#1
|
|||
|
|||
اسم الله البصير
الدِّلالاتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (الْبَصِيرِ)[1]: البَصِيرُ في اللُّغَةِ مِنْ أَبْنِيَةِ المُبَالَغَةِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، فِعْلُهُ بَصُرَ يُبْصِرُ بَصْرًا وتَبَصَّرَهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ﴾ [الأنعام: 104]، وتَبَاصَرَ القَوْمُ: أَبْصَرَ بَعْضُهم بَعْضًا، والبَصَرُ يُقَالُ للعَيْنِ إلَّا أَنه مُذَكَّرٌ، ويُقَالُ أَيْضًا لحِسِّ العَيْنِ والنَّظَرِ، أَوِ القُوَّةِ التي تُبْصِرُ بها العَيْنُ أَوْ حَاسَّةِ الرُّؤْيَةِ، والتَّبَصُّرُ: التَّأَمُّلُ والتَّعَرُّفُ والتَّعْرِيفُ والإِيضَاحُ، والبَصِيرَةُ: الحُجَّةُ والاسْتِبْصَارُ، وهي اسْمٌ لما يُعْقَدُ في القَلْبِ مِنَ الدِّينِ وتَحْقِيقِ الأَمْرِ، وقِيلَ: البَصِيرَةُ الفِطْنَةُ، ورَجُلٌ بَصِيرٌ بالعِلْمِ: عَالِمٌ بِهِ، وبَصَرُ القَلْبِ: نَظَرُهُ وخَاطِرُهُ [2]. * والبَصَرُ: صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، تَلِيقُ بِجَلَالِهِ، يَجِبُ إثْبَاتُها دُونَ تَمْثِيلٍ أو تَعْطِيلٍ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَرَى الأشْيَاءَ كُلَها مَهْمَا دَقَّتْ أَوْ عَظُمَتْ. [3] وهو البَصِيرُ يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ ال سَّوْدَاءِ تَحْتَ الصَّخْرِ والصَّوَّانِ ويَرَى مَجارِي القُوتِ في أَعْضَائِها ويَرَى عُرُوقَ بَيَاضِها بِعَيَانِ ويَرَى خِيَانَاتِ العُيُونِ بِلَحْظِها ويَرَى كَذَاكَ تَقَلُّبَ الأَجْفَانِ * واللهُ عز وجل هو البَصِيرُ الذي يَنْظُرُ للمُؤْمِنِينَ بِكَرَمِهِ ورَحْمَتِهِ، ويَمُنُّ عَلَيهِم بِنِعْمَتِهِ وَجَنَّتِهِ، ويَزِيدُهم كَرَمًا بِلِقَائِهِ وَرُؤْيَتِهِ، ولَا يَنْظُرُ إلى الكَافِرِينَ تَحْقِيقًا لِعُقُوبَتِهِ، فَهُم مُخَلَّدُونَ في العَذَابِ مَحْجُوبُونَ عَنْ رُؤْيَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15]، وقَالَ: ﴿ أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 77]، وعِنْدَ البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبَيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُل حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ"[4]. * وُرُودُهُ في القُرْآنِ الكَرِيمِ[5]: وَرَدَ هَذَا الاسْمُ في القُرْآنِ اثْنَتَيْنِ وأَرْبَعِينَ مَرَّةً مِنْها قَوْلُهُ عز وجل: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 233]. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 15، 20]. وقَوْلُهُ: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الحديد: 4]. وقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ﴾ [الملك: 19]. * مَعْنَى الاسْمِ في حَقِّ اللهِ تَعَالَى: قَالَ ابنُ جَرِيرٍ: "يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 96]: واللهُ ذو إبْصَارٍ بِمَا يَعْمَلُونَ، لا يَخْفَى عَلَيهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهم، بَلْ هُوَ بِجَمِيعِها مُحِيطٌ، ولَهَا حَافِظٌ ذَاكِرٌ، حَتَّى يُذِيقَهم بِهَا العِقَابَ جَزَاءَهَا. وأَصْلُ بَصِيرٍ: مُبْصِرٌ، مِنْ قَوْلِ القَائِلِ: أَبْصَرْتُ فَأَنا مُبْصِرٌ، وَلَكِنْ صُرِفَ إلى فَعِيلٍ، كَمَا صُرِفَ مُسْمِعٌ إلى سَمِيعٍ، وعَذَابٌ مُؤْلِمٌ إلى أَلِيمٍ، ومُبْدِعُ السَّمَاواتِ إلى بَدِيعٍ ومَا أَشْبَهَ ذَلِكَ"[6]. * وقَالَ الخَطَّابِيُّ: "البَصِيرُ هو المُبْصِرُ، ويُقَالُ: البَصِيرُ: العَالِمُ بِخَفِّيَاتِ الأُمُورِ"[7]. * وقَالَ ابنُ كَثيرٍ: ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 15، 20]: أَيْ: هو عَلِيمٌ بِمَنْ يستحِقُّ الهدايةَ ممن يستحقُّ الضَّلالةَ، وهو الذي لا يُسألُ عما يفعلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، ومَا ذَلِكَ إلا لِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ"[8]. * وقَالَ الأَلُوسِيُّ: "﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾؛ أَيْ: خَبِيرٌ بهم وبِأَحْوَالِهم وأَفْعَالِهم"[9]. * وقَالَ السَّعْدِيُّ: "(البَصِيرُ): الذِي يُبْصِرُ كُلَّ شَيْءٍ وإنْ رَقَّ وصَغُرَ، فَيُبْصِرُ دَبيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ في اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ، ويُبْصِرُ مَا تَحْتَ الأَرْضِينَ السَّبْعِ كَمَا يُبْصِرُ مَا فَوْقَ السَّمَاواتِ السَّبْعِ. وأَيْضًا سَمِيعٌ بَصِيرٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الجَزَاءَ بِحَسَبِ حِكْمَتِهِ، والمَعْنَى الأَخِيرُ يَرْجِعُ إلى الحِكْمَةِ[10]. * وعَلَى هَذَا يَكُونُ لـ (البَصِيرِ) مَعْنَيَانِ: الأَوَّلُ: أَنَّ لَهُ بَصَرًا يَرَى بِهِ. الثاني: أَنَّهُ ذو البَصِيرَةِ بالأَشْيَاءِ، الخَبِيرُ بِهَا. * ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بهذا الاسْمِ (البَصِيرِ): 1- إثْبَاتُ صِفَةِ البَصَرِ لَهُ جَلَّ شَأْنُهُ؛ لأَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، وهو أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ. وَصِفَةُ البَصَرِ مِنْ صِفَاتِ الكَمَالِ كَصِفَةِ السَّمْعِ، فالمُتَّصِفُ بهما أَكْمَلُ مِمَّنْ لا يَتَّصِفُ بِذَلِكَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 50]. * وقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [هود: 24]. * وقَدْ أَنْكَرَ إبراهيمُ عليه السلام عَلَى أبيهِ عِنْدَما عَبَدَ مَا لا يُبْصِرُ ولا يَسْمَعُ: ﴿ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 42]. * وقَالَ تَعَالَى مُوَبِّخًا الكُفَّارَ، ومُسَفِّهًا عُقُولَهم لِعِبَادَتِهم الأَصْنَامَ التي هي مِنَ الحِجَارَةِ الجَامِدَةِ، التي لا تَتَحَرَّكُ ولا تَمْلِكُ سَمْعًا ولا بَصَرًا: ﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 195]. أَيْ: أَنْتُم أَكْمَلُ مِنْ هَذِهِ الأَصْنَامِ لأَنَّكم تَسْمَعُونَ وتُبْصِرُونَ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَها وأَنْتُم أَفْضَلُ مِنْها؟! * قَالَ الأَصْبَهَانِيُّ: "وأَمَّا (البَصِيرُ) فَهَذَا الاسْمُ يَقَعُ مُشْتَرَكًا، فَيُقَالُ: فُلَانٌ بَصِيرٌ، وللهِ المَثَلُ الأَعْلَى، والرَّجُلُ قَدْ يَكُونُ صَغِيرًا لا يُبْصِرُ ولا يُمَيِّزُ بِالْبَصَرِ بَيْنَ الأَشْيَاءِ المُتَشَاكِلَةِ، فَإِذَا عَقَلَ أَبْصَرَ فَمَيَّزَ بَيْنَ الرَّدِيءِ والجَيِّدِ، وبَيْنَ الحَسَنِ والقَبِيحِ، يُعْطِيهِ اللهُ هَذَا مُدَّةً ثُمَّ يَسْلُبُهُ ذَلِكَ، فَمِنْهم مَنْ يَسْلُبُهُ وهو حَيٌّ ومِنْهم مَنْ يَسْلُبُهُ بالمَوْتِ. * واللهُ بَصِيرٌ لَمْ يَزَلْ ولا يَزُولُ، والخَلْقُ إذا نَظَرَ إلى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ عَمِيَ عَمَّا خَلْفَهُ وعَمَّا بَعُدَ مِنْهُ، واللهُ تَعَالَى لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في خَفيَّاتِ مُظْلِمِ الأَرْضِ، وكُلُّ مَا ذَكَرَ مَخْلُوقًا بِهِ وَصَفَهُ بالنَّكِرَةِ، فإذا وَصَفَ بِهِ رَبَّهُ وَصَفَهُ بالمَعْرِفَةِ"[11]. * 2- إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى بَصِيرٌ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ، خَبِيرٌ بها، بَصِيرٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهِدَايَةَ مِنْهم مِمَّنْ لا يَسْتَحِقُّها، بَصِيرٌ بِمَنْ يَصْلُحُ حَالُهُ بالغِنَى والمَالِ، وبِمَنْ يَفْسُدُ حَالُهُ بِذَلِكَ؛ ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27]، وهو بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ شَهِيدٌ عَلَيْهم، الصَّالِحِ مِنْهم والطَّالِحِ، المُؤْمِنِ والكَافِرِ؛ ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [التغابن: 2]، ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 96]؛ بَصِيرٌ خَبِيرٌ بأَعْمَالِهم وذُنُوبِهم ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 17]، وسَيَجْزِيهِم عَلَيها أَتَمَّ الجَزَاءِ. * 3- ومَنْ عَلِمَ أَنَّ رَبَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيه اسْتَحَى أَنْ يَرَاهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَوْ فِيمَا لَا يُحِبُّ. ومَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَرَاهُ أَحْسَنَ عَمَلَهُ وعِبَادَتَهُ، وأَخْلَصَ فِيهَا لِرَبِهِ وخَشَعَ، فَقَدْ جَاءَ في حَدِيثِ جِبْرِيلَ؛ عِنْدَمَا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الإِحْسَانِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ"[12]. * قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: "هَذَا مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمِ التي أُوتِيهَا صلى الله عليه وسلم؛ لأَنّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدَنَا قَامَ في عِبَادَةٍ وهو يُعَايِنُ رَبَّهُ سبحانه وتعالى لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيهِ مِنَ الخُضُوعِ والخُشُوعِ وحُسْنِ السَّمْتِ، واجْتِمَاعِهِ بِظَاهِرِهِ وبَاطِنِهِ وعَلَى الاعْتِنَاءِ بِتَتْمِيمِها عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِها إلا أَتَى بِهِ. * فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: اعْبُدِ اللهَ في جَمِيعِ أَحْوَالِك كَعِبَادَتِكَ في حَالِ العَيَانِ، فَإنَّ التَّتْمِيمَ المَذْكُورَ في حَالِ العَيَانِ إنَّمَا كَانَ لِعِلْمِ العَبْدِ باطِّلَاعِ اللهِ سبحانه وتعالى عَلَيهِ، فَلَا يُقْدِمُ العَبْدُ عَلَى تَقْصِيرٍ في هذا الحَالِ للاطِّلَاعِ عَلَيهِ، وهَذَا المَعْنَى مَوْجُودٌ مَعَ عَدَمِ رُؤْيَةِ العَبْدِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ بِمُقْتَضَاهُ، فَمَقْصُودُ الكَلَامِ الحَثُّ عَلَى الإِخْلَاصِ في العِبَادَةِ، ومُرَاقَبَةِ العَبْدِ رَبَّهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى في إتْمَامِهِ الخُشُوعَ والخُضُوعَ وغَيْرَ ذَلِكَ"[13] اهـ. * المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ: فهو البَصِيرُ الذي لِكَمَالِ بَصَرِهِ يَرَى تَفَاصِيلَ خَلْقِ الذَّرَّةِ الصَّغِيرَةِ وأَعْضَائِها ولَحْمِها ودَمِها ومُخِّها وعُرُوقِها، ويَرَى دَبِيبَها عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ في اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، ويَرَى مَا تَحْتَ الأَرْضِينَ السَّبْعِ كَمَا يَرَى مَا فَوْقَ السَّمَاواتِ السَّبْعِ[14]. * 1- مَرَاتِبُ الْبَصِيرَةِ: البَصِيرَةُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: فالبصيرةُ: نُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ في القَلْبِ، يَرَى بِهِ حَقِيقَةَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ كَأَنَّهُ يُشَاهِدُه رَأْيَ عَيْنٍ، فَيَتَحَقَّقُ - مَعَ ذَلِكَ - انْتِفَاعُهُ بِمَا دَعَتْ إليهِ الرُّسُلُ، وتَضَرُّرُهُ بِمُخَالَفَتِهم، وهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ العَارِفِينَ البَصِيرَةُ: تُحَقِّقُ الانْتِفَاعَ بالشَّيْءِ والتَّضَرُّرَ بِهِ، وقَالَ بَعْضُهم البَصِيرَةُ: ما خَلَّصَكَ مِنَ الحَيْرَةِ، إمَّا بإِيمَانٍ وإمَّا بِعَيَانٍ. * والبَصِيرَةُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ مَنِ اسْتَكْمَلَها فَقَدِ اسْتَكْمَلَ البَصِيرَةَ: بَصِيرَةً في الأسْمَاءِ والصِّفَاتِ، وبَصِيرَةً في الأَمْرِ والنَّهْيِ، وبَصِيرَةً في الوَعْدِ والوَعِيدِ. * فالْبَصِيرَةُ في الأسْمَاءِ والصِّفَاتِ: أَلَّا يَتَأَثَّرَ إِيمَانُكُ بِشُبْهَةٍ تُعَارِضُ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُه، بَلْ تَكُونُ الشُّبَهُ المُعَارِضَةُ لِذَلِكَ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةِ الشُّبَهِ والشُّكُوكِ في وُجُودِ اللهِ، فَكِلَاهما سَوَاءٌ في البَلَاءِ عِنْدِ أَهْلِ البَصَائِرِ. * وَعَقْدُ هَذَا: أَنْ يَشْهَدَ قَلْبُكَ الرَّبَّ تَبَارَكَ وتَعَالَى مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، مُتَكَلِّمًا بِأَمْرِهِ ونَهْيِهِ، بَصِيرًا بِحَرَكَاتِ العَالَمِ عُلُوِّيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ، وأَشْخَاصِهِ وذَوَاتِهِ، سَمِيعًا لأصْوَاتِهم، رَقِيبًا عَلَى ضَمَائِرِهم وأَسْرَارِهِم، وأَمْرُ المَمَالِكِ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ، نَازِلٌ مِنْ عِنْدِهِ وصَاعِدٌ إليهِ، وأَمْلَاكُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ تُنَفِّذُ أَوَامِرَهُ في أَقْطَارِ المَمَالِكِ، مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الكَمَالِ، مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الجَلَالِ، مُنَزَّهًا عَنِ العُيُوبِ والنَّقَائِصِ والمِثَالِ. * هُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ في كِتَابِهِ، وفَوْقَ مَا يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ، حَيٌّ لا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لا يَنَامُ، عَلِيمٌ لا يَخْفَى عَليهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السَّمَاواتِ ولا في الأَرْضِ، بَصِيرٌ يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ، عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ، في اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، سَمِيعٌ يَسْمَعُ ضَجِيجَ الأَصْوَاتِ، باخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، عَلَى تَفَنُّنِ الحَاجَاتِ، تَمَّتْ كَلِمَاتُهُ صِدْقًا وعَدْلًا، وجَلَّتْ صِفَاتُهُ أَنْ تُقَاسَ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ شَبَهًا ومَثَلًا، وتَعَالَتْ ذَاتُهُ أَنْ تُشْبِهَ شَيْئًا مِنَ الذَّوَاتِ أَصْلًا، وَوَسِعَتِ الخَلِيقَةَ أَفْعَالُهُ عَدْلًا، وحِكْمَةً وَرَحْمَةً وإحْسَانًا وفَضْلًا، لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ، ولَهُ النِّعْمَةُ والفَضْلُ، ولَهُ المُلْكُ والحَمْدُ، ولَهُ الثَّنَاءُ والمَجْدُ، أَوَّلٌ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وآخِرٌ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، ظَاهِرٌ لَيْسَ فَوْقَهَ شَيْءٌ، بَاطِنٌ لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ، أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا أَسْمَاءُ مَدْحٍ وحَمْدٍ وثَنَاءٍ وتَمْجِيدٍ، ولِذَلِكَ كَانَتْ حُسْنَى، وصِفَاتُهُ كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ، ونُعُوتُهُ كُلُّهَا نُعُوتُ جَلَالٍ، وأَفْعَالُهُ كُلُّهَا حِكْمَةٌ ورَحْمَةٌ ومَصْلَحَةٌ وعَدْلٌ. * كُلُّ شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ دَالٌّ عَلَيهِ، ومُرْشِدٌ لِمَنْ رَآهُ بِعَيْنِ البَصِيرَةِ إليهِ، لَمْ يَخْلُقِ السَّمَاواتِ والأَرْضِ ومَا بينهما بَاطِلًا، ولا تَرَكَ الإنْسَانَ سُدًى عُطلا، بَلْ خَلَقَ الخَلْقَ لِقِيَامِ تَوْحِيدِهِ وعِبَادَتِهِ، وَأَسْبَغَ عَلَيهم نِعَمَهُ لِيَتَوَسَّلُوا بِشُكْرِها إلى زِيَادَةِ كَرَامَتِهِ. * وتَفَاوُتُ النَّاسِ في إدْرَاكِ هَذِهِ البَصِيرَةِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهم في مَعْرِفَةِ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ وفَهْمِها، والعِلْمِ بِفَسَادِ الشُّبَهِ المُخَالِفَةِ لِحَقَائِقِها. * وتَجِدُ أَضْعَفَ النَّاسِ بَصِيرَةً أَهْل الكَلَامِ البَاطِلِ المَذْمُومِ الذي ذَمَّهُ السَّلَفُ، لِجَهْلِهم بِالنُّصُوصِ ومَعَانِيها، وتَمَكُّنِ الشُّبَهِ البَاطِلَةِ مِنْ قُلُوبِهم، وإذا تَأَمَّلْتَ حَالَ العَامَّةِ - الَّذِينَ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ عِنْدَ أَكْثَرِهم - رَأيْتَهم أَتَمَّ بَصِيرَةً مِنْهم، وَأَقْوَى إِيمَانًا، وأَعْظَمَ تَسْلِيمًا للوَحْي، وانْقِيَادًا للحَقِّ. * المَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْبَصِيرَةِ في الأَمْرِ: وهي تَجْرِيدُهُ عَنِ المُعَارَضَةِ بِتَأْوِيلٍ، أَوْ تَقْلِيدٍ، أَوْ هَوَى، فَلَا يَقُومُ بِقَلْبِهِ شُبْهَةٌ تُعَارِضُ العِلْمَ بأَمْرِ اللهِ ونهيِهِ، ولا شَهْوَةٌ تَمْنَعُ مِنْ تَنْفِيذِهِ وامْتِثَالِهِ، والأَخْذِ بِهِ، ولا تَقْلِيدٌ يُرِيحُهُ عَنْ بَذْلِ الجُهْدِ في تَلَقِّي الأَحْكَامِ مِنْ مِشْكَاةِ النُّصُوصِ، وقَدْ عَلِمَتْ بِهَذَا أَهْلُ البَصَائِرِ مِنَ العُلَمَاءِ مِنْ غَيْرِهم. * المَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: البَصِيرَةُ في الوَعْدِ والوَعِيدِ: وهي أَنْ تَشْهَدَ قِيَامَ اللهِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ في الخَيْرِ والشَّرِّ، عَاجِلًا وآجِلًا، في دَارِ العَمَلِ وَدَارِ الجَزَاءِ، وأَنَّ ذَلِكَ هو مُوجَبُ إلَهِيَّتِهِ ورُبُوبِيَّتِهِ، وعَدْلِهِ وحِكْمَتِهِ، فَإِنَّ الشَّكَّ في ذَلِكَ شَكٌّ في إلَهِيَّتِهِ ورُبُوبِيَّتِهِ، بَلْ شَكٌّ في وُجُودِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيهِ خِلَافُ ذَلِكَ، ولا يَلِيقُ أَنْ يُنْسَبَ إليهِ تَعْطِيلُ الخَلِيقَةِ، وإرْسَالُها هَمَلًا، وتَرْكُها سُدَىً، تَعَالَى اللهُ عَنْ هَذَا الحُسْبَانِ عُلُوًّا كَبِيرًا. * فَشَهَادَةُ العَقْلِ بالْجَزَاءِ كَشَهَادَتِهِ بالوَحْدَانِيَّةِ، ولِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ: أَنَّ المَعَادَ مَعْلُومٌ بالعَقْلِ، وإنَّمَا اهْتَدَى إلى تَفَاصِيلِهِ بالْوَحْي، ولِهَذَا يَجْعَلُ اللهُ سُبْحَانَهُ إِنْكَارَ المَعَادِ كُفْرًا بِهِ سُبْحَانَهُ؛ لَأَنَّهُ إِنْكَارٌ لِقُدْرَتِهِ ولإلَهِيَّتِهِ، وكِلَاهُمَا مُسْتَلْزِمٌ للكُفْرِ بِهِ[15]. * وللمُصَنِّفِ في البَصِيرَةِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى حَيْثُ قَالَ: البَصِيرَةُ مَا يُخَلِّصُكَ مِنَ الْحَيْرَةِ، وهي عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الأُولَى: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الخَبَرَ القَائِمَ بَتَمْهِيدِ الشَّرِيعَةِ يَصْدُرُ عَنْ عَيْنٍ لا يُخَافُ عَوَاقِبُها، فَتَرَى مِنْ حَقِّهِ أَنْ تُؤَدِّيَهُ يَقِينًا، وتَغْضَبُ لَهُ غَيرَةً. * وَمَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم صَادِرٌ عَنْ حَقِيقَةٍ صَادِقَةٍ، لا يَخَافُ مُتَّبِعُها فِيمَا بَعْدَ مَكْرُوهًا، بَلْ يَكُونُ آمِنًا مِنْ عَاقِبَةِ اتِّبَاعِها، إذْ هِي حَقٌّ، ومُتِّبِعُ الحَقِّ لا خَوْفَ عَلَيهِ، ومِنْ حَقِّ ذَلِكَ الخَبَرِ عَلَيْكَ: أَنْ تُؤَدِّيَ مَا أُمِرْتَ بِهِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ولا شَكْوَى، والأَحْوَطُ بِكَ والذي لا تَبْرَأُ ذِمَّتُكَ إلا بِهِ تَنَاوُلُ الأَمْرِ بامْتِثَالٍ صَادِرٍ عَنْ تَصْدِيقٍ مُحَقَّقٍ، لَا يَصْحَبُهُ شَكٌّ، وأَنْ تَغْضَبَ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ غَيْرَةً عَلَيهِ أَنْ يُضَيَّعَ حَقَّهُ، ويُهْمِلَ جَانِبَهُ. * وإنَّمَا كَانَتِ الغَيرَةُ عِنْدَ شَيْخِ الإِسْلَامِ مِنْ تَمَامِ البَصِيرَةِ؛ لأَنَّهُ عَلَى قَدْرِ المَعْرِفَةِ بِالْحَقِّ ومُسْتَحِقِّهِ ومَحَبَّتِهِ وإجْلَالِهِ تَكُونُ الغَيْرَةُ عَلَيهِ أَنْ يَضِيعَ، والغَضَبُ عَلَى مَنْ أَضَاعَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّةِ صَاحِبِ الحَقِّ وإجْلَالِهِ وتَعْظِيمِهِ، وذَلِكَ عَيْنُ البَصِيرَةِ، فَكَمَا أَنَّ الشَّكَّ القَادِحَ في كَمَالِ الامْتِثَالِ مُعْمٍ لِعَيْنِ البَصِيرَةِ، فَكَذَلِكَ عَدَمُ الغَضَبِ والغَيْرَةِ عَلَى حُقُوقِ اللهِ - إذا ضُيِّعَتْ، ومَحَارِمِهِ إذا انْتُهِكَتْ - مُعْمٍ لِعَيْنِ البَصِيرَةِ. * قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَشْهَدَ في هِدَايَةِ الحَقِّ وإضْلَالِهِ إصَابَةَ العَدْلِ، وفي تَلْوِينِ أَقْسَامِهِ رِعَايَةَ البِرِّ، وتُعَايِنَ في جَذْبِهِ حَبْلَ الوَصْلِ. * يُرِيدُ رحمه الله بِشُهُودِ العَدْلِ في هِدَايَتِهِ مَنْ هَدَاهُ، وفي إضْلَالِهِ مَنْ أَضَلَّهُ أَمْرَينِ: أَحَدُهما: تَفَرُّدُهُ بالخَلْقِ والهُدَى والضَّلَالِ. * والثَّانِي: وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الحِكْمَةِ والعَدْلِ، لا بالاتِّفَاقِ، ولا بِمَحْضِ المَشِيئَةِ المُجَرَّدَةِ عَنْ وَضْعِ الأَشْيَاءِ مَوَاضِعَها، وتَنْزِيلِها مَنَازِلَها، بَلْ بِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ هَدْيَ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَزْكُو عَلَى الهُدَى، ويَقْبَلُهُ ويَشْكُرُهُ عَلَيهِ، ويُثْمِرُ عِنْدَهُ، فَاللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ، أَصْلًا ومِيرَاثًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53]، وَهُمُ الذِينَ يَعْرِفُونَ قَدْرَ نِعْمَتِهِ بالهُدَى، ويَشْكُرُونَهُ عَلَيْها، ويُحِبُّونَهُ ويَحْمَدُونَهُ عَلَى أَنْ جَعَلَهم مِنْ أَهْلِهِ، فهو سُبْحَانَهُ مَا عَدَلَ عَنْ مُوجَبِ العَدْلِ والإحْسَانِ في هِدَايَةِ مَنْ هَدَى وإضْلَالِ مَنْ أَضَلَّ، ولَمْ يَطْرُدْ عَنْ بَابِهِ، ولَمْ يُبْعِدْ عَنْ جَنَابِهِ، مَنْ يَلِيقُ بِهِ التَّقْرِيبُ والهُدَى والإكْرَامُ، بَلْ طَرَدَ مَنْ لا يَلِيقُ بِهِ إلا الطَّرْدُ والإبْعَادُ، وحِكْمَتُهُ وحَمْدُهُ تَأْبَى تَقْرِيبَهُ وإكْرَامَهُ، وجَعْلَهُ مِنْ أَهْلِهِ وخَاصَّتِهِ وأَوْلِيَائِهِ، ولا يَبْقَى إلا أَنْ يُقَالَ: فَلِمَ خَلَقَ مَنْ هو بهَذِهِ المَثَابَةِ؟ * فَهَذَا سُؤَالُ جَاهِلٍ ظَالِمٍ ضَالٍّ، مُفْرِطٍ في الجَهْلِ والظُلْمِ والضَلَالِ؛ لأَنَّ خَلْقَ الأَضْدَادِ والمُتَقَابِلَاتِ هو مِنْ كَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ، كَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالحَرِّ وَالبَرْدِ، وَاللَّذَّةِ وَالأَلَمِ، وَالخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالنَّعِيمِ وَالجَحِيمِ. * في تَلْوِينِ أَقْسَامِهِ رِعَايَةُ البِرِّ: يُرِيدُ بِتَلْوِينِ الأَقْسَامِ: اخْتِلَافَها في الجِنْسِ والقَدْرِ والصِّفَةِ، مِنْ أَقْسَامِ الأَمْوَالِ والقُوَى، والعُلُومِ والأَعْمَالِ، والصَّنَائِعِ وغَيْرِها، قَسَّمَها عَلَى وَجْهِ البِرِّ وَالمَصْلَحَةِ، فَأَعْطَى كُلًّا مِنْهم مَا يُصْلِحُهُ، ومَا هو الأَنْفَعُ له، بِرًّا وإحْسَانًا. وقَوْلُهُ: وتُعَايِنُ في جَذْبِهِ حَبْلَ الوِصَالِ. * يُرِيدُ تُعَايِنُ في تَوْفِيقِهِ لَكَ للطَّاعَةِ، وجَذْبِهِ إيَاكَ مِنْ نَفْسِكَ: أَنَّهُ يُرِيدُ تَقْرِيبَكَ مِنْهُ، فاسْتَعَارَ للتَّوْفِيقِ الخَاصِّ الجَذْبَ، وللتَّقْرِيبِ الوِصَالَ، وأَرَادَ بالحَبْلِ السَبَبَ المُوَصِّلَ لَكَ إلَيهِ. * فَأَشَارَ بِهَذَا إلى أَنَّكَ تَسْتَدِلُّ بِتَوْفِيقِهِ لَكَ، وجَذْبِكَ نَفْسَكَ، وجَعْلَكَ مُتَمَسِّكًا بِحَبْلِهِ - الذي هو عَهدُهُ وَوَصِيَّتُهُ إلى عِبَادِهِ - عَلَى تَقْرِيبِهِ لَكَ، تُشَاهِدُ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَقْوَى في المَحَبَّةِ والشُّكْرِ، وبَذْلِ النَّصِيحَةِ في العُبُودِيَّةِ، وهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَمَامِ البَصِيرَةِ، فَمَنْ لا بَصِيرَةَ لَهُ فهو بِمَعْزَلٍ عَنْ هَذَا. * قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثةُ: بَصِيرَةٌ تُفَجِّرُ المَعْرِفَةَ، وتُثَبِّتُ الإشَارَةَ، وتُنْبِتُ الفِرَاسَةَ. يُرِيدُ بالبَصِيرَةِ في الكَشْفِ والعَيَانِ: أَنْ تَتَفَجَّرَ بِها يَنَابِيعُ المَعَارِفِ مِنَ القَلْبِ، ولَمْ يَقُلْ تَفَجُّرَ العِلْمِ؛ لأَنَّ المَعْرِفَةَ أَخَصُّ مِنَ العِلْمِ عِنْدَ القَومِ، ونِسْبَتُها إلى العِلْمِ نِسْبَةُ الرُّوحِ إلى الجَسَدِ، فهي رُوحُ العِلْمِ ولُبُّهُ. * وصَدَقَ رحمه الله فإنَّهُ بِهَذِهِ البَصِيرَةِ تَتَفَجَّرُ مِنْ قَلْبِ صَاحِبِها يَنَابِيعُ مِنَ المَعَارِفِ، التي لا تُنَالُ بِكَسْبٍ ولا دِرَاسَةٍ، إنْ هو إلا فَهْمٌ يُؤْتِيهِ اللهُ عَبْدًا في كِتَابِهِ ودِينِهِ، عَلَى قَدْرِ بَصِيرَةِ قَلْبِهِ. * 2- الطَّرِيقُ إلى الفِرَاسَةِ: وقَوْلُهُ: وتُثبِتُ الإشَارَةَ: يُرِيدُ بالإشَارَةِ: مَا يُشِيرُ إلِيهِ القَوْمُ مِنَ الأَحْوَالِ والمُنَازَلَاتِ، والأَذْوَاقِ التي يُنْكِرُها الأَجْنَبِيُّ مِنَ السُّلُوكِ، ويُثْبِتُها أَهْلُ البَصَائِرِ، وكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ تَرِدُ عَلَى السَّالِكِ، فَإنْ كَانَ لَهُ بَصِيرَةٌ ثَبَّتَت بَصِيرَتُهُ ذَلِكَ لَهُ وحَقَّقَتْهُ عِنْدَهُ، وعَرَّفَتْهُ تَفَاصِيلَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَصِيرَةٌ، بَلْ كَانَ جَاهِلًا، لَمْ يَعْرِفْ تَفْصِيلَ مَا يَرِدُ عَلَيهِ، ولَمْ يَهْتَدِ لِتَثْبِيتِهِ. * قَوْلُهُ: وتُنْبِتُ الفِرَاسَةُ: يَعْنِي أَنَّ البَصِيرَةَ تُنْبِتُ في أَرْضِ القَلْبِ الفِرَاسَةَ الصَّادِقَةَ، وهي نُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ في القَلْبِ، يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الحَقِّ والبَاطِلِ، والصَّادِقِ والكَاذِبِ، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [الحجر: 75]، قَالَ مُجَاهِدٌ: للمُتَفَرِّسِينَ. * والتَّوَسُّمُ تَفَعُّلٌ مِنَ السِّيمَا، وهي العَلَامَةُ، فَسُمِّيَ المُتَفَرِّسُ مُتَوسِّمًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَدِلُّ بِمَا يَشْهَدُ عَلَى مَا غَابَ، فَيَسْتَدِلُّ بالعَيَانِ عَلَى الإِيمَانِ، ولِهَذَا خَصَّ اللهُ تَعَالَى بالآيَاتِ والانْتِفَاعِ بِها هَؤُلَاءِ؛ لأَنَّهم يَسْتَدِلُّونَ بمَا يُشَاهِدُونَ مِنْها عَلَى حَقِيقَةِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الأَمْرِ والنَّهْي، والثَّوَابِ والعِقَابِ، وَقَدْ أَلْهَمَ اللهُ ذَلِكَ آدَمَ، وعَلَّمَه إيَّاهُ حِيْنَ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وبَنُوهُ هُم نُسْخَتُهُ وخُلَفَاؤُهُ، فَكُلُّ قَلْبٍ قَابِلٌ لِذَلِكَ، وهو فِيهِ بالقُوَّةِ، وبِهِ تَقُومَ الحُجَّةُ، وتَحْصُلُ العِبْرَةُ، وتَصِحُّ الدِّلَالَةُ، وبَعَثَ اللهُ رُسُلَهُ مُذَكِّرِينَ ومُنَبِّهِينَ، ومُكَمِّلِينَ لِهَذَا الاسْتِعْدَادِ، بِنُورِ الوَحْي والإِيمَانِ، فَيَنْضَافُ ذَلِكَ إلى نُورِ الفِرَاسَةِ والاسْتِعْدَادِ، فَيَصِيرُ نُورًا عَلَى نُورٍ، فَتَقْوَى البَصِيرَةُ، ويَعْظُمُ النُّورُ، ويَدُومُ بِزِيَادَةِ مَادَّتِهِ ودَوَامِها، ولا يَزَالُ في تَزَايُدٍ حَتَّى يُرَى عَلَى الوَجْهِ والجَوَارِحِ، والكَلَامِ والأَعْمَالِ، ومَنْ لَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ ولَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأسًا دَخَلَ قَلْبُهُ في الغُلَافِ والأَكِنَّةِ، فَأَظْلَمَ، وعَمِيَ عَنِ البَصِيرَةِ، فَحُجِبَتْ عَنْهُ حَقَائِقُ الإِيمَانِ، فَيَرَى الحَقَّ بَاطِلًا، والبَاطِلَ حَقًّا، والرُّشْدَ غَيًّا، والغَيَّ رُشْدًا، قَالَ تَعَالَى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]، والرَّيْنُ والرَانُ هو الحِجَابُ الكَثِيفُ المَانِعُ للقَلْبِ مِنْ رُؤْيَةِ الحَقِّ، والانْقِيَادِ لَهُ. * 3- أَنْوَاعُ الفِرَاسَةِ: وعَلَى حَسَبِ قُوَّةِ البَصِيرَةِ وضَعْفِها تَكُونُ الفِرَاسَةُ، وهي نَوْعَانِ: فِرَاسَةٌ عُلْوِيَّةٌ شَرِيفَةٌ: مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الإِيمَانِ، وفِرَاسَةٌ سُفْلِيَّةٌ دَنِيئَةٌ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ المُؤْمِنِ والكَافِرِ، فَالأُولَى فِرَاسَةُ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ والجُوعِ والسَّهَرِ والخَلْوَةِ، وتَجْرِيدِ البَواطِنِ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّوَاغِلِ، أَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ فِرَاسَةُ كَشْفِ الصُّوَرِ، والإخْبَارِ بِبَعْضِ المُغَيَّبَاتِ السُّفْلِيَّةِ التي لَا يَتَضَمَّنُ كَشْفُها والإخْبَارُ بِها كَمَالًا للنَّفْسِ، ولا زَكَاةً ولا إِيمَانًا ولا مَعْرِفَةً، وهَؤُلَاءِ لا تَتَعَدَّى فِرَاسَتُهم هَذِهِ السُّفْلِيَّاتِ؛ لأَنَّهم مَحْجُوبُونَ عَنِ الحَقِّ تَعَالَى، فَلَا تَصْعَدُ فِرَاسَتُهم إلى التَمْيِيزِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وأَعْدَائِهِ، وطَرِيقِ هَؤُلَاءِ وهَؤُلَاءِ. * وأَمَّا فِرَاسَةُ الصَّادِقِينَ، العَارِفِينَ باللهِ وأَمْرِهِ: فَإنَّ هِمَّتَهم لَمَّا تَعَلَّقَتْ بِمَحَبَّةِ اللهِ ومَعْرِفَتِهِ وعُبُودِيَّتِهِ، ودَعْوَةِ الخَلْقِ إليهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، كَانَتْ فِرَاسَتُهم مُتَّصِلَةً باللهِ، مُتَعَلِّقَةً بِنُورِ الوَحْي مَعَ نُورِ الإِيمَانِ، فَمَيَّزَتْ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللهُ ومَا يُبْغِضُهُ، مِنَ الأَعْيَانِ والأَقْوَالِ والأَعْمَالِ. * وَمَيَّزَتْ بَيْنَ الخَبِيثِ والطَّيِّبِ، والمُحِقِّ والمُبْطِلِ، والصَّادِقِ والكَاذِبِ، وعَرَفَتْ مَقَادِيرَ اسْتِعْدَادِ السَّالِكِينَ إلى اللهِ، فَحَمَلَتْ كُلَّ إنْسَانٍ عَلَى قَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ، عِلْمًا وإرَادَةً وعَمَلًا. * فَفِرَاسَةُ هَؤُلَاء دَائِمًا حَائِمَةٌ حَوْلَ كَشْفِ طَرِيقِ الرَّسُولِ وتَعَرُّفِها، وتَخْلِيصِها مِنْ بَيْنَ سَائِرِ الطُّرُقِ، وبَيْنَ كَشْفِ عُيُوبِ النَّفْسِ، وآفَاتِ الأَعْمَالِ العَائِقَةِ عَنْ سُلُوكِ طَرِيقِ المُرْسَلِينَ، فَهَذَا أَشْرَفُ أَنْوَاعِ البَصِيرَةِ والفِرَاسَةِ، وأَنْفَعُها للعَبْدِ في مَعَاشِهِ ومَعَادِهِ[16]. [1] الرضواني: أسماء الله الحسنى (31). [2] لسان العرب (4/ 64)، والمفردات (ص: 127). [3] توضيحُ المقاصدِ وتصحيحُ القواعدِ في شرحِ قصيدةِ الإمامِ ابنِ القيمِ (2/ 215). [4] البخاريُّ في المساقاةِ، بابُ مَنْ رَأَى أَنَّ صَاحِبَ الحوض... (2/ 834) (2240). [5] النهج الأسمى (1/ 235-239). [6] جامع البيان (1/ 341). [7] شأن الدعاء (ص: 60-61) باختصار. [8] تفسير القرآن العظيم (1/ 354)، (4/ 81). [9] روح المعاني (3/ 101). [10] تيسير الكريم (5/ 299). [11] الحجةُ في المحَجَّةِ (ورقة 15 أ). [12] رواه مسلمُ (8)، وهو جُزْءٌ من حديثِ عمرَ بنِ الخطابِ الطويلِ. [13] شرحُ مسلمٍ (1/ 157 - 158). [14] طريقُ الهجرتينِ (ص: 211). [15] مدارج السالكين (1/ 124). [16] مدارجُ السالكينَ (127). الشيخ وحيد عبدالسلام بالي
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|