفِعلة، وما يكمن فيها مِن بغي وشرٍّ وتسفل، إلى جانب ذلك الارْتفاع والبراءة والتطهُّر مِن جانب المؤمنين: ﴿ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴾ [البروج: 5 - 7].
بعدَ ذلك تَجِيء التعقيبات المتوالية القصيرة متضمِّنة تلك الأمور العظيمة في شأنِ الدعوة والعقيدة والتصوُّر الإيماني الأصيل: إشارة إلى ملك الله في السماوات والأرْض وشهادته وحُضوره - سبحانه وتعالى - لكلِّ ما يقَع في السماوات والأرْض: الله ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [البروج: 9].
وإشارة إلى عذاب جهنَّمَ وعذاب الحريق الذي ينتظر الطُّغاة الفَجَرة السفلة؛ وإلى نعيم الجَنَّة، ذلك الفوز الكبير، الذي ينتظر المؤمنين الذين اختاروا عقيدتَهم على الحياة، وارْتفعوا على فِتنة النار والحريق: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾ [البروج: 10 - 11].
وتلويح ببطْش الله الشديد، الذي يُبدئ ويعيد: ﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴾ [البروج: 12 - 13]، وهي حقيقة تتَّصل اتصالاً مباشرًا بالحياة التي أزهقتْ في الحادث، وتُلقي وراء الحادث إشعاعاتٍ بعيدة.
وبعدَ ذلك بعض صِفات الله - سبحانه وتعالى - وكل صِفة منها تعني أمرًا؛ ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴾ [البروج: 14] للتائبين مِن الإثم مهما عظُم وبشع، الودود لعبادِه الذين يختارونه على كلِّ شيء، والود هنا هو البَلْسَم المريح لمثل تلك القُروح!
﴿ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 15 - 16]، وهي صِفات تصوِّر الهيمنةَ المطلَقة، والقُدرة المطلَقة، والإرادة المطلَقة، وكلها ذات اتِّصال بالحادِث، كما أنَّها تطلق وراءَه إشعاعاتٍ بعيدةَ الآماد.
ثم إشارة سَريعة إلى سوابق مِن أخْذِه للطغاة، وهم مدجَّجون بالسلاح: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ﴾ [البروج: 17 - 18]؟ وهما مصْرَعان متنوِّعان في طبيعتهما وآثارهما، ووراءهما مع حادث الأُخدود إشعاعات كثيرة.
وفي الختام يقرِّر شأن الذين كفروا وإحاطة الله بهم وهم لا يشعرون: ﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴾ [البروج: 19 - 20].
ويقرِّر حقيقة القرآن، وثَبات أصله وحياطته: ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ [البروج: 21 - 22]، مما يوحي بأنَّ ما يقرِّره هو القول الفصل والمرجِع الأخير، في كلِّ الأمور.
هذه لمحات مجملة عن إشعاعات السُّورة ومجالها الواسِع البعيد؛ تمهِّد لاستعراض هذه الإشعاعات بالتفصيل، والله المستعان.
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ [البروج: 1 - 3].
تبدأ السورةُ الكريمة قبلَ الإشارة إلى حادِث الأخدود بهذا الأسلوب الذي يُسمِّيه علماء العربية أسلوبَ القسم، وهذا الأسلوب يتكوَّن من ثلاثة أركان؛ هي: أداة القسَم، والمُقسَم به، والمقسَم عليه.
فأمَّا أداة القسَم هنا فهي واو القسَم الخافضة لما بعدها، وأما المقسَم به فقد تعدَّد في السورة وهو: السماء ذات البروج، واليوم الموعود، والشاهد والمشهود، وهذا يجرُّنا إلى عِبارة القسم أو المسمَّاة في عِلم العقيدة بالحَلِف؛ إذ لا يصحُّ القسم - بالنسبة للعبد - إلا بالله - سبحانه وتعالى - أو باسم مِن أسمائه، أو بصِفة مِن صفاته؛ لما في الصحيحين عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن كان حالفًا فليحلفْ بالله أو ليصمت))، وعنه أيضًا مرفوعًا: ((مَن حلَف بغير الله فقدْ أشْرَك))؛ رواه أبو داود وصحَّحه الألباني.
والشِّرك الذي يَعنيه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذا الحديث هو الشِّرك الأصغر، ما لم يكُنِ الحالف معظِّمًا لما يحلف به من دون الله كتعظيم الله أو أشدّ، فإنْ كان كذلك فهو شرْك أكبر؛ كمَن يقال له: احلفْ بالله، فيحلف كاذبًا، فإذا قيل له: احلف بالشيخ الفلاني، أقَرَّ واعترَف؛ مخافةَ أن يحلف به كذبًا، وكذا الحلف بالصليب أو المسيح.
ولا يجوز لمسلم أن يطلُب من أحدٍ أن يحلِف بغير الله - سبحانه وتعالى - حتى ولو كان كافرًا لا بالمسيح ولا بغيرِه؛ لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه ابنُ ماجه وصحَّحه الألباني: ((مَن حُلِف له بالله فليرضَ، ومَن لم يرضَ فليس مِن الله)).
فلا يجوز الحلِف بغير الله - سبحانه وتعالى - فقدْ سمع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلاً يحلِف بأبيه فقال: ((إنَّ الله ينهاكم أن تحلِفوا بآبائكم؛ فمن كان حالفًا فيحلفْ بالله أو ليذَر)).
وإنَّما كان الحلِف كذلك؛ لأنَّه تعظيم للمحلوف به، وهو لا ينبغي إلا لله - سبحانه وتعالى - العظيم، وفيه إشهاد المحلوف به على صِدق الحالف، وذلك الإشهاد لا يصحُّ إلا بالنسبة لمن يعلم صدق الشيء المحلوف عليه أو كذبه، وليس ذلك إلاَّ لله - عزَّ وجلَّ - وحْده، كما أنَّ المحلوف به يجب أن يكون ممَّن يملك عقابَ الحالِف به والانتقام منه إذا حلَف به كاذبًا، وذلك هو الله - سبحانه وتعالى - وحْده؛ فلهذه الأسباب كلِّها كان الحلِف بغير الله - سبحانه وتعالى - شِركًا - أصغر أو أكبر - على التفصيل السابق.
وممَّا تقدَّم يُعلم أنَّ ما يجري على ألْسِنة العوام مِن دعاءٍ لغير الله، أو استغاثةٍ به، أو غلوٍّ في مدحه، أو استشفاعٍ وتوسلٍ به، أو حلفٍ باسمه، أو طلبِ المدَد والبَركة منه: كل ذلك شِرْك يجب على العُلماء أن ينبهوا الناس إلى عظيم خطَره وسوء عاقبته بدلاً مِن أن يلهوا عقولهم بذِكْر حكايات الصوفيَّة؛ كرابعة العدويَّة وغيرها.
فالقسَم بالنِّسبة للعبْد مقصورٌ على ما ذكرت، أمَّا بالنسبة للربِّ العلي - سبحانه وتعالى - فله أن يُقسِم بما يشاء - سبحانه -: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23].
أَقْسم الله - سبحانه وتعالى - بالضُّحى، والليل والنهار، والشمس والقمر، والفجر، وغير ذلك مِن مخلوقاته العظيمة التي شاء أن يُقسِم بها.
وأمَّا في السورة التي نحن بصدَد الكلام عنها فقدْ أقسم الله - سبحانه وتعالى - بالسماء ذات البُروج، وهي إمَّا أن تكون أجرام النجوم الهائلة وكأنها برُوج السماء الضخْمة؛ أي: قصورها المبنية كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [الذاريات: 47]، وكما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾ [النازعات: 27]، وإمَّا أن تكون هي المنازل التي تنتقِل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها وهي مجالاتها التي لا تتعدَّاها في جريانها في السماء، والإشارة إليها يُوحي بالضخامة، وهو الظلُّ المراد إلقاؤه في هذا الجو.
﴿ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ﴾ [البروج: 2]، وهو يوم الفَصْل في أحداث الدنيا، وتصفية حِساب الأرْض وما كان فيها، وهو الموعودُ الذي وعَد الله بمجيئه، ووعَد بالحساب والجزاء فيه؛ وأمْهل المتخاصمين والمتقاضين إليه، وهو اليوم العظيم الذي تتطلَّع إليه الخلائق وتترقبه؛ لترَى كيف تصير الأمور.
﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ [البروج: 3] في ذلك اليوم الذي تُعرَض فيه الأعمال، وتُعرَض فيه الخلائق، فتصبح كلها مشهودة، ويصبح الجميع شاهدين، ويُعلم كلُّ شيء، ويظهر مكشوفًا لا يسترُه ساترٌ عن القلوب والعيون.
وتلتقي السماءُ ذات البُروج، واليوم الموعود، وشاهِد ومشهود - تلتقي جميعًا في إلْقاء ظلال الاهتمام والاحتفال والاحتشاد والضخامة على الجو الذي يُعرض فيه بعدَ ذلك حادث الأخدود، كما تُوحِي بالمجال الواسع الشامل الذي يُوضَع فيه هذا الحادث، وتُوزَن فيه حقيقته ويُصفَّى فيه حسابه، وهو أكبر مِن مجال الأرض، وأبعد مِن مدَى الحياة الدنيا وأجَلها المحدود.
وبعدَ رسم هذا الجو، وفتْح هذا المجال، تجيء الإشارةُ إلى الحادث في لمساتٍ قلائل: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [البروج: 4 - 9].
﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴾؛ أي: لُعِنَ أصحاب الأخدود، والأخدود جمعُه: أخاديد، وهي الحُفَر في الأرض، وهذا خبرٌ عن قومٍ من الكفَّار عَمَدوا إلى مَن عندهم مِن المؤمنين بالله - عزَّ وجلَّ - فقهروهم وأرادوهم أن يَرجِعوا عن دِينهم، فأبوا عليهم، فحَفروا لهم في الأرضِ أخدُودًا وأجَّجُوا فيه نارًا، وأعدُّوا لها وقودًا يسعِّرونها به، ثم أرادوهم فلم يَقْبَلوا منهم، فقذفوهم فيها؛ ولهذا قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴾ [البروج: 4 - 7] ؛ أي: مشاهِدون لما يُفعل بأولئك المؤمنين.
قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 8]؛ أي: وما كان لهم عندَهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي لا يُضام مَن لاذ بجنابه، المنيع الحميد في جميع أفعاله وأقواله وشرْعه وقدَره، وإنْ كان قد قَدَّر على عباده هؤلاء هذا الذي وقَع بهم بأيدي الكفَّار به، فهو العزيز الحميد، وإنْ خفِي سببُ ذلك على كثيرٍ من الناس.
ثم قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [البروج: 9]، مِن تمام الصفة أنَّه المالك لجميعِ السموات والأرض وما فيهما وما بينهما ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [البروج: 9]؛ أي: لا يغيب عنه شيءٌ في جميع السموات والأرْض، ولا تخفَى عليه خافية.
هذا، وقد اختلف أهلُ التفسير في أهل هذه القصَّة: مَن هم؟ فروَى ابن أبي حاتم عن الرَّبيع - وهو ابن أنس - في قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴾ [البروج: 4]، قال: سمعْنا أنهم كانوا قومًا في زمان الفترة، فلمَّا رأوا ما وقَع في الناس مِن الفِتنة والشر، وصاروا أحزابًا ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [المؤمنون: 53]، اعتزَلوا إلى قريةٍ سكنوها، وأقاموا على عبادةِ الله: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البينة: 5]، وكان هذا أمرهم حتى سمع بهم جبَّارٌ مِن الجبَّارين، وحُدِّث حديثهم، فأرسل إليهم فأمرَهم أن يعبدوا الأوثانَ التي اتَّخذوا، وأنهم أبوا عليه كلُّهم، وقالوا: لا نعبد إلا الله وحده، لا شريكَ له، فقال لهم: إنْ لم تعبدوا هذه الآلهةَ التي عبدتُ فإنِّي قاتلكم، فأبوا عليه، فخَدَّ أخدودًا من نار، وقال لهم [هذا] الجبار - وَوَقَفهم عليها -: اختاروا هذه أو الذي نحنُ فيه، فقالوا: هذه أحبُّ إلينا، وفيهم نِساء وذرية، ففزعت الذرية، فقالوا لهم: لا نارَ مِن بعد اليوم، فوقعوا فيها، فقُبضتْ أرواحهم من قبل أن يمسَّهم حَرُّها، وخرجتِ النار مِن مكانها فأحاطتْ بالجبَّارين، فأحرقَهم الله بها، ففِي ذلك أنْزل الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴾ [البروج: 4 - 7].
وأورد ابنُ كثير في تفسيره أقوالاً أخرى لأهلِ العِلم في المراد بأصحاب الأخدود، والذي يبدو لي - والله أعلم - أنَّ قصة الأخدود قد تكرَّرت في أكثرَ مِن مكان، ومع أكثر مِن قوم، حتى إنَّ ابن أبي حاتم قد روى عن صفوان، عن عبدالرحمن بن جُبير قال: كانتِ الأخدود في اليمن زمان تُبَّع، وفي القسطنطينية زمان قسطنطين حين صرَف النصارى قِبلتهم عن دِين المسيح والتوحيد، فاتَّخذوا أتُّونًا، وألْقَى فيه النصارى الذين كانوا على دِين المسيح والتوحيد، وفي العراق في أرْض بابل بختنصر، الذي وضَع الصنم وأمَر الناس أن يسجُدوا له، فامتنع دانيال وصاحباه: عزريا وميشائيل، فأوقد لهم أتُّونًا وألقَى فيه الحطب والنار، ثم ألقاهما فيه، فجعلها الله عليهما بردًا وسلامًا وأنقذَهُما منها، وألقَى فيها الذين بغَوا عليه وهم تِسعة رهْط، فأكَلتْهم النار.
فقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴾ هذا هو جوابُ القَسَم، والجملة دعائية؛ أي: قاتَل اللهُ أصحابَ الخدود الذين شقُّوا الأرض طولاً، وجعلوها أخاديد وأضرموا فيها النار؛ ليحرقوا بها المؤمنين، وقوله - سبحانه وتعالى -: {قُتِلَ}؛ أي لعن؛ قال ابن عباس - رضى الله عنهما -: كلُّ شيء في القرآن قُتِلَ فهو لُعِنَ.
وتبدأ الإشارةُ إلى الحادث بإعلان النِّقمة على أصحابِ الأخدود: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴾، وهي كلمة تدلُّ على الغضَب؛ غضب الله - سبحانه وتعالى - على الفعلة وفاعليها، كما تدلُّ على شناعةِ الذنب الذي يُثير غضبَ الحليم ونِقمتَه ووعيدَه بالقتْل لفاعليه.
ثم يَجيء تفسيرُ الأخدود: ﴿ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴾؛ أي: النار العظيمة المتأججة ذات الحطَب واللهب، التي أضْرَمها الكفَّار في تلك الأخاديد لإحراق المؤمنين، قال أبو السعود: وهذا وصفٌ لها بغايةِ العِظَمِ وارتفاعِ اللهبِ وكثرةِ ما فيها منَ الحطبِ، والقصد وصفُ النار بالشدَّة والهول، ثم بالغ - سبحانه وتعالى - في وصْف المجرمين، فقال: ﴿ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴾ [البروج: 6 - 7]؛ أي: حين هم جُلوسٌ حول النار يتشفَّوْن بإحراقِ المؤمنين فيها، ويَشْهدون ذلك الفِعل الشنيع.
والغرَض تخويفُ كفَّار قريش، فقدْ كانوا يُعذِّبون مَن أسلم مِن قومهم؛ ليرجعوا عن الإسلام، فذَكَر الله - سبحانه وتعالى - قصة أصحاب الأخدود وعيدًا للكفَّار وتسليةً للمؤمنين المعذبين.
فالأخدود: شقٌّ عظيم مستطيل في الأرض كالخندق، وكان أصحابه قدْ شقُّوه وأوْقَدوا فيه النار حتى ملؤوه نارًا، فصارتِ النار بدلاً في التعبير من الأخدود للإيحاء بتلهُّب النار فيه كله وتوقُّدها.
﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴾ وقدِ استحقُّوا هذه النِّقمة وهذا الغضَب، في الحالة التي كانوا عليها وهم يرْتكِبون ذلك الإثم، ويزاولون تلك الجريمة: ﴿ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴾ [البروج: 6 - 7]، وهو تعبيرٌ يُصوِّر موقفَهم ومشهدَهم، وهم يُوقِدون النار، ويلقون بالمؤمنين والمؤمنات فيها وهم قعودٌ على النار، قريبون مِن عملية ال***** البشِعة، يشاهدون أطوارَ ال*****، وفِعل النار في الأجسام في لذَّة وسُعار، كأنما يُثبتون في حسِّهم هذا المشهدَ البشع الشنيع.
﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 8]؛ أي: وما كان لهم عندَهم ذنب إلاَّ إيمانهم بالله العزيز الذي لا يُضام مَن لاذ بجنابه المنيع، الحميد في جميع أفعاله وأقواله وشرْعه وقدره، وإنْ كان قد قَدَّر على عباده هؤلاء هذا الذي وقَع بهم بأيدي الكفَّار به، فهو العزيز الحميد، وإن خفِي سبب ذلك على كثيرٍ مِن الناس، ثم قال: ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [البروج: 9]، من تمام الصفة أنَّه المالك لجميع السموات والأرض وما فيهما وما بينهما: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [البروج: 9]؛ أي: لا يغيب عنه شيءٌ في جميع السموات والأرض، ولا تَخفَى عليه خافية.
وإنَّما ذكر الأوصاف التي يستحقُّ بها - سبحانه وتعالى - أن يؤمِن به؛ وهي كونه: {عَزِيزًا}؛ أي: غالبًا قادرًا يُخشى عقابه {حَمِيدًا}؛ أي: منعمًا يجب له الحمدُ على نِعمه ﴿ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [البروج: 9]؛ أي: وكل مَن فيهما يحقُّ عليه عبادته والخشوع له، إنَّما ذكر ذلك تقريرًا؛ لأنَّ ما نقموه منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطلٌ منهمك في الغي؛ ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [البروج: 9]؛ أي: هو - سبحانه وتعالى - مطلع على أعمالِ عباده، لا تخفَى عليه خافية من شؤونهم، وفيه وعْدٌ للمؤمنين، ووعيدٌ للمجرمين.
إذًا لم يكُن للمؤمنين مِن ذنب عندَهم ولا ثأر، بل كانتْ جريمتهم أنهم آمنوا بالله العزيز: القادِر على ما يُريد، الحميد: المستحقّ للحمد في كلِّ حال، والمحمود بذاته ولو لم يحمدْه الجهَّال، وهو الحقيقُ بالإيمان والعبودية له - سبحانه وتعالى - الذي له مُلك السماوات والأرْض، وهو يشهَد كل شيء، وتتعلَّق به إرادتُه تعلُّق الحضور، ثم هو الشهيدُ على ما كان مِن أمر المؤمنين وأصحاب الأخدود، وهذه لمسةٌ تُطمئِنُ قلوب المؤمنين، وتُهدِّد العتاة الجبَّارين؛ فالله كان شهيدًا، وكفَى بالله شهيدًا.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾ [البروج: 10 - 11].
ثم شدَّد الله - سبحانه وتعالى - النكيرَ على المجرمين الذين عذَّبوا المؤمنين فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾؛ أي: عذَّبوهم وأحْرَقوهم بالنار؛ ليفتنوهم عن دِينهم ﴿ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ﴾؛ أي: لم يَرجِعوا عن كُفرهم وطغيانهم ﴿ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾؛ أي: فلَهُم عذاب جهنَّم المخزي بكفرهم، ولهم العَذاب بإحراقهم المؤمنين، فعذاب جهنَّمَ بسبب كُفرهم، وعذاب الحريق بسببِ فِتنتهم المؤمنين والمؤمنات، وفي جعْل ذلك جزاء للفتنة من الحُسن ما لا يَخفَى.
هذا؛ وقد ذكَر القرطبي - رحمه الله - روايةَ أبي صالح عن ابن عبَّاس أنَّ النار ارتفعت مِن الأخدود، فصارتْ فوق الملك وأصحابه أربعين ذراعًا.
وذكَر القمي النيسابوري أنَّ عذاب جهنم وعذاب الحريق مختلفانِ في الدركة؛ فالأوَّل لكفرهم، والثاني لأنَّهم فَتنوا أهل الإيمان، وجوَّز أن يكون الحريق في الدنيا؛ لما رُوي أنَّ النار انقلبتْ عليهم فأحرقتهم.
ولهذا؛ فإنَّ الذي حدَث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمةَ الحادث وليس نهاية المطاف، فالبقية آتية هناك، والجزاء الذي يضَع الأمر في نِصابه، ويفصل فيما كان بيْن المؤمنين والطاغين آت، وهو مقرَّر مؤكَّد، وواقع كما يقول الله - سبحانه وتعالى - عنه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾، ومضَوا في ضلالتهم سادرين، ولم يَندموا على ما فعلوا: ﴿ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ﴾، ﴿ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾.
وينصُّ على {الحَرِيقِ} وهو مفهومٌ من عذاب جهنَّمَ، ولكنَّه ينطق به وينصُّ عليه؛ ليكون مقابلاً للحريقِ في الأخدود، وبنفس اللفظ الذي يدلُّ على الحدَث.
ولكن أين حريقٌ من حريق؟! في شدَّته أو في مدَّته؟! وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق، وحريق الآخِرة بنار يوقدها الخالق! وحريق الدنيا لحظات وتنتهي، وحريق الآخرة آبادٌ لا يَعلمها إلاَّ الله! ومع حريق الدنيا رضِي الله عنِ المؤمنين، وانتصار لذلك المعنى الإنساني الكريم، ومع حريقِ الآخِرة غضب الله، والارْتكاس الهابِط الذميم!
واعلم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - لما ذكَر قِصَّة أصحاب الأخدود، أتْبعها بما يتفرَّع عليها مِن أحكام الثواب والعِقاب، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾.
وهنا مسائل:
المسألة الأولى: يحتمل أن يكونَ المراد منه أصحاب الأُخدود فقط، ويحتمل أن يكونَ المرادُ كلَّ مَن فعل ذلك، وهذا أوْلى؛ لأنَّ اللفظ عام والحُكم عام، والتخصيص ترْكٌ للظاهِر من غير دليل.
المسألة الثانية: أصْل الفتنة: الابتلاء والامتحان؛ وذلك لأنَّ أولئك الكفَّار امتحنوا أولئك المؤمنين وعَرضوهم على النار وأحْرقوهم، وقال بعضُ المفسِّرين: الفِتنة هي الإحراق بالنار، وقال ابن عباس ومقاتل: ﴿ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ حرقوهم بالنار، قال الزَّجَّاج: يقال: فتنتُ الشيءَ أحرقتُه، والفتن: أحجار سود كأنَّها محترِقة، ومنه قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ﴾ [الذاريات: 13].
المسألة الثالثة: قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ﴾ يدلُّ على أنَّهم لو تابوا لخرَجوا عن هذا الوعيد، وذلك يدلُّ على القطْع بأنَّ الله - سبحانه وتعالى - يَقْبل التوبة، ويدلُّ على أنَّ توبة القاتل عمدًا مقبولةٌ، بخلاف ما يُروَى عن ابن عباس.
المسألة الرابعة: في قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ قولان:
الأوَّل: أنَّ كِلا العذابين يحصلان في الآخرة، إلا أنَّ عذاب جهنم هو العذاب الحاصل بسبب كُفرهم، وعذاب الحريق هو العذاب الزائِد على عذاب الكُفر بسببِ أنهم أحْرَقوا المؤمنين.
فيحتمل أن يكونَ العذاب الأوَّل عذاب برْد والثاني عذاب إحراق، وأنْ يكون الأوَّل عذابَ إحراق، والزائد على الإحراق أيضًا إحراق، إلاَّ أن العذاب الأوَّل كأنَّه خرَج عن أن يُسمَّى إحراقًا بالنسبة إلى الثاني؛ لأنَّ الثاني قدِ اجتمع فيه نوعَا الإحراق فتكامل جدًّا، فكان الأول ضعيفًا، فلا جرمَ لم يُسمَّ إحراقًا.
القول الثاني: أنَّ قوله: ﴿ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ﴾ إشارة إلى عذابِ الآخِرة: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ إشارة إلى ما ذكَرْنا أنَّ أولئك الكفَّار ارتفعتْ عليهم نارُ الأخدود فاحترَقوا بها.
لما ذكَر الله - سبحانه وتعالى - مصيرَ الكافرين أعقَبه بذِكر مصير المؤمنين فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [البروج: 11].
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾؛ أي: الذين جمعوا بيْن الإيمان الصادِق والعمل الصالح: ﴿ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾؛ أي: لهم البساتين والحدائق الزاهِرة التي تجري مِن تحت قُصورها أنهار الجنة - وهي أنهار الخمْر واللبن والعسَل؛ ﴿ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾؛ أي: ذلك هو الظفر العظيم بغاية المطلوب، الذي لا سعادةَ ولا فوزَ بعده.
وكيف لا يكون ذلك هو الفوزَ الكبير، وهُم الذين جعلهم الله - سبحانه وتعالى - مِن أهل الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأتْ ولا أُذن سمِعتْ ولا خطَر على قلْب بشَر، وحسبنا أن نعرِف أدْنَى أهل الجنة منزلةً وآخر مَن يدخل الجنة لنعلم يقينًا أنَّ ذلك هو الفوز الكبير:
ففي صحيح مسلم عن المغيرة بنِ شُعبة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((سأل موسى ربَّه: ما أدْنى أهل الجنة منزلةً؟ قال: هو رجلٌ يجيء بعدَما أُدخل أهلُ الجَنَّةِ الجنةَ، فيقال له: ادخلِ الجنة، فيقول: أي ربِّ؛ كيف وقَدْ نزل الناس منازلَهم وأخذوا أخذاتِهم؟! فيقال له: أترضَى أن يكون لك مِثل مُلْك مَلِك مِن ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيتُ ربِّ، فيقول: لكَ ذلك ومِثله، ومثله، ومِثله، ومثله، فقال في الخامسة: رضيتُ ربِّ، فيقول: هذا لكَ وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهتْ نفسك ولذَّت عينك، فيقول: رضيتُ رب، قال ربِّ: فأعلاهم منزلةً؟ قال: أولئك الذين أردتُ غرْسَ كرامتهم بيدي، وختمتُ عليها، فلم ترَ عينٌ ولم تسمعْ أُذن ولم يخطرْ على قلبِ بشَر، قال: ومِصداقه في كتابِ الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ [السجدة: 17].
وفيه أيضًا عن عبدِالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنِّي لأعلمُ آخِر أهل النار خروجًا منها وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة، رجل يخرُج من النار حبوًا، فيقول الله - تبارك وتعالى - له: اذهب فادخلِ الجنة، فيأتيها فيخيَّل إليه أنَّها ملأى، فيرجع فيقول: يا ربِّ؛ وجدتُها ملأى!! فيقول الله - تبارك وتعالى - له: اذهب فادخلِ الجنة، قال: فيأتيها فيخيَّل إليه أنها ملأى فيَرجع فيقول يا ربِّ: وجدتُها ملأى!! فيقول الله له: اذهبْ فادخلِ الجنة فإنَّ لك مِثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إنَّ لك عشرةَ أمثال الدنيا، قال: فيقول أتَسْخَر بي، أو أتضحك بي وأنتَ الملِك؟!)) قال: لقد رأيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ضَحِكَ حتى بدتْ نواجذه، قال: فكان يقال: ذاك أدْنى أهلِ الجنة منزلةً.
قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنِّي لأعرف آخِر أهل النار خروجًا مِن النار: رجلٌ يخرج منها زحفًا، فيقال له: انطلقْ فادخلِ الجنة، قال: فيذهب فيدخُل الجنة فيجِد الناس قدْ أخذوا المنازل، فيُقال له: أتذكُر الزمانَ الذي كنت فيه؟ فيقول: نعم، فيقال له: تمنَّ، فيتمنى، فيقال له: لك الذي تمنيتَ وعشرة أضعاف الدنيا، قال: فيقول: أتسْخَر بي وأنت الملِك؟!)) قال: فلقدْ رأيتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ضحِك حتى بدتْ نواجذه.
وفيه أيضًا عنِ ابن مسعود - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: آخِر مَن يدخُل الجنة رجلٌ، فهو يمشي مرةً، ويكبو مرةً، وتسفعه النار مرةً، فإذا ما جاوزها التفَتَ إليها فقال: تبارك الذي نجَّاني منك، لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأوَّلين والآخرين، فتُرفَع له شجرةٌ، فيقول: أي ربِّ، أدْنِني من هذه الشجرة فلأستظلّ بظلِّها وأشرَب مِن مائها، فيقول الله - عزَّ وجلَّ -: يا ابن آدم، لعلِّي إن أعطيتُكها سألتَني غيرَها، فيقول: لا يا ربِّ، ويعاهده ألاَّ يسأله غيرَها، وربُّه يعذره؛ لأنَّه يرَى ما لا صبرَ له عليه، فيُدنيه منها فيستظلُّ بظلها ويشرَبُ مِن مائها، ثم تُرفَع له شجرةٌ هي أحسنُ مِن الأولى، فيقول: أي ربِّ، أدْنِني من هذه لأشربَ مِن مائها وأستظل بظلِّها، لا أسألك غيرَها، فيقول: يا ابن آدم، ألَمْ تعاهدني ألاَّ تسألني غيرها؟! فيقول: لعلي إنْ أدنيتُك منها تسألني غيرَها فيعاهده ألاَّ يسأله غيرَها، وربُّه يعذره؛ لأنَّه يرَى ما لا صبرَ له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلِّها ويشرَب مِن مائها، ثم تُرفَع له شجرةٌ عندَ باب الجنة هي أحسنُ مِن الأُوليين، فيقول: أي ربِّ أدْنِني من هذه لأستظلَّ بظلِّها وأشرَب مِن مائها لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم، ألَمْ تُعاهدني ألاَّ تسألني غيرها؟! قال: بلى يا ربِّ، هذه لا أسألك غيرَها، وربُّه يعذره؛ لأنَّه يرى ما لا صبرَ له عليها فيُدنيه منها، فإذا أدناه منها فيسمع أصواتَ أهل الجنة فيقول: أي ربِّ أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدَمَ، ما يصريني منك؟! أيُرضيك أنْ أعطيَك الدنيا ومثلَها معها، قال: يا ربِّ أتستهزئ منِّي وأنت ربُّ العالمين)).
فضحِك ابنُ مسعود - رضي الله عنه - فقال: ألاَ تسألوني ممَّ أضحَك؟! فقالوا: ممَّ تضحَك؟ قال: هكذا ضحِك رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالوا: ممَّ تضحَك يا رسول الله؟ قال: مِن ضَحِك ربِّ العالمين حين قال: أتستهزئ منِّي وأنت ربُّ العالمين، فيقول: ((إنِّي لا أستهزئ منكَ، ولكني على ما أشاء قادرٌ)).
ورِضا الله وإنعامه على الذين آمنوا وعمِلوا الصالحات يتمثَّل في الجنة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [البروج: 11]، وهذه هي النجاةُ الحقيقيَّة: ﴿ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾ [البروج: 11] والفوز: النجاة والنَّجاح، والنجاة مِن عذاب الآخِرة فوز، فكيف بالجنَّات التي تجْري مِن تحتها الأنهار؟!
فبهذه الخاتمة يستقرُّ الأمْر في نصابه، وهي الخاتمة الحقيقيَّة للموقِف، فلم يكُن ما وقَع منه في الأرْض إلا طرفًا مِن أطرافه، لا يتمُّ به تمامه، وهذه هي الحقيقة التي يهدف إليها هذا التعقيبُ الأوَّل على الحادِث؛ لتستقرَّ في قلوب القِلَّة المؤمنة في مكَّة، وفي قلوبِ كلِّ فئة مؤمِنة تتعرَّض للفتنة على مدار القرون، ثم تتوالى التعقيبات.
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾ [البروج: 12]، وهذه الجملة استئنافٌ خُوطبَ بهِ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إيذانًا بأنَّ لكفارِ قومِهِ نصيبًا موفُورًا منْ مضمونِه، كما ينبئُ عنْهُ التعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ معَ الإضافةِ إلى ضميرِه - صلَّى الله عليه وسلَّم .
والبطشُ: الأخذُ بعُنْفٍ، وحيثُ وُصِفَ بالشدَّةِ فقدْ تضاعفَ وتفاقَم، وهو بطشُه بالجبابرةِ والظَّلمة، وَأخذُه إيَّاهُم بالعذابِ والانتقام، كقولِه - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102].
﴿ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴾ [البروج: 13]؛ أيْ: هُو يُبدْئ الخَلق، وَهُوَ يعيدُه مِنْ دون دَخْلٍ لأحدٍ في شيءٍ منْهُما، ففيه مزيدُ تقريرٍ لشدَّةِ بطشِه، أو: هُو يبدئُ البطشَ بالكَفرةِ في الدُّنيا وَيُعيدُه في الآخرةِ.
وإظهار حقيقة البطْش وشدَّته في هذا الموضع هو الذي يناسب ما مرَّ في الحادث من مظهر البطْش الصغير الهزيل، الذي يحسبه أصحابه ويحسبه الناس في الأرض كبيرًا شديدًا، فالبطش الشديد هو بطْشُ الجبَّار الذي له مُلك السماوات والأرض، لا بطش الضِّعاف المهازيل الذين يتسلَّطون على رقعةٍ من الأرض محدودة، في رقعةٍ من الزمان محدودة.
ويُظهر التعبيرُ العلاقةَ بين المخاطب، وهو الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - والقائل - وهو الله - سبحانه وتعالى - وهو يقول له: ﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾ [البروج: 12]، ربّك الذي تنتسب إلى رُبوبيته، وسنَدك الذي تركَن إلى معونته، ولهذه النِّسبة العظيمة الجليلة قيمتُها في هذا المجال الذي يبطش فيه الفجَّار بالمؤمنين!
والبَدء والإعادة وإنِ اتجه معناهما الكلي إلى النشأة الأولى والنشأة الآخرة، إلا أنهما حَدَثانِ دائبانِ في كلِّ لحظة من ليلٍ أو نَهار، ففي كلِّ لحظة بَدء وإنشاء، وفي كلِّ لحظة إعادةٌ لما بلِي ومات.
﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴾ [البروج: 14]، والمغفرة تتَّصل بقوله مِن قبل: ﴿ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ﴾ [البروج: 10]، فهي مِن الرحمة والفضْل الفائض بلا حدود ولا قيود، وهي البابُ المفتوح الذي لا يُغلَقُ في وجهِ عائدٍ تائب، ولو عظُم الذنب وكَبُرت المعصية.
أمَّا الود، فيتَّصل بموقف المؤمنين الذين اختاروا ربَّهم على كلِّ شيء، وهو الإيناس اللطيف الحلو الكريم - الذي لا يماثل ودَّ المخلوقين - حين يرفع الله عبادَه الذين يؤثرونه ويحبونه إلى مرتبةٍ يتحرَّج القلم مِن وصفها، لولا أن فضلَ الله - سبحانه وتعالى - يجود بها.
إنَّها درجة الودِّ من الله لأودّائه وأحبائه المقرَّبين، فماذا تكون الحياةُ التي ضحّوا بها وهي ذاهبة؟! وماذا يكون العذابُ الذي احتملوه وهو موقوت؟! ماذا يكون هذا إلى جانبِ قطرةٍ من هذا الود الحلو، وإلى جانب لمحةٍ من هذا الإيناس الحبيب؟!
﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ﴾ [النحل: 60]، إنَّ عبيدًا من رقيقِ هذه الأرض؛ عبيد الواحد مِن البشَر، ليلقُون بأنفسهم إلى التهلكة لكلمة تشجيع تصدر من فمِه، أو لمحة رضاء تبدو في وجهه، وهو عبد وهم عبيد، فكيف بعبادِ الله؛ الذين يؤنسهم الله بودِّه الكريم الجليل، الله: ﴿ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴾ [البروج: 15] العالي المهيمن الماجِد الكريم؟! سبحانه وتعالى.
ألاَ هانتِ الحياة وهان الألَم وهان العذاب، وهان كلُّ غال عزيز
في سبيل لمحة رِضا يجود بها المولَى الودود ذو العَرْش المجيد.
وإنَّما أضاف العَرْش إلى الله - سبحانه وتعالى - وخصَّه بالذِّكر؛ لأنَّ العرش أعظم المخلوقات، وأوسع مِن السماوات السبع، وخلقه بهذا الوصف يدلُّ على عظمة خالقه {المَجِيد}؛ أي هو - سبحانه وتعالى - المجيد العالي على جميع الخلائق المتَّصف بجميع صِفات الجَلال والكَمال.
﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 16]؛ أي: يفعل ما يشاء ويحكُم ما يُريد، لا معقِّب لحُكمه ولا رادَّ لقضائه؛ أي: لا يمتنع عليه شيء يريده؛ رُوي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قيل له وهو في مرَض الموت: هل نظَر إليك الطبيب؟ قال: نعم، قالوا: فماذا قال؟ قال: قال لي: إني فعَّال لِمَا أُريد.
﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ هذه صِفته الكثيرة التحقُّق، الدائبة العمل، فعَّال لما يُريد، فهو مطلَق الإرادة، يختار ما يشاء؛ ويفعَل ما يريده ويختاره، دائمًا أبدًا، فتلك صفته - سبحانه وتعالى - يُريد مرة أن ينتصرَ المؤمنون به في هذه الأرْض لحِكمة يُريدها، ويُريد مرةً أن ينتصر الإيمان على الفِتنة وتذهب الأجسامُ الفانية لحِكمة يُريدها، يُريد مرةً أن يأخذ الجبَّارين في الأرض، ويريد مرةً أن يمهلهم لليوم الموعود؛ لحِكمة تتحقَّق هنا وتتحقق هناك، في قدَره المرسوم.
فهذا طرف مِن فِعله - سبحانه وتعالى - لما يُريد، يناسِب الحادث ويناسِب ما سيأتي مِن حديث فرعون وثمود، وتبقَى حقيقة الإرادة الطليقة والقُدرة المطلَقة وراءَ الأحداث ووراءَ الحياة والكون، تفعَل فِعلها في الوجود.
﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 16]، وهاك نموذجًا مِن فعله {لِمَا يُرِيدُ} - سبحانه وتعالى -: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ﴾ [البروج: 17 - 18]، وهي إشارة إلى قصَّتين طويلتين؛ ارتكانًا إلى المعلوم مِن أمرهما للمخاطبين، بعدَما ورَد ذكرهما كثيرًا في القُرآن الكريم، ويُسمِّيهم الجنود؛ إشارةً إلى قوَّتهم واستعدادهم، هل أتاك حديثُهم؟ وكيف فعل ربُّك بهم ما يُريد؟!
وهما حديثانِ مختلفانِ في طبيعتهما وفي نتائجهما، فأما حديثُ فِرعون: فقد أهلَكه الله وجُندَه، ونجَّى بني إسرائيل، ومكَّن لهم في الأرض فترةً؛ ليحقِّق بهم قدرًا مِن قدَره، وإرادة مِن إرادته، وأمَّا حديث ثمود: فقدْ أهلكهم الله عن بكْرةِ أبيهم، وأنجَى صالحًا والقلةَ المؤمنة معه؛ حيث لم يكُنْ بعد ذلك ملك ولا تمكين، إنَّما هي مجرَّد النجاة مِن القوم الفاسقين.
وهُما نموذجان لفِعل الإرادة، وتوجه المشيئة، وصورتان مِن صُور الدعوة إلى الله واحتمالاتها المتوقَّعة، إلى جانبِ الاحتمال الثالِث الذي وقَع في حادث الأخدود، وكلها يعرِضها القرآن للقلَّة المؤمنة في مكَّة، ولكلِّ جيل مِن أجيال المؤمنين.
وفي الخِتام يجيء إيقاعانِ قويَّان جازمان، في كلٍّ منهما تقرير، وكلمة فصْل وحُكم أخير: ﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴾ [البروج: 19 - 20].
فشأن الكفَّار وحقيقة حالهم أنَّهم في تكذيب يُمسُون به ويُصبحون؛ ﴿ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴾ [البروج: 20]، وهم غافِلون عمَّا يُحيط بهم من قهْر الله وعِلمه، فهم أضعفُ مِن الفئران المحصورة في الطوفان العميم!
﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ [البروج: 21 - 22]، والمجيد الرَّفيع الكريم العريق، وهل أمجد وأرْفَع وأعرق مِن قول الله العظيم؟! وهو في لوحٍ محفوظ، لا نُدرك نحن طبيعتَه؛ لأنَّه مِن أمر الغيب الذي تفرَّد الله بعِلمه، إنَّما ننتفع نحن بالظل الذي يُلقيه التعبير، والإيحاء الذي يترُكه في القلوب، وهو أنَّ هذا القرآن مصونٌ ثابت، قوله هو المرجِع الأخير في كلِّ ما يتناوله مِن الأمور، يذهب كل قول، وقوله هو المرعي المحفوظ.
ولقدْ قال القرآنُ الكريم قوله في حادِث الأخدود،
وفي الحقيقة التي وراءَه .. وهو القول الأخير.
وتَنتهي رِواية الحادث في هذه الآيات القِصار، التي تملأ القلبَ بشُحنة من الكراهية لبشاعةِ الفِعلة وفاعليها، كما تَستجيش فيه التأمُّلَ فيما وراء الحادث ووزنه عندَ الله وما استحقَّه مِن نقمته وغضبه، فهو أمرٌ لم ينتهِ بعدُ عندَ هذا الحد، ووراءَه في حسابِ الله ما وراءَه.
كذلك تَنتهي رواية الحادث وقد ملأتِ القلب بالروعة: روعة الإيمان المستعلِي على الفِتنة، والعقيدة المنتصِرة على الحياة، والانطلاق المتجرِّد مِن أوهاق الجِسم وجاذبية الأرض، فقد كان في مَكِنَّةِ المؤمنين أن ينجُوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدُّنيا قبل الآخِرة؟! وكم كانتِ البشرية كلها تخسَر؟! كم كانوا يخسرون وهم يَقتُلون هذا المعنى الكبير: معنى زَهادة الحياة بلا عَقيدة، وبشاعتها بلا حريَّة، وانحطاطها حين يُسيطِر الطغاة على الأرواح بعدَ سيطرتهم على الأجساد!
إنَّه معنًى كريمٌ جدًّا، ومعنًى كبيرٌ جدًّا، هذا الذي ربِحوه وهم بعدُ في الأرض، ربِحوه وهم يجدون مسَّ النار فتحترق أجسادُهم، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار! وبعدَ ذلك لهم عندَ ربهم حساب، ولأعدائهم الطاغين حساب، يعقب به السِّياق والكون كله في تجدُّد مستمر، وفي بِلًى مستمر.
وفي ظلِّ هذه الحرَكة الدائبة الشاملة من البَدء والإعادة يبدو حادث الأُخدود ونتائجه الظاهِرة مسألةً عابرة في واقِع الأمر وحقيقة التقدير، فهو بدءٌ لإعادة، أو إعادة لبَدء، في هذه الحرَكة الدائبة الدائرة.
والله وليُّ التوفيق.
.... يتبع إنْ شاء الله تعالى.


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 14-06-2015, 01:48 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

قصة أصحاب الأخدود (2)
محمود العشري
ثانيًا: القصة من خلال سُنة المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشرح الحديث:

عن صُهيب - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "كان مَلك فيمَن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلمَّا كبِر، قال للملك: إني قد كَبِرتُ، فابْعَث إليّ غلامًا أُعَلِّمه السِّحر، فبَعث إليه غلامًا يُعلِّمه، فكان في طريقه إذا سلَك راهبٌ، فقعَد إليه وسَمِع كلامه، فأعْجَبه، فكان إذا أتى الساحر مرَّ بالراهب، وقعَد إليه، فإذا أتى الساحر ضرَبه، فشكى ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خَشِيتَ الساحر، فقل: حبَسَني أهلي، وإذا خَشِيت أهلك، فقل: حَبَسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابَّة عظيمة قد حَبَست الناس، فقال: اليوم أعلم: الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخَذ حجرًا، فقال: اللهم إن كان أمرُ الراهب أحبَّ إليك من أمر الساحر، فاقْتُل هذه الدابَّةَ؛ حتى يَمضي الناس، فرماها فقَتَلها، ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أيْ بُنَي، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغَ من أمرك ما أرى، وإنك ستُبتلى، فإن ابتُليتَ فلا تدلَّ عليّ، وكان الغلام يُبْرِئ الأَكْمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسَمِع جليسٌ للملك كان قد عَمِي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ها هنا لك أجمعُ، إن أنت شَفيتني، فقال: إني لا أشفي أحدًا؛ إنما يَشفي الله - سبحانه وتعالى - فإن آمنتَ بالله - سبحانه وتعالى - دعوتُ الله فشَفاك، فآمَن بالله - سبحانه وتعالى - فشفاه الله، فأتى الملك فجلَس إليه كما كان يَجلس، فقال له الملك: مَن ردَّ عليك بصرَك؟ قال: ربي، قال: أوَلك ربٌّ غيري؟ قال: ربي وربُّك الله، فأخَذه فلم يَزَل يُعَذِّبه حتى دلَّ على الغلام، فجِيء بالغلام، فقال له الملك: أيْ بُني، قد بلَغ مِن سحرك ما تُبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل ما تفعل؟ قال: إني لا أشفي أحدًا؛ إنما يشفي الله - سبحانه وتعالى - فأخَذه فلم يَزَل يُعذِّبه؛ حتى دلَّ على الراهب، فجِيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمِنشار فوُضِع في مَفْرِق رأسه، فشقَّه حتى وقَع شِقَّاه، ثم جِيء بجليس الملك، فقيل له: ارجِع عن دينك، فأبى، فوُضِع المِنشار في مَفْرِق رأسه، فشَقَّه حتى وقَع شِقَّاه، ثم جِيء بالغلام، فقيل له: ارجِع عن دينك، فأبى، فدفَعه إلى نفرٍ من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصْعَدوا به الجبل، فإذا بَلَغْتُم ذِروته، فإن رجَع عن دينه وإلاَّ فاطْرَحوه، فذَهَبوا به فصَعِدوا به الجبل، فقال: اللهم اكْفِنيهم بما شِئْت، فرَجَف بهم الجبل، فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعَل أصحابُك؟ فقال: كفانِيهم الله - سبحانه وتعالى - فدفَعه إلى نفرٍ من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحْمِلوه في قُرقُور، فتوسَّطوا به البحر، فإن رجَع عن دينه، وإلاَّ فاقْذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكْفِنيهم بما شِئْتَ، فانْكَفَأت بهم السفينة، فغَرِقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعَل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله - سبحانه وتعالى - فقال للملك: إنك لستَ بقاتلي؛ حتى تفعل ما آمُرُك به، فقال: ما هو؟ قال: تَجمع الناس في صعيد واحد، وتَصلبني على جذعٍ، ثم خُذ سهمًا من كِنانتي، ثم ضَعِ السهم في كبدِ القوس، وقل: بسم الله ربِّ الغلام، ثم ارْمِني، فإنك إن فعَلت ذلك، قتَلتني، فجمَع الناس في صعيد واحدٍ وصَلَبه على جِذْعٍ، ثم أخَذ سهمًا من كِنانته، ثم وضَع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله ربِّ الغلام، ثم رماه، فوقَع السهم في صُدغه، فوضَع يده في موضع السهم، فمات، فقال الناس: آمنَّا بربِّ الغلام ثلاثًا، فأُتِيَ الملك، فقيل له: أرأيتَ ما كنت تَحذر؟ قد والله وقَع بكَ حَذَرُك؛ قد آمَن الناس، فأمَر بالأخاديد في أفواه السِّكك، فَخُدَّت، وأُضْرِم (فيها) النيران، وقال: مَن لَم يرجع عن دينه، فأقْحِموه فيها، أو قيل له: اقْتَحِم، ففعلوا، حتى جاءت امرأة معها صبيٌّ لها، فتَقاعَست أن تقعَ فيها، فقال لها الغلام: يا أُمَّه، اصبرِي؛ فإنَّك على الحق))؛ والحديث رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي - رحمهم الله.
هذا هو الحديث الذي ذكَر لنا قصة أصحاب الأخدود، وواضح أنَّ الحديث مَلِيء بالفوائد الجمَّة، ومَلِيء بالعِبَر والعِظات، والحديث موفور الفوائد، عظيم النُّكت والمعاني.
فالنبى - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقصُّ علينا في هذا الحديث شيئًا من قصةٍ وقعَت لقوم ممن كانوا قبلنا، وهذا يدلنا على أنَّ الله - سبحانه وتعالى - يوحي إلى نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بما يشاء، فقد أوْحى إليه - سبحانه وتعالى - بقصة لُقمان، وأوحى إليه بقصة الخَضِر مع موسى، وأوحى إليه بقصة أمِّ موسى، وأوحى إليه بالقول الفَصْل والكلام العدل في قصة المسيح ابن مريم، أوحى إليه بالكلام الحقِّ دفاعًا عن سليمان، لَمَّا قال بنو إسرائيل: إنه ساحر، فقال ربُّ العزة - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ﴾ [البقرة: 102].
فربُّ العزة - سبحانه وتعالى - يوحي إلى نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بما يشاء، فما عَلَّمنا إيَّاه ربُّ العزة من طريق الوحي، فهو الحق والصواب، وما خالَفه فهو الباطل الذي لا سبيل أبدًا لأن يكون حقًّا، وما سكَت الله - سبحانه وتعالى - عنه، فهذا لا سبيل لنا أبدًا إلى معرفته.
فربُّنا - سبحانه وتعالى - يحدِّثنا هنا عن قصة وقعَت لقوم ممن كانوا قبلنا، والأُمم التي كانت قبلنا من أصحاب الوحي والرسالة كانت أُمم بني إسرائيل، وكانت بنو إسرائيل تَسوسهم الأنبياء، كلما خلَى نبيٌّ، بعَث الله - سبحانه وتعالى - نبيًّا، حتى إذا أراد الله - سبحانه وتعالى - أن يَختم الرسالات، وأن يُتِمَّ صَرْح النبوَّات، بعَث محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - نبيًّا ورسولاً، بشيرًا وهاديًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فهو يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كان ملك فيمَن كان قبلكم، وكان له ساحر)).
هذه هي بداية القصة، وهذا هو التحديد التاريخي لأحداثها، دون ذِكر للزمان والمكان؛ لتتجرَّد معاني تلك الأحداث، وتُصبح مجرَّدة ومُطلقة، فيُمكن اعتناقها والاستفادة بها بغير الارتباط أو التعلُّق بظروفها ومُلابساتها.
فكان تجريد أحداث هذه القصة هو الأساس التسجيلي لها؛ لأنها أتَت بعد ذلك إثباتًا تاريخيًّا موجَّهًا نحو تحقيق قِيمتها كتجربة قائمة إلى نهاية الزمان وإلى اليوم الموعود؛ ولهذا جاء كلُّ التحديد التاريخي في قول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فيمَن كان قبلكم))، يريد: فيما مضى، ولكنَّه يربط هذا الماضي بحاضر الدعوة في عهده - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيقول: ((قبلكم))، وبذلك أُضِيفت أحداث هذه القصة - بعد تجريدها - إلى واقع الدعوة القائم الآن؛ حيث إن هذا الواقع القائم الآن هو الامتداد الصحيح لواقع الدعوة منذ بدايتها مع بداية الزمان، وهذا هو المعنى الأوَّلِي المأخوذ من تلك البداية.
والمعنى الثاني: هو أنَّ هذه البداية حدَّدتْ باللفظة الأولى ((كان ملك)) طبيعةَ هذه الدعوة، فكان أوَّل ما وضَح منها هو ضرورة المواجهة - منذ البداية - بين واقع الدعوة والسلطة الكافرة، التي تُسَيطر على واقع الناس المراد تحقيق غاية الدعوة فيهم.
ولقد برَزَت ضرورة المواجهة بين الدعوة إلى الحقِّ والحكم الباطل بصورة واضحة جدًّا في دعوة موسى - عليه السلام - إذ قال الله - سبحانه وتعالى - له: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴾ [طه: 24].
ذلك أنَّ الرسالة لَم تكن أصلاً إلى فرعون؛ لأن موسى - عليه السلام - كان مرسلاً إلى بني إسرائيل، وكان كلُّ ما يريده هو الخروج ببني إسرائيل من مصر: ﴿ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الأعراف: 105]، وقال - سبحانه وتعالى - في سورة طه: ﴿ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ﴾ [طه: 47]، ورغم هذا فإن المواجهة كانت مع فرعون؛ باعتباره مسيطرًا على واقع الناس الذين كانت الرسالة إليهم.
وكانت مواجهة عقديَّة، مرتبطة بتصوُّر الدعوة ومنهجها، مؤكِّدة كلَّ حقائق الرسالة وقضاياها، وبهذا يكون موسى - عليه السلام - قد بدأ بدعوته إلى بني إسرائيل البداية الطبيعيَّة عندما واجَه فرعون ومَلأه.
وبذلك نَفهم أنَّ العداء بين الدُّعاة إلى الحق وبين حُكَّام الباطل، أمرٌ بدهي مفروض من البداية، وبمجرَّد التفكير في غاية الدعوة والنظر إلى واقع الناس.
وعلى هذا؛ فإن أيَّ دعوةٍ إلى الحقِّ تظهر في الواقع الباطل وتوجهه توجيهًا نظريًّا، أو فكريًّا مجرَّدًا، لا يتضمَّن تقدير مواجهة هذا الباطل في قوَّته وسلطانه - ستكون قتيلة بسُنن الوجود، وتُلفَظ من واقع الناس، كالجنين الذي يَلفظه الرَّحم وهو غير مُخلَّق.
فالدعوة إلى جميع الناس: حاكمين ومحكومين؛ لأن الدعوة دعوة للحق، فلو كانت للمحكومين دون الحاكمين، لأصبحت فكرًا خاضعًا لِمَن يحكم بالباطل، ولو كانت للحاكمين دون المحكومين، لأصبحت وسيلة من وسائل هذا الحُكم الباطل.
ولهذا كان الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - حريصًا في بداية الدعوة على إعلانها على الملأ، والجهر بأنها دعوة إلى جميع الناس، فكان يَبعث إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وهو ما يزال في مرحلة الاستضعاف؛ تأكيدًا لأبعاد الدعوة من البداية، ودون اعتبار للإمكانيَّات، أو مُراعاة لميزان القوة بينه وبين هؤلاء الملوك.
فمن الملوك مَن كان يفهم قَصْد الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مثل "هرقل"، الذي وصَلته رسالة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بدعوته إلى الإسلام، فناقَش أبا سفيان الذي كان حاضرًا في بلاد الروم عندما أرادَ "هرقل" بَحْثَ أمرِ الرسالة، وتَمَّ حوار رائع حول الدعوة بين هرقل وأبي سفيان، انتهى بقول هرقل فيما رواه البخاري وأحمد: "والله لو كان ما تقول حقًّا، فسَيَمْلِك موضِعَ قدَمَيَّ هاتين، ولو كنت أعلم أني أَخْلُص إليه، لتَجَشَّمتُ - تمنَّيتُ - لقاءه، ولو كنتُ عنده، لغَسَلْتُ عن قَدَمه".
ثم يواصل تأكيد فَهْمه لطبيعة الدعوة الصحيحة، فيوجِّه نُصحه إلى الروم قائلاً: "يا معشر الروم، هل لكم في أن يَثبتَ مُلكم، فتُبايعوا هذا النبيَّ؟".
ومن الملوك مَن كان لا يَفهم قَصْدَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مثل كسرى ملك الفُرس، الذي ذُهِلَ لجُرأة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في بَعْثه برسالةٍ يدعوه فيها إلى الإسلام، ومزَّق الرسالة التي بعَثها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إليه، فكانت النتيجة أن دعا عليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بتمزيق مُلكه كلَّ مُمزَّقٍ، فقال فيما رواه البخاري: ((اللهمَّ مزِّق مُلكه كلَّ مُمَزَّق)).
وعندما يدعو رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على ملك الفرس، نرى كيف أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يَبعث برسائله وهو يَعتقد أنَّ هذا حقٌّ له، وأنَّ لهذه الرسائل قيمة الدعوة كلها، وأنها يجب أن تكون كذلك، حتى في نفوس هؤلاء الملوك، فليست الدعوة أقلَّ قيمة من ملك الفرس، حتى تُمَزَّق دون أن يُمَزَّق هذا الملك كلَّ مُمَزَّق.
ولقد كانت قريش من الذين لَم يَفهموا قَصْدَ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فظنَّت أنه لا يريد إلاَّ الحُكم، فعرَض عليه سادتُها أن يكون سيِّدًا عليهم، قائلين له فيما رواه أبو يعلى وعبد بن حميد، وحسَّنه الألباني: إن كنت تريد سيادة، سوَّدناك علينا، فرفَض الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - تلك السيادة.
فالحُكم ضرورة في تصوُّر الدعوة، ولكنَّه لن يأتِيَ مِنحة من المغتصبين له، ولن يتحقَّق بالمساومات الرخيصة، بل يجب أن يُستَردَّ بالجهاد والعمل؛ ليكون ولاية شرعيَّة حقيقيَّة، وليس مجرَّد تسلُّط شخصي، أو سيادة فردية، دون إمكانيَّات القيام بالحُكم والاستمرار فيه بعد الوصول إليه.
والمثال الذي يُثبت هذه الحقيقة هو النجاشي ملك الحبشة، الذي دخَل الإسلام بنفسه، ولَم تَدخل الحبشة وهو مَلِكها؛ لأن إسلام النجاشي - وهو حاكم - لَم يكن معناه إمكانيَّة الحكم بالإسلام، وكذلك هرقل ملك الروم، يودُّ أن تدخلَ الروم في الإسلام، ويُبدي تلك الرغبة قائلاً: يا معشر الروم، هل لكم في أن يَثبت مُلككم، فتُبايعوا هذا النبي؟ ولكنه لا يزيد شيئًا عن إبداء رغبته الشخصيَّة في إسلام الروم رغم خضوعها لحُكمه.
لكن يجب ألاَّ يَمنع الاستضعاف ضرورة المواجهة بين الدعوة والحكم الظالم، وليس في تلك المواجهة - دون اعتبار للإمكانيات المادية - أيُّ تهوُّرٍ؛ ولهذا بيَّن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن سيِّد الشهداء مَن يقوم إلى حاكم ظالم يأمُره ويَنهاه، وهو يعلم أنه سيَ***ه، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه الترمذي والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وصحَّحه الألباني: ((سَيِّد الشُّهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام ظالِم، فأمَره ونهاه، فقتَله)).
وإنما كان الأمر كذلك؛ لأنه أكَّد ما يؤكِّده الشهداء بقتالهم الكافرين أصحابَ القوة والسلطان، ويزيد عليهم أنَّ الشهداء كانوا يقاتلون باحتمال النصر أو الشهادة، وهو يواجه باحتمالٍ واحدٍ، وهو الشهادة.
((وكان له ساحر))، وهذه الجملة تُفيد أنَّ الساحر للملك، والسحر للحكم، وسبحان الله العظيم، لَم يكن السحر مجرَّد ظاهرة موجودة في المجتمع، بل - للأسف الشديد - كان اتجاهًا يحكم هذا المجتمع، وعندما يحكم السحر نفهم طبيعة الواقع الخاضع له، فلا بدَّ أنه واقع فاسدٌ، قائم بالظلم، ومحكوم بالهوى.
فعلى رأسه ملك مَبْدَؤُه السحر، وسلطانه القهر، فلا بد أنَّ المنهج وهمٌ، وأن القيادة قهرٌ، وأن الفكر خرافة، والواقع ضياع، وعندئذٍ يكون الإنسان؛ إمَّا مُتكبِّرًا لا يُعْجَب إلاَّ بنفسه، أو مقهورًا لا يَشعر حتى بنفسه.
والذي يَجعلنا نَفهم ذلك من البداية، هو أنَّ الحكم في أيِّ واقع هو المُحَصِّلة النهائية لكل الأبعاد الاجتماعيَّة، كما أنه الصورة الجامعة للتقاليد، والإطار المحدِّد للأخلاق، فكيف يكون هذا المجتمع ومُحصِّلة أبعاده، وصورة تقاليده، وإطار أخلاقه القهر والسحر؟!
وهذه ضرورة الحكم الظالم؛ لأنَّ الحكم بكلِّ أشكاله سيطرة على الواقع الإنساني، فإمَّا أن يكون الحكم سليمًا، فيقوم على بناء كِيان الإنسان وصيانته، وفي هذه الحالة يكون من مصلحة الحاكم أن يكون الإنسان الذي يُواليه عاقلاً عالِمًا قويًّا، وهذا هو الحكم الإسلامي الذي يَرعى الفرد ويُقَوِّيه، وإمَّا أن يكون الحكم جاهليًّا، فيقوم على تَفتيت كِيان الفرد، وتَشتيت كيان المجتمع؛ لأن الحكم الجاهلي لا يريد إلاَّ السيطرة دائمًا ولو إلى الدمار، وفي هذه الحالة يكون من مصلحة الحاكم أن يكون الإنسان الذي يُواليه غبيًّا جاهلاً ضعيفًا.
والسحر باعتباره توهُّمًا وكذبًا يُحقِّق أغراض الحاكم الظالم، وأيُّ منهج ليس من عند الله - عز وجل - يَخضع له الناس - يُحقِّق نتائج السحر، وليس هناك فارق بينهما إلاَّ في الشكل والاسم، فالمهم ألاَّ يكون في المجتمع قوَّة عاقلة أو عقل قوي، وهذا ما يتحقَّق بالسحر وبأي منهج بشري مَهْما كان؛ لأن أيَّ منهج غير إسلامي يتَّفق في خصائصه مع السحر؛ إذ إن السحر تخيُّل بتأثير عامل الخوف وباستغلال حالة الجهل، وأي منهج يتخيَّل الإنسان أنه سليم بتأثير الإرهاب الذي يُفرَض به المنهج من خلال الجهل والضَّعف - يُحَقِّق نتائج السحر.
وقول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كان ملك فيمَن كان قبلكم، وكان له ساحر))، يدلُّ على أنه لا بدَّ أن يكون لكلِّ ملكٍ من الملوك أصابِعُ خفيَّة مثل الساحر.
وهذا الساحر في حقيقة الأمر هو أهون الناس على الملك؛ فإذا وَجَد الملك مَن هو أفضل منه، تخلَّى عنه في التَّوِّ واللحظة، بل إنه إن حدَث منه أيُّ شيءٍ يُغضب الملك، فسَرعان ما يتحوَّل الملك إلى إعصار مدمِّرٍ يَعصف بحياة الساحر بلا تردُّدٍ.
فالساحر يَخدم الملك طلبًا لرضاه، ويعمل بالسحر ليُسخِط عليه الله - سبحانه وتعالى - وهكذا كلُّ مَن يعمل عند الملوك لا يأْمَن على نفسه أبدًا.
كان في الأمم السابقة مَلِكٌ وأرادَ أن يَبني قصرًا مشيدًا، فأمَر مهندسًا بارعًا اسمه سِنِمَّار أن يَبني له هذا القصر، فبنى له هذا القصر المشيد.
وفي جلسة صفاء، قال المهندس للملك: إنَّ في القصر لبنة لو جذَبها رجل، لانْهَدم القصر كله، فقال له الملك: يا سِنِمَّار؛ هل يعلم هذا أحد غيرك؟ قال: لا، فقتَله الملك؛ ولذلك كانت العرب تَضرب به المثل، فتقول: لَقِي جزاء سِنِمَّار.
وقضية السحر من القضايا الخطيرة جدًّا؛ حيث انتشر في أيَّامنا هذه انتشارًا كبيرًا، ووقَع فيه كثير من الناس، حتى بعض أهل الخير؛ إمَّا جهلاً، وإمَّا عجزًا؛ لوقوعه عليه وعدم قُدرته على دَفْعه بما أحلَّ الله؛ ولهذا فقد وقَفت مع هذه القضية وقفة في كتابي: "عون الرحمن في شرح أركان الإيمان" المبحث الثالث: "توحيد الألوهيَّة"، تناوَلْت فيها الجانب العقدي في هذه القضية، وأوضَحت فيها - بفضل الله - ما يعتقده أهل السُّنة والجماعة، وذلك في عدة محاور، وهي على الترتيب الآتي: هل السحر حقيقة أم لا؟ حكم الساحر، حد الساحر، بيان بعض ألوان السحر، المخرج الشرعى لِمَن أُصيب بالسحر، فارْجِع إلى هذا البحث، تُفد - إن شاء الله.
لكنَّ من أخطر أنواع السحر في هذه الأيام، ومن أكثره انتشارًا وتأثيرًا: سحر الكلمة؛ ولذلك قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه عنه البخاري: ((إنَّ من البيان لسحرًا)).
ولذلك أقول: إنَّ الإعلام هو ساحر هذه الأيام، فهو الذي يُزيِّن الباطل، ويُشَوِّه صورة الحقِّ وأهله؛ حتى هان الدين في قلوب أكثر المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العَلي العظيم.
كم من المسلمين قد صار الحقُّ عندهم باطلاً والباطل حقًّا؛ بسبب ما رسَخ في ذِهنه وعقله من هذا التشويش الذي يراه ويَسمعه كلَّ يوم في وسائل الإعلام!
فهذه الفئة لها في القديم والحديث دورٌ عظيم الخطورة والأهميَّة، وقد كان يُمثِّلها في العصور القديمة طائفة الشعراء الذين كانوا يصوغون الرُّؤَى، ويُشكِّلون الفكر، ويُحدِّدون الهُويَّة والصبغة، وهم الذين كانوا يُكوِّنون الرأي العام، ويُوَجِّهونه إلى الوجهة التي تَخدم مصالح السادة.
إن تبعيَّة الشعراء الذليلة لطبقة المُترَفين واضحة، وإن نِفاقهم لَبَيِّنٌ جَلِيٌّ، وقَلْبَهم للحقائق ظاهر معلوم، يُلبسون الباطل ثوبَ الحقِّ، يصفون الضلال بأنه هدًى، يُشَوِّهون صورة أهل الإيمان؛ تارة يُسمونهم: المُتطرفين، وأخرى بالأصوليين الرَّجعيين!
وإنَّ الشعراء قديمًا لهم الإعلاميُّون حديثًا، النفاق - إلاَّ مَن رَحِم الله - بِضاعتهم، والكذب - إلاَّ مَن عافاه الله - دَيْدَنهم.
هذا هو الحجاج بن يوسف الثقفي، ذلك الطاغية الظالم الذي قتَل عبدالله بن الزبير - رضي الله عنه - وقتَل سادات التابعين: سعيد بن جبير، وحطيط بن الزيَّات، وغيرهما - رحمهم الله - هذا هو الحجاج الظالم، قاتل الآلاف، وببضع دراهم تُدفع إلى شاعرَي الأمويين: جرير والفرزدق، يتحوَّل إلى ولِىٍّ من أولياء الله الصالحين، وإلى رسول من رُسل الخير والعدل!
فيقول جرير:
إنَّ ابْنَ يُوسُفَ فَاعْلَمُوا
مَاضِي البَصِيرَةِ وَاضِحُ الْمِنْهَاجِ


ويَردُّ عليه الفرزدق بقوله:
وَلَمْ أَرَ كَالحَجَّاجِ عَوْنًا عَلَى التُّقَى
وَلاَ طَالِبًا يَوْمًا طَرِيدَةَ نَابِلِ

بِسَيْفٍ بِهِ للهِ يَضْرِبُ مَنْ عَصَى
عَلَى قِصَرِ الأَعْنَاقِ فَوْقَ الْكَوَاهِلِ


إنه ي*** نعم، ولكن بسيف به لله يَضرب مَن عصى؛ أي: لا يَ*** إلاَّ بسيف الحقِّ، ي*** العصاة غضبًا لله - سبحانه وتعالى!
وهكذا تُبرَّر للطاغية - ولكل الطواغيت - الجرائم والأوزارُ، وتتناقَل الألْسِنة هذه الأبيات - كما تتناقل الألسنة الأغنية التي تمجِّد الزعيم - في مجتمع لا يُجيد ثلاثة أرباعه القراءة ولا الكتابة، تتناقل الألسنة الأبيات هذه، ويتحوَّل كلُّ حجاجٍ إلى رجل الإيمان والتُّقى، ويُصبح كلُّ سعيد بن جبير إرهابيًّا متطرِّفًا، رجعيًّا مُتخلِّفًا، ظلاميًّا متأخِّرًا.
وهكذا يصنع شعراء العصر؛ ولهذا تجد أنَّ الأمر بالجهر بالدعوة قد جاء في سورة الشعراء، وهو لَم يأتِ اتِّفاقًا - من غير عمدٍ - بل كأنَّ الله - سبحانه وتعالى - أراد أن يلفتَ نظر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ونظر المؤمنين عبر العصور والأجيال إلى تلك الفئة الضالة المُضِلَّة، فئة الشعراء - الإعلاميين - وأنها ستكون حربًا على أهل الحق.
وتلك قاعدة لا بدَّ وأن لها استثناءً، وشواذ القاعدة - كما أُكَرِّر كثيرًا - لا تَنفيها، بل تُثبتها.
قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴾ [الشعراء: 224]؛ أي: يَنطلي نفاقُهم وكذبُهم على السُّذَّج والمستَغفَلين، لماذا؟ الآية التي بعدها تُعطينا الإجابة: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴾ [الشعراء: 225]، ألاَ يرى هؤلاء المخدوعون السُّذَّج الذين يُصدِّقون كتابات الشعراء، ويَنفعلون بما يَبثون من سمومٍ في الأفلام والمسلسلات، ألاَ يرون فضائحهم التي تفوح روائحها الكريهة في الأجواء؟! ألا يرون أنهم يرفعون هذا فوق الأعناق نفاقًا، ثم هم هم الذين يَطرحونه أرضًا ويَطَؤُونه بالأقدام غدًا؟! يسبِّحون بحَمْد هذا ويُمَجِّدونه اليوم، ثم يَلعنونه غدًا! يُصوِّرون هذا في دَوْرة المياه اليوم، ثم يَحملونه هو ودورة مياهه على الأكتاف غدًا! ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 225 - 227].
ذكَر الله - سبحانه وتعالى - فئة الإعلاميين أو الشعراء الصالحين، الذين لا يَبتغون بأقوالهم وكتاباتهم إلاَّ مَرضاة الله - سبحانه وتعالى - ثم تهدَّد وتوعَّد فئة الضلال، الذين يبغضون الحقَّ، ويُبغِّضونه إلى الخَلْق، ويُحبون شيوع الرذائل والفواحش في المجتمع، توعَّدهم الله - سبحانه وتعالى - بأليم العذاب، وشديد العقاب.
قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كان مَلِك فيمَن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلمَّا كَبِر، قال للملك: إني قد كَبِرت، فابْعَث إليّ غلامًا أُعَلِّمه السحر)).
عجبًا لأمر هذا الساحر الذي عاش حياته كلها كافرًا بالله - سبحانه وتعالى - واقعًا في المُوبقات، وعلى الرغم من ذلك بدلاً من أن يُفكِّر في التوبة قبل أن يموت - فقد اقترَب أجله - إذا به يُفَكِّر كيف يستمرُّ هذا الشر من بعده؛ ليكون ذلك في ميزان سيِّئاته من بعده؛ كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه عنه أحمد ومسلم، والترمذي والنسائي وابن ماجه: ((ومَن سَنَّ في الإسلام سُنة سيِّئة، فعليه وزرها ووزر مَن عَمِل بها من بعده، من غير أن يَنقص من أوزارهم شيء)).
ومن هذا القول نجد نموذجًا لبطانة السوء التي يَهمها أن تبقى الأوضاع التي يَستفيدون منها وينعمون فيها، ومَثَلُهم الواضح سحرة فرعون الذين جاؤوا إلى المدائن لمواجهة موسى، فكان أوَّل ما قالوا: ﴿ أَإِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [الشعراء: 41 - 42]، فلم يسألوا عمَّن سيواجهون، وما هي قضيَّته؛ فهذا لا يهمُّ، ولكنَّ الذي يهمُّ هو الأجر.
غير أننا نَلحظ أنَّ الساحر في طَلبه للغلام، لَم يكن يريد منفعة شخصيَّة؛ لأن الطلب جاء لَمَّا أحسَّ الساحر بدُنوِّ أجله، فلم يكن يريد بهذا الطلب شَخْصَه.
وهنا يَبرز معنًى جديد، وهو أنَّ الساحر لَمَّا كَبِر وعاش عمره في تهيئة الواقع للملك مستفيدًا ومُنعَّمًا، لَم يُصبح الأمر بالنسبة له منفعة ذاتيَّة، بل أصبَح ذاتَه نفسَها التي أحبَّ أن تستمرَّ في شخص الغلام، فقد قضى عمره ساحرًا، ولا بدَّ من امتدادٍ لهذا العمر بعُمر جديد، فكان طلبُه للغلام.
ولكنَّنا لا يجب أن نتوقَّف عند هذا الحدِّ في تفسير طلب الساحر للغلام؛ إذ إننا نرى الدافع إلى هذا الطلب هو الشيطان القائم على أمر الجاهليَّة بأجيالها الممتدَّة؛ حيث إن الشيطان يَملِك تجربة الوجود الإنساني كله من بدايته، والتي يستطيع بها رَبْطَ الأجيال الجاهلية كلها جيلاً بعد جيلٍ؛ ليَستهلك تلك الأجيال كلها باستمرار الفساد وبقائه.
وبهذا يجب أن نُدرك خطورة الوجود الجاهلي باعتباره وجودًا ممتدًّا، وخطورة التفسير الذي يُعطيه الجاهليون لبقائه في أجيال متعاقبة.
فليس الامتداد تعاطفًا بين الأجيال؛ لأن الجيل الجاهلي مُفَتَّت ومُشَتَّت، لا يمكن أن يتعاطَف حتى مع نفسه، وأي جيل جاهلي يدَّعي أنه يعمل للمستقبل الإنساني، إنما يكون كاذبًا في اختلاقه التعاطُفَ مع أبناء المستقبل، كما كذب في اختلاقه جذورًا تاريخيَّة له في هذا الواقع الإنساني.
كذلك فليس هذا الامتداد الجاهلي (حتميَّة تاريخيَّة) مفروضة على الواقع الإنساني، لا سبيلَ إلى إنهائها أو تغييرها؛ لأن التاريخ وأحداثه لا يتحقَّق إلاَّ بقَدر الله وحده - سبحانه وتعالى.
والمسلمون وحدهم هم الذين يَمِلكون - بعقيدتهم وتصوُّرهم - سُنن هذا القدر وأسباب تحقيقه، وهم وحدهم أيضًا القادرون على إنهاء الوجود الجاهلي إذا الْتَزَموا تلك السُّنن، وأخذوا بهذه الأسباب.
لكنَّ السؤال الذي يطرح نفسه الآن:
لماذا طلَب الساحر من الملك أن يبعثَ إليه غلامًا صغيرًا، ولا يَبعث إليه شابًّا أو شيخًا كبيرًا؟!
والجواب: أنَّ الساحر إنما فعَل ذلك؛ ليتشبَّع الغلام بالسحر من صِغَره، ويَتَشرَّبه قلبه وعقله، وليَبقى مع الملك أكبر وقتٍ مُمكن؛ ليَخدمه في تنفيذ ما يريد، ومعلوم لدى الجميع أنَّ التعليم في الصِّغَر كالنَّقش على الحجر.
فإذا كان أهل الباطل يَحرصون كلَّ الحرص على تعليم الأولاد كلَّ هذا الشر والفساد، فأين المسلمون الذين يُعَلِّمون أولادهم الخير والصلاح؟!
أقول: إننا في أشدِّ الحاجة إلى أن نربِّي أولادنا على حبِّ الله وحبِّ رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليَنشأ الولد نشأة طيِّبة مباركة، فيحب الله حبًّا يحول بينه وبين مَعصيته، ويأخذ بناصيته إلى طاعته ورِضوانه، ويستنفر هِمَّته إلى العمل لنصرة هذا الدين.
كما أننا في أشدِّ الحاجة لأن نربطَ الطفل بالقدوة والمعلِّم الأوَّل محمد بن عبدالله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو القدوة وهو الأُسوة لِمَن أراد القدوة والأسوة؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
فلا يَنبغي أن يمرَّ علينا يومٌ إلا ونعلِّم أولادَنا سُنةً من سُنن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى يخرج هذا الجيل عالِمًا بالسُّنة، كارِهًا لكلِّ بدعة، مُتَأَسِّيًا بنبيِّه وقُدوته - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ونحن أيضًا في أشد الحاجة لأن نأخذ بنواصي أولادنا إلى حِفظ القرآن والعمل بما فيه؛ فإن النصرة لن تأتي إلاَّ من خلال التعايش مع كلِّ آية من آيات القرآن الكريم، الذي يمثِّل منهج حياة مباركة لكلِّ مَن أراد الحياة الحقيقيَّة التي عاش في ظلالها أصحابُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذين تربَّوا في ظلال القرآن، وامْتَزَجت دموعهم ودماؤهم بكلِّ حرفٍ من حروفه؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30].
كان سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه - في حروبه ضد الفرس إذا مرَّ بخيمة من خيام المسلمين بالليل، فسَمِعهم يقرؤون القرآن، كان يقول: من هنا يأتي النصر، وإذا مرَّ بخيمة أخرى فوجَد أصحابها قد ناموا، كان يقول: ومن هنا تأتي الهزيمة!
وكانت أُمُّ سفيان الثوري تقول له وهو طفل صغير: يا بُني، كلَّما تعلَّمت آية، فاعْرَض نفسك عليها، فإن ازْدَدتَ خشيةً بعِلْمك، وإلاَّ فاعْلَم أنَّ العلم وبالٌ عليك.
ونحن أيضًا في أشد الحاجة لأن نعلِّمَ أطفالنا سيرة الأنبياء، وبخاصة سيرة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكذلك سيرة الصحابة - رضي الله عنه - ونعلِّمهم المغازي؛ ليعرفوا كيف كان الصحابة يضحون بالنَّفس والمال من أجْل إعلاء كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، ومن أجل نُصرة دين الله - سبحانه وتعالى.
كان بعض السلف يقولون: كنا نعلِّم أولادنا السِّيَر والمغازي، كما كنَّا نُعَلِّمهم السورة من القرآن.
فعليك أيها الأخ الكريم أن تربِّي ولدَك تربية القادة، لا تربية العبيد، فتَجعله يعدُّ نفسه؛ لكي يكون خليفة للمسلمين الذي سيوحِّد الله به صفوف الأمة المسلمة، ويُعيد إليها مُقَدَّساتها المسلوبة - بإذن الله.
فكلُّ ما ذكرتُه عن تربية الأولاد ما هو إلاَّ خُطوة في طريق بَعْث الأُمة؛ لكي ينشأ جيلٌ يعرف الله ويحبُّه، فيَنصر الله بهم الإسلام، ويُعِز بهم المسلمين في كل مكان، كما نصَر بأصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبأولادهم الذين تربَّوا على القرآن والسُّنة.
قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فأتاه بغلام))، والغلام في لغة العرب: هو مَن كان بعد سنِّ الفِطام وقبل البلوغ.
وحينما يقرأ الإنسان هذه العبارة، يودُّ لو أنه يستطيع أن يمدَّ ذراعه؛ ليأخذ ذلك الغلام ويُنجيه من هؤلاء الناس؛ فإنه لا يُحزِن شيءٌ أكثر من ضياع الفطرة وإفسادها في مناخ المجتمعات الظالمة، فماذا لو نرى إنسانًا يَضيع، وفطرة تَفسُد، ثم لا نتقدَّم من أجْل حماية هذه الفطرة بأي جُهد أو عملٍ؟!
وماذا لو نرى إنسانًا قد مات على الكفر بعد أن وُلِد على الفطرة، ولَم نكن قدَّمنا له أسباب الهداية والحقِّ؟!
إن الداعية الحقيقي هو الذي يشعر بمسؤوليَّته تُجاه الفطرة الإنسانيَّة وحمايتها من أي تأثير جاهلي، ويحسُّ إحساسًا عميقًا بقيمة تلك الفطرة في واقع دعوته؛فالفطرة هي رصيد الدعوة في الواقع الجاهلي، وحينما تَفْسُد، فلن يكون للدعوة أيُّ وجود أو امتدادٍ.
وهذا هو ما قصَده نوح - عليه السلام - عندما دعا بهلاك قومه، لَمَّا رأى وجودَهم في ضلال، وامتدادَهم في فُجر وكفر؛ ﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ﴾ [نوح: 26 - 27].
فقد بلغ الضغطُ الجاهلي بطونَ الأمهات، فأصَبَحت النساء لا تَلِدن إلاَّ: ﴿ فَاجِرًا كَفَّارًا ﴾، فعند هذا لا يكون ثَمَّةَ أملٌ.
وقد جاء طَلَبُ الساحر - في رواية الترمذي - بعبارة: ((انْظُروا لي غلامًا فَهِمًا - أو قال: فَطِنًا - لَقِنًا، فأُعَلِّمه علمي)) وهذا يكشف بُعدًا خطيرًا للخطة الجاهليَّة الرامية إلى إفساد الفطرة، وهي: التركيز على النابهين المتفوِّقين أصحابِ المواهب والقدرات الخاصة؛ لضمان السيطرة الجاهلية على الواقع البشري.
قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وكان في طريقه إذا سلَك راهبٌ، فقعَد إليه وسَمِع كلامه، فأعْجَبه)).
بقدر الله - سبحانه وتعالى - يلتقي الغلام بالراهب في طريقه إلى الساحر بصورة عجيبة، فقد قعَد إليه وسَمِع كلامه فأعْجَبه، ولكنَّ القعود قبل السماع لَم يُذكر له سببٌ.
ولَم يكن هذا سهلاً على نفس الغلام؛ فقد كان يتعلَّم السحر من الساحر والدِّين من الراهب بما بينهما من تناقُض؛ فالدين حقائق واضحة وفِكر منظَّم، والسحر ضلالات غامضة وكَذِب ملفَّق، والدِّين يربي العقول والسحر يَغتالها، والدين يعالج الواقع، والسحر يُضلل عنه، والدين يبني الحياة، والسحر يَهدمها؛ ولهذا كان صعبًا على الغلام أن يستمرَّ في تلقِّيه الدينَ والسحر باطمئنانٍ، ولكنَّه يَجلس إلى الراهب راغبًا، وإلى الساحر كارهًا.
وسبحان الله، تدبَّروا - عباد الله - كيف أنَّ الملك وكلَّ من حوله يُجَنِّدون كلَّ طاقاتهم؛ ليصنعوا من هذا الغلام ساحرًا كافرًا، ولكنَّ الله - سبحانه وتعالى - يريد أن يصنعَ منه مؤمنًا موحِّدًا، بل وداعية إلى دين الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾ [يوسف: 21]، فيكون ما أراده الله - سبحانه وتعالى.
وهذا درْسٌ كبير لكلِّ مسلم نشأ ولدُه على معصية الله، أقول له: لا تيئَس، بل اجْتَهد أن تُنقذ ولدك من براثن الكفر والمعاصي، وخُذْ بيديه إلى أنوار التوحيد والإيمان، وسَلْ ربَّك - سبحانه وتعالى - أن يربِّي لك أولادك، وأن يَصنعهم على عينه، وأن يَجعلهم بركة على أُمَّة الحبيب محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
فقول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وكان في طريقه إذا سلَك راهبٌ، فقعَد إليه وسَمِع كلامه، فأعْجَبه))، في رواية الترمذي قال: ((وكان الرُّهبان إذ ذاك على دين الحقِّ))، فهذا يدل على أنَّ هذه الحادثة كانت بعد زمن المسيح - عليه السلام - لأن الرهبانيَّة لَم تظهر إلاَّ في أتْباعه - عليه السلام - ولكن يتَّضِح من كلام النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ هذا الراهب كان موحِّدًا لله - سبحانه وتعالى - ولَم يكن من أصحاب التثليث.
ومما يدلُّ على أنه كان هناك رهبان يعيشون على التوحيد في هذا الزمان، قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في وصْف حال الناس قبل البعثة: ((وإنَّ الله نظَر إلى أهل الأرض، فمَقَتَهم: عربَهم وعجَمَهم، إلاَّ بقايا من أهل الكتاب))؛ والحديث في صحيح مسلم.
فالتوحيد هو رصيد الفطرة؛ قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30].
وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه أبو يعلى والطبراني وصحَّحه الألباني: ((كل مولود يولَد على الفطرة؛ حتى يُعرب عنه لسانه، فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه)).
فالفطرة هنا هي الإسلام والتوحيد، ولقد فطَر الله - سبحانه وتعالى - الناس جميعًا على تلك الفطرة النقيَّة، وهذا هو الذي جعَل الغلام يُعجَب بكلام الراهب؛ لأنه لا يتكلَّم إلاَّ بالتوحيد، أمَّا الساحر، فهو لا يقول له إلاَّ طلاسمَ سحرية، تأْبَاها النفس المؤمنة، والقلوب التَّقيَّة النقيَّة.
وهذا يؤكِّد ما أُكَرِّره دائمًا - ويُكَرِّره كلُّ الدعاة الصادقين - من أن التغيير لا يكون من قمة الهرم، بل من القاعدة، فهؤلاء الذين يَزعمون أنَّ التغيير لا بدَّ أن يكون من قمة الهرم، لا شكَّ أنهم أخطؤوا كلَّ الخطأ؛ ولذلك كانوا يتعجَّلون النتائج، فأضرُّوا بأنفسهم وبغيرهم.
أمَّا أصحاب العقول السليمة، فيعلمون يقينًا أنَّ التغيير لن يكون إلاَّ من قاعدة الهرم؛ وذلك من خلال تربية جيلٍ على طاعة الله - سبحانه وتعالى - وطاعة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبذلك تَنصلح أحوال الأمة جملة واحدة، وبداية الألف ميل خُطوة، والله المستعان.
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فكان إذا أتى الساحر، مرَّ بالراهب وقعَد إليه، فإذا أتى الساحر ضرَبه، فشكا ذلك إلى الراهب)).
وتلمح من هذا النصِّ أنَّ الغلام كان على إصرار في القعود إلى الراهب؛ لأنه كان يقعد إليه كلما أتى الساحر، رغم أنَّ الساحر كان يَضربه كلما تأخَّر عنه، وهذا الضرب يمثِّل - بالنسبة للغلام - بلاءً وامتحانًا إذا راعَيْنا أنه غلامٌ صغير.
ولكنَّ الله - سبحانه وتعالى - يريد أن يتربَّى هذا الغلام - من البداية - تربية حقيقية كاملة، ويريد أن يكون ارتباطه بالدعوة متَّفقًا مع طبيعتها؛ لأن هذا الغلام سيكون منطلَقًا أساسيًّا لتلك الدعوة، وسيكون دليلَ الناس إليها؛ لذا كان لا بدَّ من أن يكون شخصية متكاملة بمعنى التكامل الشخصي للدعاة، والذي لا يتحقَّق ولا يتم إلاَّ بالاستعداد للبلاء والصبر عليه عندما يقع.
فطبيعة التلقي لهذا الدين هي التي تُحدِّد طبيعة اعتناقه والالتزام به والدعوة إليه، والذين يتلقون هذا الدين على أنه بلاءٌ، هم الذين يبقون إلى النهاية، وأخْذ هذا الدين بقوَّة هو ضمان الاستمرار عليه.
وبذلك أراد الله - سبحانه وتعالى - أن يتَّفق تكوين هذا الغلام مع طبيعة الدعوة، وألاَّ تَشُذَّ شخصيته عن تكاليفها؛ فابتلاه الله - سبحانه وتعالى - في لحظات التكوين ووقت النموِّ وفترة التربية، فصدَق وصبَر.
ولكنَّ الغلام يشتكي إلى الراهب هذا البلاء شكوى الذي يُعاني من مشكلة تعوق انطلاقه واستمراره، ولَم تكن شكوى الذي يقدِّم المعاذير ليتخلَّى ويتراجع، والحاسة السليمة للدعاة هي التي تَكْشف علَّة أيِّ شكوى.
فلمَّا كان الأمر كذلك، كان لا بدَّ أن يعالج الراهب له مشكلته، وهذا واجب تَفرضه الدعوة على الدعاة؛ ليُمَهِّدوا الطريق أمام مَن يستجيب لهم.
ولقد بيَّن الله - سبحانه وتعالى - قيمة هذا التمهيد، حينما أمَر موسى - عليه السلام - بالذهاب إلى فرعون، فعرَض موسى مشاكله على الله - سبحانه وتعالى - فقال - عليه السلام - : ﴿ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ﴾ [الشعراء: 14]؛ ولذلك جاء في تفسير الآيات: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ﴾ [الشعراء: 12- 13] قولُ ابن كثير: هذه أعذار سأل الله إزاحتها عنه، و ﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ﴾ [طه: 25 - 37].
وكذلك لَمَّا بعَث الله نبيَّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث يقول فيما رواه عنه مسلم: ((إن الله نظَر إلى أهل الأرض، فمَقَتَهم - عربَهم وعجَمَهم - إلاَّ بقايا من أهل الكتاب، وإنَّ الله ابتَعَثني في قريش، قلت: ربِّ، إذًا يَثلَغُوا رأسي ويَذروه خبزًا، قال: قاتل بِمَن أطاعك من عصاك، وابْعَثْ جيشًا نَبعثْ خمسة أمثاله، وأنْفِق فسَنُنفق عليك)).
فواضح من النصِّ كيف عرَض النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مشكلته على ربِّه ومخاوفه من قريش، كما عرَض موسى مخاوفه من آل فرعون، وكيف طمْأَنه الله - سبحانه وتعالى - كما طمْأَن موسى - عليه السلام.
وبضرورة تمهيد طريق الدعوة أمام السالكين له، فإن الراهب يقول للغلام: "إذا خَشِيت الساحر، فقل: حبَسَني أهلي، وإذا خَشِيت أهلك، فقل: حبَسَني الساحر".
ومن قول الراهب تتبيَّن لنا نظرته إلى الواقع، فقد كان يعتبره "دار حرب"؛ ولهذا أجاز لغلامه أن يَكذب؛ إذ إن الكذب لا يجوز إلاَّ في ثلاث حالات؛ كما أخبر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه الترمذي وأحمد: ((لا يَحِلُّ الكذب إلاَّ في ثلاث: يُحَدِّث الرجل امرأته ليُرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليُصلح بين الناس)).
والحرب هي الحالة التي كان الراهب يَعتبر نفسه عليها مع المجتمع الذي يعيش فيه.
ولتوضيح فكرة جواز الكذب في هذه الحالات الثلاث التي جاءت في الحديث، نجد أنَّ الجواز جاء بتلك الصيغة: "إن الله أجاز"؛ كما في رواية الصحيح؛ ولذلك ذكَر الإمام النووي في شرْح مسلم، باب قصة أصحاب الأخدود، والساحر والراهب والغلام، وقال: هذا الحديث فيه إثبات كرامة الأَوْلياء، وفيه جواز الكذب في الحرب ونحوها، وفي إنقاذ النفس من الهلاك؛ سواء نفسه أو نفس غيره ممن له حُرمة.
وذكَر صاحب "فتح الباري شرح صحيح البخاري": قال ابن المُنَيِّر: معنى الحرب خَدْعة، إنما هي المخادعة لا المواجهة؛ وذلك لخَطر المواجهة وحدوث الظَّفر مع المخادعة بغير خطرٍ.
قال ابن العربي في فتح الباري: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنهي؛ رِفقًا بالمسلمين لحاجاتهم إليه، وليس للعقل فيه مجال، فالجواز هنا ليس أساسه أمْرٌ أو إباحة مُطلقة، ولكنه إباحة مقيَّدة بحالات محدَّدة.
والذي يقوم على توضيح الأمر بعد ذلك، هو الحالة التطبيقية التي وقَعت في عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكانت في غزوة الأحزاب عن نُعيم بن مسعود الغطفاني - رضي الله عنه - أنه أتى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، إني أسْلَمْتُ، وإن قومي لَم يعلموا بإسلامي، فمُرني بما شئتَ، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنما أنت فينا رجل واحد، فخذِّل عنَّا إن استطعْتَ؛ فإن الحرب خَدْعة)).
فخرَج نُعيم بن مسعود - رضي الله عنه - حتى أتى بني قُريظة، وكان لهم نديمًا في الجاهليَّة، فقال: يا بني قريظة؛ قد عرَفتم وُدِّي لكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدَقت، لستَ عندنا بمتَّهم، فقال لهم: إن قريشًا وغطفان ليسوا كأنتم؛ البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تَقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشًا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نُهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك، لَحِقوا ببلادهم، وخَلَّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تُقاتلوا مع القوم؛ حتى تأخذوا منهم رهنًا من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثِقة لكم على أن تُقاتلوا معهم محمدًا حتى تُناجزوه، فقالوا: لقد أشرْتَ بالرأي، ثم خرَج حتى أتى قريشًا، فقال لأبي سفيان بن حرب ومَن معه من رجال قريش: قد عرَفتم وُدي لكم وفراقي محمدًا، وبأنه قد بلَغَني أمرٌ قد رأيت عليَّ حقًّا أن أُبلغكموه نُصحًا لكم، فاكْتُموه عني، فقالوا: نفعل، قال: تعلمون أنَّ معشر يهود قد نَدِموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنَّا قد نَدِمنا على ما فعلنا، فهل يُرضيك أن نأخُذَ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم، فنُعطيكهم، فتَضرب أعناقهم، ثم نكون معك على مَن بَقِي منهم؛ حتى تَستأصِلهم؟ فأرْسل إليهم: أن نعم، فإن بعَث اليهود يلتمسون منكم رهنًا من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحدًا، ثم خرَج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنكم أهلي وعشيرتي، وأحب الناس إليَّ، ولا أراكم تتَّهموني، قالوا: صدَقت؛ ما أنت عندنا بمتَّهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، فما أمرُك؟ ثم قال لهم ما قال لقريش، وحَذَّرهم ما حذَّرهم، وبذلك أوْقَع بينهم، وانتصَر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بذلك عليهم.
وأما قول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الحرب خَدْعة))، فقد ورَد في البخاري كتاب الجهاد 157، المناقب 25، الاستتابة 6، ومسلم في الزكاة 153، جهاد 19، 18، وأبي داود في الجهاد 92، وفي السُّنة 38، والترمذي في الجهاد 5، وابن ماجه في الجهاد 28، والدارمي في السير 13، وأحمد ج 1، 2، 3، 6.
قال الإمام النووي - رحمه الله -: "اعْلَم أنَّ الكذب وإن كان أصلُه محرَّمًا، فيجوز في بعض الأحوال بشروط قد أوْضَحتُها في كتاب الأذكار، ومختصر ذلك أنَّ الكلام وسيلة إلى المقاصد؛ فكلُّ مقصود محمود يُمكن تحصيله بغير الكذب، يَحرُم الكذب فيه، وإن لَم يُمكن تحصيله إلاَّ بالكذب، جاز الكذب.
ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحًا، كان الكذب مباحًا، وإن كان واجبًا، كان الكذب واجبًا، فإذا اختَفى مسلم من ظالِم يريد قَتْله، أو أخذ ماله، وأخفى ماله، وسُئِل إنسان عنه، وجَب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده وديعة، وأراد ظالِم أخْذَها، وجَب الكذب بإخفائها، والأحوط في هذا كله أن يُوَرِّي، ومعنى التورية: أن يَقْصد بعبارته مقصودًا صحيحًا ليس هو كاذبًا بالنسبة إليه، وإن كان كاذبًا في ظاهر اللفظ وبالنسبة إلى ما يَفهمه المخاطب، ولو ترَك التورية، وأَطْلَق عبارة الكذب، فليس بحرام في هذه الحال.
واستدلَّ العلماء بجواز الكذب في هذه الحال بحديث أُمِّ كلثوم أنها سَمِعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ليس الكذَّاب الذي يُصلح بين الناس، فيَنْمي خيرًا، أو يقول خيرًا))؛ والحديث مُتَّفق عليه، وزاد مسلم في رواية: قالت أُمُّ كلثوم: "ولَم أسْمعه يرخِّص في شىء مما يقول الناس إلاَّ في ثلاث؛ تعني: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأتَه، وحديث المرأة زوجَها".
ولكن ينبغي أن يَحذر كلُّ مَن يُمارس الدعوة من الخروج عن حدود النصوص التي حدَّدها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في جواز الكذب؛ حتى لا تتسرَّب تلك الصفة إلى طبيعته، فيُكتب عند الله كذَّابًا، ويَفقد أقوى إمكانيَّات التأثير على الناس؛ إذ إن الثقة في الداعية هي باب الإيمان بالدعوة، وأساس التحرُّك فيها.
ولهذا؛ فإن أوَّل كلمة قالها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في دعوته، كانت لتأكيد أساس الثقة فيه، فقال فيما رواه عنه البخاري ومسلم: ((أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقيَّ؟)) ، قالوا: ما جربنا عليك كذبًا، قال: ((إني نذير لكم بين يدَي عذاب شديد)).
فقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فكان إذا أتى الساحر، مرَّ بالراهب وقعَد إليه، فإذا أتى الساحر ضرَبه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال له: إذا خَشِيت الساحر، فقل: حبَسني أهلي، وإذا خَشِيت أهلك، فقل: حبَسَني الساحر))، هذا القول يترتَّب عليه مسألتان في غاية الأهمية:
الأولى: الحرص على طلب العلم، وهذا واضح جدًّا من حِرص الغلام على الذهاب إلى الراهب، على الرغم من تعرُّضه للأذى الشديد من أهله ومن الساحر، فأين طلاب العلم ليتعلَّموا هذا الدرس الغالي من هذا الصبي الصغير الذي لا يَفْتُر عن طلب العلم رغم هذا الإيذاء؟!
والثانية: هل يُطيع المسلم وَالِدَيه في تَرْك طلب العلم؟!
والجواب: إذا كان هذا العلم فَرْضَ عينٍ على المسلم، كتعلُّم التوحيد وفقه العبادات الواجبة عليه، كالطهارة والصلاة، والصيام والزكاة - لِمَن يَملِك مالاً يُخرج منه الزكاة - وعِلم الحلال والحرام، فلا يجوز له أن يُطيع والديه في تَرْك هذا العلم.
أمَّا إن كان العلم فَرْضَ كفاية، فلا يجوز له أن يَعصي وَالِدَيه، بل عليه أن يُطيع أمرهما، وبالجملة، فعليه أن يَسعى إلى برِّهما في كلِّ الأحوال.
ونعود إلى الغلام في مرحلة البلاء، ودائمًا مع شِدَّة البلاء والأذى تظهر الآيات التي تُعين على الصبر، وتُطَمْئِن النفوس: "فبينما هو كذلك، إذ أتى على دابَّة عظيمة قد حبَسَت الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل، فأخَذ حجرًا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبَّ إليك من أمر الساحر، فاقْتُل هذه الدابَّة؛ حتى يَمضي الناس، فقَتَلها، ومضى الناس".
وهنا نَكتشف أنَّ الغلام كان قلقًا لتَلَقِّيه من الراهب والساحر في وقتٍ واحد، ولقد كان من الممكن أن يستمرَّ الغلام في تلقِّيه للدِّين والسِّحر دون قلقٍ، إذا كان يسمع للراهب والساحر دون شعور أو تفكيرٍ؛ لأن السماع حينئذٍ سيكون مجرَّدًا من التأثُّر، وسيُصبح الدين والسحر عند الغلام مجرَّدَ فكرٍ وكلام، ولكنَّ القلق الذي نشأ في نفس الغلام، كان بسبب تأثُّره العميق بكلام الراهب وإدراكه السليم لمعنى الدين.
ومن هنا نُدرك الصعوبة الكبيرة التي يُعانيها المسلم الأصيل في مواجهة الواقع الفاسد، ونُدرك أنَّ الأصالة الإسلامية لا بدَّ أن تُحرِّك المسلم لتحديد موقفه؛ كما فعَل الغلام.
وليس سبب القلق أنَّ الراهب والساحر كانا في نظر الغلام سواء، ويريد أن يَطْمَئِنَّ إلى أحدهما، ولكنَّه كان يطلب اليقين من الواقع بعد اليقين بالفطرة في صِدق ما عليه الراهب؛ لأنه كان يَطْمَئِنُّ إليه؛ بدليل أنَّ الغلام لَمَّا أراد الدعاء الذي سيتَحقَّق به الاطمئنان فعلاً، قال: "اللهم إن كان أمر الراهب أحبَّ إليك من أمر الساحر"؛ لنَفهم أنَّ البَدء بذِكر أمر الراهب قبل الساحر يعني أنه يريد أن يرتبطَ إيمانه بالراهب، وكذلك نجد أنَّ الغلام قال: "اللهمَّ"، وهذا بلا شكٍّ مما تَعلَّمه من الراهب، ويكون هذا معناه أنَّ المقياس الذي أراد الغلام أن يُفاضِل به بين الراهب والساحر، هو من عند الراهب وبتعاليمه؛ مما يدلُّ على أن حقيقة الدين استقرَّت في ضمير الغلام، ومَلأتْ عقله وكِيانه.
ويدلُّ طلب الغلام لليقين - من خلال الواقع - بفَضْل الراهب على الاتجاه الذي يريد الغلام أن يأخُذَه بدينه؛ لأنه كان يريد أن يتحرَّك به في حياة الناس، وسيُواجههم بما يؤمن به مواجهة واقعيَّة عمليَّة، فلا بدَّ أن تبدأَ هذه المواجهة بيقينٍ من خلال هذا الواقع؛ فليست الدعوة في نظر الغلام مجرَّد فكرة واقتناع شخصي بها، ولكنها فوق ذلك واقعٌ يتحقَّق بالقَدَر الذي يَسير به الوجود.
ولقد أحسَن الغلام في طلبه لليقين لَمَّا اختار حادِثَ الدابَّة التي تسدُّ على الناس الطريق؛ إذ إن هذا الحادث وما تَمَّ فيه يعتبر بحقٍّ تجربةً كاملة للدعوة بجوهرها وأبعادها، كما تتضمَّنه التجربة من خلال القصة كلها.
فهناك دابَّة تسدُّ على الناس طريق سَيْرهم، تُمَثِّلُ في إحساس الغلام أيَّ طاغوت يسدُّ على الناس طريق هدايتهم، فيأخُذ حجرًا؛ ليكون سببًا للقدر الإلهي في قَتْل هذه الدابة، ويدعو الله - مع أخْذه بالسبب - بأن يَ*** الدابَّة إذا كان أمر الراهب أحبَّ إليه من أمر الساحر، فيَ***ها، ويمضي الناس، فيعلم الغلام أنَّ الحق الذي أكَّده قدر الله - سبحانه وتعالى - بقَتْل هذه الدابة هو الحقُّ الذي عليه الراهب.
ومعنى استغلال الغلام لموقف الدابة التي تسدُّ على الناس الطريق، هو حياة الدعوة في كِيان الغلام، فهذه الحياة هي التي جعَلته يلتقط الموقف بمعناه الكامل وأبعاده النهائيَّة.
وهذا شأن الدعوة حينما تكون حياة الداعية، فيَنظر إلى كلِّ شيء من خلالها، ويُفسِّر بها أيَّ معنى أو حدَثٍ؛ لأنها عقيدتُه وتصوُّره وواقعه، وليست رغبة شخصيَّة قد تتغيَّر، أو مَيْلاً بالفكر قد يُنسى.
إذًا عندما يختلط الحقُّ بالباطل، فإن الله - سبحانه وتعالى - يُسبِّبُ الأسباب التي تجعل الحقَّ واضحًا جليًّا كوضوح الشمس في وسط النهار، فعندنا الغلام الآن كان يتعلَّم التوحيد في نفس الوقت الذي كان يتعلَّم فيه السحر، فامْتَلأ قلبه وعقله بالحقِّ والباطل في آن واحدٍ، وكان لا بد من التنقية والتصفية.
وهنا تتدخَّل العناية الإلهيَّة، فيبعث الله - سبحانه وتعالى - تلك الدابة؛ لتسدَّ الطريق أمام الناس، في نفس الوقت الذي يمرُّ فيه الغلام في هذا المكان؛ ليرى المشهد أمام عينه، فوجَدها فرصة ليَعلم أيُّ الأمرين أفضل: أمر الراهب أو أمر الساحر؟ فأخَذ الغلام حجرًا صغيرًا - لأنَّ يده لا تستطيع حَمْل الحجر الكبير - وقال: "اللهمَّ إن كان أمر الراهب أحبَّ إليك من أمر الساحر، فاقْتُل هذه الدابة؛ حتى يمضي الناس، فقَتَلها ومضى الناس".
وفي هذا المشهد نرى فوائد كثيرة، أذكر بعضها باختصار:
الفائدة الأولى: أنَّ الغلام تضرَّع إلى الله - سبحانه وتعالى - أن يوضِّح له أيهما أفضل: أمر الراهب أو أمر الساحر؛ وذلك لأن الغلام كان على يقينٍ من أنه لا يعلم ما في القلوب إلاَّ الله - سبحانه وتعالى - وهو - سبحانه وتعالى - الذي يعلم الخير من الشر؛ ولذلك فالمؤمن يقول في دعاء الاستخارة: "فإنك تَقْدِر ولا أقْدِر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علاَّم الغيوب".
والمؤمن يعلم أنه لا يقدر على إجابة الدعاء إلاَّ الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62].
الفائدة الثانية: أنه قدَّم أمر الراهب على الساحر، وهذا دليل على أنَّ فطرة الإنسان تميل دائمًا إلى حبِّ التوحيد، وتَنْفِر من الشِّرْك.
الفائدة الثالثة: أنه قال: "اللهمَّ إن كان أمر الراهب أحبَّ إليك"، ولَم يقل: أنفع لي، فهو لا يبحث عن الشيء الذي يَنفعه هو، بل يبحث عن الشيء الذي يحبُّه الله - عز وجل - ولذلك يجب على كلِّ مؤمن أن يفعلَ كلَّ ما يحبُّه الله، ويَبتعد عن كلِّ ما يُغضبه؛ سواء كان ذلك موافقًا لأهوائه ورغباته، أم لا.
الفائدة الرابعة: حِرصه الشديد على إنقاذ الناس من هذه الدابَّة، وهذا هو الواجب على المؤمن؛ أن يسعى دائمًا لجَلْب الخير لكلِّ مَن حوله، وإنقاذهم من الشرور والمهالك؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77]، وفي الصحيحين عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((المسلم أخو المسلم؛ لا يَظلمه ولا يُسلِمه، مَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كربةً، فرَّج الله عنه بها كُربة من كُرَب يوم القيامة، ومَن ستَر مسلمًا، ستَرَه الله يوم القيامة)).
الفائدة الخامسة: أنه كان على يقين وثقة في قدرة الله الذي لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو يعلم أنه لا يستطيع أحدٌ أن يَ*** تلك الدابة إلاَّ بتقدير الله - سبحانه وتعالى.
وقد روى الطبراني أن تلك الدابَّة كانت أسدًا.
لذلك علينا أن نتخيَّل هذا المشهد: غلام صغير لا يستطيع أن يحمل إلا حجرًا صغيرًا، فكيف يضرب الأسد بذلك الحجر الصغير فيموت؟!
إن هذا الحجر الصغير الذي أمسَك به الغلام، لا يَ*** فأرًا صغيرًا، فضلاً عن أن ي*** أسدًا كبيرًا، لكنَّها كرامة من الله - سبحانه وتعالى - أكرَم بها هذا الغلام؛ لأنه لجأ إلى الله - سبحانه وتعالى - وتوكَّل عليه، وفي نفس الوقت أرادَ الله - سبحانه وتعالى - أن يُعَرِّفه طريق الخير من طريق الشر؛ ليكون على يقينٍ من أنه على الحقِّ، فيَبذل من أجْله كلَّ ما يَملِك، حتى نفسه التي بين جَنْبَيه.
الفائدة السادسة: قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فرماها فقَتَلها، ومضى الناس))، هذا دليل على وقوع كرامات الله لأوليائه المؤمنين، وهذا كثير جدًّا في كتاب الله - سبحانه وتعالى - وسُنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكُتب التاريخ والسِّيَر.
فها هي مريم - عليها السلام - يُكرمها الله - سبحانه وتعالى - بهذه الكرامة: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37].
وها هو جُريج العابد يُنطق الله له الصبيَّ الصغير؛ ليُثبت براءَته.
وها هم أصحاب الكهف الذين لَبِثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا بلا طعام ولا شراب.
وها هو حنظلة - رضي الله عنه - تُغَسِّله ملائكة الرحمن - جلَّ جلاله.
وها هو جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - يطير بجناحَيْه في الجنة مع الملائكة؛ كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه عنه الترمذي والحاكم وصحَّحه الألباني: ((رأيتُ جعفر بن أبي طالب مَلَكًا يَطير في الجنة مع الملائكة بجَناحَيْن)).
وها هو بلال - رضي الله عنه - يسمع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - صوت نَعْليه في الجنة.
وها هو سعد بن معاذ - رضي الله عنه - يهتزُّ عرشُ الرحمن لِمَوته، ويُشيِّعه سبعون ألف ملك.
ولو استطردتُ في ذكر الأمثلة، لرأيتَ العجب العُجاب؛ قال شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية: "ومن أصول أهل السُّنة التصديق بكرامات الأولياء، وما يُجري الله على أيديهم من خوارق العادات، في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، والمأثور عن سالف الأُمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأُمَّة من الصحابة والتابعين، وسائر فِرَق الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة".
وقال الشيخ محمد خليل هرَّاس: "وقد تواتَرَت نصوص الكتاب والسُّنة، ودَلَّت الوقائع قديمًا وحديثًا على وقوع كرامات الله لأوليائه المُتبعين لهَدْي أنبيائهم، والكرامة أمرٌ خارق للعادة، يُجريه الله على يد وَلِي من أوليائه؛ معونةً له على أمر ديني أو دنيوى، ويُفَرِّق بينها وبين المعجزة: بأن المعجزة تكون مقرونة بدعوى الرسالة بخلاف الكرامة".
ويتضمَّن وقوع هذه الكرامات حِكمًا ومصالحَ كثيرة، من أهمها ما يلي:
أولاً: أنها كالمعجزة تدلُّ أعظم دَلالة على كمال قدرة الله ونفوذ مشيئته، وأنه فعَّال لِمَا يريد، وأنَّ له فوق هذه السُّنن والأسباب المعتادة سننًا أخرى لا يقع عليها عِلْم البشر، ولا تُدركها أعمالهم، فمن ذلك قصة أصحاب الكهف، والنوم الذي أوقَعه الله بهم تلك المدة الطويلة، مع حِفظه - سبحانه وتعالى - لأبدانهم من التحلُّل والفناء، ومنها ما أكرَم الله به مريم بنت عمران من إيصال الرزق إليها وهي في المحراب؛ حتى عَجِبَ من ذلك زكريا - عليه السلام - وسألها: أنَّى لك هذا؟! وكذلك حَمْلها بعيسى بلا أبٍ وولادتها إيَّاه، وكلامه في المهد، وغير ذلك.
ثانيًا: أنَّ وقوع كرامات الأولياء هو في الحقيقة معجزة للأنبياء؛ لأن تلك الكرامات لَم تحصل لهم إلاَّ ببركة متابعتهم لأنبيائهم، وسَيْرهم على هَدْيهم.
ثالثًا: أنَّ كرامات الأولياء هي البشرى التي عجَّلها الله لهم في الدنيا؛ فإن المراد بالبشرى كلُّ أمرٍ يدلُّ على ولايتهم وحُسن عاقبتهم، ومن جملة ذلك الكرامات.
هذا ولَم تَزَل الكرامات موجودة، لَم تَنقطع في هذه الأُمَّة إلى يوم القيامة، والمشاهدة أكبر دليل.
وأنْكَرت الفلاسفة كرامات الأولياء، كما أنكروا معجزات الأنبياء، وأنكَرت الكرامات أيضًا المعتزلة وبعض الأشاعرة؛ بدعوى الْتِبَاسها بالمعجزة، وهى دعوى باطلة؛ لأن الكرامة - كما سبق أن ذكَرتُ - لا تَقترن بدعوى الرسالة.
لكن يجب التنبُّه إلى أنَّ ما يقوم به الدجاجلة والمشعوذون من أصحاب الطُّرق المُبتدعة، الذين يُسمون أنفسهم بالمتصوِّفة من أعمال ومخاريق شيطانيَّة، كدخول النار، وضَرْب أنفسهم بالسلاح، والإمساك بالثعابين، والإخبار بالغيب، إلى غير ذلك - ليس من الكرامات في شيء؛ فإن الكرامة إنما تكون لأولياء الله بحقٍّ، وهؤلاء أولياء الشيطان.
"ورجَع الغلام إلى الراهب، فأخبَرَه"، وهذا هو التصرُّف التلقائي عندما يواجه الداعية موقفًا خطيرًا أو حدثًا هائلاً، فيذهب متلهِّفًا إلى مَن تلقَّى منه منهج الدعوة؛ ليسمع منه تفسير هذا الموقف بتصوُّر الدعوة: "فقال له: أي بُني، أنت اليوم أفضل مني".
ولَم يكن الموقف الذي وقَفه الراهب موقفًا عاديًّا عندما قال للغلام ذلك، ولكنَّه موقف فاصل في حياة كلِّ داعية، فقد تُخفي الدعوةُ في الإنسان الذي يُمارسها حبًّا خفيًّا للتميُّز، باعتبار أنَّ هذه الممارسة صورة من صُوَر تميُّزه على الناس، ولكن هذه العورة النفسيَّة القبيحة تَنكشف حتمًا إذا واجَه الإنسان موقفًا يَشعر فيه أنَّ هناك مَن هو أفضل منه في فَهم الدعوة، وأقْدَر على تحقيق مصلحتها، ولكنَّ الراهب لَم يكن من هذا النوع، بل كان تقيًّا نقيًّا؛ "فقال له: أي بني، أنت اليوم أفضل مني"، كلمات كلها إخلاص وتجرُّد، فهذا الراهب المعلِّم كان أصيلاً؛ إذ أخبَر الغلام أنه قد أصبَح أفضلَ منه بلا حرَجٍ، ومن أين سيأتيه الحرَج وقد خلَصَت نفسه لله - سبحانه وتعالى؟! فهو لَم يكن يُعلِّم ليُقال عنه: عالِم، ولَم يكن يدعو ليكون على رأس أتْباع؛ ولهذا يَفتح الطريقَ لِمَن يظنُّ أنه يَملِك خدمة الدعوة أكثر منه، فيجعل من نفسه نقطةً على محيط دائرة النمو العقَدي والحركي للغلام، فيقول له: "أنت اليوم أفضل مني"، وإذا تذكَّرنا أن الغلام كان صغيرًا سنًّا، وأنه ما الْتَقَى بالراهب إلاَّ منذ وقت قريبٍ، فإننا نُدرك مدى الفَهم الصحيح عند الراهب للدعوة، فالدعوة ليستْ بالعمر الذي يَعيشه الإنسان، ولكن بالإيمان والكفاءة والأثر.
وبذلك يُمَثِّل الراهب في واقع الدعوة ضرورة القيادة الزاهدة، ويُمَثِّل الغلام ضرورة الاستجابة الفطريَّة.
فالقائد كان راهبًا لا يريد حظًّا من الدنيا، والمستجيب كان غلامًا حديثَ عهدٍ بالدنيا، فالقيادة الزاهدة والاستجابة الفطرية هي الارتباط الصحيح الذي يُبارك الله - سبحانه وتعالى - فيه؛ ليكون بداية البناء وأساسه، وهي المقياس الذي يُقبل به أيُّ ارتباط أو يُرفض منذ البداية؛ حتى يتمَّ البناء، وبعد أن رأينا التجرُّد في قول الراهب، نرى الوجدانية؛ إذ إن الراهب أخبَر غلامه بأنه أفضل منه بنفس راضية مُطْمَئنة، وبقوله: "أي بُني".
وإذا تذكَّرنا أنَّ العلاقة بين الراهب والغلام علاقة إنسانيَّة ناشئة في مجال الدعوة، ونجدها قائمة بهذه الوجدانيَّة، نعلم أنه مَهْمَا كانت العلاقة الإنسانيَّة في العمل الحركي حاسمة وساخنة، فلا بدَّ ألاَّ تَنقصها الوجدانيَّة.
والدرس المستفاد من هذه الجملة دَرْسٌ عظيم في التواضع؛ لأن الراهب أفضل من الغلام - بلا شك - فهو الذي علَّمه التوحيد ولقَّنه العلم، وعلى الرغم من ذلك يقول له: أنت اليوم أفضل منى! قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 215]، وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54].
وعن عِيَاض بن حِمَار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله أوحى إليّ أن تواضَعوا؛ حتى لا يَفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحد على أحد))، والحديث رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما نَقَصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلاَّ عزًّا، وما تواضَع أحد لله إلاَّ رفَعَه الله))، والحديث رواه مسلم.
وعن أنس - رضي الله عنه - أنه مرَّ على صِبيان، فسلَّم عليهم، وقال: "كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَفعله"، والحديث رواه البخاري ومسلم.
وعنه - رضي الله عنه - قال: "إن كانت الأَمَة من إماء أهل المدينة لَتأخذ بيد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتَنطلق به حيث شاءَت"، والحديث رواه البخاري.
وعن الأسود بن يزيد قال: سُئِلت عائشة - رضي الله عنها -: ما كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصنع في بيته؟ قالت: "كان يكون في مِهْنة أهله - يعني في خدمة أهله - فإذا حضَرَت الصلاة خرَج إلى الصلاة"، والحديث رواه البخاري.
وعن أبي رفاعة تميمٍ بن أُسَيْد - رضي الله عنه - قال: "انتَهَيت إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يَخطب، فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه؟ فأقبَل عليَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وترَك خُطبته حتى انتهى إليّ، فأُتِي بكُرسي، فقعَد عليه، وجعَل يُعَلِّمني مما علَّمه الله، ثم أتى خُطبته، فأتَمَّ آخِرَها"، والحديث رواه مسلم.
وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان إذا أكَل طعامًا لَعِق أصابعه الثلاث، قال: وقال: ((إذا سقَطَت لُقمة أحدكم، فليُمط عنها الأذى وليَأكُلها، ولا يَدَعها للشيطان))، وأمَر أن تُسْلَت القصعة، قال: ((فإنكم لا تَدرون في أيِّ طعامكم البركة))، والحديث أخرَجه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما بعَث الله نبيًّا إلاَّ رعى الغنم))، قال أصحابه: وأنت؟ فقال: ((نعم، كنتُ أرعاها على قراريط لأهل مكة))، والحديث رواه البخاري.
وعنه - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لو دُعيت إلى كُراع أو ذراع، لأَجْبت، ولو أُهدِي إليّ ذراعٌ أو كُراع، لقَبِلت))، والحديث رواه البخاري.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كانت ناقة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - العَضباء لا تُسْبَق، أو لا تكاد تُسْبَق، فجاء أعرابي على قَعُودٍ له فسَبَقها، فشقَّ ذلك على المسلمين حتى عرَفه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((حَقٌّ على الله ألاَّ يرتفع شيء من الدنيا إلاَّ وضَعه))، والحديث رواه البخاري.
ومن الدروس المستفادة من هذه الجملة أيضًا، استحباب تشجيع طالب العلم النجيب؛ ليكون ذلك دافعًا له على التفوق والاستمرار على طريق الخير والهدى، ولكن في هذه المسألة لا بدَّ من مُراعاة أمر آخر في غاية الأهميَّة؛ وأعني بذلك الأمر: التربية الحركيَّة الصحيحة.
فبعد أن رأينا التجرُّد والوجدانيَّة، نرى التربية الحركية الصحيحة؛ إذ إنَّ الراهب لَمَّا ذكَر للغلام مِيزته، أتْبعها بالمسؤوليَّة التي تقع عليه باعتبار تلك المِيزة، وهذا في الواقع حماية للإنسان من الغرور؛ لأنَّ الإحساس بالمِيزات دون الإحساس بتكاليفها، يجعل الإنسان يعيش في شعور دائم بمِيزاته، فيَنحرف به ذلك الشعور إلى الغرور؛ ولهذا لَمَّا قال الراهب للغلام: "إنَّك اليوم أفضل مني"، قال له: "وإنَّك ستُبْتَلَى".
وهذا دليلٌ على أنَّ كلَّ مَن سلَك طريق الهدى والإيمان والدعوة إلى الرحيم الرحمن، فإنه سيُعاني من البلاء والعداء من أصحاب النفوذ والسلطان؛ ولذلك قال الرحيم الرحمن - سبحانه وتعالى -: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 4].
وقال - صلَّى الله عليه وسلم -: ((مَن يُرِد الله به خيرًا، يُصِب منه))، والحديث رواه البخاري.
ولذلك لَزِمنا جميعًا العلمُ بأنَّ طريق الجنة هو الصبر، فقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه عنه البخاري ومسلم: ((حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات)).
والمكاره لا بدَّ لها من الصبر، ولكن كيف يَصِل العبد إلى درجة الصبر مع ما نعلم جميعًا من شدَّة البلاء الذي يَصُبُّه أعداءُ الدعوة على أهلها؟
أقول: هناك أمور تُعين على الصبر، وثَمَّة أيضًا وسائل بعينها اتَّخذها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لزَرْع الصبر في قلوب الصحابة - رضي الله عنهم - وقد آتَت أُكلها بفَضْل الله - سبحانه وتعالى - وقد تناوَلت هذه القضيَّة بالتفصيل في كتابي: "صفحات من حياة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم" عند الكلام عن الدعوة الجهريَّة، فلا داعى لإعادته هنا، بل ارْجِع إليه، يَنفعْك الله به - إن شاء.
لكنَّ الخلاصة أنَّ البلاء سُنة لا تتبدَّل ولا تتغيَّر؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].
وليَكُن عزاؤك في كلِّ هذا أنَّ سيِّد الأوَّلين والآخرين - صلَّى الله عليه وسلَّم - أُوذي في الله إيذاءً شديدًا في الطائف وفي مكة، فتلك سُنة الله - سبحانه وتعالى - في خَلْقه؛ أنَّ الإنسان كلما ازداد إيمانًا، اشتدَّ عليه البلاء والإيذاء؛ ولذا يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه: ((أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حَسب دينه؛ فإن كان في دينه صُلبًا، اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رِقَّة، ابْتُلي على قدر دينه، فما يَبرح البلاء بالعبد؛ حتى يتركَه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة))، والحديث في صحيح الجامع.
فما علينا إلاَّ أن نتسلَّى بأخبار الأنبياء والصالحين الذين صبَروا على البلاء صبرًا عظيمًا، وما علينا إلاَّ أن نتلَّمس حُسْن الجزاء المترتب على الصبر على البلاء، وذلك في قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه الترمذي وابن ماجه: ((إنَّ عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمَن رَضِي فله الرِّضا، ومَن سَخِط فله السَّخَط))، والحديث في صحيح الجامع.
فتَشعر أنَّك بهذا الابتلاء أصبَحت حبيبًا للرحمن، وتعلم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - قد أراد بك كلَّ الخير بهذا الابتلاء، وتوقِن أنه - سبحانه وتعالى - قد أجزَل لك العطاء في قوله: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157].
وأمَّا قول الراهب للغلام: "فإنِ ابْتُلِيت، فلا تدلَّ عليّ"، ففيه دليل على أنه يَحرُم على المسلم أن يقذِفَ بنفسه في البلاء، ويُعرِّض نفسه للفتنة في دينه؛ ففي الصحيحين عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((لا تَتمنَّوا لقاء العدوِّ، وإذا لَقِيتموهم فاصبروا)).
ولذلك يَنبغي على المسلم أن يأخذ بالأسباب؛ من أجْل أن يحافظَ على نفسه وعلى دينه ودعوته، فها هو النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُسِرُّ بدعوته ثلاث سنوات؛ خوفًا من بَطْش قريش بأصحابه - رضي الله عنهم - حتى لا يَفتنوهم في دينهم، وعندما هاجَر، هاجر سرًّا؛ أخْذًا بالأسباب، ولا يقولَنَّ إنسان: كيف هاجَر سرًّا وقد هاجَر عمر - رضي الله عنه - جهرًا أمام المشركين؟! فإن عمر قد أخَذ بالعزيمة، والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أخَذ بالرُّخصة؛ رَحْمة بأُمَّته من بعده؛ لأنَّ فِعْل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - تشريع للأمة، وأمَّا فِعْل عمر - رضي الله عنه - فليس تشريعًا للأُمَّة.
إذًا فقول الراهب: "فلا تدلَّ عليَّ"، هذه هي فكرة السريَّة في منهج الحركة، التي يعطي بها الدعاة لأنفسهم فرصةً لتجميع الطاقات وحَشْد الإمكانيات.
والسريَّة من الناحيَّة العملية ضرورة تُنشئها ظروف الدعوة، وتتحدَّد ضرورتها بمنهجيَّة الفكر وواقعيَّة الأسلوب الشجاع، أمَّا من الناحية التاريخية، فقد كانت السرية مرحلة أساسية في تاريخ الدعوة منذ بدايتها، فهذا نوح - عليه السلام - أوَّل رسول لأهل الأرض، يقول: ﴿ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ﴾ [نوح: 8 - 9].
بَيْدَ أني سأذكر مثالاً تفصيليًّا بدعوة موسى - عليه السلام - حيث نشَأت ضرورة السرية فيها منذ اللحظة التي وُلِد فيها، فإننا نعلم أنَّ فرعون كان يُذبِّح أبناء بني إسرائيل، وأنَّ موسى وُلِد في تلك الظروف، فكان لا بدَّ من حمايته كابنٍ من أبناء بني إسرائيل الذين يُ***ون، فدبَّر الله - سبحانه وتعالى - حماية موسى، والتي بدأَت بوحي الله - سبحانه وتعالى - إلى أُمِّه: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7].
والتقييم الحركي لهذه العملية يُبرز الدقة المتناهية التي تمَّت بها، فقد أمَر الله - سبحانه وتعالى - أمَّ موسى أن تُرضعه؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - بعد ذلك حرَّم عليه المراضع كلَّها؛ حتى تكون رِضاعة أُمِّه سببًا في شِبَعه وقتَ تحريم المراضع عليه.
كما أنَّ الله - سبحانه وتعالى - جعل اليمَّ يُشارك في تنفيذ هذه العملية؛ حتى تنقطعَ كلُّ الخيوطِ التي قد يَتوصَّل بها آلُ فرعون إلى معرفة المكان الذي جاء منه موسى ومعرفة حقيقته، فكان أمر الله - سبحانه وتعالى - إلى اليمِّ: ﴿ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ﴾ [طه: 39].
وفي الوقت الذي يَلتقط فيه آلُ فرعون موسى من اليمِّ، يلقي الله - سبحانه وتعالى - عليه محبَّة منه: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39].
ثم كانت المتابعة سرًّا لموقف موسى بواسطة أُخته: ﴿ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 11]، وتكلَّمت مع آل فرعون دون أن تُخبرهم طبعًا أنها أُخته: ﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ [القصص: 12]، ودون أن تُخبرهم أنَّ البيت المقصود هو بيته.
ويعود موسى - عليه السلام - إلى أُمِّه بالأمان والحماية، بعد عمليَّة دقيقة قوية، ثَبتَت دِقَّتها، وتأكَّدت قوَّتها، من خلال قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ﴾ [طه: 39]، فقَد بلَغ الأمر أن يُسلَّم موسى - عليه السلام - إلى آل فرعون؛ ليتحقَّق له النجاة منهم، وقد كان هذا تأكيدًا لقيمة السريَّة في حماية موسى بواقعه الفردي.
أما قيمة السريَّة في حماية واقع الدعوة، فتَكشفه لنا آيات القرآن، ونَكتشف بتلك الآيات وجود تنظيم سري دقيق في دعوة موسى - عليه السلام - ووجود الدَّلائل المادية عليه، وكان الدليل هو إيمان رجل من آل فرعون: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ [غافر: 28].
وقد كان الرجل من آل فرعون، واستطاع أن يكتمَ إيمانه؛ مما يدلُّ على أصالة هذا الإنسان، وقوَّة هذا التنظيم.
ويَزداد قُرب الآيات القرآنية من واقع فرعون؛ لتَكشف لنا إيمان زوجة فرعون نفسه: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11]، وذلك دون أن يدري فرعون، رغم ما في العلاقة الزوجية من خطورة على الأسرار؛ إذ إنها علاقة إفضاء بالمشاعر والأفكار.
ولنا أن نؤكِّد دِقَّة وقوَّة هذا التنظيم الذي كان في عهد موسى - عليه السلام - من خلال امتداده سرًّا إلى آل فرعون وامرأة فرعون، ومن خلال التوقيت الذي كشَف فيه الرجل المؤمن عن إيمانه؛ إذ إنه كان الوقت الذي تقرَّر فيه قَتْلُ موسى - عليه السلام.
ونعود إلى القصة لنجدَ الغلام قد بدأ دوره، "وكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص، ويُداوي الناس من سائر الأدواء"، والأكمه: هو الذي خُلِق أعمى، والبَرَص: مرض لا شفاءَ له حتى يومنا هذا.
فانْطَلَق الغلام بدعوته، سائرًا بالمعروف بين الناس، مؤلِّفًا قلوبهم بالمنافع والخير، مؤكِّدًا إنسانيَّة الدُّعاة وحبَّهم للبشر، ويكون عمله هذا تحقيقًا لقدر الله في حياة هؤلاء الناس؛ ليؤمنوا بعد ذلك - من خلال شفائهم ومداواتهم من سائر الأدواء - بعد أن يحبَّ الناس القدرَ الذي يتحقَّق فيهم باعتباره مداواةً وشفاءً، ويَصير حبُّ القدر حبًّا لله - وهو محقِّق هذا القدر - وحبًّا للغلام - وهو سببُ هذا القدر - وحبًّا للدعوة، وهي حِكمة هذا القدر، وقد كان هذا شأن جميع الأنبياء ومعجزاتهم، وأوضح مثال على هذا عيسى - عليه السلام - الذي كانت معجزته كما قال: ﴿ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 49].
وصالِح - عليه السلام - الذي كانت معجزته الناقة التي تَشرب ماءَ القوم يومًا وتُعطيهم لبنًا، وتترك لهم الماء يومًا؛ ﴿ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الشعراء: 155].
غير أنه في معجزة موسى - عليه السلام - تأكَّدت بوضوح الأبعاد الكاملة للمعجزة، وهي إثبات النبوَّة، والقيمة الحركيَّة، والنفع الإنساني، فهي التي تأكَّدت بها نبوَّته: ﴿ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴾ [الشعراء: 30 - 33].
وهي أيضًا التي نجا بها موسى - عليه السلام - ومَن معه من فرعون؛ ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء: 63].
وهي أيضًا التي ضَرَب بها الحجر؛ ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ﴾ [البقرة: 60].
فالمعجزة - وهي القدر الإلهي الذي يتحقَّق على أيدي الأنبياء ووسيلة إقناع الناس - لَم تَكُن خارقة كونيَّة فحسب، ولكنها كانت أيضًا مَنفعة ماديَّة؛ لكي يعلم - مَن يُمارس الدعوة بعد الأنبياء - أنَّ الإقناع مَهْما بلَغَت إمكانيَّاته، لا يكفي دون تقديم الخير للناس؛ ليكون الإقناع بالعقل في الدعوة مع تأليف القلوب بالحبِّ لها، وأنَّ نِطاق الدعوة لن يتعدَّى نطاق المنافع التي يؤلِّف بها هؤلاء الدُّعاة قلوبَ الناس.
وتتحدَّد العلاقة بين المعجزة والكرامة على أساس أنَّ الكرامة تابعة للمعجزة؛ لتبعيَّة الأولياء للأنبياء؛ ولذلك يقول ابن تيميَّة في أنواع الكرامة: "ومنها ما يتحدَّى بها صاحبها أنَّ دين الإسلام حقٌّ، كالغلام الذي أتى الراهب وتَرَك الساحر، وأمَر بقَتْل نفسه بسَهْمه باسم ربِّه، وكان قد خُرِقت له العادة، فلم يتمكَّنوا من قَتْله، أما الصالحون الذين يدعون إلى طريق الأنبياء لا يخرجون عنها، فتلك خوارقهم من معجزات الأنبياء، فهؤلاء إذا قُدِّر أنه جرى على يد أحدهم ما جرى للأنبياء؛ كما صارَت النار بردًا وسلامًا على أبي مسلم - أحد الصحابة - كما صارَت من قبلُ على إبراهيم الخليل أبي الأنبياء، فهذه الأمور مؤكِّدة لآيات الأنبياء، وهي أيضًا من معجزاتهم بمنزلة ما تقدَّمهم من الإرهاص".
ولَمَّا كان الغلام من أُمَّة عيسى - عليه السلام - كانت كرامته من جِنس معجزة نبيِّه؛ حيث كانت المعجزة: ﴿ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 49]، وكانت كرامة الغلام أن: "كان يُبرئ الأكمه والأبرص، ويُداوي الناس من سائر الأدواء".
وعندما كان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، كان ينشئ تيَّارًا مرتبطًا بكِيان الإنسان، وهذا هو الأسلوب الصحيح للدعوة في مثل هذا المجتمع، الذي يُبَدِّد السحرُ فيه طاقة الفكر، وقوَّة الذِّهن؛ لأن الناس كانوا في حاجة إلى الإحساس بالواقع، وإحساس الإنسان بكِيانه هو قمة الإحساس بالواقع؛ ولهذا كان تأثير الغلام مباشرًا في هذا الكِيان، من خلال المداواة والشفاء - بإذن الله.
ومن هنا نعلم لماذا كانت مواجهة سحرة فرعون بعصا موسى عندما تحوَّلت إلى حيَّة؛ ﴿ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: 69]، فآمَن السحرة؛ لأنهم رأوا الحيَّة: ﴿ تَلْقَفْ ﴾، فعَلِموا أنها واقعٌ، فضاع تأثير السحر.
وهكذا حدَّد الغلام قضية دعوته، وربَط تلك القضية بواقع الناس، وألَّف قلوبهم عليها، فأصبَح للدعوة تيَّارًا قويًّا امتدَّ إلى كل مجالات المجتمع.
وحتى هذه اللحظة لَم يكن الملك قد عَلِم بخبر الغلام، وهو الأمر الغريب حقًَّّا؛ حيث إن الغلام لَم يكن بعيدًا عن دائرة الملك؛ لأن الملك هو الذي أتى بالغلام إلى الساحر، ولأن الغلام كان في مرحلة إعداد ليكون ساحرًا للملك، وأيضًا لأنَّ الغلام كان يتحرَّك في المجتمع بصورة علنيَّة واسعة، ولكن الله قدَّر ألاَّ يعلم الملك بخبر الغلام إلاَّ من خلال جليسه - الذي سيَظهر في القصة بعد قليل - وذلك بعد أن أصبَح للدعوة تيَّارٌ قوي، وهذه كانت مرحلة البداية.
وبداية كلِّ دعوة مرحلة قدريَّة خالصة، تتحقَّق فيها حماية الدعوة بصُوَرٍ متعددة، عندما لا تَملِك الدعوة أسباب الحماية المادية، فكانت صورة الحماية في دعوة الغلام هي الستر والإخفاء، رغم الوضوح والعلانية والحركة الواسعة.
لكني قبل أن أستطردَ في أحداث القصة مع الغلام وجليس الملك، أحبُّ أن أقِفَ مع مسألتين في غاية الأهميَّة نستفيدهما من هذا الموقف:
المسألة الأولى: أن قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "وكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء"، فيه دليل على مشروعيَّة التداوي طلبًا للشفاء، وليس في ذلك أيُّ قدحٍ في توكُّل العبد على ربِّه - سبحانه وتعالى - وأيضًا ليس ثمة تعارُضٌ بين هذا وبين حديث الصحيحين في قصة السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وفيه: ((هم الذين لا يَسترْقُون ولا يَكتوون، ولا يَتطيَّرُون، وعلى ربِّهم يتوكَّلون))؛ وذلك لأن الحديث يدلُّ على فَضْل تَرْك بعض أنواع التداوي، مثل: الاسترقاء والكي، وليس معناه أن نتركَ التداوي بكلِّ أنواعه، مع اعتبار الخلاف في عدم الاسترقاء: هو عدمه مطلقًا أم عدم استعمال المحرَّم منه فحسب؟ وأمَّا التداوي بالمحرَّمات - كالخمر وغيره - فهو مُحَرَّم، ولا أعلم في ذلك خلافًا.
المسألة الثانية: أنَّ الملك لا يعلم الغيب، ولو كان العبد يعلم الغيب، لاستَكْثر من الخير وما مسَّه السُّوء، ولكن لا يعلم الغيبَ إلاَّ الله.
الله وحْده هو الذي يعلم الغيب، فالملائكة لا تعلم الغيب النسبي ولا المُطلق، وهذا التقسيم - أصلاً - تقسيمٌ ليس له قيمة، فيقولون مثلاً: الجن من الممكن أن يعرِفَ الغيب النسبي، مثال ذلك: لو حدَث أمرٌ ما في حجرة غير التي نحن فيها، فالجن بإمكانه أن يَخرج فيعرف هذا الأمر، فهو غيب بالنسبة لنا، شهادة بالنسبة للجن، ولا يَخفى خروج هذا الكلام عن أصل العلم بالغيب.
فالملائكة لا تعلم الغيب، والدليل على ذلك أنَّ الله - سبحانه وتعالى - علَّم آدمَ الأسماء كلها، ثم عرَضهم على الملائكة؛ ﴿ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 31 - 32]، فهذه الأسماء غَيْبٌ بالنسبة للملائكة، لكنَّها شهادة بالنسبة لآدمَ؛ لأنه يعرفها، إذًا الملائكة لا تعلم الغيبَ.
ولا يعترض بعض الناس بقول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾[البقرة: 30]، فيقول: من أين عرَف الملائكة أنَّ هذا الخَلق الجديد سيُفسد في الأرض ويَسفك الدماء، إلاَّ إذا كانوا يعلمون الغيب؟!
أقول: لا، فالله هو الذي علَّمهم، وهم قد وضَعوا قاعدة صريحة تُعتبر نصًّا في هذه المسألة وفي غيرها؛ ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ﴾ [البقرة: 32].
وإذا كانت الملائكة لا تعلم الغيب، فهل الجن يعلمون الغيب؟!
أقول: الجنُّ أيضًا لا يعلمون الغيب، فرَبُّ العِزَّة - سبحانه وتعالى - سخَّر لسليمان الجنَّ، فصارَت الجنُّ تعمل عنده - عليه السلام - كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾ [سبأ: 13]، يعملون له أشياء كثيرة، وسليمان - عليه السلام - مُتَّكِئ على مِنْسَأته، يراقب الجن وهي تعمل، ينظرون فيَرون سليمان، فيُقبلون على عملهم بجدٍّ واجتهاد.
قبَض الله - سبحانه وتعالى - سليمان - عليه السلام - فهل يعرف بأمْر مَوْته أحد؟! أقول: نعم؛ ثَمَّة عددٌ هائل من الملائكة يعلمون أنَّ سليمان قد قُبِض؛ فإن الرُّوح الطيِّبة إذا كانت في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة، جاءَتْها ملائكة بِيض الوجوه، فجَلَسوا منها مدَّ البصر، فكل هذا العدد الهائل من الملائكة، عَلِموا بموت سليمان، لكنَّ الجنَّ لَم يَعلموا بعدُ، ينظرون فإذا سليمان مُتَّكئ على مِنْسَأته، فيقول بعضهم لبعض: اعْمَل، اشْتَغِل، اجْرِ؛ سليمان سيَضربك، سيُعذِّبك، سيفعل وسيفعل.
وفي نفس الوقت كانت دابَّة الأرض تأكل مِنْسَأة سليمان، فقد مات على جِذْع شجرة، فلمَّا عجَز عن حَمْله، خَرَّ؛ ﴿ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ [سبأ: 14].
وقد يسأل سائل: ما معنى: ﴿ تَبَيَّنَتِ ﴾، هل الجن لا يعرفون أنهم لا يعلمون الغيب؟! أقول: الجن دجَّالون كذَّابون، دائمًا يكذبون على أنفسهم وعلى غيرهم، فقال أحدهم مرة لصاحبه: إني أعلم الغيب، فتعجَّب صاحبه، وقال: وأنا أيضًا أعلم الغيب، فقال الثالث والرابع والعاشر نفس الكلام، وشاعَ الأمر بينهم أنهم يعلمون الغيب، كلُّ واحد منهم على يقينٍ من أنه لا يعلم الغيب، وأنه كذَّاب، لكنَّه يظنُّ أنَّ الآخر يعلم ولو قليلاً.
فأراد ربُّ العِزَّة - سبحانه وتعالى - أن يُرِيَهم أنهم جميعًا كذَّابون، وأنه لا يعلم أيٌّ منهم شيئًا من الغيب، فقبَض سليمان وهو واقف أمامهم، فلو أنَّ أحدًا منهم يعلم الغيب، لكفَّ عن هذا العمل الشاق المرير، الذي عبَّر الله - سبحانه وتعالى - عنه بقوله: ﴿ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾، لكنَّ كلَّ واحدٍ منهم ينظر فيرى سليمان واقفًا، فيجري ويُخرج آخرَ طاقته في العمل؛ ﴿ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ [سبأ: 14]، فعرَفوا جميعًا أنهم جميعًا كذَّابون.
الأنبياء أيضًا لا يعلمون الغيب؛ فقد جاءت الملائكة إبراهيم - عليه السلام - في صورة بشرٍ، فأعدَّ لهم عجلاً سمينًا، وأنْضَجه وقرَّبه إليهم، إذًا إبراهيم في طول هذه المدَّة لا يعلم أنهم ملائكة، خرَجوا من عند إبراهيم وذهبوا إلى لوط - عليه السلام - فضاق بهم ذرعًا، وقال: ﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ [هود: 80]، فلوط أيضًا لا يعلم الغيب، وقوم لوط جاؤوا إليهم يُهرعون، يظنون أنهم بشرٌ، يريدون أن يفعلوا بهم الفاحشة، فقوم لوط أيضًا لا يعلمون الغيب.
والأولياء لا يعلمون الغيب، فأفضل الأولياء قاطبة هو صِدِّيق الأُمَّة الأكبر: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ما الدليل؟! الدليل أن أفضل الأُمَم هي أُمَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفي الحديث الذي صحَّحه الألباني في "ظلال الجنة" أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وُزِن بالأُمَّة فرجَح بها، ثم وُزِن أبو بكر بالأُمَّة فرَجَح بها، إذًا فأبو بكر أفضل الأولياء، ومع ذلك تقول له ابنته أُمُّ المؤمنين عائشة - رضى الله عنها -: "أجِب عني رسول الله يا أبي - في حادثة الإفك - فيقول: "والله ما أدري ماذا أقول يا ابنتي!".
فإذًا نخرج من هذه المسألة بقاعدة في منتهى الأهميَّة، وهي: أنه لا يعلم الغيب إلاَّ الله؛ ﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [النمل: 65]، فلا الأنبياء يعلمون الغيب، ولا الأولياء - الذين يتمسَّحون بهم ويطوفون حولهم - يعلمون الغيب، ولا الجن يعلمون الغيب، وحتى الملائكة لا تعلم الغيب؛ فلا يعلم الغيب إلاَّ اللهُ.
ولذلك فهذا الملك لا يعلم الغيب، ولو كان يعلم أنَّ هذا الغلام الذي جاء به، سيُحدث الله - عز وجل - به من التغيير ما سيأتي معنا - إن شاء الله - لَم يكن يأتي به أبدًا، وكان يفعل أيَّ شىء آخر، لكن يأتي به ليُثَبِّت له مُلكه، فيكون زوال الملك على يديه، هذا ما لَم يكن يَرضى به الملك أبدًا لو أنه يعلم الغيب.
يُتبع - إن شاء الله تعالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 14-06-2015, 01:51 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

قصة أصحاب الأخدود (3)
محمود العشري


نعود إلى القصة وإلى الغلام والملك؛ يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((فَسِمع جليسٌ للملك كان قد عَمِي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ها هنا لك أجمَع إن أنت شَفيتني)).
فهؤلاء لا يعرفون إلا لُغة المال، ولكنَّ الداعية الصادق لا يضعُ قَدمًا أو يَرفعها إلا وهو يبتغي بذلك الأجر والمثوبة من الله - سبحانه وتعالى - فلا تَشغله الدنيا بكلِّ ما فيها؛ لأنه يعلم يقينًا أنَّ الدنيا لا تساوي عند الله جَناح بعوضة، ولو كانت تساوي جَناح بَعوضة، ما سقى كافرًا منها شَرْبة ماء؛ ولذلك فالداعية الصادق يقدِّم كلَّ ما يستطيع أن يقدِّمه للناس من حوله؛ طلبًا لِمَرضاة الله - سبحانه وتعالى.
فجليس الملك يقول له: "ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني"، فيَرد الغلام على الجليس مُبينًا له أنه ليس هو الذي يَشفي، ولكنه الله - سبحانه وتعالى - فيقول: "أنا لا أشفي، ولكن الله هو الذي يشفي".
من هنا يبدأ الغلام غَرْسَ بذرة التوحيد في قلب جليس الملك؛ ليعلم أنَّ الله وحْده هو النافع الضار، وأنه بيده وحْدَه مقاليد السموات والأرض، وأنه هو وحْدَه الذي يَملِك الشفاء.
فالغلام تجاهَل الفكرة التي عرَضها الجليس - فكرة الهدايا - والتي لَم تنلْ من إحساسه شيئًا، وقال له: "إن أنت آمنتَ بالله، دعوتُ الله فشفاك".
وهنا ترتفع قيمة الأمر بالإيمان الذي طلبَه الغلام في تصور الجليس؛ لأنَّ شفاءَه سيكون بهذا الإيمان، ولأن الأمر بالإيمان كان بديلاً للهدايا والمادة التي تَنال من نفوس الناس تقديرًا واعتبارًا، فانعكَس هذا التقدير والاعتبار على الأمر الذي طلبَه الغلام، "فآمَن الجليس، فشفاه الله".
وعندما قال الغلام: "أنا لا أشفي أحدًا، ولكنَّ الله هو الذي يشفي"، إنما أكَّد بذلك عقيدته من خلال المنفعة التي قدَّمها للجليس، وهذا هو الأساس الأول الذي تقوم عليه فكرة تأليف القلوب في الدعوة؛ إذ إنه يجب أن ترتبطَ المنفعة المقدَّمة بالعقيدة المعروضة، وهذا الارتباط هو الذي سيعطي لتلك العقيدة قيمتَها في نفوس الناس ابتداءً،فهناك فارِق بين تقديم المنفعة لمجرَّد المنفعة، والمنفعة لتأكيد العقيدة.


وهذا موقفٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه لنا الإمام مسلم، يوضِّح لنا هذا الفارق، حين جاء إليه رجل يطلب مالاً، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: ((خُذ ما بين هذا الوادي))، وفي رواية لمسلم: "أعطاه غنمًا بين جَبلين"، فقال الرجل: أتَهْزأ بي؟ قال: ((لا))، فأخَذ الرجل كلَّ الإبل التي كانتْ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولَم يترك شيئًا، دون أن يَمنعه أحدٌ، فلمَّا اقترَب من قبيلته، قال: "يا قوم، أسْلِموا؛ فقد جِئتكم من عند مَن لا يخشى الفقر".
فهنا قصَد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يُعطيَه المال كله، ففكَّر الرجل في هذا التصرُّف، ففَهِمَ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يخشى الفقر، وكان هذا الفَهم هو الدافع الأوَّل لإسلامه، ودعوة قومه بعدَه إلى الإسلام.
والواقع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اختار قضيَّة عقَديَّة حيَّة في واقع المجتمع الجاهلي؛ ليعالجها في صورة المنفعة المادية، وهي مشكلة خشية الفقر؛ ولذلك كان الأسلوب مؤثرًا، والتأثير بالغًا في نفس الرجل الذي كان يُعاني - مع غيره - من تلك المشكلة.
وعندما قال الغلام: "إنْ أنت آمنت بالله، دعوتُ الله فشفاك"، فإنه يكون قد استغلَّ حاجة الجليس إلى الشفاء، فعرَض عليه الإيمان قبل أن يدعوَ الله فيَشفيه،وهذا أساس آخرُ في تأليف القلوب؛ لأن الإنسان عندما يضطرُّ ويحتاج، يكون أقربَ إلى الله - سبحانه وتعالى - من أن يكون مستغنيًا.
ولقد سار يوسف - عليه السلام - بهذا الأسلوب في دعوته، عندما احتاج إليه صاحباه في السجن لتفسير رؤيتهما، فعرَض دعوته عليهما قبل تلبية حاجتهما؛ ليبثَّ بذلك عقيدته الصحيحة بين السجناء، ويعرِّفهم بالله - سبحانه وتعالى -: ﴿ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [يوسف: 37 - 38]، ثم بدأ يُفصح عن عقيدته إفصاحًا كاملاً، ويَكشف لهما عن فساد اعتقادهما واعتقاد قومهما، فقال: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 39 - 40].
لقد رسَم يوسف - عليه السلام - بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة - كلَّ معالم هذا الدين، وكل مقومات هذه العقيدة، كما هزَّ بها كلَّ قوائم الشِّرك والطاغوت والجاهلية هزًّا شديدًا عنيفًا.
وهكذا يَبِينُ لنا كيف أن يوسف - عليه السلام - استغلَّ حاجة الناس إليه في دعوتهم إلى توحيد الله - عز وجل - وهذا ما ينبغي أن يَفعله كلُّ داعية صادق، فلو كان طبيبًا، فهو يستطيع أن يستخدمَ مِهنته في الدعوة إلى الله - مع مكاسبه الدنيوية - وذلك بأن يَربط قلب المريض بأن الشافي هو الله، وإنِ استطاع أن يكشِفَ على مريض فقير، ويُعطيه الدواء من عنده، ثم يَطلب منه أن يُقابله في المسجد؛ ليطمئنَّ على أحواله، فيكون بذلك قد استطاع أن يضمَّ رجلاً شاردًا إلى قافلة المؤمنين، وهكذا في كلِّ مجال من مجالات العمل، يستطيع المسلم أن يخدمَ الناس، ويقدِّم لهم يدَ العون وهو يدعوهم إلى الله - سبحانه وتعالى.
بدأ يوسف - عليه السلام - بعد ذلك يفسِّر لهما الرؤيتين: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 41].
وبذلك تكلَّم يوسف - عليه السلام - مع صاحِبَيْه عن دعوته في لحظة الاحتياج الكامل لسماعه، وهذه هي لحظة التأثير التي صَنَعها الغلام مع الجليس، فكانت التنيجة أن آمَن الجليس.
"فآمَن الجليس، فشفاه الله"، هكذا في بساطة "آمن الجليس"؛ وذلك لأن حقيقة الإيمان كامِنة في نفس كلِّ إنسان، ولا يَنقص إلاَّ أسلوب الدعوة الصحيح الذي يتعامَل به الدُّعاة مع الإنسان؛ لتتكشَّف تلك الحقيقة بإذن الله - سبحانه وتعالى.
فهذا هو الجليس يؤمن بمجرَّد أن يطلبَ منه الغلام ذلك، وإذا كان إيمان الجليس مثالاً عجيبًا في بساطة الاستجابة للدعوة الصحيحة، فإن هناك مثالاً أعجب، وهذا المثال هو إسلام ملكة سبأ مع سليمان، والذي سيؤكِّد لنا أنَّ أساس الدعوة ليس بالكلام الذي تُعرَض به القضية فقط، بل بصحة الأسلوب العملي الذي ينجحُ في كَشْف حقيقة الإيمان الكامنة في كِيان الإنسان، حتى دون الطلب الصريح أو الدعوة المباشرة، ولو بكلمة واحدة، فكلُّ ما حدَث من سليمان مع ملكة سبأ أنه أدْخَلها في تجربتين: الأولى لإثبات قوة العقل، وكانت بأخْذِ العرش وتنكيره، ثم عَرْضه عليها وسؤالها: ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 42]، فأجابَت أمثلَ إجابة، فقالت: ﴿ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾، ولَم تقل: هو؛ لأنه مُنكَّر، ولَم تقل: ليس هو؛ لأنه هو.
فأدْخَلها في التجربة الثانية - وكانت لإسقاط الغرور عن نفسها -: ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ﴾ [النمل: 44]، وبإثبات الذكاء وإسقاط الغرور تمَّت الدعوة للملكة، وعندئذٍ قالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل:44].
وبمثال دعوة الغلام، ودعوة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - ودعوة يوسف لصاحِبَيه في السجن، ودعوة سليمان لملكة سبأ، نريد أن يعلمَ الدُّعاة أنَّ التعامل مع الإنسان بصورة صحيحة هو الذي سيُعطي للكلمة في الدعوة الإسلامية قيمتها، ويُحقِّق أثرها؛ ولذلك نلاحِظ أنَّ الغلام لَم يَنطق في تبليغه لقضيَّة الدعوة إلاَّ بثلاث عبارات في القصة كلها، قوله: "إنما يشفي الله"؛ ردًّا على الجليس عندما طلَب الشفاء، وردًّا على الملك عندما ادَّعى أن ما يفعله الغلام إنما هو سحر، وقوله: "كَفانيهم الله"؛ ردًّا على الملك بعد نَجاته من الموت فوق الجبل وفي السفينة، وقوله: "وأن تقول: باسم الله ربِّ الغلام"، عندما دلَّ الملك على الكيفيَّة التي يستطيع أن ي***َه بها، ولكن هذه العبارات الثلاث تمثِّل في الحقيقة ثلاث نقاط في خطٍّ واحد، وهو خطُّ الإثبات العقدي لقضايا الدعوة من خلال الواقع، فالله الشافي، والله الكافي، والله المحيي المُميت.
حقائق لَم يردِّدها الغلام كقضايا جدليَّة وكلاميَّة، ولكنَّه ذكَرها كحقائق نهائيَّة ثابتة في واقع قائم؛ حيث لا يُمكن ردُّها، أو حتى مناقشتها.
والحقيقة أنَّ البداية لهذا الخطِّ - كما جاء في القصة - ترجِع إلى إيمان الغلام نفسه، وذلك عندما طَلَب الغلام اليقين من خلال الواقع، فدعا الله - سبحانه وتعالى - أن ي***َ هذه الدابَّة إذا كان أمرُ الراهب أحبَّ إليه - سبحانه وتعالى - من أمْر الساحر، وهذا يعني أنَّ طبيعة التلقي لحقائق هذا الدين واليقين به هي التي تحدِّد طبيعة الدعوة إليه في خطٍّ واحد.
والملاحظة الدقيقة في تحرُّك الغلام أنه لَم يقل للجليس: فلا تدلّ عليّ، مثلما قال له الراهب؛ وذلك لأنَّ الغلام انتقَل بالدعوة من مرحلة السريَّة إلى المرحلة العلنيَّة بهذا التحرُّك العلني العام، وبدليل أنه كان: "يداوي الناس من سائر الأدواء"، كل الناس.
وانتقال الدعوة من السريَّة إلى العلنيَّة يدعونا إلى المقارنة بين المرحلتين، من خلال أربعة نواحٍ: أسلوب الارتباط، البناء التنظيمي، نظام التحرُّك، مدى الإمكانيَّات.
أمَّا أسلوب الارتباط، فإننا نجده في المرحلة السرية ارتباطًا فرديًّا، مثلما كان بين الراهب والغلام، ونجده في المرحلة العلنية ارتباطًا عامًّا، مثلما كان بين الغلام والجليس، الذي عرَف الغلام لَمَّا سَمِع عنه كما في النص: "فسَمِع جليس الملك".
وأمَّا أُسس البناء التنظيمي، فقد كانت واضحة في ممارسة كلِّ فرد للدعوة حسب كفاءته؛ فالراهب لَم يدخل مجال الدعوة العلني؛ لأنه لَم يكن يملك إمكانيَّة التأثير العلني، ولَم يبقَ الغلام في مرحلة السريَّة؛ لأنه لو فعَل ذلك، لأفقَد الدعوة إمكانية هذا التأثير العلني.
ولهذا وضَع الراهب فاصلاً تنظيميًّا بين الممارسة السريَّة والعلنية عندما قال للغلام: "فلا تدلَّ عليّ"، وهذا الحد الفاصل الذي وضعَه الراهب للغلام يُشبه إلى حدٍّ كبير الفاصل الذي وضعَه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذرٍّ الغفاري عندما قال له بعد إسلامه: ((لا تتكلَّم؛ حتى يُظهرنا الله))؛ لأنه لَم يَزَلْ بعدُ مُستضعفًا، وفي مرحلة السريَّة بدار الأرْقم بن أبي الأرقم.
ورغم أنَّ أبا ذرٍّ الغفاري لَم يتحمَّل معرفة الإسلام والسكوت عليه، فذهَب إلى بيت الله الحرام، وقال: أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأخَذ المشركون يَضربونه، حتى كادوا يَ***ونه.
أقول: فبرغم هذا، فإنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لَم يستطع فِعْل أيِّ شيء لأبي ذرٍّ، وترَكه يُواجه الموقف بنفسه، ولَم تتورَّط الدعوة في مواجهةٍ لَم يأتِ وقتها؛ حيث إنَّ أبا ذرٍّ كان يُعلن، ولَم يأتِ بعدُ وقتُ الإعلان.
وأمَّا عن نظام التحرُّك، فإنه في المرحلة السريَّة كان محدودًا؛ ولهذا نجد أنَّ اللقاء بين الراهب والغلام كان بمرور الغلام على الراهب، وهذا يُشبه إلى حدٍّ كبير وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة، عندما كانت الدعوة في عهْدها السِّري، وكان كلُّ مَن يريد اعتناق الإسلام، يذهب إليه في تلك الدار؛ حيث لا يعلم أحدٌ مكانه.
ولعلَّ أبرز الأحداث التي تُحدِّد أسلوب التحرُّك في تلك المرحلة، هو حادث إيمان أبي ذرٍّ الغفاري الذي رواه البخارى ومسلم؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لَمَّا بلَغ أبا ذرٍّ مَبعثُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأخيه: "ارْكَب إلى هذا الوادي، فاعْلَم لي علمَ هذا الرجل الذي يَزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسْمَع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قَدِمه، وسَمِع من قوله، ثم رجَع إلى أبي ذرٍّ، فقال له: "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلام ما هو بالشعر"، فقال: "ما شفيتني مما أردتُ"، فتزوَّد وحَمَل شَنَّة فيها ماء، حتى قَدِم مكة، فأتى المسجد - يعنى البيت الحرام - فالْتَمَس النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ولا يَعرفه، وكَرِه أن يسألَ عنه، حتى أدْرَكه بعضُ الليل، فرآه عليّ، فعرَف أنه غريب، فلمَّا رآه تَبِعه، فلم يسأل واحدٌ منهما صاحِبَه عن شيءٍ حتى أصبَح، ثم احتمَل قِرْبته وزادَه إلى المسجد، وظلَّ ذلك اليوم، ولا يراه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أمسَى، فعاد إلى مَضجعه، فمرَّ به عليّ، فقال: أما آن للرجل أن يعلمَ منزله؟! فقام فذهَب به معه لا يسأل واحدٌ منهما صاحبه عن شيءٍ، حتى إذا كان اليوم الثالث، فعاد على مثل ذلك، فأقام معه، ثم قال: ألا تُحدِّثني ما الذي أقْدَمك؟ قال: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا لتُرشِدني، فعلتُ، ففعَل، فأخبَره، قال: فإنه حقٌّ، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا أصبَحت فاتْبَعْني، فإني إنْ رأيتُ شيئًا أخاف عليك، قمتُ كأني أُرِيقُ الماء، فإن مَضيت، فاتْبعْني حتى تدخل مدخلي، ففعَل، فانطلَق يقفوه، حتى دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخل معه، فسَمِع قوله، وأسلم مكانه".
أما التحرُّك في المرحلة العلنيَّة، فهو تحرُّك عام، مثلما كان الغلام يتحرَّك بين الناس: "يُبرئ الأكْمَه والأبرص، ويُداوي الناس من سائر الأدواء".
ومثل تحرُّك الغلام في المرحلة العلنيَّة، كان تحرُّك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، فكان يَغشى الناس في مجالسهم، حتى إنَّ عبدالله بن أُبيّ بن سلول - رأس المنافقين - أرادَ أن يحدِّد تحرُّك الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال له: لا تَغْشنا في مجالسنا، ولكن إذا أتى أحدٌ إليك، فتحدَّث معه، فكان عبدالله بن رَواحة - رضي الله عنه - جالسًا مع القوم، فقال: لا يا رسول الله؛ بل اغْشَنا في مجالسنا، والحديث رواه البخاري.
وبذلك يُريد رأس المنافقين أن يرجِع بأسلوب وتحرُّك الدعوة إلى ما كانت عليه في مكة، وهذا ما رفضَه أنصار المدينة - رضي الله عنهم.
أمَّا من ناحية الإمكانيَّات، فالمقصود بها القدرة على التأثير العلني العام، مع القدرة على مواجهة السلطة الجاهلية التي تحاول القضاء على هذا التأثير العَلني، وهذا ما حقَّقه الغلام عندما كان يُبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، وعندما كانت عنده القُدرة على مواجهة الملك منذ لحظة الانتقال إلى المرحلة العلنية إلى نهاية القصة؛ حيث نكتشفُ أنَّ الغلام كان على يقينٍ بأنَّ الملك كان لا يستطيع قتْلَه؛ حيث قال له في النهاية: "إنَّك لن تستطيع ***ي، إلاَّ إذا فعلتَ ماآمُرك به".
وبعد المقارنة بين المرحلة السرية والعلنيَّة، نعود إلى القصة، فنجد الجليس قد أتى إلى الملك، فجلَس إليه كما كان يجلس من قبلُ، فقال له الملك: "مَن ردَّ إليك بصَرَك؟ قال: ربي، قال: أوَلك ربٌّ غيري؟ قال: ربي وربُّك الله"، وهذا دليل على أنَّ الإيمان بالله وحْدَه يَصنع العجائب، وأنَّ العقيدة الصحيحة هي التي تجعل المؤمن يَقف أمام أعتى البشر بقلبٍ ثابت لا يَضطرب، ولا يخشى أحدًا إلاَّ الله - سبحانه وتعالى.
فها هو جليس الملك الذي يعلم يقينًا أنَّ هذا الملك الظالِم قد ادَّعى الربوبيَّة، وزعَم أنه إلهٌ من دون الله، وكان ي*** مَن لَم يُقرَّ له بذلك، وعلى الرغم من كلِّ ذلك يَجهر جليس الملك - بعد أنْ لامَس الإيمان شَغافَ قلبه - بكلمة التوحيد، ويُعلنها في وجْه الملك، ويقول: "ربي وربُّك الله".
وفظيع جدًّا أن يدَّعي الإنسان الربوبيَّة لنفسه، ولكن كيف يكون هذا الادِّعاء؟!
إنه من خلال دراسة هذه الظاهرة البشعة، نجد أن القرآن الكريم قد سجَّلها على فرعون، وعلى الملك النُّمرود الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه، وهذان يتفِقان مع هذا الملك في أمرين، هما: الكفر بالله - سبحانه وتعالى - والمُلك على الناس.
فبدأ الأمر بكفر الإنسان بالله - سبحانه وتعالى - ومنه الكفر بقضائه وقَدَره، ومنه ظنَّ الكافر أنه هو الذي يَصنع حياته ويُصرِّفها برغبته، وإن كان مُتسلطًا على الخَلْق، ظنَّ أنه يؤثر بذاته في معيشتهم، ويَصنع حياتهم، فهو يأمر فيُطاع، ويَحكم فيَستبد، ويتصرَّف بالهوى دون معارضة أو مُراقبة، وهو الذي يتصرَّف في مُقدرات الناس دون منازعٍ، وهو الذي يعلو في الأرض، ويستكبر على الأتباع؛ كما قال فرعون: ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51]، وقال: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]، ثم قال: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [القصص: 38].
ولكنَّ المؤمن لا يُبالي بمثْل هؤلاء الناس، فيُواجههم بقوَّة وبصراحة؛ كما فعَل الجليس مع الملك، فقال له: "ربي وربُّك الله"، فنجد في ردِّه نَفيًا لربوبيَّة الملك المُدعاة من خلال إثبات ربوبيَّة الله وحده على الملك؛ حيث إنه ليس هناك ربٌّ لربٍّ، وبذلك يكون الجليس قد سوَّى بين الملك والناس في عبوديَّتهم لله - سبحانه وتعالى - ولَم يكن الجليس ليستطيع هذه المواجهة، إلاَّ إذا خالطَت قلبَه بشاشةُ الإيمان؛ لأنه حينما يكون ذلك، تكون الثقة والطَّلاقة والقوَّة.
وهؤلاء هم سَحَرة فرعون، يسجدون لله - سبحانه وتعالى - بعد أن عَلِموا أن موسى - عليه السلام - رسول الله وليس ساحرًا، فيهُدِّدهم فرعون قائلاً: ﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ [طه: 71]، فيَردون عليه قائلين: ﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه: 72].
وهكذا أيضًا تعامَل الملك مع الجليس: "فأخَذه، فلم يزَلْ يُعذِّبه؛ حتى دلَّ على الغلام"، لَم ي***ه فورًا؛ حتى يكشفَ بقيَّة الجماعة.
ومع أنَّ هذا الرجل كان جليسًا للملك، إلاَّ أنَّ الملوك ليس عندهم وفاءٌ لِمَن حولهم، فما أن تعارَضت وجهة الجليس مع وجهة الملك، فإذا به يأمُر ب*****ه في التَّوِّ واللحظة.
وفي هذا دليلٌ على أنَّ المُكرَه إذا دلَّ على أحدٍ من المؤمنين، فلا إثم عليه؛ لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال فيما رواه الطبراني: ((رُفِع عن أُمَّتي الخطأ والنِّسيان، وما استُكرهوا عليه))، والحديث صحَّحه الألباني بلفظٍ: "وُضِع"، وجليس الملك هنا لَمَّا دلَّ على الغلام، كان مُكرَهًا.
"فجيء بالغلام، فقال له الملك: "أي بُني، قد بلَغ من سحرك ما تبرئ الأكْمَه والأبرص، وتفعل ما تفعل".
الملك الطاغوت يقول: "أي بُني"، كلمة كلها مَكْر وخُبث وضَغْط على نفس الغلام، وإغراء له بالقُرب منه بما يتضمَّن هذا القرب من مستقبل زاهرٍ وحياة مُترَفة، ويقول الملك: "قد بلَغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل ما تفعل".
وقد حاوَل الملك بهذه العبارة أن يسرِقَ ما كسَبه الغلام من تقدير في نفوس الناس، بأن يعود بتفسير أعمال الغلام إلى السحر الذي تعلَّمه من ساحر الملك، الذي أتى الملك إليه بالغلام، وهذا ما يَصنعه الذين لا يريدون الاعتراف بالحقِّ، فيُفَسِّرونه بأي شيء غير الحقِّ، وهذا ما فعَله فرعون لَمَّا هزَمه موسى - عليه السلام - فقال: ﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ﴾ [طه: 71].
مع أنه يعلم كَذِب ادِّعائه، وإلاَّ فكيف يأتي بتلامذته - مع العلم بأن أي تلميذ يَستميت في نُصرة مُعلِّمه - في هذا الجمع المَهيب والموقف المصيري الرهيب؟! ولَمَّا ناقشَه موسى - عليه السلام - في قضاياه ومسلَّمات حياته بجرأة وحَزم: ﴿ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الشعراء: 27].
وهذا ما فعله أيضًا المشركون مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - لَمَّا رأوه ينفي الألوهية عن أصنامهم بجرأة وقوة، قالوا: ﴿ مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ﴾ [الدخان: 14]، ولَمَّا رأوه يواجِههم بالبلاغة القرآنية، قالوا: ﴿ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾ [الطور: 30]، ولَمَّا رأوا الصحابة واثقين في دعوتهم، قالوا: ﴿ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ﴾ [الأنفال: 49].
والملاحظة الدقيقة في تفسير أصحاب الباطل للحقِّ بغير الحق، هي شرط أن يكون هذا التفسير مَقبولاً عند الناس، ومن هنا كان تفسير المعجزة بالسِّحر، والجرأة بالجنون، والبلاغة بالشعر، والثقة بالغرور؛ ولذلك عقَدت قريش مؤتمرًا نراها فيه تحاوِل محاولة دقيقة للاتِّفاق على الوصف الذي سيصفون به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن؛ بحيث تراعى فيه هذه الشروط.
قالوا: نقول: كاهن؟ فقال قائلهم: لا والله، ما هو بكاهنٍ، لقد رأينا الكُهَّان؛ فما هو بزمزمة الكاهن، ولا سَجْعه، قالوا: نقول: مجنون؟ قال: ما هو بمجنون؛ لقد رأينا الجنون وعرَفناه، فما هو بخَنْقه ولا تَخَالُجه، ولا وَسوسته، قالوا: فنقول: شاعر؟ قال: ما هو بشاعر، لقد عرَفنا الشعر كله، قالوا: فنقول: ساحر؟ قال: ما هو بساحر؛ لقد رأينا السحار وسِحرهم، فما هو بنَفْثهم ولا عَقْدهم، قالوا: ما نقول يا أبا عبدشمسٍ؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصْله لعَذْق، وإن فرْعَه لجناة، ما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا وعُرِف أنه باطلٌ، وإن أقربَ القول فيه لأن تقولوا هو ساحر جاء بقول هو سحر، يفرِّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرّقوا عنه بذلك.
عَلِم الملك أنَّ الغلام وراء هذه الدعوة الجديدة على مملكته: دعوة التوحيد وإنكار ربوبيَّة الملك، فماذا يفعل الطاغية لاحتواء هذه الدعوة؟!
إنَّ بَطْشه بالغلام الذي أحبَّه الناس وعرَفوا إحسانه إليهم، وأنه هو الذي قتَل الدابَّة، وأنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويُداويهم من سائر الأدواء، سوف يزيد من محبَّته ويَجعله بطلاً أو شهيدًا، ويُصبح موته وقودًا دافعًا لاستمرار دعوته، فلا بدَّ من محاولة الاستمالة أولاً، فهو يعرف جيدًا حقيقة دعوة الغلام، وأنها تَهدف إلى تحقيق العبودية لله وحْده، ونَبْذ عبوديَّة الملك.
ومع كل هذا يقول له: "أي بُني"، وهذا النداء بالبنوَّة هو أوَّل محاولات الاستمالة والتلطُّف، فهو يقول له: أنت ابني، وأنا الذي تولَّيت تربيتك، ثم يقول له: "قد بلَغ من سحرك ما تُبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل"، فهو يريد أن يقول له: لا مانِع عندي من استمرارك فيما تفعل، بشَرْط أن تقول للناس: إنَّ هذا سحر تعلَّمته في مدرسة الملك، وأنَّ ما تدعو إليه هو بتوجيهات الملك، وتحت إشرافه وبرعايته.
يقول له ذلك وهو على يقينٍ من أنه هو الذي قال لجليسه ولغيره: ربي وربُّك الله، وأنه - سبحانه وتعالى - الذي يَشفي الناس، فهذه المحاولة الخبيثة لطَمْس ضوء الدعوة ونورها، إذا قبل أصحابها أنْ يَلبسوا ثوب الباطل، ويَعملوا تحت رايته، ويَصبغوه بصبغة "الشرعيَّة" في عُرف الملك والمجتمع.
رفَض الغلام إذًا أن يُسمّي ما يفعله سحرًا، وأبى إلاَّ أن يُجابه الملك بأنَّ دعوته هي دعوة التوحيد الخالص بمقولته العظيمة: "إني لا أشفي أحدًا؛ إنما يشفي الله - سبحانه وتعالى".
وفَشِلت محاولة الاحتواء وإلْباس الحقِّ ملابسَ الجاهليَّة، فانكشَف الملك على حقيقته، ولَجأ إلى الأسلوب المعتاد: البَطْش والتنكيل، فمنذ لحظة كان الغلام "بُنَيَّه" الذي يتلطَّف معه، فإذا هو الآن يقع تحت أنواع ال*****؛ ليعترفَ على إخوانه، وقد يسأل سائل ويقول: ألَم يقل الراهب للغلام: "فإن ابتُليت، فلا تدلَّ علىّ"؟! أقول: عند المِحن تَنفسخ العزائم، فلا يستطيع إنسان مهما كانت قوَّته أن يقول: سأفعل كذا وكذا إذا جاء البلاء والمِحن والفِتن؛ لأن الذي يُثَبِّتُ الإنسانَ في هذه الفتن هو الله - سبحانه وتعالى - فماذا كانت نتيجة فَشَلِ الملك في استمالة الغلام؟! كانت النتيجة كما جاء في الحديث: "فأخَذه، فلم يزَلْ يعذِّبه؛ حتى دلَّ على الراهب"، وهذه في الحقيقة ليستْ خيانة ولا عمالة، ولكنَّها الطاقة البشريَّة المحدودة.
هذه حقيقة يجب الاعتراف بها، وأي إنسان يقفُ موقف الغلام عندما دلَّ على الراهب، يتألَّم ألمًا أكبرَ من ألَم ال*****، ثم يتضاءَل أمام نفسه، ينطوي عليها، يحتقرها، يكرهها، ثم يَظل يرقُب من بعيد نظرة فيها الرحمة، وطلاقة وَجْه فيها الإعذار، ويدًا فيها العون، ويكون هذا واجبَ الجماعة في ذلك الموقف.
ولكنَّ حدوث هذه النتيجة التي انتهى إليها الغلام، لا يكون إلاَّ بعد بلوغ حدِّ الاستطاعة في الصبر والتحمُّل والثبات، وهذا هو الحدُّ الفاصل بين أن يكون المتكلِّم في مِحنة ال***** معذورًا أو مقصِّرًا، وبلوغ حد الاستطاعة في الصبر والتحمُّل والثبات، لا يكون إلا بمعرفة إمكانيَّة المواجهة الصحيحة لمحنة ال*****، وأهم عناصر هذه الإمكانيَّة هي دخول المِحنة بالعَزْم المُسبَق على مقاومة الانهيار؛ حيث إنَّ دخول مرحلة ال***** تجعل الفرد في حالة شبه لا إراديَّة، والعزم المُسبق هو الذي يحقِّق المقاومة - بإذن الله سبحانه وتعالى - وهذه الحالة أقربُ ما تكون شَبهًا بحالة النوم، فإذا أراد إنسان أن ينامَ وهو عازم على فِعْل شيءٍ، فإنَّ هذا العزم يكون مؤثرًا في حالة نَوْمه، فيَجعله نومَه منشغلاً بالموضوع الذي عقَد العزمَ عليه، وكذلك الأمر في ال*****؛ حيث يُنْشِئ العزمُ المُسبق نوعًا من الإرادة ومقاومة الانهيار، ومع العزم المُسبق على مقاومة الانهيار، فقد تُراود الإنسانَ نفسُه بأن يَستسلم، وحدوث هذه المراودة لا يَعني فُقدان هذا الإنسان ثقته في نفسه، بل عليه أن يؤجِّل قراره الداخلي بالكلام أطول فترة مُمكنة، وحتى إذا وصَل الفرد الممتَحَن إلى مرحلة الانهيار، فيجب ألاَّ يتوقَّف عن مقاومة الوصول إلى مرحلة الانهيار النهائي، والمقاومة الدائمة هي أكبر إمكانيَّات المواجهة، وأهم العوامل المساعدة على المقاومة هي المتابعة الذهنيَّة عند الفرد لمراحل ال*****، والغرض المحدَّد لكلِّ مرحلة، فمثلاً مرحلة بَدء ***** الفرد برؤيته ل***** الآخرين - كما فعَل الملك مع الغلام - يكون الغرض منها تحطيم العَزم المُسبق بعدم الكلام، وجَعْل الفرد يدخل مِحنة ال***** بلا عزمٍ على الصبر والتحمُّل والثبات، وذلك من خلال استغلال الخوف الذي يَسبق الدخول في ال*****، وهذا الخوف أشدُّ من آثار ال***** ذاته، وإدراك مثل هذه الأغراض هو الذي يُمَكِّن الفرد من تفادي الأثر المطلوب منها.
كما أنَّ وصول الفرد الممتحَن إلى مرحلة الانهيار، لا يعني هَدْم كلِّ خطوط الدفاع النفسيَّة؛ حيث إنَّ هناك خطًّا قويًّا يجب الانتباه إليه، وهو خَطُّ العلاقة النفسيَّة بين الفرد الواقع تحت ال***** والأفراد الذين سينالهم الأذى بانهياره؛ فكلما كان الحبُّ قويًّا وشديدًا، كانت إرادة الصبر والتحمُّل قوية وشديدة أيضًا، وأساليب ال***** لا تتجاوز في مجموعها غرضَ سَلْب الإرادة.
ولعلَّ أخطر هذه الأساليب المحقِّقة لهذا الغرض هو الإهانة النفسيَّة؛ لإفقاد الفرد كرامته؛ لأنَّ العلاقة بين الكرامة والإرادة علاقة مُطردة، بدليل أن حدَّ الزاني للعبد نصف حَدِّ الحُر؛ لأنه لا يَملِك من الإرادة إلا بقَدْر ما يَملك من الكرامة، فإذا قَوِيت كرامة الفرد وعزيمته، قَوِيَت إرادته.
ومن هنا، فإنَّ الشعور بالاستعلاء والعِزَّة من أهم موانع فَقْد الإرادة والانهيار، فلا يؤثر السبُّ والبصق والرَّكل بالقدم على الاستعلاء والعِزة، بل واليقين بأنَّك تَمتلئ عِزَّة واستعلاءً بالقدر الذي يَمتلئ فيه مَن يُعذبك حقارة ومهانة.
والفزع والترويع هما أخطر آثار ال*****، ولا يُبطل هذا الخطرَ إلا الطمأنينةُ والسكينة، ولا يُحقِّق الطمأنينةَ والسكينة إلا الذِّكرُ: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، وعلى أن يكون الذِّكر هو الواجب الأوَّل والدائم على مَن يقع في مِحنة ال*****، كما أنَّ الصِّيغ المُتعددة للذِّكر تعالج بصورة مباشرة الآثار المتعدِّدة ال*****.
فدعاء الدخول على ذَوِي السلطان الظالمين يكون عند لحظة المواجهة الأولى، والاستغفار يرفع الذنوب التي قد تكون سببًا في وقوع المِحنة، وعندما تُرفَع الذنوب تذهب أسباب المحنة وتتحقَّق العافية، ومع الاستغفار يكون دعاء تفريج الكَرب.
وكذلك التكبير الذي يُحقِّق الشعور بإكبار الله - سبحانه وتعالى - فيَهون ال***** والقائمون عليه، وكذلك يهون ال***** والقائمون عليه برضا الله - سبحانه وتعالى.
وهذا المعنى مأخوذ من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطائف، وفي نهايته: "إن لَم يكن بك غضبٌ عليّ، فلا أُبالي، ولكنَّ عافيتك أوسعُ لي"؛ والحديث رواه الطبراني في الكبير؛ كما في مَجمع الزوائد، وقال الهيثمي: "رواه الطبراني، وفيه ابن إسحاق وهو مُدلِّس ثِقة"، وقال الألباني في فقه السيرة: أخرَج هذه القصة ابن إسحاق بسند صحيحٍ عن محمد بن كعب القُرظي مُرسَلاً، ولَم أجده في الطبراني الكبير مسندًا لعبدالله بن جعفر.
قلت: ذهب الدكتور العمري إلى تضعيف الحديث في كتابه السيرة النبوية الصحيحة (1/ 186)، وذهَب إبراهيم العلي إلى صحَّته، وبيَّن أنَّ للحديث شاهدًا يقوِّيه؛ ولذلك اعتبره صحيحًا، وذكَره في كتابه صحيح السيرة النبوية ص136، وذهَب الدكتور عبدالرحمن عبدالحميد البَر - مدرس الحديث وعلومه في جامعة الأزهر - أنَّ الحديث بطريقَيْه قويٌّ مقبول، وخرَّج طُرقه في كتابه الهجرة النبوية المباركة ص 38.
ولعلَّ مِن صِيَغ الأذكار المناسبة لمِحنة ال***** هي الاستعاذة الواردة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذى: ((أعوذ بك أن أقترفَ على نفسي سوءًا، أو أجرَّه إلى مسلم))؛ لأن الانهيار هو الذي يجرُّ السوء على النفس وعلى المسلمين.
وفي النهاية، فإنَّ ما يذهب بمحنة ال***** وكأنها لا تكون هو تذكُّر عذاب الله - سبحانه وتعالى - وعدم المقارنة بين فتنة الناس وعذاب الله؛ كما في قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 10]؛ حيث لا وجْه للمقارنة؛ فعذاب الله - سبحانه وتعالى - يلازمه سخطُ الله والمهانة الحقيقيَّة، كما أنه يتضاعَف ولا ينفع معه الصبر، وليس له نهاية، وليستْ منه نَجاة، وفتنة الناس والإيذاء في الله يحقِّق رضا الله والعزة لمن يُؤذَى في سبيل الله، كما أنَّ فتنة الناس تَضْعُف، وينفع معها الصبر، ولها نهاية، ومنها النجاة - بإذن الله سبحانه وتعالى.
وبعد معالجة مشكلة ال*****، تتقرَّر حقيقة في غاية الأهميَّة، وهي: أن التوكُّل على الله - سبحانه وتعالى - هو الشعور الذي يدخل به المسلم تلك المِحنة، وأنًّ التسليم بقَدر الله - سبحانه وتعالى - هو الشعور الذي يتقبَّل به المسلم نتيجة تلك المحنة؛ حيث إنَّ محنة ال***** مع ما ذُكِر من عناصر لمعالجتها، هي في النهاية بيد الله - سبحانه وتعالى - وحْده.
ولعلَّنا نفهم من هذا الموقف أنَّ ما بين التوكُّل الذي ندخل به المحنة والرضا بالقَدر الذي نَخرج به منها، تكون ضرورة التفكير العملي للمحافظة على واقع الدعوة في المرحلة السريَّة، وعدم الارتكاز في ذلك بصفة كليَّة على إيمان الأتباع، فقد كان من الممكن أن يُغَيِّر الراهبُ مكانَه؛ حتى إذا ضَعُف الغلام وأراد أن يدلَّ عليه، لا يَجده، ولكن قدر الله وما شاء فعَل.
"جيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدُعي بمنشار، فوُضع المنشار في مَفْرِق رأسه، فشقَّه؛ حتى وقع شِقاه".
هنا وصَل الملك إلى النَّبع الذي استقى منه الغلام وجليس الملك الإيمانَ والتوحيد، فأراد الملك أن يُجفِّف هذا النبع، وذلك بأن يتخلَّص منه وي***ه؛ ولذلك لَم يتكلَّم معه بنفس اللطف الذي قابَل به الغلام في البداية، بل قال له بكلِّ صراحة ووضوح: "ارجعْ عن دينك".
"فأبى"، والفاء تدلُّ على سرعة الردِّ؛ أي: إنه لَم يُفكِّر لحظة واحدة، هل يرجع عن دينه؛ لينجوَ من بَطْش الملك، أو يبقى ثابتًا على عقيدته؟ بل إنه أبى أن يرجِع عن دينه، ولَم يُفكِّر لحظة واحدة في البلاء الذي سيتعرَّض له ما دام ذلك في سبيل الله - سبحانه وتعالى.
وكان الذي شجَّع الملكَ على قتْل الراهب أنه لَم يكن مشهورًا ومعروفًا بين الناس؛ ولذلك لن يعترِض أحدٌ لقتْله.
وقتَله الملك أبشعَ قِتْلة؛ وذلك بأن أمَر أن يُنشَر بالمنشار نصفين، وكما أتخيَّل أن هذا الشقَّ لَم يكن مرة واحدة؛ وذلك حتى لا يستريح المعذَّب، وإنما يذهبون بالمنشار مرة، ثم يعرضون عليه الأمر، فيأبى، فيعودون بالمنشار مرة أخرى، ويَعرضون عليه الأمر، فيأبى، وهكذا حتى يُنتهى إلى شَقِّه نصفين، وكل ذلك أمام بقيَّة الأتباع، والغرض - بالطبع - معلوم، وهو أن تَنفسخ عزائم الجميع.
لكن سبحان الله العظيم، على الرغم من كل ذلك صبَر الراهب على هذه ال***ة البشعة؛ لأنه يعلم يقينًا أنَّ موت الجسد أفضلُ بكثيرٍ من موت الإيمان والتوحيد في قلب العبد؛ لأن صاحب التوحيد لو قُتِلَ عشر مرات فإنه سيحيا في جنات النعيم، وسيَجبر الله - سبحانه وتعالى - كسْرَه في تلك الجنة التي فيها ما لا عين رأتْ، ولا أُذن سَمِعت، ولا خطَر على قلب بشر، بل إنه سيَنسى كلَّ شقاءٍ مع أول غمسة في جنة الرحمن!
روى الإمام مسلم وأحمد والنسائي عن أنس - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يُؤتَى بأنْعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيُصبغ في جهنم صبغةً؛ ثم يقال: يا بن آدمَ، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قطُّ؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشدِّ الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيُصبغ في الجنة صبغة؛ فيقال له: يا بن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مرَّ بك شِدَّة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مرَّ بى بؤسٌ قط، ولا رأيت شِدَّة قط)).
فإن قيل: ألَم يكن يسع الراهبَ وهو يُكرَه على الكفر بمثْل هذه ال***ة البشعة الفظيعة، أن يأخُذ بالرُّخصة، ويوافق ظاهرًا على الرجوع عن دينه مع طمأنينة القلب بالإيمان؟!
والجواب من وجهين:
الأول: أنَّ الأخذ بالعزيمة أفضل باتفاق العلماء.
الثاني: أنَّ الإكراه عذرٌ يَخص أهل الإسلام، وأما الأُمم السابقة، فلم يكن الإكراه عذرًا لهم في إظهار الموافقة على الكفر، كما قاله بعض أهل العلم؛ احتجاجًا بمفهوم الحديث المشهور: ((رُفِع عن أُمَّتي الخطأ والنسيان، وما استُكْرِهوا عليه))، فهو يدلُّ على أن غير أُمَّته لَم يوضع عنها ذلك، والأول أظهر؛ فإن موسى - عليه السلام - قال للخَضِر: ﴿ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ﴾ [الكهف: 73]، فلم يؤاخذه، والله - سبحانه وتعالى - أوْلَى بعدم المؤاخذة، والله أعلى وأعلم.
ثم إني أرى شيئًا آخرَ، وهو أنه لا يجوز الأخْذ بالرخصة إذا كان الإنسان رأسًا يُقتدى به؛ لأن أخْذه بالرخصة يعني فتنة بقية الأتباع؛ ولهذا كان العلماء الذين يحملون راية الدعوة، يتحمَّلون أقسى درجات ال*****، ولا يأخذون بهذه الرخصة، وأذكر من ذلك ثلاثة أمثلة فقط من قرون مختلفة:
1- الإمام أحمد - رحمه الله -: فقصة ما لَقِيه من الأذى وال***** في سبيل عقيدته، لا تخفى على أحد، تُخلع يداه، ويُجلَد بالسِّياط الكثيرة، يختار الظالمون له عددًا من قُساة القلوب وغِلاظ الأفئدة؛ ليَجلده كلُّ واحد منهم سوطين بكلِّ ما أُوتي من قوَّة، يتعاقبون عليه - رحمه الله - وهو ثابت كالطَّود الأشمِّ، ولا يتراجَع أبدًا، يُغمى عليه من شدَّة ال*****، ثم يفيق، فيَعرضون عليه الأمر، فلا يتراجع، حتى يَنصره الله - سبحانه وتعالى - في النهاية، ويَنصر عقيدته التي كان يدافع عنها، وكان هذا الانتصار دليلاً على الإخلاص والعزم والقوة.
لقد خرَج الإمام من المحنة خروج السيف من الجلاء، والبدر من الظلماء، أُدخِل الكير، فخرَج ذهبًا أحمرَ، وتواطَأت القلوب على مَحبَّته، حتى صار حبُّه شعارًا لأهل السُّنة!
فأين الذين عارَضوه؟! وأين الذين عذَّبوه؟! وأين الذين نالوا منه؟! ذهبوا إلى ما قدَّموا، وبَقي حيًّا بذِكره، والذكر للإنسان عمرٌ ثانٍ، والبغي مهما طال عُدوانه، فالله من عدوانه أكبر!
2- الإمام أبو بكر محمد بن سهل، المعروف بابن النابلسي: قال عنه أبو ذرٍّ الحافظ: سجَنه بنو عُبيد - وهم المسمَّون كذبًا وتضليلاً بالفاطميين - على السُّنَّة، سَمِعت الدارقطني يذكره ويبكي، ويقول: كان يقول وهو يُسْلَخ: ﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾ [الإسراء: 58].
وفي السِّيَر: "قال أبو الفرج بن الفرج: أقام جوهر القائد لأبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي، فقال له: بلغني أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسْهُم، وجَب أن يرمي في الروم سهمًا وفينا تسعة، قال: ما قلت هذا، بل قلتُ: إذا كان مع الرجل عشرة أسهْم وجَب أن يرميَكم بتسعة، وأن يرمي العاشر فيكم أيضًا؛ فإنكم غيَّرتم المِلة، و***تُم الصالحين، وادَّعيتم نورَ الألوهيَّة، فشهَره ثم ضرَبه، ثم أمر يهوديًّا فسلَخه!
قال مَعْمَرُ بن أحمد بن زياد الصوفي: أخبرني الثقة أنَّ أبا بكر سُلِخ من مَفرِق رأسه، حتى بلَغ الوجه، وكان يذكر الله ويَصبر حتى بلَغ الصدر، فرحمه السَّلاخ، فوكَزه بالسكين موضعَ قلبه، فقضى عليه، وأخبرني الثقة أنه كان إمامًا في الحديث والفقه، صائم الدَّهر، كبير الصولة عند العامة والخاصة، ولَمَّا سُلِخ كان يُسمَع من جسده قراءة القرآن".
نعم: لَمَّا أطعَم القرآنَ لحمَه، وأسْقاه دمَه، لَمَّا اختلَط القرآن بلحْمه ودمه، فجرى في عروقه، ونبَض به حِسُّه، وظلَّ عُمره إلى لحظة سَلْخه يُدافع عنه وعمَّا يدعو إليه، نطَق جسده الطاهر بالقرآن؛ كرامةً ظاهرة له من الله الكريم الرحمن، وتثبيتًا لكلِّ مَن حوله على الحقِّ والإيمان.
3- شيخ من المجاهدين في سبيل العقيدة والإيمان؛ شُهرته تُغني عن ذِكره - رحمه الله - يصدعُ بكلمة الحقِّ، فيَشرَق بها المنافقون والظالمون، ويُذيقونه في سبيلها ألوانًا شتَّى من ال***** في السجن، لا تُضاهيها إلا ألوان ال***** في محاكم التفتيش في القرون الوسطى.
كانوا يسلطون عليه الكلاب بعد تجويعها، فتُطارده الساعات، ثم تَنقضُّ على لَحْمه تَنهشه نهشًا إذا عجَز عن الجري، كلُّ ذلك وهو صابر مُعتصم بالله - سبحانه وتعالى - لَم يردَّه ذلك عن هدفه، ولَم يصدَّه عن بُغيته وغايته، فأغاظَهم ذلك فماذا يفعلون؟! حَكموا عليه بال***، وتلك - والله - فتنة أيَّما فتنة، ثم جاءه الإغراء: أن اسْتَرْحِم ذلك الظالم؛ ليُخفف عنك الحُكم! فقال في إباء واستعلاء: لئن كنتُ حُوكِمت بحقٍّ، فأنا أرتضي الحق، وإن كنتُ حُوكِمت بباطلٍ، فأنا أعلى من أن أسترحِمَ الباطل، إن يدي التي تَشهد لله بالوحدانيَّة كلَّ يوم مرات، لتأبى أن تقرَّ حُكم ظالم أيًّا كان ذلك الظالم!
ثم يُقاد إلى حَتْفه ولسان حاله:


اللهُ أَسْعَدَنِي بِظِلِّ عَقِيدَتِي

أَفَيَسْتَطِيعُ الْخَلْقُ أَنْ يُشْقُونِي؟!




ويأتي أحد علماء السوء - الذين باعوا دينَهم بعرَضٍ من الدنيا - ليُلقِّنه كلمة التوحيد التي يُقاد إلى الموت من أجْلها، فيقول له: قل: لا إله إلا الله، فيَتبسم تبسُّم المُغْضَب، ويقول: يا مسكين؛ أنا أُقاد إلى الموت من أجْل لا إله إلا الله، وترجع أنت لتأكُل فتات الموائد بلا إله إلا الله! لا نامَت أعيُن الجُبناء.
وهكذا على مدار التاريخ الإسلامي كله تجد أنَّ رؤوس العلماء لا يأخذون بهذه الرُّخصة؛ لأنَّ أخْذَهم بها يعني ضياع أتْباعهم، وخذلان الحقِّ بسببهم، وإن الحق لا بدَّ أن يَنصره الله ولو بعد حين، والله المستعان.
"ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فوُضِع المنشار في مَفرِق رأسه، فشقَّه حتى وقَع شِقاه".
إنَّ قضية الإيمان من أعظم القضايا التي يَعجِز عنها أيُّ منهج علمي أو تربوي، فمنهج الإسلام، ونور الوحي، وقوَّة العقيدة، هي التي تَصنع الرجال والأبطال، وكل ذلك بتقدير الكبير المتعال - سبحانه وتعالى.
فهذا جليس الملك الذي عاش حياته كلها غارقًا في الكفر، منغمسًا في الشهوات والملذَّات، وعلى الرغم من ذلك ما أن لامَس الإيمان شَغاف قلبه، حتى أصبَح إنسانًا آخر؛ يضحي بدُنياه وبشهواته وبكلِّ شيء من أجْل عقيدته وإيمانه، ويَصبر على ال*** من أجْل أن يَلْقى الله - سبحانه وتعالى - على نعمة التوحيد.
وهذا يذكِّرنا بسحرة فرعون الذين لَم يكن لهم أيُّ مطمعٍ سوى بعض الدراهم، وما أنْ لامَس الإيمان شَغاف قلوبهم، حتى قاموا وقالوا لفرعون: ﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه: 72].
ورأينا الكثير من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - الذين ضحَّوا بالغالي والنفيس من أجْل إيمانهم وعقيدتهم، فهذا مصعب بن عمير - رضي الله عنه - الذي ضحَّى بكلِّ شيء من أجْل إيمانه وتوحيده.
فقد كان مصعب - رضي الله عنه - من أنْعَم الناس عيشًا قبل إسلامه، فلمَّا أسلمَ زَهِد في الدنيا وترَك زينتها، وتفرَّغ للعبادة وطلبِ العلم، ولقد منعتْه أمه من ثروتها، وأبتْ أن ينالَ منها درهمًا واحدًا بعدما ترَك عبادة الأصنام، وسجَد لله الواحد الدَّيان.
يقول عليّ - رضي الله عنه - فيما رواه عنه الترمذي: جِئت المسجد، فطلَع علينا مصعب بن عمير في بُردة له مرقوعة بفَرْوٍ، وكان أنعمَ غلام بمكة وأرْفَهه، فلمَّا رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكَر ما كان فيه من النعيم، ورأى حاله التي هو عليها، فذرَفت عيناه عليه، ثم قال: ((كيف بكم إذا غَدَا أحدُكم في حُلَّةٍ ورَاحَ في حُلَّةٍ، ووُضِعَتْ بين يدَيْه صَحْفَةٌ، ورُفِعَتْ أخرى، وستَرتُم بيوتَكم كما تُستَر الكعبةُ؟))، فقلنا: نحن يومئذٍ خير، نُكفَى المؤنة، ونتفرَّغ للعبادة، فقال: ((بل أنتم اليوم خير منكم يومئذٍ)).
وخرَج مصعب من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها، مؤثِرًا الشظَفَ والفاقة - الفقر - وأصبَح الفتى المتأنِّق المعطَّر، لا يُرى إلا مرتديًا أخشنَ الثياب، يأكل يومًا ويجوع أيامًا، ولكن رُوحه المتأنِّقة بسمو العقيدة، والمتأنقة بنور الله - سبحانه وتعالى - كانت قد جعَلت منه إنسانًا آخر يملأ الأعين جلالاً، والأنفس رَوعةً.
قال خبَّاب بن الأرت - رضي الله عنه - فيما رواه عنه البخاري: هاجَرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نُريد وَجْه الله، فوقَع أجْرنا على الله، فمنَّا مَن مضى لَم يأخُذ من أجْره شيئًا، منهم مصعب بن عمير، قُتل يوم أُحد وترَك نَمِرَة، فكنَّا إذا غطَّيْنا بها رأسه بدَتْ رِجلاه، وإذا غطَّيْنا رِجليه بدا رأْسُه، ونجعَل على رجليه شيئًا من إِذْخر، ومنَّا مَن أيْنَعت له ثمرته، فهو يَهدِبُها.
وظل أصحاب الحبيب - صلى الله عليه وسلم - يذكرون مصعبًا في كلِّ وقت، ولَم يَغِب وجْهه عنهم لحظة؛ روى الإمام البخاري عن عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أنه أُتِي بطعام وكان صائمًا، فقال: قُتِل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كُفِّن في بُردة إن غُطِّي رأسه، بدَت رجلاه، وإنْ غُطِّي رِجلاه، بدَت رأسه، وأراه قال: وقُتِل حمزة، وهو خير مني، ثم بُسِط لنا من الدنيا ما بُسِط، أو قال: أُعطينا من الدنيا ما أُعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجِّلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترَك الطعام.
وهذا الذي حدَث من الملك مع الراهب والجليس، هو الذي أخبَر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما شكَوا إليه الاستضعاف؛ فقد روى البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن خبَّاب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكَونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسِّد بُردة في ظلِّ الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان مَن قبلكم يؤخذ الرجل، فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيُوضع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعَظْمه، ما يُبعده ذلك عن دينه، والله ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر؛ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، فلا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون)).
وفي ذِكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث للصحابة دليلٌ على أنه أشد ما يتعرَّض له الدعاة إلى الله - سبحانه وتعالى - من عذاب، وهكذا يتعامل الظَّلمة مع دعاة الحق؛ فلا فرصة للمناقشة، ولا سبيل إلى الإقناع، ولئن كان الملك ظالمًا وسبيل بقائه في الحكم هو السحر، إذًا فلا قضيَّة عنده ولا مَبدأ؛ ولهذا لَم يجد وسيلة في مواجهة الموقف إلا ال***** والتقتيل.
ونلاحظ أنَّ الملك كان حريصًا على أن يرتدَّ الراهب والجليس قبل أن يَ***هما؛ لأن ارتدادَهما قتْلٌ للدعوة، و***هما حياة لها؛ ولهذا لَم ي***هما إلا بعد أن عرَض عليهما الارتداد، ويَئِس من الاستجابة.
"ثم جيء بالغلام، فقيل له: ارجِع عن دينك، فأبى، فدفَعه إلى نفرٍ من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا، فاصْعَدوا به الجبل، فإذا بلغتُم ذِروته، فإن رجَع عن دينه، وإلاَّ فاطْرَحوه، فذهبوا به إلى الجبل، فقال: اللهم اكْفِنيهم بما شئتَ، فرجَف بهم الجبل، فسقطوا".
لقد كان الملك حتى هذه اللحظة لا يريد أن ي***َ الغلام؛ لأنه ما زال عنده بريقُ أملٍ في أن يستخدمَه في السحر، ويستفيدَ من مواهبه وإمكانياته.
والملاحظة الواضحة هنا هي حِرص الملك الشديد على ارتداد الغلام؛ حتى لا يُسبِّب ***ُه حرَجًا للملك، وبَلْبَلة في عقول الناس؛ لأن الغلام كان معروفًا لهؤلاء الناس بأعماله الطيِّبة، وبحبِّه للخير، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، فإن الملك أرادَ أن تَخسر الدعوة هذا الداعية، ويتحدَّث الناس أنَّ الغلام لَم يكن على شيء؛ لأنه ارتدَّ عن دعوته.
ومن ناحية ثالثة، فإن الملك - كما ذكرت - كان طامعًا في أن يستفيدَ من هذا الغلام في تثبيت موقفه، بجَعْله ساحرًا له، وداعيًا إلى مُلكه، طالما أن عنده هذه القدرة العجيبة على أن يَشفي الناس من أدوائهم.
والذي يؤكدِّ لنا حِرص الملك على ارتداد الغلام هو الأسلوب الذي تعامَل به معه، فقد أخَّره عن الراهب والجليس؛ حتى يشهدَ مَصرعهما، فيتأثَّر ويَضْعُف.
وكذلك فإن الملك اختارَ وسيلة غير الوسيلة التي قتَل بها الراهب والجليس، وسيلة فيها فرصة للتردُّد والتفكير أثناء المسافة بين القصر والجبل، ثم صعود الجبل، والذي يؤكِّد لنا أنَّ الملك كان يفعل ذلك بقصْد رِدَّة الغلام؛ حيث إنه طلَب من أصحابه أن يَعرضوا عليه الارتدادَ في ذِروة الجبل، وقبل أن يَقذفوه.
وابتداءً من ***** الجليس، ثم ***** الغلام، ثم قتْل الراهب والجليس قبل الغلام، ثم قول الملك للغلام: ي بني"، ثم تحديد كيفيَّة معيَّنة لقتْل الغلام، تجدها كلها تصرُّفات محسوبة ومدروسة متى يكون ال*****؟ ومتى يكون اللين؟ ثم متى يكون ال***؟ وكيف؟ ولهذه التصرُّفات دائمًا هدف واحد محدَّد، هو: التخلص من الدعوة؛ إما بارتداد الدعاة، أو قَتْلهم.
بَيْدَ أنَّ أهم ملاحظة في تجربة ال*** وال***** واللين، هي التعبير عن طلب الرجوع عن الدِّين أو المساومة فيه بصيغة المبني للمجهول: "فقِيل: ارجع عن دينك"؛ كذا قيل للراهب والجليس الغلام، وأمَّا ال*** فعلاً، فجاء بصيغة الفعل المبني للمعلوم، وهو الملك: "فوَضَع المنشار في مَفرِق رأسه، فشقَّه حتى وقَع شِقاه"، والسبب في ذلك هو أنَّ المساومة مع أصحاب الدعوة لا تتناسب مع الإرادة السياسية العليا، ولكنَّ الجاهلية عندما ترغَب في المساومة، فإنها توكل بها مجهولاً يساوم خُفْيَة؛ لكي لا يؤثر على مهابة الدولة، أمَّا ال*** وال*****، فهو الأمر الذي يتَّفق مع تلك المهابة، بل يَزيدها.
طلب الملك من زَبانيته أن يذهبوا بالغلام إلى أعلى الجبل، ويَعرضوا عليه أن يرجِع عن دينه أو يُلقوه من قمة الجبل، ومن المعلوم أنهم سيسيرون مسافات طويلة؛ وذلك لكي يفكِّر الغلام مرة بعد مرة.
ولكن الإيمان في قلب الغلام كان ثابتًا ثباتَ الجبال الراسيات، فلم يَضْعُف قلبه، ولَم تَرتعِد فرائصه لحظة واحدة، بل كان يتمنَّى الشهادة في سبيل الله - سبحانه وتعالى - من أجْل أن تحيا الأمة كلُّها على التوحيد والإيمان.
ولَمَّا صَعِدوا به فوق الجبل، ما كان من الغلام إلاَّ أنْ لَجَأ إلى الله - سبحانه وتعالى - وتوكَّل على الحي الذي لا يموت، فقال بقلبه ولسانه داعيًا ربَّه فوق الجبل: "اللهم اكْفِنيهم بما شئتَ"، ولَم يَختر الطريقة التي يُنجيه الله - سبحانه وتعالى - بها من كَيْد هؤلاء، بل ترَك الأمر لمالك الملك ومَلك الملوك - جل جلاله - ليدبَّر له الأمر، ويُنقذه بالطريقة التي يراها هو - سبحانه وتعالى.
"اللهم اكْفِنيهم بما شئتَ"، بأي كيفيَّة يرضاها الله، وبأي سببٍ يختاره - سبحانه وتعالى - فليس التوكُّل على الله عند المؤمن محدودًا بخبرة الواقع ودراسة الظروف؛ لأنه لو كان الأمر كذلك، لمَا استطاع الغلام أن يدعو بهذا الدعاء؛ لأن الواقع لَم يكن يحتمل أيَّ تفكيرٍ، ولكنَّه التوكُّل بكامل حقيقته وجوهر معناه، انطلاقٌ إيمانيّ، لا يتقيَّد بضيق الواقع، وارتفاع وجداني، لا يَهبط بشدَّة الظروف، وعندما يتحقَّق التوكُّل، تتحقَّق الاستجابة - بإذن الله -: "فاهتزَّ الجبل، فسقطوا" هم - وهم الرجال الأشداء الأقوياء - وبَقي الغلام الصغير، الضعيف في جسده، القوي في إيمانه، وعاد الغلام سالمًا بأمر الله - سبحانه وتعالى - وجاء يمشي إلى الملك، وقد يسأل سائل: ما الذي جعل الغلام يعود إلى الملك مرة أخرى، ولَم يَهرب، مع أنه على يقين من أنَّ الملك يريد أن ي***َه؟!
والجواب: أنَّ الغلام لا يريد النجاة لنفسه، بل يريد الحياة لأُمَّته، فهو يريد أن تَنتصر العقيدة مهما كان الثمن؛ ولذلك رجع ليعلِّم الكون كله أنه لن يكون إلا ما قَدَّره الله - سبحانه وتعالى - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد والترمذي والحاكم، وصحَّحه الألباني: ((واعْلَم أنَّ الأمة لو اجْتَمَعت على أن ينفعوك بشيء، لَم ينفعوك إلا بشيء قد كتبَه الله لك، ولو اجْتمَعوا على أن يضرُّوك بشيء، لَم يضرُّوك إلا بشيء قد كتَبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجَفَّت الصُّحف)).
فكان الغلام يريد أن يرجِع إلى الملك؛ لأنه حريص على هداية الأمة، وهذا هو شأن الدعاة المخلصين الذين يتحمَّلون كلَّ أنواع الأذى والبلاء؛ من أجْل أن تَحيا الأُمة في ظلال التوحيد والإيمان.
فإذًا، سبب عودته إلى الملك هو سببُ طلبه للنجاة من أصحاب الملك فوق الجبل؛ وهو أنَّ الدعوة لَم تتمَّ، وليست الحياة هدفًا يحرص عليه الدعاة، إلاَّ من خلال كونها ضرورة من ضرورات الدعوة؛ سواء أكان تحقيق هذه الضرورة يتطلَّب الحِرص على الحياة، أم الحرص على الموت.
والذين يفسِّرون مصلحة الدعوة بالحِرص على حياة الدعاة فحسب، هم أصحاب التصوُّر الناقص الذي لا يَعدو أن يكون فلسفة للجُبن أو للارتداد عن سبيل الله، والذين يَندفعون إلى الموت برغبتهم النفسيَّة دون اعتبار لمصلحة الدعوة إنما يُبدِّدون بذلك الاندفاع والتهورِ طاقةَ الدعوة وإمكانيَّاتها.
وكما أن مصلحة الدعوة هي الحدُّ الفاصل بين الجبن والشجاعة، فهي أيضًا الحدُّ الفاصل بين الشجاعة والتهور، فالجبن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلا ضرورة أو مَنفعة، والشجاعة هي التضحية الضرورية النافعة، وعلى هذا لَم يكن طلب الغلام للنجاة جبنًا، ولَم تكن عودته إلى الملك تهوُّرًا، بل كان في كلا الموقفين شجاعًا حكيمًا.
"جاء يمشي إلى الملك"، ولك أن تتصوَّر كم كانت دَهْشة الملك وهو يرى الغلام الصغير حيًّا يمشي إليه، وقد ذهَب الأصحاب من الجنود - الأشداء الأقوياء الأوفياء لِمَلكهم - إلى غير رجعة.
سبحان الله، لَم تؤثِّر مِحنته على منهجه، لَم يحدث التصرُّف الذي غالبًا ما يتصرَّفه بعض الدعاة، بعد أن يعيشوا مرحلة من مراحل الخطر، يخرجون من هذا الخطر وقد قرَّروا تفادِيه في كلِّ مواقفهم، ويُصبح هذا القرار أساسًا في تحديد تصور جديد ومنهج جديد.
لَم يفعل الغلام ذلك، بل عاد متمسكًا بمنهجه بصورة كاملة ودقيقة، عاد إلى نفس النقطة التي كان عليها، نفس الموقف الذي كان فيه، موقف المواجهة مع الملك، فقد تحقَّق للغلام إمكانيَّة تلك المواجهة، فلا يجوز التراجُع، ولا حتى التأجيل.
ولَمَّا ذهبَ الغلام إلى الملك سأله: "ماذا فعل أصحابك؟"، ولا يريد الملك أن يَنسب الأصحاب إليه؛ لأنهم منهزمون أمام الغلام؛ حتى لا يكون لهزيمته بأصحابه أمام الغلام حساسية تؤثِّر على ادِّعاء الربوبيَّة لنفسه، فقال: "ماذا فعَل أصحابك؟"، ولَم يقل: ماذا فعَل أصحابي؟ رغم أنهم أصحابه، كما قال النص: "فدفعَه إلى نفرٍ من أصحابه"، فقال الغلام الذي لا يعبأ كثيرًا بالوسائل والكيفيَّات: "كفانِيهم الله"، فلم يُخبره بما جرى، ولا كيف جرى، ولَم يجعل ما حدَث من كرامة جديدة مادة الحديث حوله، بل جابَه الملك مرة أخرى بما يقضُّ مَضجعه، ويُزلزل ادِّعاءَه الربوبيَّة؛ بأنَّ الله ربَّه وإلهه قد كفاه إيَّاهم؛ ليكون ذلك مزيدًا من الحُجَّة على ذلك الملك المغرور الذي لو عَقَل وفكَّر وتدبَّر ما حدَث، لعَلِم أنَّ الغلام محفوظ منه، وأنه لا سبيلَ له إليه، فيعلم إذًا حقيقة عَجزه ويتوب إلى ربِّه، ولكنَّ القلب إذا عَمِي وطُبِع عليه، فما تُغني النُّذر؟! ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96- 97].
ولعلنا نلاحظ أنَّ قول الغلام للملك بعد النجاة: "كفانيهم الله"، كان مثل قوله قبل النجاة: "اللهم اكْفنيهم"، نفس الكلمة التي قالها عند الضُّر فوق الجبل، قالها بعد كَشْف الضر واهتزاز الجبل، بلا زيادة ولا تغيير.
فقد يَنطلق لسان الإنسان عند الضُّر بكلمات اللجوء إلى الله والاستغاثة به، فإذا ما انكشَف الضُّر، تتغيَّر الكلمات والألفاظ، ويدخل فيها إحساس الإنسان بنفسه وعمله، ويُفسِّر الكشف الإلهي لضُره بمجهودٍ بَذَله، أو تصرُّفٍ تَصَرَّفه، ويُحاول الملك قتْلَه مرة ثانية: "فدفَعه إلى نفرٍ من أصحابه، فقال: اذهبوا فاحْمِلوه في قرقور - أي: سفينة - وتوسَّطوا به البحر، فإن رجَع عن دينه وإلاَّ فاقْذِفوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكْفِنيهم بما شئتَ، فانْكَفَأت بهم السفينة، فغَرِقوا وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ماذا فعَل أصحابك؟ فقال: كفانِيهم الله.
وهنا لَجَأ الملك إلى حيلة أخرى لقتْل الغلام، ولكنَّه اختار مرة أخرى طريقة تجعل الغلام يفكِّر مرات ومرات، وكأن الملك - المسكين - حتى تلك اللحظة لَم يعرف أنَّ الغلام لو عُرِض على ال*** كلَّ يوم مائة مرة، فلن يرجع عن دينه أبدًا.
فأمَر الملك زبانيته أن يأخُذوا الغلام إلى البحر، ويُهدِّدوه بالرجوع عن دينه، أو أن يَقذفوا به في وسط البحر، فأبى الغلام.
وبنفس الثقة في الله - سبحانه وتعالى - والتوكُّل عليه - سبحانه وتعالى - لَجَأ الغلام إلى الحق - جلَّ جلاله - وقال: "اللهم اكْفنيهم بما شئتَ"، فما كان من أمواج البحر إلاَّ أن تفاعَلت مع تلك الكلمة بأمر الله؛ ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ﴾ [المدثر: 31].
فانْكَفأت السفينة وغَرِقوا جميعًا - وهم الرجال الأشداء الأقوياء - وحَمَلت مياه البحر هذا الغلام الصغير؛ ليصلَ إلى الشاطئ سالِمًا غانمًا، ومع ذلك لَم يُفكِّر أبدًا في الهرب، بل عاد إلى الملك؛ ليعطي الكون كله درسًا في الثبات على الدين، والإصرار على انتصار الإيمان والعقيدة.
لكنَّ الملاحظة الأساسية هنا أن اختيار الملك لأسلوب القذف بالغلام في وسط البحر بعد محاولة القذف به من فوق الجبل، يُعتبر نموذجًا لطبيعة تطور المواجهة الجاهلية المادية البحتة في مواجهة دعوة قائمة بقدر الله وحده، تلك المادية البحتة التي أعْمَت أصحابها عن قدر الله السافر فوق ذِروة الجبل؛ حيث اهتزَّ الجبل، فسقطوا هم، وعاد هو سالمًا، والتي أوْدَت بأصحابها إلى اتِّباع الأساليب التافهة الناتجة عن النظر القاصر في المسافة اليابسة بين الجبل والقصر، كيف لو كانت بحرًا، وكما اهتزَّ الجبل فسَقطوا، انْكَفأت السفينة، فغَرِقوا، وعاد هو سالمًا، أحداث ناشئة بطبيعة واحدة، ناشئة عن إرادة إلهية غالبة بتمام الدعوة.
أدْرَك الغلام هذه الحقيقة، فجاء يمشي إلى الملك، ويقين الغلام بعَجْز الملك عن قتْله وإن كان موقفًا خاصًّا، إلاَّ أنه تضمَّن حقيقة عقَديَّة مطلقة، قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس في حديثه: ((واعْلَم أنَّ الأمة لو اجْتَمَعت على أن ينفعوك بشيء، لَم ينفعوك إلا بشيء قد كتبَه الله لك، ولو اجْتمَعوا على أن يضرُّوك بشيء، لَم يضرُّوك إلا بشيء قد كتَبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجَفَّت الصُّحف))، وقد سبَق منذ قليل.
ولن تكون الحركة صحيحة إلاَّ إذا تحقَّق في ضمير كلِّ داعية هذا الاطمئنان الذي كان عند الغلام، عاد الغلام إلى الملك، فتعجَّب الملك كيف يعود الغلام هذه المرة أيضًا سالمًا؟! وقد كان الملك يظن أن ربَّ الغلام الذي نجَّاه من على الجبل، لن يستطيع أن يُنجيَه من البحر، فسأل الملك الغلام: "ماذا فعل أصحابك؟"، فقال الغلام بثقة ويقين: "كفانيهم الله".
لقد أحسَّ الملك بعجزه الشديد، وأنه لا يستطيع أن ي***َ هذا الغلام الصغير، ولا حتى أن يكون سببًا في هروب الغلام وخروجه من مملكته؛ ليحفظَ الملك ماء وجْهه أمام رعيَّته الذين عَلِموا بعَجْزه عن قتْلِ غلام صغير، مع أنه يدَّعي أنه إلهٌ من دون الله! وهنا يتحول الغلام الصغير من مأمورٍ إلى آمر؛ فيقول للملك:
"إنك لن تستطيع ***ي، إلاَّ إذا فعلتَ ما آمُرك به"، الله أكبر! يا لها من كرامة أن يتحوَّل الغلام من مأمور إلى آمر، بل ويُخبر الملك بعَجْزه وضَعْفه عن قَتْله؛ حتى يفعلَ الأمر الذي يوجِّهه الغلام إليه.
ولَمَّا كان الملك قد أحسَّ بأن وجودَ هذا الغلام أصبَح خطرًا على مُلكه، قال له بلَهفة وشوق: "وما هو؟"؛ أي: ما هو الطريق الذي يجعلني أستطيع أن أ***ك؟!
لقد وضَح تمامًا في كلمات الغلام شيئان: إثبات عجز الملك، والأمر الذي سيأمر الملك به، ولعل هذا أوَّل أمر يتلقَّاه الملك في حياته، ويَجد نفسه مضطرًّا إلى تنفيذه، وبذلك يُنهي الغلام ادِّعاء الربوبيَّة الذي يَدَّعيه الملك بإثبات عجزه واضطراره إلى تنفيذ الأمر الذي يَصدُر إليه، ولقد حرَص الغلام على إنهاء هذا الادعاء في ذلك الموقف؛ لأنه الموقف الأخير الذي يجب أن ينتهي معه هذا الادعاء الفظيع، ويكون الأمر من الغلام الذكي هو: "أن تَجمع الناس في صعيد واحد"؛ وذلك ليرى الناس جميعًا هذا المشهد، ويَعلموا الحقيقة كلها، ويعرِفوا أنه لا شىءَ يَحدث في الكون إلا بأمْرٍ من الله - سبحانه وتعالى - فيَجتمع الناس؛ حتى يَشهدوا الأحداث، ويفهموا معناها، ولقد بدأ الغلام أوامرَه بهذا الأمر؛ لأنه يعلم أن مثلَ هؤلاء الحُكَّام يُخفون الحقائقَ التي تُفيد الناس، وتساعدهم على الإيمان ومعرفة الحقِّ، وهذا هو ما قصَده موسى - عليه السلام - عندما طلَب من فرعون أن يكون موعد المواجهة بينه وبين السحرة يوم اجتماع الناس؛ ﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴾ [طه: 59].
ويستمر الغلام في إصدار الأوامر إلى الملك العاجز: "وتَصلبني في جِذع شجرة"؛ حتى يكتملَ ضَعْف الغلام في إحساس الناس؛ فيكون غلامًا صغيرًا مصلوبًا في جِذع شجرة، حتى يَسهُل على الناس الانطلاق بإحساسهم نحو الإيمان بالقوة التي قهَرت الملك، والتي تَقف مع ذلك الغلام الصغير المصلوب، قوة الله ربِّ الغلام!
وأيضًا: ليَظهر للجميع الظلم الواقع على الغلام من دون جريمة ارْتَكَبها إلاَّ أن يقولَ: ربي الله، وهذا بالتأكيد من أسباب مَيْل الناس إليه وتعاطُفهم معه ومع دعوته؛ فقد فطَر الله - سبحانه وتعالى - العبادَ على كراهية الظلم وعَداوته، والمَيْل إلى المظلوم ومُناصرته.
فإذا أُضيف إلى ذلك أنهم يعلمون عن المظلوم حبَّه للخير وحِرصَه على الإحسان إلى الناس، وجرَّبوه من قبل في قضاء حوائجهم، وكوْنه كان دائمًا مستشعرًا لمشاكلهم، في حين غابَت مشاكلهم عن الملك وحاشيته؛ بداية من الدابة التي قتَلها، وانتهاءً بأمراضهم المستعصية التي كان لا يستطيع، بل ولا يَلتفت أصلاً إلى محاولة مُداواتها، فلا شكَّ أن هذه الأمور مجتمعة تَجعل هذا الجمْعَ كله يعلم الظلم الواقع على الغلام، وعندما يتساءلون: ما جريمته؟! يُقال: لا شيء، إلا أنه يقول: ربي الله!
فهكذا ينبغي أن يكون الدُّعاة إلى الله - سبحانه وتعالى - حريصين على ألاَّ يكون لهم تُهمة إلاَّ أن يقولوا: ربُّنا الله، مع إحسانهم إلى الناس، وعليهم ألاَّ يَحزنوا من الظلم الواقع عليهم؛ فإنه قَدَّره الله - سبحانه وتعالى - لحِكَم عظيمة؛ لانتشار دينه وقَبول الناس له، كما أنه سَرعان ما يزول، فيكون لهم الأجر الجزيل عند ربِّهم وإلههم، وكما أُكرِّر دائمًا: يذهب الألَم ويبقى الأجر - إن شاء الله.
"ثم تأخذ سهمًا من كِنانتي"، واشتراط أن يكون السهم من كنانته هو، فيكون سببُ ال*** من عنده، وتتأكَّد رغبته في ال***، وفي ذلك مزيد من إظهار عجْز الملك، وأنه ليس بيده الأمر، فلو أخَذ سهمًا من كنانة الملك، لَم يَ*** الغلام حتى يأخُذه من كنانة الغلام؛ ليعلم الناس أنَّ الأمر أمرُ ربِّ الغلام، وأنَّ قتْلَ الغلام كان بإرادته لا إرادة الملك.
"ثم تضع السهم في كَبِد القوس"، ولقد كان من الطبيعي أن يوضَع السهم في كبد القوس، ولكن الغلام جعَل التصرُّف الطبيعي تنفيذًا لأمر منه؛ حتى لا يتحرَّك الملك أيَّ حركة من تلقاء نفسه؛ ليكون خضوعه كاملاً ونهائيًّا لأوامر الغلام التي جعَلها الله صياغة لإرادته هو - سبحانه وتعالى.
"ثم قل: بسم الله ربِّ الغلام"، وفي هذا إعلان بالعجز التام والافتقار القهري الاضطراري إلى الله - سبحانه وتعالى - وهو افتقار لا يَنفعه ولا يُثاب عليه؛ لأن المطلوب شرعًا هو الافتقار والعبوديَّة الاختياريَّة لا الاضطراريَّة، وبهذا يكون الغلام قد أعطى للناس تفسيرًا للموقف؛ فيكون قتْلُه رغبةً منه، وسببًا من عنده، يتحقَّق بقدر الله - سبحانه وتعالى - بعد أن عجَز الملك، ومن المعلوم أن المصلحة العامة مقدَّمة على المصلحة الخاصة؛ ولذلك آثر الغلام مصلحة الأُمَّة على حياته؛ قال شيخ الإسلام: وقد روى مسلم في صحيحه عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قصة أصحاب الأخدود، وفيها أنَّ الغلام أمَر ب*** نفسه لأجْل ظهور الدين؛ ولهذا جوَّز الأئمة الأربعة أن ينغمسَ المسلم في صفِّ الكفار - وإن غلَب على ظنِّه أنهم ي***ونه - إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين.
ويَستجيب الملك المهزوم لأوامر الغلام استجابة الضعيف المضطر، فجمَع الناس في صعيد واحدٍ، وصَلَبه على جِذعٍ، ثم أخَذ سهمًا من كِنانته، ثم وضَع السهم في كَبِد القوس، ثم قال: "بسم الله ربِّ الغلام".
وفي نُطق الملك أمام الجموع بهذه العبارة من وصول الدعوة إلى مَن رأى ومَن لَم يَرَ، أخذ الملك السهم من كنانة الغلام؛ فمَن لَم يَرَ، فليسمع، ومَن رأى، فليَزْدَدْ يقينًا بقُدرة الله - سبحانه وتعالى - ربِّ الغلام وعَظمته ووحْدانيَّته، استجاب الملك لأوامر الغلام؛ لأنه وجَد نفسه أمام ثلاثة أمور؛ إمَّا أن يترك الغلام يدعو بدعوته كيفما شاء، وهذا الحال سينتهي حتمًا بإيمان الناس، وإمَّا أن يستمرَّ في تأكيد عَجْزه عن ذلك، وتتأكَّد للناس قوة الله الذي يحمي الغلام، وكان هذا الحال أيضًا سينتهي بإيمان الناس.
والأمر الثالث وهو ما اختاره الملك، والذي انتهى بقتْل الغلام، وأيضًا آمَن الناس؛ فقد أراد الله - سبحانه وتعالى - أن يؤمن الناس، وأن تَعلوَ كلمته، وقضى بذلك - سبحانه وتعالى - وحكَم، ولا رادَّ لقضائه، ولا مُعقِّب لحُكمه، وعلى أساس هذا الموقف نَفهم قول الله الذي جاء في سورة البروج: ﴿ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴾ [البروج: 20].
"ثم رماه في صُدْغه - وهو من العين إلى شَحْمة الأذن - فوضَع يده في صُدغه، فمات"، وهذه العبارة تتضمَّن حقيقة قدَرية هائلة، حقيقة الرَّبط بين السبب والنتيجة، وهي لحظة الفَرْق بين الضَّرب بالسهم، وموت الغلام؛ حيث تقول العبارة: "ثم رماه، فوقع السهم في صُدغه" فلم يَمُت، لَم يتحقَّق رَبْط السبب بالنتيجة: "فوضَع يده في صُدغه"، "فمات".
وقد كانت هذه الحقيقة القَدرية الأخيرة التي تتحدَّد بها علاقة السبب والنتيجة، وقد سبَقها عدة حقائق:
ففي القصة النتيجة التي تتحقَّق بعكس مقصود البشر من السبب، فنفس الغلام الذي أراد البشر أن يكون داعية للضلال، يريد الله أن يكون داعية للحق، وفي نفس طريق الغلام إلى الساحر يلتقي بالراهب، ويجلس إليه، ويسمع منه، ويُعجبه كلامه.
وفي القصة النتيجة الهائلة بالسبب البسيط، مثلما قتَل الغلام الدابة التي كانت تسدُّ على الناس الطريق بحجرٍ صغير، وهو المعنى المتحقق كذلك بهزيمة الملك، ووقوع ما كان يَحذره بسبب هذا الغلام الصغير.
وفي القصة النتائج المختلفة بالسبب الواحد؛ وذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك فوق الجبل، فرجَف بهم الجبل وجاء إلى الملك، وكذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك في السفينة، فانْكَفأت بهم السفينة، فغَرِقوا وجاء يمشي إلى الملك.
ومن مجموع هذه الحقائق نَفهم من سورة البروج قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴾ [البروج: 20]؛ لأن هذه الآية هي حقيقة كل الحقائق.
ولقد كان آخر ما قاله الغلام هو أمره للملك بأن يقول: "بسم الله ربِّ الغلام"، وبهذه الكلمة فتَح الغلام للناس باب الإيمان، فقد كانوا يعرفونه محبًّا لهم، وساعيًا لمنفعتهم، ومداويًا لأدوائهم، وما بَقِي إلاَّ أن يعرِفَ الناس أنَّ للغلام ربًّا هداه إلى محبَّتهم وأذِنَ له بشفائهم، باسْمه تحقَّق عجزُ الملك، وباسْمه سيموت الغلام راغبًا من أجل إيمانهم، وهنا نشعر بمدى القهر الذي انتهى إليه الملك، فبعد أن كان يدَّعي الربوبيَّة، ويعذِّب وي*** مَن لا يدَّعيها له، يقول في النهاية بنفسه: "باسم الله ربِّ الغلام"؛ ولذلك لَم يكن الغلام خائفًا من أن تنعكس رؤية الناس له وهو يموت خوفًا من الملك بعد قهْره بهذا الموقف، كما أن الغلام لَم يكن خائفًا؛ لأنه استطاع أن يُنشئ تعاطفًا كاملاً له في نفوس هؤلاء الناس بسلوكه معهم قبل ذلك، وبموقف الموت ذاته؛ حيث تحدَّد الفارق بينه كغلام صغير مصلوب على جِذع شجرة، وبين الملك الظالم، وعندما انتهى الخوف من الملك المقهور، وبدأ التعاطُف مع الغلام الداعية، بدأ الناس في الإحساس الصحيح بالموقف، غلام صغير يحب الناس ويقدِّم لهم المنافع والخير، يموت برغبته من أجلهم، بعد أن أثبتَ عجز الملك وضَعْفه من أجْل أن يؤمنوا بالله ربِّ الغلام، واستجاب الناس، فاندفَعوا من كلِّ مكان بلا خوف يردِّدون نداءات الإيمان: "آمنَّا بربِّ الغلام، آمنَّا بربِّ الغلام"، ففي لحظة الانطلاق من قيود الوهم والجهل، وفي لحظة العزة بعد القهْر والذُّل، وفي لحظة القوة بعد الوَهَن والضَّعف يؤمن الناس، فعَل الملك كلَّ ما أمَره به الغلام، وكان هذا الملك في غاية الغباء؛ لأنه لو ترَك الغلام يدعو الأمة إلى توحيد الله - سبحانه وتعالى - لَمَا آمَن معه إلا القليل، ولكنَّه لَمَّا قتَل الغلام، آمنَت الأمة كلُّها، وقاموا جميعًا على قلب رجل واحد، فقالوا: آمنا بربِّ الغلام.
ورحَل الغلام الشهيد عن دنيا الناس عزيزًا كريمًا، وهو الذي صدَق الله فصدَقه الله، وآمنَت الأُمة كلُّها؛ لتأتي يوم القيامة في ميزان حسنات الغلام، ومِن قبله الراهب الذي علَّم الغلامَ التوحيدَ لله - سبحانه وتعالى - وقُتِل قبل أن يرى ثمرة دعوته، وهذا أمر يحفِّز الدعاة على بَذْل وُسْعهم في الدعوة - وإن لَم يروا ثمرة دعوتهم في حياتهم؛ لأنه رُبَّما تأتي الثمرة بعد موت الداعية؛ ولذا قال الله - سبحانه وتعالى - لحبيبه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ ﴾ [الشورى: 48].
"فأتى الملك فقيل له: أرأيتَ ما كنت تحذَر؟قد والله وقَع بك حَذرك"، وتغيَّرت ملامح المجتمع، وأنْهَت الجماهير ادِّعاء الحاكم الكاذب، فجاء إلى الملك مَن يقسم له بالله على هزيمته وعَجْزه، ويقول له: "قد والله وقَع بك حَذَرك"، قامت البطانة السيئة لتُخبر الملك بأنَّ الأُمَّة قد آمنَت بالله - سبحانه وتعالى - فما كان من الملك الذي لا يَملك الحُجَّة ولا الإقناع، إلاَّ أن لَجَأ إلى البطش والعُنف؛ فأمَر زبانيته أن يَحفروا الأخاديد في أفواه السِّكك؛ حتى لا يتركوا مكانًا يستطيع الناس أن يَهربوا منه.
وجِيء بالموحِّدين الذين ذاقوا حلاوة الإيمان منذ ساعات معدودة، وخيَّروهم بين الكفر وبين دخول نار الدنيا، فاختاروا جميعًا أن يموتوا على التوحيد والإيمان، وأن يَدخلوا نار الدنيا، على ألاَّ يكفروا بالله - سبحانه وتعالى - ويَدخلوا - بهذا الكفر - نار الآخرة، التي هي أشدُّ من نار الدنيا سبعين مرة؛ كما في الصحيح.
وهكذا تستعلي قلوبهم على تلك الفتنة، ويُلقون بأنفسهم في تلك الأخاديد التي اشتعَلت نارًا؛ ليكونوا في زُمرة الشهداء، وليكونوا أحياءً عند ربِّهم يرزقون.
"فأُمِر بالأخاديد في أفواه السكك، فَخُدَّت، وأُضْرِم فيها النيران"، ورغم هذا لَم يتوقف اندفاع الناس من كل طريق، وفي كلِّ السكك، وواصَلوا الاندفاع حتى أخاديد النيران، وواصل الملك مواجهة الجماهير المندفعة فقال: "مَن لَم يرجع عن دينه، فأقْحِموه فيها، أو قيل له: اقْتَحم"؛ ليقاوِمَ كلُّ إنسانٍ بنفسِه حبَّ البقاء في نفسِه، فيكون أقلَّ مقدار للضَّعف كافيًا وسببًا للارتداد، وقد كانتْ هذه الفكرة آخر ما أفْرَزتْه رأس هذا الملك المهزوم من سموم المكر، ولكنَّ الإيمان أبطَلَ أثرها - بفضْل الله - وعالَجت قوةُ الاندفاع الأصيل إلى الموت أثرَ أيِّ ضَعْف كان كامنًا في النفوس.
ويلتقط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشهدًا لمعالجة الإيمان لإحساس التعلُّق بالحياة فيه: ((جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعَسَت أن تقعَ فيها، فقال لها الغلام: يا أُمَّه، اصبري؛ إنَّك على الحق)).
يا له من مشهد مَهيب، أن يُنطق الله - سبحانه وتعالى - هذا الطفلَ الصغير؛ ليَربط على قلب أُمِّه، ولتَعلم يقينًا أنها على الحقِّ، وأنا أقول لشباب الأمة الملتزم بما كان عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام - رضي الله عنهم -: اصبروا؛ فإنكم والله على الحق، وسوف يَجبر الله كَسْركم، ويَمسح همومكم وأحزانكم في جنته التي فيها ما لا عين رأتْ، ولا أُذن سَمِعت، ولا خطَر على قلب بشر.
جاءت الأم بولدها متمسكة به إلى النهاية، لَم تَفصلها أهوال الأحداث عنه، حتى جاءت إلى حافَّة الأخدود، واشتعَلت مشاعر الأمومة وكراهية الموت فيها، فتردَّدت أن تقعَ بابنها، ولكنَّ الطفل يطفئ في إحساس أُمِّه لهيبَ النار ذات الوقود؛ لتُلقي بنفسها وتنجوَ من الضَّعف والتقاعس، وكان حديث هذا الصبي هو آخرَ كلمات القصة عند حافَّة الأخدود، قصة الانتصار للحق.
وتبقى مشاهد العذاب، وأخاديد النيران بشَرَرها المتطاير، ولَهيبها ترتفع ألْسِنته بأجساد المؤمنين الطاهرة، ويبقى أثرُ تلك النار في قلب كل مؤمن: استضعافًا في الأرض، وجاهلية في الحياة، ترتفع ألْسِنتها كلما اسْتُشْهِد شهيد في سبيل تلك الدعوة، من أجل التمكين لها في الأرض وفي هذه الحياة، وفي ذلك جاء قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 1 - 8].
وبعدُ:
فتبقى كلمة:

يُتبع - إن شاء الله تعالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 14-06-2015, 01:52 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

قصة أصحاب الأخدود (4)
محمود العشري



وبعد: فتبقى كلمة:
الثبات على دين الله - سبحانه وتعالى
إن الثبات على دين الله - سبحانه وتعالى - مطلب أساسي لكلِّ مسلم صادق، يريد سلوك الصراط المستقيم بعزيمة ورشدٍ؛ كما قال الشيخ محمد صالح المنجد - حَفِظه الله.
وتكمن أهمية هذا الموضوع في أمور، من أهمِّها:
1- وضْع المجتمعات الحاليَّة التي يعيش فيها المسلمون، وأنواع الفِتن والمُغريات التي بنارها يكتوون، وأصناف الشهوات والشُّبهات التي بسببها أضحى الدِّين غريبًا، فنال المتمسكون به مثلاً عجيبًا: "القابض على دينه كالقابض على الجَمر".
ولا شكَّ عند كلِّ ذي لُبٍّ أنَّ حاجة المسلم اليوم لوسائل الثبات أعظمُ من حاجة أخيه أيام السلف، والجُهد المطلوب لتحقيقه أكبر؛ لفساد الزمان، ونُدرة الإخوان، وضَعْف المُعين، وقلة الناصر.
2- كثرة حوادث الرِّدة والنكوص على الأعقاب، والانتكاسات، حتى بين بعض العاملين للإسلام؛ مما يحمل المسلمَ على الخوف من أمثال تلك المصائر، ويتلمَّس وسائل الثبات للوصول إلى برٍّ آمن.
3- ارتباط الموضوع بالقلب، الذي يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأنه فيما رواه عنه أحمد والحاكم، وذكَره الألباني في السلسلة الصحيحة: ((لَقلب ابن آدمَ أشدُّ انقلابًا من القِدر إذا اجتمَعت غليًا)).
ويَضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - للقلب مثلاً آخر، فيقول فيما رواه أحمد وذكَره الألباني في صحيح الجامع: ((إنما سُمِّي القلب من تقلُّبه، إنما مَثَلُ القلب كمَثَلِ ريشة في أصل شجرة، يقلِّبها الريح ظهرًا لبطنٍ))، فسبق الحديث قول الشاعر:


وَمَا سُمِّيَ الإِنْسَانُ إِلاَّ لِنَسْيِهِ

وَلاَ الْقَلْبُ إِلاَّ أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ



فتثبيت هذا المتقلِّب برياح الشهوات والشُّبهات أمرٌ خطير، يحتاج لوسائل جبَّارة تكافئ ضخامة المهمة وصعوبتها.
ومن رحمة الله - سبحانه وتعالى - بنا أن بيَّن لنا في كتابه وعلى لسان نبيِّه، وفي سيرته - صلى الله عليه وسلم - وسائلَ كثيرةً للثبات، نستعرض سويًّا بعضًا منها، والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.
أولاً: الإقبال على القرآن:
القرآن العظيم وسيلة الثبات الأولى، وهو حَبْل الله المتين، والنور المبين، مَن تمسَّك به، عصَمه الله، ومَن اتَّبعه، أنْجاه الله، ومَن دعا إليه، هُدِي إلى صراطٍ مستقيم.
نصَّ الله - سبحانه وتعالى - على أنَّ الغاية التي من أجْلها أنزل هذا الكتاب منجَّمًا مفصَّلاً هي التثبيت، فقال - سبحانه وتعالى - في معرض الردِّ على شُبَه الكفار: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا *وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ [الفرقان: 32 - 33].
فلماذا كان القرآن مصدرًا للتثبيت؟!
والجواب: لأنه يَزرع الإيمان، ويُزكِّي النفس بالصِّلة بالله - سبحانه وتعالى - ولأن تلك الآيات تتنزَّل بردًا وسلامًا على قلب المؤمن، فلا تَعصِف به رياح الفتنة، بل يَطمئن قلبه بذِكر الله، ولأنه - مع ذلك - يُزود المسلم بالتصوُّرات والقِيَم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يُقوِّم الأوضاعَ من حوله، وكذا الموازين التي تهيِّئ له الحُكم على الأمور، فلا يضطرب حُكمه، ولا تتناقَض أقواله باختلاف الأحداث والأشخاص، ولأنه يردُّ على الشُّبهات التي يُثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين، كالأمثلة الحيَّة التي عاشَها الصدر الأول.
وهذه نماذج منها:
1- ما هو أثر قول الله - سبحانه وتعالى - : ﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ [الضحى: 3] على نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قال المشركون: وُدِّعَ محمد؟! وراجِع القصة كاملة في صحيح مسلم بشرْح النووي.
2- وما هو أثر قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 103] لَمَّا ادَّعى كفار قريش أنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إنما يعلِّمه بشر، وأنه يأخذ القرآن عن نجَّار رومي بمكة؟!
3- وما هو أثر قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [التوبة: 43] في نفوس المؤمنين لَمَّا قال المنافق: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ [التوبة: 49]؟!
أليس تثبيتًا على تثبيتٍ، وربطًا على القلوب المؤمنة، وردًّا على الشُّبهات، وإسكاتًا لأهل الباطل؟! بلى ورَبي.
ومن العجب أن الله - سبحانه وتعالى - يَعِدُ المؤمنين في رجوعهم من الحديبية بغنائمَ كثيرة يأخذونها - وهي غنائم خيبر - وأنه سيُعجِّلها لهم، وأنهم سينطلقون إليها دون غيرهم، وأنَّ المنافقين سيطلبون مرافقتهم، وأنَّ المسلمين سيقولون: لن تتَّبعونا، وأنهم سيُصرون يريدون أن يبدِّلوا كلام الله، وأنهم سيقولون للمؤمنين: بل تحسدوننا، وأنَّ الله - سبحانه وتعالى - أجابَهم بقوله: ﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الفتح: 15]، ثم يحدث هذا كله أمام المؤمنين مرحلة بمرحلة، وخُطوة بخطوة، وكلمة بكلمة.
ومن هنا نستطيع أن نُدرك الفرق بين الذين ربَطوا حياتهم بالقرآن، وأقبلوا عليه تلاوة وحِفظًا، وتفسيرًا وتدبُّرًا، منه ينطلقون، وإليه يَفيئون، وبين مَن جعلوا كلام البشر جُلَّ همِّهم، وشُغلهم الشاغل، ويا ليْتَ الذين يطلبون العلم يجعلون للقرآن وتفسيره نصيبًا كبيرًا من طلبِهم.
ثانيًا: الْتِزام شرع الله والعمل الصالح:
قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27]؛ قال قتادة: أمَّا الحياة الدنيا، فيُثبِّتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة: في القبر، وكذا رُوِي عن غير واحدٍ من السلف، وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾ [النساء: 66]؛ أي: على الحقِّ.
وهذا بَيِّنٌ؛ وإلاَّ فهل نتوقَّع ثباتًا من الكسالى القاعدين عن الأعمال الصالحة، إذا أطلَّت الفتنة برأسها وادْلَهمَّ الخَطْب؟! ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يَهديهم ربُّهم بإيمانهم صراطًا مستقيمًا؛ ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يُثابر على الأعمال الصالحة، وكان أحب العمل إليه أدْوَمه وإن قلَّ، وكان أصحابه إذا عملوا عملاً أثبتوه، وكانت عائشة - رضي الله عنها - إذا عَمِلت العمل لَزِمته، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن ثابَر على اثنتي عشرة ركعة، وَجَبَت له الجنة))؛ والحديث رواه الترمذي، وقال: الحديث حسنٌ أو صحيح، وهو في صحيح النسائي، وصحيح الترمذي، والمقصود: السُّنن الرَّواتب، وفي الحديث القدسي عند البخاري: ((ولا يزال عبدي يتقرَّب إليّ بالنوافل؛ حتى أحبَّه)).
ثالثًا: تدبُّر قَصص الأنبياء ودراستها؛ للتأسي والعمل:
والدليل على ذلك قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120]، فما نزلَت تلك الآيات على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للتلهِّي والتفكُّه، وإنما لغرضٍ عظيم، هو تثبيتُ فؤاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفئدة المؤمنين معه، فلو تأمَّلنا قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 68 - 70]؛ قال ابن عباس فيما نقَله عنه صاحب الفتح: "كان آخر قول إبراهيم حين ألْقِي في النار: حسبي الله ونِعم الوكيل"، ألا نشعر بمعنى من معاني الثبات أمام الطُّغيان والعذاب يدخل أنفسنا ونحن نتأمَّل هذه القصة؟ أيضًا لو تدبَّرت قول الله - سبحانه وتعالى - في قصة موسى - عليه السلام -: ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 61، 62]، ألا تحسُّ بمعنى آخر من معاني الثبات عند ملاحقة الطالبين، والثبات في لحظات الشِّدة وسط صَرخات اليائسين وأنت تتدبَّر هذه القصة؟!
وكذلك: لو استعرضْتَ قصة سَحَرَة فرعون، ذلك المَثَل العجيب للثُّلة التي ثبتَت على الحق بعدما تبيَّن، ألا ترى أن معنًى عظيمًا من معاني الثبات يستقرُّ في النفس أمام تهديدات الظالم وهو يقول: ﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ [طه: 71].
ثبات القلَّة المؤمنة الذي لا يَشوبه أدنى تراجُع وهم يقولون: ﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه: 72].
وهكذا قصة المؤمن في سورة يس، ومؤمن آل فرعون، وأصحاب الأخدود وغيرها، يكاد الثبات يكون أعظم دروسها قاطبةً.
رابعًا: الدعاء:
فمن صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجَّهون إلى الله بالدعاء أن يُثبِّتَهم: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾[البقرة: 250]، ولَمَّا كانت: "قلوب بني آدمَ كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلبٍ واحد يُصرفه حيث يشاء"؛ كما روى الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر مرفوعًا، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثر أن يقول: ((يا مُقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))؛ كما رَوى الترمذي عن أنس مرفوعًا، وهو في صحيح الجامع.
خامسًا: ذِكر الله:
وهو من أعظم أسباب التثبيت، تأمَّل هذا الاقتران بين الأمرين في قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45]، فجعَله من أعظم ما يُعين على الثبات في الجهاد.
"وتأمَّل أبدان فارس والروم، كيف خانَتْهم أحوج ما كانوا إليها"، بالرغم من قلة عدد وعُدة الذاكرين الله كثيرًا.
وبماذا استعان يوسف - عليه السلام - في الثبات أمام فتنة المرأة ذات المَنصب والجمال، لَمَّا دَعتْه إلى نفسها؟ ألَم يدخل - عليه السلام - في حصن: "معاذ الله"؟!، فتكسَّرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حِصنه، وكذا تكون فاعلية الأذكار في تثبيت المؤمنين.
سادسًا: الحرص على أن يَسلُك المسلم طريقًا صحيحًا:
والطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كلِّ مسلم سلوكه هو طريق أهل السُّنة والجماعة، طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، أهل العقيدة الصافية والمنهج السليم، واتِّباع السُّنة والدليل، والتميُّز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل.
وإذا أردتَ أن تعرف قيمة هذا في الثبات، فتأمَّل وسائل نفسك: لماذا ضلَّ كثير من السابقين واللاحقين وتحيَّروا، ولَم تَثبت أقدامهم على الصراط المستقيم، ولا ماتوا عليه؟ أو وصَلوا إليه بعدما انقَضى جُلُّ عمرهم، وأضاعوا أوقاتًا ثمينة من حياتهم؟!
فترى أحدهم يَتنقل في منازل البدع والضلال؛ من الفلسفة، إلى علم الكلام والاعتزال، إلى التحريف والتأويل، إلى التفويض والإرجاء، ومن طريقة في التصوُّف إلى أخرى.
وهكذا أهل البدع يتحيَّرون ويضطربون، وانظر كيف حُرِم أهل الكلام الثبات عند الممات؛ فقد قال السلف: "أكثر الناس شكًّا عند الموت أهل الكلام".
لكن فَكِّر وتدبَّر: هل رجَع أحدٌ من أهل السُّنة والجماعة عن طريقه سَخْطَةً، بعد إذ عرَفه وَفقهه وسَلَكَه؟ قد يتركه لأهواء وشهوات، أو لشُبهات عرَضت لعقله الضعيف، لكن لا يتركه لأنه قد رأى أصحَّ منه، أو تبيَّن له بطلانه.
ومِصداق هذا مساءلة هرقل لأبي سفيان عن أتْباع محمد - صلى الله عليه وسلم - قال هرقل لأبي سفيان: "فهل يرتدُّ أحد منهم سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ "قال أبو سفيان: لا، ثم قال هرقل: "وكذلك الإيمان حين تُخالط بشاشته القلوب"؛ والحديث رواه البخاري.
سمعنا كثيرًا عن كبار تنقَّلوا في منازل البدع، وآخرين هداهم الله، فترَكوا الباطل وانتقلوا إلى مذهب أهل السُّنة والجماعة، ساخطين على مذاهبهم الأولى، ولكن هل سَمِعنا العكس؟!
فإن أردتَ الثبات، فعليك بسبيل المؤمنين.
وللموضوع تتمة

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 14-06-2015, 01:56 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

قصة أصحاب الأخدود (4)
محمود العشري



سابعًا: التربية:

التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة عاملٌ أساسي من عوامل الثبات:

التربية الإيمانية التي تُحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبَّة، المنافية للجفاف الناتج من البُعد عن نصوص القرآن والسُّنة، والعكوف على أقاويل الرجال.



التربية العلمية القائمة على الدليل الصحيح، المنافية للتقليد والإمَّعِيَّة الذميمة.



التربية الواعية: التي لا تعرف سبيل المجرمين، وتدرس خُطط أعداء الإسلام، وتُحيط بالواقع علمًا، وبالأحداث فَهمًا وتقويمًا، المنافية للانغلاق والتقوقُع على البيئات الصغيرة المحدودة.



التربية المتدرِّجة: التي تَسير بالمسلم شيئًا فشيئًا، ترتقي به في مدارج كماله بتخطيط موزون، والمنافية للارتجال والتسرُّع والقفزات المُحطِّمة.



ولكي نُدرك أهميَّة هذا العنصر من عناصر الثبات، فلنَعُد إلى سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونسائل أنفسنا: ما هو مصدر ثبات صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة إبَّان فترة الاضطهاد؟! كيف ثبَت بلال وخبَّاب، ومصعب وآل ياسر، وغيرهم من المستضعفين؟! وحتى كبار الصحابة في حصار الشِّعب وغيره؟! هل يمكن أن يكون ثباتُهم بغير تربية عميقة من مِشكاة النبوَّة صَقَلَت شخصيَّاتهم؟!



لنأخذ رجلاً صحابيًّا مثل خبَّاب بن الأرت - رضي الله عنه - الذي كانت مولاته تحمي أسياخ الحديد حتى تحمرَّ، ثم تَطرحه عليها عاري الظهر، فلا يُطفئها إلاَّ وَدَكُ ظهْره - أي: شَحمه - حين يَسيل عليها، ما الذي جعَله يَصبر على هذا كله؟! وبلال تحت الصخرة في الرَّمضاء، وسُميَّة في الأغلال والسلاسل.



وسؤال مُنبثق من موقف آخرَ في العهد المدني: مَن الذي ثبَت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حُنين لَمَّا انهزَم أكثر المسلمين؟ هل هم حديثو العهد بالإسلام ومُسلِمة الفتح الذين لَم يتربَّوا وقتًا كافيًا في مدرسة النبوَّة والذين خرَج كثير منهم طلبًا للغنائم؟ كلاَّ، إن غالب مَن ثبَت هم أولئك الصفوة المؤمنة التي تلقَّت قدرًا عظيمًا من التربية على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم.



فلو لَم تكن هناك تربية، تُرى هل كان سيَثبت هؤلاء؟!



ثامنًا: الثقة بالطريق:

لا شكَّ أنه كلما ازدادَت الثقة بالطريق الذي يَسلكه المسلم، كان ثباته عليه أكبر، ولهذا وسائل، منها:

استشعار أنَّ الصراط المستقيم الذي تَسلكه ليس جديدًا، ولا وليدَ قَرْنك وزمانك، وإنما هو طريق عتيق - عتيق صفة مدح - قد سارَ فيه مِن قبلك الأنبياء والصِّدِّيقون والعلماء، والشُّهداء والصالحون، فبهذا الشعور تزول غُربتك، وتتبدَّل وَحْشتُك أُنسًا، وكآبتك فرحًا وسرورًا؛ لأنك تشعر بأنَّ أولئك كلهم إخْوَة لك في الطريق والمنهج.



الشعور بالاصطفاء؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [النمل: 59]، وقال: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [فاطر: 32]، وقال: ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 6].



وكما أنَّ الله - سبحانه وتعالى - اصطفى الأنبياء، فللصالحين نصيبٌ من ذلك الاصطفاء، وهو ما وَرِثوه من علوم الأنبياء.



ماذا يكون شعورك لو أنَّ الله خلقَك جمادًا، أو دابَّة، أو كافرًا مُلحدًا، أو داعيًا إلى بدعة، أو فاسقًا، أو مسلمًا غير داعية لإسلامه، أو داعية في طريق متعدِّد الأخطاء؟! ألا ترى أنَّ شعورك باصطفاء الله لك، وأنْ جعَلك داعية من أهل السُّنة والجماعة من عوامل ثباتك على منهجك وطريقك؟!



تاسعًا: ممارسة الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى:

النفس إن لَم تتحرَّك، تأسَنْ، وإن لَم تَنطلق تتعفَّن، ومن أعظم مجالات انطلاق النفس: الدعوة إلى الله؛ فهي وظيفة الرُّسل، ومُخلصة النفس من العذاب؛ فيها تتفجَّر الطاقات، وتُنجَز المهمَّات؛ ﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [الشورى: 15].



وليس يصحُّ شيء يقال فيه: فلان لا يتقدَّم ولا يتأخر؛ فإن النفس إن لَم تَشغلها بالطاعة، شَغَلتك بالمعصية، والإيمان يَزيد وينقص، والدعوة إلى المنهج الصحيح - ببَذْل الوقت، وكَدِّ الفكر، وسَعي الجسد، وانطلاق اللسان؛ حيث تُصبح الدعوة هَمَّ المسلم وشُغله الشاغل - تقطع الطريق على محاولات الشيطان بالإضلال والفتنة.



زِدْ على ذلك ما يحدث في نفس الداعية من الشعور بالتحدِّي تُجاه العوائق، والمعاندين، وأهل الباطل، وهو يسير في مشواره الدعوي، فيرتقي إيمانه، وتقْوَى أركانه، فتكون الدعوة - بالإضافة لما فيها من الأجْر العظيم - وسيلة من وسائل الثبات والحماية من التراجُع والتقهقُر؛ لأن الذي يُهاجم لا يحتاج للدفاع، والله مع الدُّعاة: يثُبتهم، ويُسدِّد خطاهم، والداعية كالطبيب يُحارب المرض بخِبرته وعِلمه، وبمحاربته في الآخرين، فهو أبعدُ من غيره عن الوقوع فيه.



عاشرًا: الالتفاف حول العناصر المُثبتة:

تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبرنا به - عليه الصلاة والسلام -: ((إن من الناس ناسًا مفاتيح للخير، مغاليق للشر))، والحديث حسن؛ رواه ابن ماجه عن أنس مرفوعًا، وابن أبي عاصم، وهو في السلسلة الصحيحة.



البحث عن العلماء والصالحين والدُّعاة المؤمنين، والالتفاف حولهم مُعين كبير على الثبات، وقد حدَثت في التاريخ الإسلامي فتنٌ ثبَّت الله فيها المسلمين برجال، ومن ذلك ما قاله علي بن المَديني - رحمه الله -: "أعز الله الدين بالصِّديق يوم الرِّدة، وبأحمد يوم المِحنة".



وتأمَّل ما قاله ابن القَيِّم - رحمه الله - عن دور شَيْخه شيخ الإسلام في التثبيت: "وكنا إذا اشتدَّ بنا الخوف، وساءَت بنا الظنون، وضاقَت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلاَّ أنْ نراه ونَسمع كلامه، فيذهب ذلك كلُّه عنا، وينقلب انشراحًا وقوةً، ويقينًا وطمأنينة، فسبحان مَن أشْهد عباده جنَّته قبل لقائه، وفتَح لهم أبوابها في دار العمل، وآتاهم من رَوحها ونسيمها وطيبها، ما استفرَغ قُواهم لطلبها والمسابقة إليها".



وهنا تَبرز الأخوَّة الإسلاميَّة كمصدر أساسي للتثبيت؛ فإخوانك الصالحون، والقدوات والمربُّون هم العونُ لك في الطريق، والركن الشديد الذي تأوي إليه، فيُثبِّتوك بما معهم من آيات الله - سبحانه وتعالى - والحِكمة.



الْزَمهم وعِشْ في أكنافهم، وإيَّاك والوَحْدة، فتتخطَّفك الشياطين؛ فإنما يأكل الذئبُ من الغنم القاصيةَ.



الحادي عشر: الثقة بنصر الله - سبحانه وتعالى - وأن المستقبل للإسلام:

نحتاج إلى الثبات كثيرًا عند تأخُّر النصر؛ حتى لا تَزل قدَمٌ بعد ثبوتها؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 146 - 148].



ولَمَّا أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُثبِّت أصحابه المعذَّبين، أخبَرهم بأنَّ المستقبل للإسلام في أوقات ال***** والمِحَن، فماذا قال؟



جاء في حديث خبَّاب مرفوعًا عند البخاري: ((وليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر؛ حتى يسيرَ الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنَمه)).



فَعَرْضُ أحاديث البِشارة بأنَّ المستقبل للإسلام على الناشئة مهمٌّ في تربيتهم على الثبات.



الثاني عشر: معرفة حقيقة الباطل وعدم الاغترار به:

في قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ﴾ [آل عمران: 196]، تسريةٌ عن المؤمنين، وتثبيتٌ لهم، وفي قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾ [الرعد: 17]، عِبرةٌ لأُولِي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له.



ومن طريقة القرآن فَضْحُ أهل الباطل وتَعْرية أهدافهم ووسائلهم؛ ﴿ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأنعام: 55]؛ حتى لا يُؤخذ المسلمون على حين غِرَّة، وحتى يَعرفوا مَن أين يُؤتَى الإسلام.



وكم سَمِعنا ورأينا حركات تهاوَت، ودُعاة زَلَّت أقدامهم، ففَقدوا الثبات لَمَّا أُتُوا من حيث لَم يحتسبوا؛ بسبب جَهْلهم بأعدائهم.



الثالث عشر: استجماع الأخلاق المُعينة على الثبات:

وعلى رأسها الصبر؛ ففي حديث الصحيحين: ((وما أُعطِي أحد عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر))، وأشد الصبر عند الصدمة الأولى، وإذا أُصيبَ المرء بما لَم يتوقَّع، تحصل النكسة ويزول الثبات إذا عُدِم الصبر، تأمَّل فيما قاله ابن الجوزي - رحمه الله -: "رأيت كبيرًا قاربَ الثمانين، وكان يُحافظ على الجماعة، فمات ولدٌ لابنته، فقال: ما ينبغي لأحد أن يدعو، فإنه ما يَستجيب، ثم قال: إنَّ الله يُعاند، فما يترك لنا ولدًا" - تعالى الله عن قوله عُلوًّا كبيرًا.



لَمَّا أُصيب المسلمون في أُحدٍ لَم يكونوا ليتوقَّعوا تلك المصيبة؛ لأن الله وعَدهم بالنصر، فعلَّمهم الله - سبحانه وتعالى - بدرسٍ شديد بالدماء والشُّهداء؛ ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 165]، ماذا حصل من عند أنفسهم؟! ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 152].



الرابع عشر: وصية الرجل الصالح:

عندما يتعرَّض المسلم لفتنة ويَبتليه ربُّه ليُمَحِّصَه، يكون من عوامل الثبات أن يُقيِّضَ الله له رجلاً صالحًا يَعِظه ويُثبته، فتكون كلمات ينفع الله بها، ويُسدِّد الخُطى، وتكون هذه الكلمات مشحونة بالتذكير بالله، ولقائه، وجنَّته، وناره.



وهاك هذه الأمثلة من سيرة الإمام أحمد - رحمه الله - الذي دخل المِحنة ليَخرج ذهبًا نقيًّا، لقد سِيق إلى المأمون مقيَّدًا بالأغلال، وقد توعَّده وعيدًا شديدًا قبل أن يَصِل إليه، حتى لقد قال خادم للإمام أحمد - كما في البداية والنهاية -: يعزُّ عليّ يا أبا عبدالله أنَّ المأمون قد سَلَّ سيفًا لَم يَسلَّه قبل ذلك، وأنه يُقسم بقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئن لَم تُجبْه إلى القول بخَلْق القرآن، ليَقْتُلنَّك بذلك السيف.



وهنا ينتهز الأذكياء من أهل البصيرة الفرصة؛ ليلقوا إلى إمامهم بكلمات التثبيت؛ ففي "السِّيَر"؛ للذهبي عن أبي جعفر الأنباري قال: لَمَّا حُمِل أحمد إلى المأمون أُخْبِرت، فعبَرت الفرات، فإذا هو جالس في الخان، فسلَّمت عليه، فقال: يا أبا جعفر؛ تعنَّيت، فقلت: يا هذا؛ أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجَبْت إلى خَلْق القرآن؛ ليُجيبنَّ خَلْقٌ، وإن لَم تُجِب، ليَمْتنعنَّ خَلْقٌ من الناس كثيرٌ، ومع هذا فإن الرجل إن لَم يَ***ك، فإنك تموت، لا بد من الموت، فاتَّقِ الله ولا تُجِب، فجعَل أحمد يبكي، ويقول: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر أعِد، فأعدتُ عليه، وهو يقول: ما شاء الله.



وقال الإمام أحمد في سياق رحلته إلى المأمون: "صِرنا إلى الرَّحبة، ورحَلنا منها في جوف الليل، فعرَض لنا رجل، فقال: أيُّكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا، فقال للجمَّال: على رِسْلك، ثم قال: يا هذا، ما عليك أن تُقتَل ها هنا، وتدخل الجنة، ثم قال: أستودعك الله، ومضَى، فسألت عنه، فقيل لي: هذا رجل من العرب من ربيعة، يعمل الصوف في البادية، يقال له: جابر بن عامر يُذكَر بخيرٍ.



وفي البداية والنهاية: أنَّ أعرابيًّا قال للإمام أحمد: يا هذا، إنك وافدُ الناس، فلا تكن شؤمًا عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإيَّاك أن تُجيبَهم إلى ما يدعونك إليه، فيُجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنتَ تحب الله، فاصبرْ على ما أنت فيه؛ فإنه ما بينك وبين الجنة إلاَّ أن تُ***.



قال الإمام أحمد: وكان كلامه مما قوَّى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع عن ذلك الذي يدعونني إليه.



وفي رواية أن الإمام أحمد قال: ما سَمِعت كلمة منذ وقَعتُ في هذا الأمر أقوى من كلمة الأعرابي، كلمني بها في رَحبة طوق - وهي بلدة بين الرِّقة وبغداد على شاطئ الفرات - قال: يا أحمد، إن يَ***ك الحقُّ، مُتَّ شهيدًا، وإن عِشت، عِشتَ حميدًا، فقَوِي قلبي.



ويقول الإمام أحمد عن مُرافقة الشاب محمد بن نوح الذي صمَد معه في الفتنة: ما رأيت أحدًا - على حَداثة سِنِّه وقَدْر عِلْمه - أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، إني لأرجو أن يكون قد خُتِم له بخير، قال لي ذات يوم: يا أبا عبدالله، الله الله؛ إنك لست مثلي، أنت رجل يُقتدى بك، قد مدَّ الخَلْق أعناقهم إليك؛ لِمَا يكون منك، فاتَّقِ الله، واثبتْ لأمر الله، فمات وصَلَّيْتُ عليه ودَفَنْتُه.



وحتى أهل السجن الذين كان يصلي بهم الإمام أحمد وهو مُقيَّد، قد أسهموا في تثبيته؛ فقد قال الإمام أحمد مرَّة في الحَبْس، لستُ أُبالي بالحَبْس، ما هو ومنزلي إلا واحدٌ، ولا قتْلاً بالسيف، وإنما أخاف فتنة السَّوط، فسَمِعه بعض أهل الحَبْس، فقال: لا عليك يا أبا عبدالله؛ فما هو إلا سوطان، ثم لا تَدري أين يقع الباقي، فكأنه سُرِّي عنه.



فاحْرِص أيها الأخ الكريم على طلب الوصيَّة من الصالحين، واعْقِلها إذا تُلِيَتْ عليك، اطْلُبها قبل سفرٍ إذا خَشِيت مما قد يقع فيه، اطْلُبها أثناء ابتلاءٍ، أو قبل مِحنة متوقَّعة، اطْلُبها إذا عُيِّنت في منصبٍ، أو وَرِثت مالاً وغنًى، ثَبِّتْ نفسك، وثَبِّت غيرك، والله وَلِيُّ المؤمنين.



الخامس عشر: التأمُّل في نعيم الجنة وعذاب النار، وتذكُّر الموت:

والجنة بلاد الأفراح، وسلوة الأحزان، ومَحط رِحال المؤمنين، والنفس مفطورة على عدم التضحية والعمل والثبات، إلا بمقابل يهوِّن عليها الصِّعاب، ويُذلِّل لها ما في الطريق من عقبات ومشاق.



فالذي يعلم الأجْر، تهون عليه مَشقة العمل، وهو يسير ويعلم بأنه إذا لَم يَثبت، فستفوته جنة عرْضُها السموات والأرض، ثم إنَّ النفس تحتاج إلى ما يرفعها من الطين الأرضي، ويَجذبها إلى العالم العلوي.



وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستخدم ذِكر الجنة في تثبيت أصحابه؛ ففي الحديث الحسن الصحيح أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بياسر وعمَّار وأمِّ عمار وهم يؤذَوْن في الله - سبحانه وتعالى - فقال لهم: ((صبرًا آل ياسر، صبرًا آل ياسر؛ فإنَّ موعدكم الجنة))؛ والحديث رواه الحاكم، وهو حديث حسنٌ صحيح.



وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يقول للأنصار فيما رواه عنه البخاري ومسلم: ((إنكم ستلقون بعدي أثْرَة، فاصبروا حتى تَلْقَوْني على الحَوْض))، وكذلك مَن تأمَّل حال الفريقين في القبر والحشر، والحساب والميزان والصراط، وسائر منازل الآخرة.



كما أن تذكُّر الموت يحمي المسلم من التردِّي، ويوقِفه عند حدود الله، فلا يتعدَّاها؛ لأنه إذا عَلِم أنَّ الموت أدنى من شِراك نَعْله، وأن ساعته قد تكون بعد لحظات، فكيف تُسَوِّل له نفسه أن يَزلَّ، أو يتمادى في الانحراف؛ ولأجل هذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وصححه الألباني: ((أكْثِروا من ذِكر هادم اللذات)).



إذًا كانت هذه هي بعض عوامل الثبات، ففي أي المواضع يكون احتياجنا لهذا الثبات؟ والجواب عن ذلك يكون في معرفة مواطن الثبات، وهي كثيرة تحتاج إلى تفصيل، لكني أكتفي بسَرْد بعضها على وجْه الإجمال في هذا المقام:




أولاً: الثبات في الفِتن:

التقلُّبات التي تُصيب القلوب سببها الفِتن، فإذا تعرَّض القلب لفِتن السرَّاء والضرَّاء، فلا يثبت إلاَّ أصحاب البصيرة الذين عَمَر الإيمانُ قلوبَهم.



ومن أنواع الفتن:

فتنة المال؛ قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [التوبة: 75 - 76].



ومنها: فتنة الجاه؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].



وعن خطورة الفِتنتين السابقتين قال- صلى الله عليه وسلم -: ((ما ذئبان جائعان أُرْسِلا في غنمٍ، بأفسدَ لها من حِرص المرء على المال والشرف لدينه))؛ والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، وهو في صحيح الجامع، والمعنى: أنَّ حِرص المرء على المال والشرف أشدُّ فسادًا للدين من الذئبين الجائعين أُرْسِلا في غنمٍ.



ومنها: فتنة الزوجة؛ قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التغابن: 14].



ومنها: فتنة الأولاد: فـ((الولد مَجْبنة، مَبخلة، مَحزنة))، والحديث رواه أبو يَعْلى، وله شواهدُ، وهو في صحيح الجامع.



ومنها: فتنة الاضطهاد والطُّغيان والظلم، ويُمثِّلها أروعَ تمثيل قولُه - سبحانه وتعالى -: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [البروج: 4 - 9].



وروى البخاري عن خبَّاب - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسِّد بُردة في ظلِّ الكعبة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((قد كان مَن قبلكم يؤخَذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار، فيُوضَع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد من دون لَحمه وعَظْمه، فما يصدُّه ذلك عن دينه)).



ومنها: فتنة الدَّجَّال، وهي أعظم فتن المَحيا؛ ففى الحديث: ((يا أيُّها الناس، إنها لَم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرَأ الله آدمَ أعظمَ من فتنة الدَّجال، يا عباد الله، أيها الناس، فاثبتوا؛ فإني سأصِفه لكم صفة لَم يَصِفْها إيَّاه نبيٌّ قبلي))؛ والحديث رواه ابن ماجه، وهو في صحيح الجامع.



وعن مراحل ثبات القلوب وزَيْغها أمام الفتن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام أحمد ومسلم: ((تُعرض الفتن على القلوب، كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلب أُشربها، نُكِت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنْكَرها، نُكِت فيه نكتة بيضاء، حتى يَصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضرُّه فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُرْبَادًّا كالكوز مُجخيًا، لا يَعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، إلاَّ ما أُشرِب من هواه))، ومعنى عَرْض الحصير؛ أي: تؤثِّر الفتن في القلب، كتأثير الحصير في جَنْب النائم عليه، ومعنى (مُربادًّا): بياض شديد قد خالَطه سواد، ومعنى (مُجخيًا): مقلوب مَنكوس.



ثانيًا: الثبات في الجهاد:

قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45]، ومن الكبائر في ديننا الفرار من الزحف، وكان - صلى الله عليه وسلم - وهو يحمل التراب على ظَهْره في الخندق يردِّد مع المؤمنين: ((وثبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقَيْنَا))؛ والحديث رواه البخاري.



ثالثًا: الثبات على المنهج:

قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23].



مبادئهم أغلى من أرواحهم، وإصرارهم لا يعرِف التنازل.



رابعًا: الثبات عند الممات:

أما أهل الكفر والفجور، فإنهم يُحرَمُون الثبات في أشد الأوقات كُربة، فلا يستطيعون التلفُّظ بالشهادة عند الموت، وهذا من علامات سوء الخاتمة؛ كما قيل لرجل عند موته: قل: لا إله إلا الله، فجعَل يحرِّك رأسه يمينًا وشمالاً، يرفض قولها.



وآخر يقول عند موته: هذه قطعة جيِّدة، هذه مشتراها رخيص، وثالث يذكر أسماء قِطَع الشطرنج، ورابع يُدندن بألحان أو كلمات أغنية، أو ذِكر معشوق؛ ذلك لأن مثل هذه الأمور أشْغَلتهم عن ذِكر الله في الدنيا.



وقد يُرَى من هؤلاء سوادُ وَجْهٍ، أو نَتنُ رائحة، أو صَرْفٌ عن القِبلة عند خروج أرواحهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.



أما أهل الصلاح والسُّنة، فإن الله - سبحانه وتعالى - يوفِّقهم للثبات عند الممات، فيَنطقون بالشهادتين، وقد يُرى من هؤلاء تهلُّل وَجْه، أو طِيب رائحة، ونوْعُ استبشارٍ عند خروج أرواحهم.



وهذا مثال لواحد ممن وفَّقهم الله للثبات في نازلة الموت، إنه أبو زُرعة الرازي - أحد أئمة أهل الحديث - وهذا سياق قصته: قال أبو جعفر محمد بن علي ورَّاق أبي زُرعة: حضَرنا أبا زُرعة بماشهران - قرية من قرى الري - وهو في السَّوْق؛ أي: عند احتضاره، وعنده أبو حاتم، وابن وارَه، والمنذر بن شاذان وغيرهم، فذكَروا حديث التلقين: ((لَقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله))، واستحيوا من أبي زُرعة أن يُلَقِّنوه، فقالوا: تعالوا نذكر الحديث، فقال ابن وارَه: حدَّثنا أبو عاصم، حدَّثنا عبدالحميد بن جعفر عن صالح، وجعَل يقول: ابن أبي، ولَم يجاوزه، فقال أبو حاتم: حدثنا بُندار، حدثنا أبو عاصم، عن عبدالحميد بن جعفر، عن صالح، ولَم يجاوز، والباقون سكتوا، فقال أبو زُرعة - وهو في السَّوْق، وفتح عينيه -: حدَّثنا بُندار، حدثنا أبو عاصم، حدَّثنا عبدالحميد عن صالح بن أبي غريب عن كثير بن مُرَّة عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخَل الجنة))، وخرَجت رُوحه - رحمه الله - كما في سِيَر أعلام النبلاء.



ومثل هؤلاء قال الله فيهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30].



فاللهمَّ اجْعَلنا منهم، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.



كن داعيًا:

قال الله - سبحانه وتعالى - عن نفسه: ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [يونس: 25]، وقال - جلَّ جلاله - واصفًا رسوله - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45 - 46].



وقال - سبحانه وتعالى - عن صفات المفلحين من عباده: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].



فطريق الدعوة طريق رُسِمت في السماء أعلامه، وزَكَت نفوس رُوَّاده، مَيدانه في الأرض، وغايته في السماء، أئمَّته اصطفاهم الله - سبحانه وتعالى - فكانوا خيرَ البشر، ونالوا من الذِّكر والأجر، أسْبَغ الله عليهم سبيل الهداية، فهم بين الدعوة والبلاء، يتلذَّذون بالدعاء، أعلم الناس بالحق، وأحْرَصهم على هداية الخَلق، كلما عَظُم الخَطْب، لَم يشغلهم إلاَّ مَرضاة الربِّ - سبحانه وتعالى.



أسْعَدهم الله في الدنيا، وبشَّرهم بخيرات الآخرة؛ فأجورهم مضاعَفة، وقُرباتهم لا تَنقطع، آثار دعوتهم في الناس أعمال صالحة، تُرفَع إليهم بُكرة وعشيًّا.



فلله كيف منَّ الله عليهم بأعظم مِنَّة، فرفَع درجاتهم بأعمال لا تَنقطع، ووفَّقهم إلى سبيل الدعوة، فحازوا أجورًا لا تَسعها أعمارهم القصيرة.



فيا ابن الإسلام، إن حَداك الشوق إلى هذا السبيل، وأصبَحت أعلامُه في أرجاء نفسك تردِّد: "كن داعيًا"، فإليك كلمات مُوحية، وجُملاً مُعبرة، ومعالِمَ موجَزة عن هذا السبيل؛ عسى أن نكون جميعًا إخوانًا على طريق الدعوة، فاللهم اهْدنا لأحسن الأعمال والأقوال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصَحْبه أجمعين.
يتبع







رد مع اقتباس
  #6  
قديم 14-06-2015, 02:00 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي


قصة أصحاب الأخدود (4)
محمود العشري

صفات الداعية:


الإخلاص لله - سبحانه وتعالى - والمتابعة لأشرف الأنبياء والمرسلين - صلى الله عليه وسلم.

العلم والحِكمة والحرص على المدعوين، والتلطُّف بهم.

عُلو الهِمَّة، والتفاؤل دائمًا.

الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

المداومة على الذِّكر، وتعهُّد النفس بالتربية الربانيَّة.

التحدُّث مع الناس بما يعقلون.

القدوة الحسنة والالتزام، والانتهاء عن كلِّ ما نُهي عنه وحُذِّر منه.

العلم بحال المدعوين والمعرفة بما يدعو إليه.

استحضار الصدق واستشعار المسؤولية والأجْر.

حضور الذِّهن، وصفاء البال، واطمئنان النفس، واصطحاب الحُجَّة والبرهان.

طريق الدعوة:
دعوتنا مستمدَّة من كتاب الله - سبحانه وتعالى - وسنة نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وسلم.

على منهاج سلف الأُمَّة الصالحين.

الداعية يستضيء بهما، ويدعو إليهما، ويدافع عنهما، ويَبذل الغالي والنفيس في خِدمتهما.

إلى الله ندعو على بصيرة وهدًى.

نعلم ما ندعو إليه، ونُعلِّم الناس الحقَّ.

بالقلم واللسان، والعلم والمال، والقدوة الحسنة، تَنتشر دعوتنا.

نَغرس مبادئ الإسلام، ثم نفصِّل أحكام شريعتنا الغرَّاء.

بالترغيب والترهيب، والحوار والإقناع، والحُجَّة الواضحة، نصل إلى القلوب، ونوصِّلها للحقِّ.

بالرِّفق واللين، والصبر واليقين، تنتصر دعوتنا.

قلب الداعية:
يَنبض بالإيمان، ومحبَّة الرحمن، وطاعة الرسول العدنان - صلى الله عليه وسلم.

يتأجَّج حُرقة، ويذوب ألَمًا؛ لانتشار الجهل والمعاصي، وانحراف المجتمع.

يتفجَّر طاقة وجهدًا في خدمة الإسلام والمسلمين.

متعلِّق بالرحمن، راجٍ هداية الناس إلى طريق الجِنان.

يفرَح بانتصار الحقِّ وانتشار النور، ويَحزن إذا ما أزْبَد الباطل وأرْعَد.

مُشرئِبٌّ بالعلم والنور، متجرِّد للعزيز الغفور.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسمى أهدافه، وأجَلِّ مقاصده.

محبَّة الخَلْق وهدايتهم في أرجائه.

قلم الداعية:
بالحق يمضي على صفحات الإخلاص.

يدعو إلى تعاليم الدين، ويُسَطِّر الحِكمة والبراهين.

يدحض المضلِّلين، ويُنافح عن الدعاة المخلصين.

يُبَيِّن البِدع والضلالات، ويُحارب المعاصي والمنكرات.

يَنثر الحَرْف إيمانًا ويقينًا، ويَنظم الشعر إسلامًا مُبينًا.

على كلماته يُرفرف التوكُّل على الله، وبين جَنباته يبتغي مرضاة الله.

مِداده محبَّة الله - سبحانه وتعالى - ورسولِه - صلى الله عليه وسلم - وشعارُه الدعوة إلى الله.

لا يَخشى في الله لومةَ لائمٍ، وفى سبيل الحقِّ ماضٍ ودائمٌ.

نور دعوي في المحراب:
في المسجد عليك بالخِصال التالية:
كن سبَّاقًا إلى الصف الأول، ومحافظًا على صلاة الجماعة.

تَزيَّن وتجمَّل للعبادة؛ امتثالاً لأمر الله - سبحانه وتعالى - بذلك في سورة الأعراف.

حافِظ على السُّنن الرواتب، تنلْ أسْمَى المراتب.

التبكير إلى الصلاة؛ استثمارًا للوقت بأداء الرواتب، وقراءة القرآن، والذِّكر والاستغفار.

عُمَّار المساجد شعارهم: ((خيركم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه)).

تعهَّد المأمومين بالكلمات التوجيهيَّة والمواعظ الإيمانيَّة.

النشرات الدعوية، ووضْع اللصقات الإرشادية، مع الترتيب والتجديد؛ جمالاً للمسجد، وتوعيةً للمُصلِّين.

تعليم الجاهل، وتوجيه الصغير، والتلطُّف مع الكبير شعار المؤمنين.

احترام المساجد والالتزام بآدابها، نابعٌ من استشعار الوقوف أمام الله - سبحانه وتعالى.

من أعظم عمارة بيوت الله - سبحانه وتعالى - بَذْل الجُهد والمال والعلم؛ دعوةً، وتعليمًا.

دعوة في رحاب المدرسة:
ابحثْ عن خشية الله - سبحانه وتعالى - في قلبك؛ ليَصْدُق عليك قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28].

هنيئًا لمعلِّم الناس الخيرَ، وأعانه الله - سبحانه وتعالى - على ثِقَل الأمانة، ونَشْر ميراث النبوَّة.

العلم يصدِّقه العمل، ولا خيرَ في علم على ورقٍ إذا لَم يشعَّ نورًا في وجهك، وتتشبَّع به رُوحُك وجوارحُك.

القدوة ضالتُك، والقِيم السامية ثروتك، فلا ثروة بلا قيمٍ، ولا تأثير دون أن تكون قُدوة.

خاطِب قلوب الطلاب قبل عقولهم؛ فإذا وقَر الحديث في القلب، وعاه العقل بيسرٍ وسهولة.

أدِّبهم وعلِّمهم في جوٍّ أبوي إيماني، تكن معلِّمًا ناجحًا، وداعية موفَّقًا.

تعرَّف على مشكلاتهم، وبادِرْ في حلِّها، وترفَّق في مخاطبتهم وإرشادهم.

كنْ صادقًا، يَصْدُق تلاميذك، وإيَّاك والكذب؛ فإنه آفة تَخدش مكانة العلم وجمال المعلم.

شجِّع المتفوقين، وانْشُر الحماس بين الحاضرين، وتجاوَزْ عن المُقصِّرين، وتعهَّدهم بالتذكير.

لسانك بالعلم يسمو؛ فلا يَلهجنَّ بسوءٍ، أو يمضِيَنَّ بما لا يَليق، وأكْرِم نفسك بالترفُّع عن سقطات الجاهلين.

خُلُق المعلم والطالب دعوة عمليَّة للمعلمين والطلاب.

أنْصِت بقلبك، وكنْ سبَّاقًا للعمل.

تعاوُنك مع الأخيار ونَشْر الإخاء هي الأرض الخِصبة للدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى.

تحلَّ بمكارم الأخلاق، واشْمَخْ بإيمانك، واجْتَهد في دراستك، واسشعِرْ عِظَم العلم ومكانته.

اخْفِض صوتك، وغُضَّ من طرْفك، واجْعَل بينك وبين مَن حَوْلكَ سَمْتَ الاحترام.

إيَّاك والغشَّ، وحافِظ على الانضباط، وتعهَّد درسك بالمذاكرة، وزملاءَك بالنصيحة، ومُعلِّمك بالشكر والامتنان.

الدعوة أسس ومبادئ:
الحرص على هداية المدعوين، ومراعاة أحوالهم من أعظم مبادئ الدعوة.

التأصيل العلمي والإلمام بالتعاليم الإسلاميَّة المراد بلاغها.

التعامل مع المدعوين بما يتناسب مع مكانتهم وبيئتهم: تعليمًا، تربيةً، حديثًا، مُلاطفةً، حُجَّةً.

التجديد والتنويع في الوسائل والإمكانات الدعويَّة؛ فنحن أحقُّ بتزيين الحقِّ من أهل الباطل بباطلهم.

الأقربون أوْلَى بالمعروف، وأسْمى المعروف الدعوة والتعليم؛ فابدأ بمن تعولُ، ثم الأقرب، فالأقرب.

من إتقان الدعوة التنويع والإبداع بالوسائل المتاحة، بالقلم واللسان، والنَّظم والبيان.

مُراعاة الأولويَّات الدعوية، وخصوصًا الجوانب العَقَديَّة.

على الداعية البلاغ وعدم استعجال النتائج، ولنا في الأنبياء - عليهم السلام - أُسوة حسنة.

الكتاب والسُّنة وهَدْي سلف الأمة، وتقوى الله زاد الداعية، والصبر بداية النجاح.

الدعوة مهمة المسلمين كافة؛ مصداقًا لقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((بلِّغوا عني ولو آية)).

فى بيتنا داعية:
قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214].

نادى الرحمن - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].

بيَّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيَّته)).

المجتمع بيتي وبيتك، فإذا أصْلَحنا بيوتنا، أشرَق المجتمع صلاحًا وإيمانًا.

اغْرِس التربية الإيمانية في قلوب أبنائك؛ لترى الحصاد عزَّة وشموخًا.

ضَعْ برنامجًا دعويًّا في أرجاء البيت: بحِلَق بالقرآن والحديث، والفقه والسيرة والأدب.

أنت مرآة أبنائك؛ فكنْ قدوة حسنةً لهم.

من الحلال أطعمْهم، وبالدين قوِّمهم، وبالعلم جمِّلهم، وإلى مكارم الأخلاق أرْشدهم وعلِّمهم.

اجْعَلهم بالدين أعزَّاء، وعلى طريق الحق يمضون، وعلى الله - سبحانه وتعالى - في كل حين يتوكَّلون.

كنْ لهم أبًا وأخًا، ومُعلِّمًا ومُربِّيًا، وإيَّاك وتضييعَ الأمانة؛ فهم أمانة في عُنقك.

سَلْ عن صلاتهم، وكيف هي هَيْئتهم، وماذا عن أعمالهم؛ لتعلمَ نتيجة التربية وثمرة الجُهد.

بالصدق عامِلهم، وبالمحبة وجِّههم، وبالرأفة واللين تعهَّدهم، ولا تَبخلْ عليهم بوقتك وجُهدك ومالك.

اجْعَلهم من رُوَّاد حلقات التحفيظ، وأزِلِ الشوك عن طريقهم، وارْفَع الجهل عنهم، وازْرَع خشية الله في قلوبهم.

أدِّبهم بالقرآن، واجْعَل قلوبهم مُعلَّقة بالجِنان، وتعهَّدهم بسيرة خير الأنام - صلى الله عليه وسلم - والصَّحب والسلف الكِرام.

احْرِص على الزوجة أو الزوج المناسب لفلذات أكبادك؛ فإنه من الأمانة أن تودِعَهم مكانًا آمنًا، ومَقرًّا بالإيمان مُطمئنًّا.

ليكن الاحترام تاجًا على رؤوسهم، ومحبَّة الناس شعارهم، ومَرضاة الله غايتهم، وسُنة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - سبيلهم.

داعية في عمله:
استشعِر رقابة الرحمن: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105].

اعْمَل بوصيَّة خير الأنام - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله يحب إذا عَمِل أحدكم عملاً، أن يُتقنَه))؛ صحيح.

القوة والأمانة جناحَا العمل؛ فحافِظ عليهما.

أرْشِد العاملين لكلِّ خير، وأخْلِص في انتشالهم من الخطايا والآثام.

ترفَّع عن سقط الكلام، واخْتَرْ لنفسك صفات الكرام، تَنَلْ محبَّة واحترامًا.


لتكنْ ليِّنًا في سماحة، قويًّا في حِكمة، مُشفقًا في نصيحة.

من شِيَم الكرام التجاوز عن الهَفوات، فغُضَّ طرْفَك عن عَثراتهم، واعْمَل على إنقاذهم إلى النور والأمان.

لا تُفارق ابتسامتُك مُحيَّاك، وارْفُق بالمراجعين؛ عملاً بوصيَّة خير المرسلين - صلى الله عليه وسلم.

أفشِ السلام، وطَيِّبْ بذِكر الله الكلام، وقمْ بعملك على أكمل وجْه وأحسن نظامٍ.

كتاب وشريط ورسالة، تَلِج إلى قلوب العاملين، وتُذلِّل طريق الدعوة.

كنْ مثاليًّا في سَمْتك، إيجابيًّا في عملك، حريصًا على شعور زُملائك، باسطًا كفَّ التوجيه والإرشاد للجميع.

حكمة الداعية:
عمود الدعوة وإحدى ركائزها الأساسية.

أمَر بها الرحمن، وتمثَّلها عملاً وخُلقًا سيِّدُ الأنام - صلى الله عليه وسلم.

هي السحر الحلال، وهي تاج على رؤوس الدُّعاة، تزيِّن دعوتهم، وتحقِّق أهدافهم.

تأسِر قلوب العُصاة، وتُعيد الأمل في نفوس المدعوين.

مصباح الدعوة المضيء، ونَهْج الكتاب والسُّنة المُشرق.

أسلَمَ بها الكافر، واسترشَدَ بها الضالُّ، وقَوِيَتْ بها الدعوة، وبلَغت ذِروتها.

سبيل الأنبياء، وزاد الدعاة الأتقياء.

رُوح الدعوة وعنوان بقائها.

مطلب المدعوين وضالتهم التي عنها يبحثون.

خُلُق نبيل، وحِسٌّ إسلامي جليل.

لسان الداعية:
يَنطق في مرضاة الله ويَلهج بذِكره - سبحانه وتعالى.

يسمو عن كلِّ دانٍ، ويرتقي إلى المعاني الحِسان.

نَثْره حقٌّ واضح، وشِعْره نَظْمُ المُشفق الناصح.

يدور مع الإسلام حيث دار، يدعو إليه بكلِّ بلاغة واقتدار.

بالحكمة مُزدان، بديع النظم، ناصِع البرهان.

باللين يتغلغل هدًى ونورًا في قلوب المدعوين.

إذا حدَّث صدَق، وبمجامع الكَلِم نطَق.

تُحيط بحروفه صِدق النصيحة، ونصيحة المُشفق، وإشفاق المخلص، وإخلاص الداعية.

دعوة في السيارة والسوق:
اجْعَل مسيرك في رضا الرحمن، واقطَع الطريق بالذِّكر والقرآن.

غذِّ قلبك بالإيمان، واستمِع لأشرطة من حديثٍ وآداب وقرآن.

سِرْ على بركة الله في تُؤَدَة وهدوءٍ، وإيَّاك والعجلةَ؛ فإنها من الشيطان.

كنْ قدوة في الْتِزَامك بقواعد المرور؛ فإن فيها السلامة لك - بإذن الله - واحترام الآخرين.

ادْعُ إلى الله في كل حين، وقدِّم التوجيه والشريط الدعوي هديَّة إلى المُقصِّرين.

كنْ على يقظة وانتباه، واتَّقِ الله؛ فإن شرودَ الذِّهن واللامبالاة بوابة الهلاك.

اقضِ حاجتك من الأسواق في عجلٍ، واعلم بأنها شرُّ البقاع إلى الله.

سبِّح الرحمن تسبيحًا، وكبِّره تكبيرًا، وكنْ نورًا يضيء السوق بالذِّكر والإيمان.

لا تَدَعَنَّ منكرًا إلاَّ أنْكَرته، ولا معروفًا ألا أسْدَيتَه، بالحِكمة والموعظة الحسنة.

إيَّاك ثم إياك وإطلاقَ النظر في النساء، واتَّقِ الله وغُضَّ الطَّرْف؛ فإنك بذلك مأمور، وعن الحرام منهيٌّ ومَزجور.

لا تَنسَ الدعوة في الطريق:
إماطة الأذى عن الطريق صدقة؛ فتصدَّق على نفسك.

غَضُّ البصر وكَفُّ الأذى من حقِّ الطريق؛ فأعطِ الطريق حقَّه.

أفشِ السلام، وشَمِّت العاطس، وتمثَّل بالخُلق النبيل.

كنْ بالمعروف آمرًا، وعن المنكر ناهيًا، ولفضائل الأعمال آتيًا.

أرْشِد الضال، وانصَح العاصي، وساعِد المحتاج.

لتكنْ قافلةً دعوية تعمُّ بنَفْعها المجتمع.

بالحِلم والصبر والابتسامة تَصِل إلى قلوب الآخرين.

تذكَّر أنَّ الله - سبحانه وتعالى - معك دائمًا؛ فلا تَخْطُوَنَّ إلاَّ إلى خير؛ ليُكتَب ذلك في ميزان حسناتك.

اجْتَنِب نهي الرحمن؛ ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ﴾ [الإسراء: 37].

وفي تجارتك يجب أن تكون داعية:
مَن غشَّنا، فليس منَّا؛ فراقِب الله، يُبارك لك في تجارتك.

رَحِم الله رجلاً سَمْحًا إذا باعَ، وسَمْحًا إذا اشترَى.

النُّصح لكل مسلم ضَعْه نُصب عينيك.

القناعة كَنز لا يَفنى، وما عند الله خير وأبقى.

الزكاة نماءٌ لمالك، والصدقة تَزيد من أموالك.

اطْلُب تجارتك بالكسب الحلال، وإيَّاك أن تتَّجِرَ بالحرام؛ فأيُّما جسَد نبَت من سُحت، فالنار أوْلَى به.

لا تَدَعَنَّ أحدًا بحاجة إلى التوجيه، إلاَّ وجَّهته بحِكمة ممزوجة رحمةً وأدبًا.

الإخلاص لله - سبحانه وتعالى - والمتابعة لأشرف الأنبياء والمرسلين - صلى الله عليه وسلم.





رد مع اقتباس
  #7  
قديم 18-07-2015, 09:08 PM
الصورة الرمزية العشرى1020
العشرى1020 العشرى1020 غير متواجد حالياً
مسئول الأقسام العامة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 18,483
معدل تقييم المستوى: 34
العشرى1020 has a spectacular aura about
افتراضي

نفع الله بكم وجزاكم الله خيرا للاسلام والمسلمين
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 10:02 PM.