|
#1
|
||||
|
||||
قصة الخلافة العثمانية
قصة الخلافة العثمانية الخلافة العثمانية .. حامية الدين والأمة عبد المنعم إبراهيم الجميعي اتخذت الدولة العثمانية من الدين الإسلامي غطاء لتوجهاتها السياسية لدرجة يمكن معها القول إن تاريخ آل عثمان، بما فيه من حسنات وسيئات، يعد في الواقع إحدى الحلقات الهامة من تاريخ المسلمين. الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية ونظراً لأن الوطنية حتى بدايات القرن الماضي كانت مرتبطة بالدين، فلم ينظر العرب إلى الدولة العثمانية في ذلك الوقت على أنها دولة مغتصبة أو مستعمرة لبلادهم كما يتردد ذلك لدى بعض الباحثين في الوقت الحالي، خاصة وأن العاطفة الدينية الإسلامية كانت أكثر تأثيراً في نفوس رعايا الدولة من العاطفة القومية. وبهذه الواجهة الشرعية فرض الأتراك أنفسهم على العرب، واعتبرهم العرب أصحاب أياد بيضاء في رفع شأن الإسلام في أوربا ونشره في العديد من البلدان، لدرجة أن الأفراح والزينات كانت تقام في العديد من العواصم الإسلامية عقب كل انتصار يحرزه العثمانيون، وكان المسلمون في شتى البلدان يعتبرون السلطان العثماني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم [1]، والأب الروحي للمسلمين الذي يجب عليهم طاعته، ويرون المحافظة على الدولة العثمانية ثالث العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله. ونتيجة لذلك، أطلق السكان العرب على القوات العثمانية المرابطة في بلادهم اسم الحامية العثمانية، ولم يطلقوا عليها جيش الاحتلال العثماني؛ كما أن أحد المفكرين المسلمين وهو الشيخ محمد عبده وصفها بأنها الحافظة لسلطان الدين، وأن المحافظة عليها يعد ثالث العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله [2]. وفي ظل هذا الشعور، وجهت الدولة العثمانية سياستها، فنظر العثمانيون إلى أنفسهم على أنهم مسلمون قبل كل شيء، لدرجة أن قال عنهم المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي إنهم اهتموا "بإقامة الشعائر الإسلامية والسنن المحمدية، وتعظيم العلماء وأهل الدين، وخدمة الحرمين الشريفين، والتمسك في الأحكام والوقائع بالقوانين والشرائع"، وإلى جانب ذلك، نظرت أوربا إلى توسعاتهم على أنها فتوح إسلامية [3]. وحتى تتضح الصورة، ينبغي أن نقسم أدوار الحكم العثماني إلى مرحلتين أساسيتين: مرحلة القوة وهي المرحلة التي شيد فيها العثمانيون دولتهم في ظل روح الجهاد الديني التي كانت غالبة عليهم والتي مكنتهم من فرض سيطرتهم على مناطق كبيرة في آسيا وأوربا وأفريقيا؛ ومرحلة الضعف التي تميزت بالتخبط السياسي وبالهزائم العسكرية المتلاحقة والتي استمرت حتى سقوط الخلافة. العثمانيون والجهاد الديني أما في المرحلة الأولى، فقد كان ولاء الدولة العثمانية يتجه ناحية الدين الإسلامي شكلاً ومظهراً، فاهتم السلاطين بإضفاء الألقاب الدينية بجانب أسمائهم مثل لقب حامي حمى الحرمين الشريفين، ولقب خليفة، كما حرصوا على تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقاً صارماً (مثل قانون نامه الذي وضعه السلطان سليمان القانوني) وأخضعوا رعاياهم غير المسلمين لنظام الملل (أي التصنيف على أساس الدين). وكان الدين والدولة عندهم أمراً واحداً، والقرآن والسنة هما المصدران الأصيلان لسياستهم، وكان الطابع الديني الإسلامي بمثابة السمة الواضحة في تشريعات الدولة وفتوحاتها. ويؤكد ذلك "قانون نامه" الذي وضعه السلطان سليمان القانوني، والذي التزم بمبادئ الشريعة الإسلامية. كما يؤكده ما كان للهيئة الإسلامية من مركز مرموق، فكان يطلق على رئيسها المفتي أو مفتي إستانبول، ثم أطلق عليه شيخ الإسلام، وكان المفتي يصدر فتوى تجيز الحرب التي خاضتها الدولة دفاعاً أو هجوماً وعقداً للصلح، ومن هنا فتح العثمانيون باسم الإسلام العديد من الأمصار التي لم تطأها قدم مسلم من قبل [4]. العثمانيون والفتوحات الإسلامية فباسم الإسلام واصل عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية جهوده في نشر الإسلام في مناطق الثغور، وواصل عمليات الجهاد الإسلامي المنظم ضد الكيانات المسيحية المجاورة له، وباسم الإسلام تمكن مراد الأول ثالث أمراء آل عثمان من دخول البلقان، وتحقيق العديد من الانتصارات التي توجت بفتح مدينة أدرنة سنة 1361م، وهزيمة القوى النصرانية ونقل العاصمة من بروسه إلى أدرنة التي عمرت بالمساجد والمدارس، وأصبحت نقطة انطلاق لمواصلة الفتوحات الإسلامية في أوربا [5]. وباسم الإسلام، استولى الجيش العثماني على العديد من مدن شرق أوربا، ومن أبرزها صوفيا عاصمة بلغاريا التي تم الاستيلاء عليها في عام 787هـ/ 1385م، وباسم الإسلام، استمرت الفتوحات العثمانية في البلقان وتساقطت مدنها أمام ضربات العثمانيين، ووصل العثمانيون إلى المورة وأخضعوها لحكمهم وأصبحت معظم بلاد البلقان تحت الحكم العثماني [6]. وباسم الإسلام، فتح محمد الثاني القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية في عام 857هـ/ 1453م، مصداقاً للحديث الشريف: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش"، وهو ذلك الفتح الذي يعد نقطة تحول فاصلة ليس فقط في تاريخ العثمانيين، بل في تاريخ الصراع بين النصرانية والإسلام. فبعد هذا الفتح المبين، أمر محمد الفاتح أن يؤذن فيها، واتجه إلى القبلة وصلى؛ كما حول كاتدرائية آيا صوفيا إلى مسجد وأطلق على القسطنطينية اسماً إسلامياً جديداً هو إسلامبول، بمعنى عاصمة الإسلام، وبنى محمد الفاتح مسجداً كبيراً يحمل اسمه، كما بنى عشرة مساجد أخرى [7]، ألحق بها مدارس للتعليم ومستشفيات للفقراء. ولم تتوقف جهود الفاتح على ذلك، بل استطاع القضاء على الإمارات المسيحية في الأناضول وتحويل آسيا الصغرى كلها إلى مناطق عثمانية. وباسم الإسلام، شرع محمد الفاتح ينفذ مشروعاً خطيراً وهو الاستيلاء على روما مقر البابوية، مقسماً على أن يقدم الطعام بيده إلى حصانه وهو واقف على م*** الكنيسة البابوية في روما، مما أزعج العالم المسيحي كله الذي لم يتنفس الصعداء إلا بعد وفاة هذا القائد المسلم في عام 886هـ/ 1481م. وباسم الإسلام، تعددت مظاهر الطابع الإسلامي في السياسة العامة للدولة العثمانية بدءاً بالمراسيم التي كانت تتخذ عند تقليد السلاطين العثمانيين عرش السلطنة، حيث كان السلطان الجديد يتسلم عرش السلطنة في موكب رسمي يتجه إلى مسجد أبي أيوب الأنصاري، ويتسلم في جو ديني سيف الجد الأكبر للسلاطين العثمانيين السلطان عثمان الأول. وباسم الإسلام، تردد في القوانين العامة التي أصدرها السلاطين، وفي مراسيم التنظيمات العثمانية ما يؤكد حرص الدولة على الظهور بمظهر المدافع عن الشريعة الإسلامية والمتبني لأحكامها. وباسم الإسلام، استولى السلطان سليمان القانوني على بلجراد ورودس وبودابست ووصلت قواته إلى فيينا آخر نقطة وصل إليها العثمانيون في فتوحاتهم بأوربا. وباسم الإسلام، قدم السلطان العثماني بايزيد الثاني (1480 - 1511م) المعاونة للسلطان المملوكي قانصوه الغوري بعد تحطيم أسطوله في موقعة ديو البحرية، فأمده بالأسلحة والأخشاب اللازمة لبناء أسطول جديد، وتجهيز حملة أخرى لمواجهة البرتغاليين استنقاذاً للأماكن الإسلامية المقدسة؛ كما انضم إلى الأسطول المملوكي بعض البحارة والضباط من الأسطول العثماني للوقوف معاً ضد البرتغاليين [8]. العثمانيون ومواجهة البرتغاليين وباسم الإسلام، أوقفت الدولة العثمانية المخطط الصليبي الذي كان يستهدف دخول البرتغاليين البحر الأحمر، والاستيلاء على جدة، والزحف على مكة المكرمة لهدم الكعبة المشرفة، ثم مواصلة الزحف منها على المدينة المنورة لنبش قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ومواصلة الزحف إلى تبوك وصولاً إلى بيت المقدس حيث المسجد الأقصى وقبة الصخرة. فقامت الدولة العثمانية بوضع خطة جديدة تمثلت في اتخاذ الموانئ اليمنية -خصوصاً عدن- خط دفاع لمهاجمة المراكز البرتغالية في الهند، والدفاع عن سواحل البحر الأحمر؛ كما استطاعت دحر الأسطول البرتغالي بالقرب من جدة عام 923هـ، وتحطيم كل المحاولات التي بذلها البرتغاليون لتكوين جبهة مسيحية، وذلك بالتحالف مع الأحباش ضد القوى الإسلامية في البحر الأحمر وشرقي أفريقية. وباسم الإسلام، قامت الدولة العثمانية بتوحيد أقطار العالم الإسلامي في إطار سياسي واحد، وتأليف جبهة إسلامية واحدة بعد أن كانت كيانات متنافرة، وتكاد تكون متباعدة بين بعضها منذ أن تلاشت الوحدة الإسلامية نتيجة ضعف الخلافة وسقوطها في عام 656هـ على يد التتار [9]، وأصبحت رابطة الدين هي الرابطة الأساسية فيما بين البلاد العربية بمن جهة وبينها وبين الدولة العثمانية من جهة أخرى. العثمانيون وبلاد الحجاز وباسم الإسلام، اهتمت الدولة العثمانية بأمور الحجاز، وكان من أبرز مظاهر ذلك اهتمامها بالأماكن الإسلامية المقدسة، إذ به قبلة المسلمين، مهبط الرسالة ومنزل الوحي، وملتقى قلوب المسلمين، فقد أمر السلطان سليم الأول بوضع ثلث ما كان يجبى من مصر للإنفاق على خدمة الحرمين الشريفين؛ كما أضاف لهذه المهمة أيضاً خراج اليونان، مما جعل من بلاد الحجاز مركزاً دينياً مرموقاً؛. كذلك أولت الدولة العثمانية قوافل الحج والإشراف عليها، وتيسير الحج أمام الراغبين فيه، اهتماماً خاصاً: فاهتمت بالطرق، وحفرت الآبار بمحاذاة طرق الحج، وأقامت المخافر، وكانت تشرف على قواعد الحج الرئيسة التي كانت تخرج من كافة أنحاء الدولة في مواعيد محددة. وباسم الإسلام، تدخلت الدولة العثمانية لنجدة أهالي الخليج العربي الذين طلبوا منها المعاونة في عام 857هـ/ 1550م لمواجهة الخطر البرتغالي على بلادهم، فبعث السلطان سليمان القانوني بحملات منظمة من السويس إلى الخليج العربي لمعاونة إخوانه في الإسلام، وسار على نهجه بقية السلاطين من بني عثمان حتى عام 989هـ/ 1581م، واستطاعت هذه الحملات أن تنزل العديد من الهزائم بالبرتغاليين. وباسم الإسلام، وقفت الدولة العثمانية ضد الأطماع البرتغالية وحالت دون تحقيقها في أرض الإسلام، وذلك بعد أن عجز المماليك وغيرهم من الوقوف أمام تهديدات البرتغاليين، خصوصاً بعد معركة ديو البحرية (1509م)، فقامت بإغلاق البحر الأحمر في وجه السفن النصرانية، ولم يسمح لها بتسيير سفنها في القسم الشمالي من البحر الأحمر، أو بالإبحار في هذا البحر فيما وراء ثغر المخا جنوبي الحديدة في اليمن. وكانت ذريعتها في ذلك أن أهم الأماكن الإسلامية في العالم على الإطلاق تقع في الحجاز، ويطل ساحل هذا الإقليم على البحر الأحمر؛ لذلك يجب ألا تبحر منه غير السفن الإسلامية، وظلت الدولة العثمانية متمسكة بذلك الموقف حتى أواخر القرن الثامن عشر. ومعنى ذلك أن الدولة العثمانية قدمت أعظم خدمة للإسلام، حيث وقفت في وجه الزحف الصليبي البرتغالي للبحر الأحمر والأماكن الإسلامية المقدسة، وكانت الملجأ للعالم الإسلامي وقت الملمَّات [10]. يتبع |
#2
|
||||
|
||||
قصة الخلافة العثمانية الخلافة العثمانية .. حامية الدين والأمة عبد المنعم إبراهيم الجميعي العثمانيون وشمال إفريقيا وباسم الإسلام، تقدم العثمانيون لمساعدة عرب شمالي أفريقية في الصراع الصليبي مع الإسبان والبرتغاليين الذين حاولوا احتلال هذه الأقاليم وتحويلها إلى المسيحية، فأعلن السلطان سليم الدعوة إلى الجهاد في شمالي أفريقية، وأمر بتكوين كتائب المجاهدين حتى استقرت الأمور للإسلام والمسلمين هناك. وباسم الإسلام، ساندت الدولة العثمانية أهالي طرابلس في مقاومة الخطر الصليبي على بلادهم، بعد أن أرسلوا إلى السلطان سليمان القانوني يلتمسون منه التدخل لإنقاذهم لتحرير بلادهم من الإسبان الذين استولوا عليها وفرسان القديس يوحنا الذين استهدفوا تغيير الوجه الإسلامي لبلادهم، وقد أرسل السلطان سليمان قواته للمحافظة على هذه البلاد العربية الإسلامية حتى استقرت الأمور هناك [11]. وباسم الإسلام، قام العثمانيون بملاحقة فرسان القديس يوحنا وطردهم من رودس ثم من ليبيا عام 1551م، وكذلك قاموا بكسر شوكة الإسبان في حوض البحر المتوسط الغربي، وباسم الإسلام، وقفت الدولة العثمانية أمام زحف الصفويين الشيعة الذين تمكنوا من الاستيلاء على العراق، ونشر المذهب الشيعي في الأناضول، وراحوا يحملون الناس قسراً على الدخول في مذهبهم، ولا يترددون في إفناء مدن بأسرها، والقضاء على العلماء والأعلام زرافات ووحداناً حين يرفضون الاستجابة لدعوتهم، ويتمسكون بالمذهب السُّنِّيّ. وكان من نتيجة ذلك قيام السلطان العثماني سليم الأول بغزو فارس والالتقاء مع الصفويين بوادي جالديران في أواخر عام 920هـ/ 1514م في معركة رهيبة استطاع فيها العثمانيون هزيمة الصفويين في جالديران ودخول عاصمتهم تبريز في 14 من رجب 920هـ وضم ولايتي ديار بكر وكردستان إلى بلاده والاستيلاء على خزائن الشاه، والقضاء على المد الشيعي في الأناضول والعمل على انحساره في العراق. وبذلك استطاع العثمانيون حماية المذهب السني من خطر الزحف الشيعي الذي كان الشاه إسماعيل الصفوي يأمل في نشره في كافة أنحاء المشرق العربي والقضاء على المذهب السني. ولم يكتف العثمانيون بذلك، بل خاضوا العديد من المعارك مع الفرس دفاعاً عن العراق الذي كان الفرس يتطلعون إليه دائماً، ويرغبون في صبغته بالصبغة الشيعية ولو بحد السيف. وبالرغم من أن ذلك كلفهم العديد من الرجال والعتاد، فقد تمكنوا من حصر المذهب الشيعي في فارس، ولم يسمحوا بتسربه إلى البلدان العربية الواقعة تحت سيطرتهم، وبذلك ظهر سلاطين الدولة العثمانية أمام العالم الإسلامي بمظهر المدافع عن الشريعة الإسلامية، والحماة التقليديين للمذهب السني. وباسم الإسلام، عدَّ الأتراك أنفسهم حراساً لدولة الإسلام، وقد دفعهم ذلك إلى الاحتفاظ بحاميات في الأقاليم العربية التابعة لهم [12]. وباسم الإسلام، أصدرت الدولة العثمانية بعد فتحها لمصر فرماناً بمنع اليهود من الهجرة إلى سيناء على أساس أنها تضم الوادي المقدس طوى الذي كلم فيه الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام، فقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وقال أيضاً: {جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]. وسار سلاطين الدولة العثمانية على هذا المنوال حتى جاء الإنجليز وسيطروا على مصر في عام 1882م، فتغيرت الأوضاع هناك. وباسم الإسلام، استولى العثمانيون على قسم كبير من الحبشة (1529م – 1542م) في المعركة التي دارت رحاها بينهم وبين القوات البرتغالية، والتي قاتلت فيها القوات العثمانية إلى جانب المسلمين، بينما قاتل البرتغاليون إلى جانب الأحباش، وقد خرجت الحبشة من القتال وقد أصابها الدمار ونقص سكانها [13]. وباسم الإسلام، قام السلطان عبد الحميد الثاني بالدعوة إلى الجامعة الإسلامية، خصوصاً وأن مبعث ولاء المسلمين للدولة العثمانية كان دينياً، حيث كانوا مكلفين شرعاً بطاعة السلطان باعتباره الخليفة والأب الروحي للمسلمين، ونائب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم أن يسمعوا له ويطيعوا. ومن هنا رأى السلطان عبد الحميد الثاني استخدام هذا الولاء في حماية البلدان الإسلامية من الأخطار التي تحيط بها، وإنقاذها من حالة التفسخ والركود الذي تغلغل بين أفرادها. فدعا إلى جامعة إسلامية تجمع بين المسلمين مهما اختلفت لغاتهم وبلادهم. وباسم الإسلام، قام السلطان عبد الحميد الثاني بإنشاء سكة حديد الحجاز التي تصل دمشق بالمدينة المنورة، وبذلك شهدت الأراضي الإسلامية المقدسة لأول مرة في التاريخ خطّاً حديدياً، يخدم حجيج بيت الله الحرام، ويوفر لهم الأمن والسرعة والراحة بعد أن كانوا يستخدمون قوافل الجمال ويتعرضون للعديد من المخاطر، فكان ذلك أعظم هدية قدمها السلطان عبد الحميد للمسلمين [14]. وباسم الإسلام، وقف السلطان عبد الحميد الثاني ضد استيطان اليهود في فلسطين. فعندما عرض عليه هرتزل حل أزمته المالية نظير السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين، رفض طلبه وحسم الموقف معه بقوله: "إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض؛ فهي ليست ملك يميني، بل ملك شعبي. لقد ناضل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم". ولإحساس السلطان عبد الحميد بعدم توقف الضغوط اليهودية عليه، بدأ يهتم بالأوضاع الإدارية في بيت المقدس، فجعلها متصرفية تابعة للباب العالي مباشرة بعد أن كانت تابعة لباشا دمشق؛ كما عين محمد شريف رؤوف باشا المشهور بشدته متصرفاً على القدس. ويضاف إلى ذلك أن الدولة العثمانية حافظت على تقاليد الخلافة السابقة في اعتمادها على القرآن مصدراً للتشريع، وإن كانت تحيد عن بنوده في بعض الأحيان [15]. كل ذلك جعل العالم الإسلامي ينظر إلى أعمال العثمانيين على أنها مفخرة للإسلام والمسلمين، وأن زعامتهم للعالم الإسلامي أدّت إلى إعلاء شأن الشريعة الإسلامية وإعلاء شأن المسلمين. [1] حول انتقال الخلافة إلى العثمانيين، انظر: محمد أنيس: الدولة العثمانية والشرق العربي، (1514م – 1914م)، ص12. [2] محمد رشيد رضا: تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ج 1، ص909. [3] عبد الرحمن الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار، ج 1، ص21. -Bernard Lewis, The Emergence of Modern Turkey, London, 1968م. [4] عبد العزيز الشناوي: الدولة العثمانية، ج 1، ص74. ول ديورانت: قصة الحضارة، ج 4، المجلد السادس، ص109. [5] أرنولد توينبي: تاريخ البشرية، ج 2، ص. 187. أحمد عبد الرحيم مصطفى: في أصول التاريخ العثماني، ص48 - 50. [6] عبد الكريم رافق: العرب والعثمانيون (1516 - 1916م)، ص34.كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ص427 - 428. [7] حملت القسطنطينية على مر تاريخها أسماء عديدة منها إستامبول وإستانبول ودار السعادة ودار الخلافة والآستانة. وانظر: سيد مصطفى: الإصلاح العثماني في القرن الثامن عشر، ص11. دليل الآستانة، ص3. [8] ابن إياس: بدائع الزهور في وقائع الدهور، ج 4، ص201 - 203. أحمد فهد الشوابكة: حركة الجامعة الإسلامية، ص14. أحمد محمود الساداتي: تاريخ الدول الإسلامية بآسيا وحضارتها، ص255. محمد عبد المنعم الراقد: الغزو العثماني لمصر ونتائجه على الوطن العربي، ص123- 125. [9] عبد العزيز الشناوي: الدولة العثمانية، ج1، ص21. رأفت الشيخ: تاريخ العرب الحديث، ص31. [10] الصفصافي المرسي: قوافل الحج في الدولة العثمانية، قدسية الحرمين الشريفين، مركز البحوث والدراسات العربية الإسلامية، ص63 - 64. نوال الصيرفي: النفوذ البرتغالي في الخليج العربي، ص144 - 145. الشناوي، المرجع السابق، ج 4، ص698 -ـ 699. محمد أنيس، الدولة العثمانية والشرق العربي، ص128. [11] الشناوي، المرجع السابق، ج 2، ص928 - 929. ناصر سعيدوني: طبيعة الكتابات التاريخية حول الفترة العثمانية من تاريخ الجزائر، المجلة التاريخية المصرية، المجلد الخامس والعشرون، 1978م، ص149 - 150.[12] محمد فريد، تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص189. عبد العزيز نوار: تاريخ العراق الحديث من نهاية حكم داود باشا إلى نهاية مدحت باشا، ص5. أحمد الساداتي: المرجع السابق، ص152، 2255. الشناوي: المرجع السابق، ج 2، ص964 - 965. [13] الشناوي: المرجع السابق، ج 2، ص966. توينبي: المرجع السابق، ج 2، ص189. [14] محمد شفيق غربال: تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية، ج 1، ص20. الشناوي: المرجع السابق، ج 3، ص1325 - 1326. [15] عبد الحميد الثاني: مذكراتي السياسية، ص24 وما بعدها. سيد مصطفى: المرجع السابق، ص10. الشناوي: المرجع السابق، ج 2، ص975 - 979. |
#3
|
|||
|
|||
جزاك الله خيرا
نعم الخلافة العثمانية كانت خلافة إسلامية ، و لم تكن إستعمارا كما يدعون .
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
جزاكم الله خيرا واحسن الله اليكم
|
#5
|
||||
|
||||
الدولة العثمانية ما لها وما عليها
إسماعيل أحمد ياغي الدولة العثمانية .. الإيجابيات والسلبيات إيجابيات الحكم العثماني يجدر بنا أن نتناول إيجابيات الحكم العثماني، ثم سلبياته؛ إذ إن الدولة العثمانية لها جوانب إيجابية، وأخرى سلبية. ومن إيجابيات الحكم العثماني في البلاد الإسلامية: 1- توسيع رقعة الأرض الإسلامية، إذ فتح العثمانيون القسطنطينية، وتقدموا في أوروبا، مما عجز المسلمون من قبلهم منذ أيام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وساروا فيها شَوْطًا بعيدًا؛ حتى وقفوا على أبواب فيينا، وحاصروها أكثر من مرة دون جدوى. 2- الوقوف في وجه الصليبيين على مختلف الجبهات، فقد تقدموا في شرقي أوروبا؛ ليُخَفِّفوا الضغط عن المسلمين في الأندلس، كما انطلقوا إلى شمال البحر الأسود، ودعموا التتار ضد الصليبيين من الروس، هذا فضلاً عن التصدي للإسبان في البحر المتوسط، والبرتغاليين في شرق إفريقيا والخليج، ولم يُوَفَّقوا في حملاتهم؛ وذلك يرجع لعدم تكاتف المسلمين والتفافهم حولهم. 3- عمل العثمانيون على نشر الإسلام، وشجعوا على الدخول به، وقدَّموا الكثير في سبيل ذلك، وعملوا على نشر الإسلام في أوروبا، وعملوا على التأثير في المجتمعات التي يعيشون بينها. 4- أن دخول العثمانيين إلى بعض الأقطار الإسلامية قد حماها من بلاء الاستعمار الذي ابتليت به غيرُها، في حين أن المناطق التي لم يدخلوها قد وقعت فريسة للاستعمار، باستثناء دولة المغرب. 5- كانت الدولة العثمانية تمثل الأقطار الإسلامية، فهي مركز الخلافة؛ لذا كان المسلمون في كل مكان ينظرون إلى الخلافة العثمانية وإلى الخليفة نظرة احترام وتقدير، ويَعُدُّون أنفسهم من أتباعه ورعاياه، وبالتالي كانت نظرتهم إلى مركز الخلافة ومقرها المحبةَ والعَطْفَ، وكلما وجد المسلمون أنفسهم في ضائقة طلبوا الدعم من مركز الخلافة؛ كما كان الخلفاء. 6- وكانت الخلافة العثمانية تضم أكثر أجزاء البلاد الإسلامية؛ فهي تشمل البلاد العربية كلها باستثناء المغرب، إضافة إلى شرقي إفريقيا، وتشاد، وتركيا، وبلاد القفقاس، وبلاد التتار، وقبرص، وأوروبا، بحيث وصلت مساحتها حوالي 20 مليون كليو متر مربع. 7- كانت أوروبا تقابل العثمانيين على أنهم مسلمون لا بصفتهم أتراكًا، وتقف في وجههم بحقد صليبي، وترى فيهم أنهم قد أَحْيَوُا الروح الإسلامية القتالية من جديد، أو أنهم أثاروا الجهاد بعد أن خمد في النفوس مدة من الزمن، وترى فيهم مدًّا إسلاميًّا جديدًا بعد أن ضعف المسلمون ضعفًا جديًّا، وتنتظر أوروبا قليلاً لتدمرهم، والأتراك العثمانيون حالوا بينهم وبين المد الصليبي في الشرق والغرب الإسلامي، الأمر الذي جعل أوروبا تحقد على العثمانيين وتكرههم. 8- كانت للعثمانيين بعض الأعمال الجيدة تدل على صدق عاطفتهم وإخلاصهم، مثل عدم قبول النصارى مع الجيش، وإعفاء طلبة العلم الشرعي من الجندية الإلزامية، وكذلك إصدار المجلة الشرعية التي تضم فتاوى العلماء في القضايا كافَّةً، وكذلك احترام العلماء، وانقياد الخلفاء للشرع الشريف والجهاد به، وإكرام أهل القرآن، وخدمة الحرمين الشريفين، والمسجد الأقصى، والحرم الإبراهيمي. 9- وكان للعثمانيين دورهم في أوروبا إذ قضوا على نظام الإقطاع، وأَنْهَوْا مرحلة العبودية التي كانت تعيشها أوروبا؛ حيث يولد الفلاح عبدًا، وينشأ كذلك، ويقضي حياته في عُبوديته لسيده مالك الأرض [1]، واهتم السلاطين بتقديم الصدقات والعطايا للمواطنين. سلبيات الحكم العثماني ومن أهم سلبيات الخلافة العثمانية، والتي كان لها الأثر في إضعاف الحكم: 1- إهمال اللغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم، والحديث الشريف، وهما المصدر الرئيس للتشريع، وكان يجب الاهتمام بها وتعلمها من قِبَلِ سلاطين آل عثمان أكثر من اللغة التركية، وفي هذا جهل؛ لأن اللغة العربية لغة الإسلام، بالرغم من أن بعض السلاطين قد عمل على اهتمام المدارس باللغة العربية، واهتموا بالعلم الشرعي بشكل محدود، وكان على الخلفاء أن يتعلموا هم العربية، ويشجعوا عليها. 2- عدم الوعي الإسلامي الصحيح، إذ كان كثير من المسؤولين لا يعرفون من الإسلام سوى العبادات، لذا كانوا يحرصون عليها وعلى تأديتها، وهذا أدى إلى انتشار الطرق الصوفية، وضعف فكرة الجهاد، وعدم الإنتاج؛ مما أدى إلى ضعف الدولة. 3- كان العثمانيون يحرصون على تغيير الولاة باستمرار، وخاصة في أواخر عهدهم، وذلك خشية استغلال المنصب، أو الاستقلال بالولاية. 4- الحكم الوِرَاثِيّ الذي سار عليه العثمانيون غير مقبول من وجهة النظر الإسلامية، ولكن سبقهم الأمويون والعباسيون، كما كان بعض السلاطين يقومون ب*** إخوانهم؛ حتى لا يُنازِعوهم في السلطة، هذا علاوة على زواج بعض السلاطين من الأوروبيات، فيه إساءة للأمة. 5- كان العثمانيون يكتفون من البلاد المفتوحة بالخَرَاجِ، ويتركون السكان على وضعهم القائم من العقيدة واللغة والعادات؛ إذ يُهملون الدعوة والعمل على نشر الإسلام، وإظهار مزايا الإسلام؛ من المساواة، والعدل، والأمن، وانسجامه مع الفطرة البشرية. 6- ضَعْفُ الدولة العثمانية في أواخر عهدها جعل الدول الأوروبية تتآمر عليها، فأثاروا ضدها الحركات الانفصالية السياسية والدينية، كما استغل دعاة القومية والصهيونية هذا الضعف، مما جعلهم يقومون بحركات لتقويض هذه الدولة [2]. ومما يجدر ذكره أن الجوانب الإيجابية في الدولة كانت في مرحلة العصر العثماني الأولى، عصر القوة والتوسع، أما مراحلها الأخيرة للدولة العثمانية فتمثل الجوانب السلبية، وقت الضعف والتراجع والانهيار. المصدر: إسماعيل أحمد ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، الناشر: مكتبة العبيكان 1995م، ص255- 259. [1] محمود شاكر، "التاريخ الإسلامي"، العهد العثماني، بيروت 1986م، ص 26- 34. [2] محمود شاكر ، "العالم الإسلامي" ، العهد العثماني ص 36- 40. |
#6
|
|||
|
|||
بارك الله فيك
|
#7
|
||||
|
||||
وفيكم بارك وجزاكم الله خيرا
|
#8
|
||||
|
||||
خدمات الدولة العثمانية للإسلام والعروبة اسماعيل احمد باعى لا ريب أن الدولة العثمانية قد قامت بدَوْر هامٍّ وبارزٍ في نشر الإسلام في أوربا، رغم ما تعرضتْ له من تكتلات صليبية حاقدة ضد الإسلام والمسلمين، وتبادلت الدولة مع أعدائها الهزائم والانتصارات، إلا أنها قدمت خدمات جليلة للمسلمين والعرب، وقامت بحماية الشرق العربي والإسلامي من الغزو الاستعماري لمدة ثلاثة قرون. ولعل من أهم ما قامت به في هذا المجال: أولاً: حماية الأماكن المقدسة الإسلامية من مخططات الصليبية البرتغالية أعظمَ خدمة أسدتها الدولة العثمانية للإسلام، أنها وقفت في وجه الزحف الصليبيّ الاستعماريّ البرتغاليّ للبحر الأحمر، والأماكن المقدسة الإسلامية، في أوائل القرن السادسَ عَشَرَ الميلادي، فعلى الرغم من أن الدولة أخفقت في طرد الاستعمار البرتغالي من مراكزه في المحيط الهندي ومنطقة الخليج العربي، إلا أنها نجحت في منع تغلغله إلى الحجاز، حيث كان البرتغاليون يعتزمون تنفيذ مخطط صليبي فظٍّ في قسوته ووحشيته، وهو دخول البحر الأحمر واجتياح إقليم الحجاز باحتلال ميناء جدة، ثم الزحف على مكة المكرمة، واقتحام المسجد الحرام، وهدم الكعبة المشرَّفة، ثم موالاة الزحف منها على المدينة المنورة؛ لنَبْش قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم استئناف الزحف على تبوك، ومنها إلى بيت المقدس، والاستيلاء على المسجد الأقصى؛ وبذلك تقع هذه المساجد الثلاثة في أيدي البرتغاليين [1]، وكان الأسطول البرتغاليّ قد نجح في دخول البحر الأحمر، وقام بمحاولتين لاحتلال ميناء جدة، كانت الأولى في عام (923هـ / 1517م)، والثانية في عام (926هـ / 1520م)؛ ولكنه أخفق في محاولتيه؛ فأرسل البرتغاليون حملة كبرى إلى ميناء السويس باعتباره قاعدةَ الأسطول العثماني في البحر الأحمر، واستهدفوا تدميره هذه القاعدة، ولما بلغوا الطُّور علموا أن الأسطول العثماني يقف في حالة تأهب، وارتدوا على أعقابهم دون أن يلتحموا به [2]. وقررتِ الدولة اتخاذ اليمن قاعدةً حربية للدفاع عن البحر الأحمر، ومنع السفن البرتغالية من دخوله، ثم عمَّمت هذا المنْع على جميع السفن المسيحيَّة، بحيث كان على هذه السفن أن تفرغ شحناتها في ميناء "المخا" في اليمن، وتعود أَدْرَاجَهَا إلى المحيط الهندي، وكانت حجة الدولة العثمانية في هذا المنع هي أن الأماكن الإسلامية المقدسة في الحجاز تُطِلُّ على مياه البحر الأحمر، ويجب ألا تُدَنِّسَ مياهه بوجود سفن مسيحية تَمْخُر عَباب هذا البحر، وقد ظل هذا الحظر معمولاً به حتى القرن الثامن عشر [3]. وجدير بالذِّكر أن المشروع البرتغالي الصليبي لم يكن الأوَّلَ من نَوْعه، فقد حدث في أثناء الحروب الصليبية في الشرق العربي أن تجرأ أحد أمراء الصليبيين واسمه أرناط، وكان صاحب حصن الكرك، وقام بمشروع خطير سنة (578 هـ، 1182م) لغزو الحرمين الشريفين، فبنى عدة سفن حملت أجزاؤها مفكَّكَةً على ظهور الجمال، حتى "إيله" (العقبة) على خليج العقبة، وأعيد تركيبها، ثم قامت بهجوم على ساحل الحَوْراء قرب ينبع، وأغار الصليبيون على القوافل وأصبحوا على مسيرة يوم واحد من المدينة المنورة، واعتزموا الزحف عليها، ونَبْش قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وإخراج جسده الطاهر ونقله إلى بلادهم، غير أن العالم الإسلامي في الشرق وقتذاك كانت تجمعه وَحْدَةٌ سياسية قويَّة على رأسها صلاح الدين الأيوبي، ووجب على مصر حماية الأماكن المقدسة في الحجاز، فما كادت تصل إليه -وهو في الشام- هذه الأخبار، حتى عهد إلى نائبة في مصر العادل سيف الدين بتجهيز قائد الأسطول الأمير حسام الدين لؤلؤ، وتعقب هؤلاء الصليبين في الحجاز، وعمل على إبادتهم أو أَسْرِهم، وأصرَّ صلاح الدين ب*** الأسرى؛ ليكونوا عبرة لكل من يتجرأ على الاعتداء على حَرَم الله وحَرَم رسوله [4]. ثانيًا: الدولة العثمانية تحافظ على إسلام وعروبة شمالي إفريقيا من الخدمات الجليلة التي قدمتها الدولة العثمانية للإسلام والعروبة أنها حافظت على إسلام وعروبة سكان شمالي إفريقيا من أخطار الغزو الصليبي الاستعماري الأوروبيّ، الذي حملت لواءه البرتغال وإسبانيا، والمنظمة الصليبية المعروفة باسم فرسان القديس يوحنا، والتي اتخذت من جزيرة مالطة مستقرًّا ومقامًا، وكان من أهداف هذا الغزو أيضًا إنشاء ممالكَ مسيحيةٍ تتناثر على الساحل الشمالي لإفريقيا كمرحلة ثالثة، وبذلك يغدو البحر المتوسط في المدى البعيد بُحيرة مسيحية أوروبية، ويعقب ذلك تغلغل صليبي أوروبي جنوبًا في داخل القارة الإفريقية، ولكن تصدت الدولة العثمانية لهذه المشروعات الصليبية الاستعمارية، فأصبحت أحلامًا، وغدت هباءً منبثًّا. بسطت الدولة العثمانية سيادتها على ثلاثة أقاليمَ في شمالي إفريقيا في القرن السادس عشر، وكانت حَسَبَ ترتيب دخولها تحت السيادة العثمانية، الجزائر وطرابلس وتونس، ولم تمد الدولة نفوذها إلى مراكشَ لرفض الأسرة السعْدِيَّة التي تنتمي إلى سلالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدخول في تَبَعِيَّة الحكم العثماني. وكان سكان تلك الأقاليم، وبخاصة الجزائر وطرابلس، قد استنجدوا بالدولة العثمانية على أساس أنها أكبر وأقوى دولة إسلامية اكتسحت دُولاً أوروبية عديدة، وفتحت مصرَ والشرق العربي الآسيوي، وطالبَ سكان شمال إفريقيا بإنقاذهم من الزحف الصليبي الاستعماري، الذي كان خطره يتفاقم يومًا بعد يوم، واستجابت الدولة لاستغاثاتهم. ولذلك لم يكن دخول العثمانيين إلى شمالي إفريقيا نتيجةَ معاركَ حربيةٍ خاضتها القوات المسلحة العثمانية ضد أهالي البلاد، أو تدخُّل مباشر من حكومة إستانبول، على غرار ما حدث في الشام أو مصرَ أو العراق؛ ولكنهم فتحوها مُنْقذين للسكان من أخطار القضاء على دينهم، وطَمْس عروبتهم، وتحويل بلادهم إلى جزء من العالم المسيحي. أما تونس فكان الوضع فيها يختلف، حيث اشتد الصراع عليها بين الدولة العثمانية والإمبراطورية المقدسة، وتبادلت الدولتان الهزيمة والانتصار أكثر من مرة، حتى عادت تونس للحكم العثماني عام (982 هـ / 1574م) واستقر الحكم العثماني فيها، وتأسست النيابة الثالثة والأخيرة في شمالي إفريقيا [5]. ثالثًا: الدولة العثمانية وإيجاد وحدة طبيعية بين الولايات العربية أوجدت الدولة العثمانية وحدة بين الولايات العربية التي دخلت تحت سيادتها، فاحتفظت هذه الولايات بمقوماتها الأساسية: • الدين الإسلامي. • واللغة العربية. • والثقافة العربية الإسلامية. • والتقاليد والعادات الموروثة عبر العصور. وكان سكانها تجمعهم دولة إسلامية واحدة، هي الدولة العثمانية، وتضمهم رعوية واحدة بصفتهم رعايا عثمانيين، ويشتركون في تبعيتهم لحاكم واحد، هو السلطان العثماني، ولم تلجأ الدولة العثمانية إلى إقامة حدود مغلقة بين الولايات العربية، أو حواجزَ مصطنعةٍ بين سكانها، فكانت حرية الانتقال والسفر أمامهم مكفولةً ومحترمةً في جميع الأوقات، وكانت فرص العمل متاحةً لهم في كل الأوقات، وكان في مقدور العربي في دمشق مثلاً أن ينتقل إلى بغداد، أو مكة المكرمة، أو المدينة المنورة، أو القاهرة، أو القيروان أو غيرها من مدن الولايات العربية، ويعيش فيها ويمارس ألوانًا من النشاط الاقتصادي أو الثقافي، دون أن يحصل على إذن بالخروج أو الإقامة، وكانت هذه هي أوَّلَ وَحْدَةٍ تتحقق للعالم العربي إبان الحكم العثماني، بعد تفتُّت وَحْدَتُهُ بسقوط الدولة العباسية في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي عقب غزو المغول، وتخريب مدينة بغداد، وانسياحهم في وادي الرافدين، ثم شمالي بلاد الشام إلى جنوب فِلَسطين؛ ولذلك يرى عدد من المؤرخين والباحثين أن الوَحْدَة التي تمت على أيدي العثمانين تعتبر نقطةَ البداية في تاريخ العرب الحديث [6]. وفضلاً عن تلك التَّبَعِيَّة السياسية، كانت وشيجةُ الدين تربط سكان الولايات العربية بالسلطان العثماني، باستثناء أهل الذمة، وكانوا قلة عددية يعيشون على هامش المجتمعات الإسلامية في الولايات العربية [7]. وكانت وشيجة الدين من أقوى الوشائج التي ربطت الجماهير العربية بالدولة العثمانية، فأخلصوا لها واشتركوا في حروبها ضد التكتلات الصليبية التي واجهتها، وكان يزداد ولاؤهم لها، والتصاقهم بها إذا تعرضت الدولة لهزيمة عسكرية من دولة أوروبية، وكان الدين يعمل في تلك العصور في تقرير الأوضاع السياسية، والحربية لشعوب الولايات العربية [8]. ولعل خير مثال للترابط الديني بين سكان الولايات العربية إبَّان الحكم العثماني، ما حدث في مصر عندما نزلت الحملة الفرنسية أرض مصر عام (1213هـ / 1798م) بقيادة نابليون بونابرت، وكانت هذه الحملة هي أوَّلَ غزو عسكري مسيحي أوروبي لولاية عربية من ولايات الدولة العثمانية في الشرق الإسلامي في التاريخ الحديث، وقد أعلن السلطان سليم الثالث (1204 – 1224 هـ/ 1789 – 1807م) الجهاد الديني ضد الفرنسيين، واستجاب لدعوة الجهاد الدينيّ عربُ الحجاز والشام وشمالي إفريقيا، وقد صمموا على الظفر بإحدى الحُسْنَيَيْنِ، الاستشهادِ أوِ الانتصارِ، واتخذوا شعارًا لهم الآية الكريمة: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[9]. وهكذا فإن سكان الولايات العربية لم ينظروا إلى السلطان العثماني على أنه سلطان المسلمين فَحَسْبُ؛ بل نظروا إليه أيضًا على أنه خليفة المسلمين، يستظلون بظل خِلافته، وكانت السمةُ البارزة في تاريخ الولايات العربية وقتذاك أنها كانت مجتمعاتٍ دينيةً إسلاميةً، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، ولم ينظر العرب للدولة العثمانية على أنها دولة أجنبية، ولم ينظروا إلى الحكم العثماني على أنه استعمار، وظلت هذه الفكرة السياسية الدينية مسيطرةً على أذهان الغالبية العظمى من الشعب العربي إلى أوائل القرن العشرين، ولم تتدخل الدولة في شؤون الحكم إلا في نطاق ضئيل، وبقدر يسير، فاعتبرت نفسها مسؤولة عن حماية الولايات العربية، وتوفير الأمن فيها، وإقامة الشعائر الدينية، والحفاظ على مبادئ الشريعة الإسلامية، وتنظيم وحماية قوافل الحج إلى إقليم الحجاز، والإشراف على القضاء، وجمع الضرائب بواسطة شيوخ الطوائف على هذه المجالات في الولايات العربية، وتركت سكانها يعيشون على النحو الذي كانوا يألفون [10]. إن الوَحْدَةَ التي قامت بين الولايات العربية إبَّان الحكم العثماني، تبدو أكثر إشراقًا، إذا قورنت بالتفتيت السياسي الذي اصطنعته الدول الأوروبية الاستعمارية عقب استيلائها على معظم هذه البلاد، تحت اسم الاحتلال أو الانتداب أو الحماية من قبل عُصبة الأُمم، أو مناطق النفوذ [11]. وهكذا عملت بريطانيا على تفرقة وتجزئة الشعب العربي في الشرق العربي الآسيوي، ففصلت بريطانيا شرقي الأردن عن فلسطين، وفصلت شرقيَّ الأردن وفلسطين عن سوريا، وفرقت بين سوريا والعراق. ونهجت فرنسا نَهْج بريطانيا في تفتيت سوريا ولبنان. أما مصر وشمالي إفريقيا، فقد أبقى الاستعمار على التفتيت السياسي الذي كان قائمًا بينها قبل الحرب العالمية الأولى تحت الاستعمار البريطاني والإيطالي والفرنسي والإسباني، وظهرت الخلافات والأطماع الشخصية بين رؤساء وقادة العرب؛ مما عرقل سيرة الاستقلال والوحدة العربية [12]. رابعًا: إبعاد الزحف الاستعماري عن الوطن العربي ظلت الولايات العربية زهاء فترة تراوحت بين ثلاثة وأربعة قرون، من القرن السادس عشر إلى أوائل القرن العشرين، بمنأى عن الزحف الأوروبي الاستعماري عليها ما بقيت الدولة العثمانية قويةً، مَهِيبَةَ الجانب، فلما دخلت الدولة في دور الاضمحلال، وتبين للدول الأوروبية أن الدولة العثمانية عاجزة عن التصدي للدول الاستعمارية؛ تعرض العالم العربي للغزو الأوروبي النصرانيّ الاستعماريّ، كما تعرضت أقاليمُ أخرى، إسلاميةٌ وغير إسلامية، في قارات آسيا وإفريقيا وأستراليا. وكانت فرنسا من أسبق الدول الأوربية في الزحف والسيطرة على الأقاليم العربية، فنجحت في احتلال نيابة الجزائر عام (1246 هـ / 1830م)، ولا شك أن من أهم العوامل التي شجعت فرنسا على احتلال الجزائر أن الدولة العثمانية كانت قد فقدت أسطولها في معركة نفارين البحرية (20 أكتوبر 1827 / 1243هـ)، ولما كان اقتطاع فرنسا للجزائر بصفة الأخيرة إقليمًا إسلاميًّا عربيًّا من أقاليم الدولة العثمانية ـ: سابقةً خطيرة، قد تحتذيها دولة استعمارية أخرى تجاه الوطن العربي، لم تستسلم الدولة العثمانية لانتزاع الجزائر منها [13]. حاولت الدولة العثمانية بالطرق الدبلوماسية استرداد الجزائر، وبذلت مساعيَ مكثفةً لدى بريطانيا والنمسا وروسيا، ولدى فرنسا أيضًا، تؤكد حقها في بقاء هذا الإقليم في إطار الدولة، تأسيسًا على أن السيادة العثمانية عليه معترَفٌ بها من المجموعة الدولية، وأن الجزائريين هم رعايا السلطان، ولم تجد الدولة العثمانية تأييدًا من بريطانيا؛ لوقوع أحداث هامة في أوروبا شغلت بريطانيا عن كل شيء. وهكذا فشلت الدولة العثمانية في اتصالاتها مع الدول الأوروبية، وحاولت استخدام القوة لاسترداد الجزائر، إلا أنها عَدَلَتْ عن ذلك بسبب عدم تمكنها من شن حرب على فرنسا؛ لضعف الأسطول العثماني، والجيش العثماني كذلك. وأدى ذلك إلى قيام حرب باردة بين الجزائر والدولة العثمانية، ونجحت الدولة العثمانية في إنهاء حكم القرمانليين في طرابلس عام (1251 هـ / 1835م)، وإعادة هذه النيابة إلى الحكم العثماني، واستغلت الدولة هذا الوضع الجديد، فتظاهرت بإرسال قوات برية من الأناضول إلى طرابلس، ومنها إلى الجزائر عبر تونس، ولكن فرنسا هددت الدولة العثمانية بإرسال أسطولها، وخشي الأسطول العثماني من الاحتكاك بالأسطول الفرنسي، فغادر طرابلس إلى مالطة، ثم إلى إستانبول، وبذلك قنعت الدولة العثمانية بهذه الحرب الباردة، والتي انتهت عند هذا الحد [14]. وبعد الاحتلال الفرنسي للجزائر عام (1246 هـ /1830م) توقف الزحف الأوروبي الاستعماري على الولايات العربية مدة ناهزت الخمسين عامًا؛ بسبب اشتداد حدة التنافس بين الدول الأوروبية على تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية، وتوزيعها أسلابًا فيما بينها، وما صحب هذا التنافس من حروب ومؤتمرات ومعاهدات، ازدحم بها تاريخ الدولة العثمانية في القرن التاسعَ عَشَرَ ومطلعِ القرن العشرين، وانتهجت هذه الدولة سياسة التعويض، وسياسة المصالحة على حساب الدولة العثمانية في مؤتمر برلين عام (1295 هـ / 1878م)، وبسطت فرنسا حمايتها على تونس عام (1299 هـ / 1881م)، واحتلت بريطانيا مصر عام (1300 هـ / 1882م)، وكان قد سَبَقَ فَرْضَ الحماية والاحتلال على هذين البلدين العربيين الإسلاميين، انتهاجُ سياسة التغلغل السِّلْمِيّ، عن طريق تقديم قروض أوروبية ضخمة، بحيث عجزتا عن سداد القروض وفوائدها؛ مما أدى إلى التدخل في الشؤون المالية، وبعد ذلك في الشؤون السياسية، وانتهت بالغزو العسكري [15]. واشتركت بريطانيا مع مصر في حملة مشتركة عام (1314 هـ / 1896م)، لاسترداد السودان، واتخذت من هذا الاشتراك ذريعة لإقامة حكم ثنائي بريطاني مصري في السودان عام (1317 هـ/ 1899م)، وكان هذا الحكم الثنائي في لحمته وسداه فصلاً فعليًّا بين شطري الوادي، واستئثارًا من بريطانيا بالانفراد في حكم السودان [16]، وما لبثت بريطانيا أن عصفت بالمظهر الشكلي لهذا الحكم الثنائي. ثم احتلت إيطاليا طرابلس وبَرْقَةَ في عام (1330هـ/ 1911م). وفي مطلع الحرب العالمية الأولى احتلت القوات البريطانية البصرة في العراق، واستمرت القوات البريطانية تواصل زحفها في العراق وقتالها، حتى تمكنت من احتلال العراق احتلالاً كاملاً عام (1337 هـ / 1918م). وبانتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، تقاسمت الدول الغربية ما تبقى من أقاليم عربية بموجب قرارات مؤتمر الصلح (1338 هـ / 1919م)، ومؤتمر سان ريمو (1339 هـ / 1920)؛ فسيطرت بريطانيا على العراق وفلسطين وشرق الأردن، كما سيطرت فرنسا على سوريا ولبنان في شكل انتداب، وغدت هذه الأقاليمُ تحت الحكم الأجنبي بقرارات تصدر من لندن وباريس وروما [17]. خامسًا: الدولة تضفي الهدوء والاستقرار على الولايات العربية أضفت الدولة العثمانية على ولاياتها العربية نوعًا من الهدوء والاستقرار السياسي، وكانت بلاد الشام والعراق تعانيان الكثير من المتاعب، والفوضى، والتخريب من آثار غزوات المغول المدمرة، والتي نجحت مصر في صدها عندما أوقعت بالمغول هزيمة حاسمة في معركة "عين جالوت"، شتتت شملهم، وأنقذت أقاليم الشرق والمغرب العربي من شرورهم. خضع السكان في الولايات العربية للحكم العثماني، وقد كان العثمانيون مسلمين مثلَهم، ويعتنقون مذهب السُّنة مثلهم، ويحرصون على تطبيق مبادئ الشرعية الإسلامية، ويحافظون على الشعائر الدينية؛ مثل الاحتفال برؤية الهلال لشهر رمضان وغيرها، ولم تضيق السلطات العثمانية عليهم، كما أنها لم تتدخل في شؤونهم إلا في نطاق محدود؛ مثل جَمْع الضرائب، والإشراف على القضاء، وتوفير الأمن، وتركت للشعب العربي شؤون التعليم، والصحة، والمواصلات، والتي تعتبر في الوقت الحاضر من صميم واجبات الحكومات، وعلى العموم، فقد تركت السلطات العثمانية الجماهير العربية تحيا على النحو الذي أَلِفَتْهُ من قبل، دون تغيير جوهري مسَّ حياتهم. ومع ذلك تعرضت بعض الولايات العربية لهزات سياسية وسط الهدوء الذي كانت تعيش في ظلاله الوارفة، وكان يجتاح الولايات العربية من وقت إلى آخر نوعان من الاضطرابات: أولاهما: انتفاضات شعبية، وكان يقوم بها سكان حي أو مدينة ضد الحكام المحليين؛ احتجاجًا على ظلم حكامهم، ورفع شكواهم للسلطان العثماني. ثانيهما: حركات سياسية وعسكرية، يقوم بها أفراد طَمُوحون؛ مثل حركة علي بك الكبير، وحركة ظاهر العمر، والتي لم تلقَ استجابة واستحسانًا من الجماهير [18]. سادسًا: الدولة تمنع انتشار المذهب الشيعي إلى ولايتها العربية من المعروف أن المذهب الرسمي للدولة العثمانية كان المذهب السُّني، واعتبرت الدولة العثمانية نفسها حامية لهذا المذهب، وتأسيسًا على هذه الحقيقة فإنها منعت انتشار المذهب الشيعيّ إلى ولاياتها العربية في آسيا وإفريقيا باستثناء العراق، الذي كانت الدولة الصفوية قد نشرت المذهب الشيعيّ فيه قبل الدولة العثمانية، بحيث أصبح أهل السُّنة وأهل الشيعة قوتين متوازيتينِ تقريبًا من حيث تَعْدَادُهم، وقد أبقت الدولة العثمانية على هذا الوضع، وذهبت إلى أبعدَ من ذلك فاحترمت مشاعر أهل الشيعة، واهتمت بتعمير مناطق العتبات المقدسة في النجف وكربلاء في العراق، ويسَّرت زيارتها أمام شيعة العراق وفارس والهند وأفغانستان، ولذلك فإن أهل السنة ينظرون إلى الدولة العثمانية على أنها قدمت خدمة جليلة بحصر المذهب الشيعيّ في فارس، بحيث لم تسمح بتَسَرُّبه إلى الأقاليم العربية التي دخلت تحت السيادة العثمانية، ولا تزال إيران هي المعقل الأول للشيعة في العالم الإسلامي [19]. سابعًا: الدولة العثمانية تمنع اليهود من استيطان سيناء لما فتح السلطان سليم الأول مصر عام (923 هـ / 1517م) أصدر فرمانًا بمنع اليهود من الهجرة إلى سيناء، وواضحٌ من صدور هذا المرسوم بأن اليهود كانوا يريدون الهجرة إلى هذا الإقليم المصري واستيطانه، على أساس أنه يضم الوادي المقدس طُوى، الذي كلم الله سبحانه وتعالى فيه موسى عليه السلام تكليمًا، ومن ثَمَّ أصدر السلطان سليم الأول الفَرَمانَ الذي سدَّ الطريق في وجوه اليهود، ولما تولي ابنه سليمان المشرع (القانوني) عرش الدولة عام (926 هـ / 1520م) أصدر فَرَمانًا لاحقًا، أكد فيه ما جاء في الفرمان السابق، مما يدل على أن الخطر اليهودي كان لا يزال ماثلاً من حيث رغبتُهم في استيطان سيناء، واستعمارهم لها، الأمر الذي كان يقلق الدولة العثمانية، واستطال حكم سليمان القانوني زهاء ستة وأربعين عامًا (927 – 974 هـ / 1520 – 1566م)، ولم يجرؤِ اليهود على تنفيذ ما كانوا يبيِّتون. فلما جاز إلى ربه جاء بعده ابنه السلطان سليم الثاني، وكان منحرفًا خُلُقيًّا (933 – 982 / 1526 – 1574)، ومنذ حُكْمه بدأت النُّذُر الأولى لاضمحلال الدولة، وخَلَفَهُ سلاطينُ على شاكلته، وكان أولهم مراد الثالث (982 – 1005 هـ /1574 – 1596)، وتنفس اليهود الصعداء، وأدركوا أن الفرصة سانحة لهم لتحقيق حُلْمٍ راودهم طويلاً، فنَزَحوا في هجرات متقطعة على فترات متقاربة إلى سيناء لاستيطانها، وتركزت إقامتهم في مدينة الطور؛ ليسهل على اليهود إيجاد اتصالات خارجية عن طريق ميناء المدينة، بحيث يتمكن اليهود من الهجرة والقدوم إلى سيناء من بلدان مجاورة [20]. وقد تزعم حركة التهجير رجل يهودي يدعى إبراهام، استوطن الطور مع أفراد أسرته وأولاده، وكان من المحتمل أن تمر سنوات دون أن تدري بهم السلطات العثمانية، لولا أنهم تعرضوا بالأذى لرهبان دير سانت كاترين؛ مما حمل الأخيرين على إرسال شكاوى مكتوبة، كلها تؤكد على عدم أحقية اليهود للسكن في هذه المنطقة، وإيذاء رهبان الدير بأي حال من الأحوال، وصدرت أوامر الدولة العثمانية بطرد اليهود من دير سانت كاترين، ومنعهم من العودة إليه مستقبلاً، وهذا يدل على حرص الدولة العثمانية على منع اليهود من استيطان سيناء، وإشعارهم بقوة الدولة العثمانية ويَقَظَتِها لأهدافهم [21]. وعندما احتلت بريطانيا مصر عام (1300 هـ / 1882م)، عاود اليهود مطالبهم في سيناء، بعد أن رفض السلطان عبد الحميد الثاني فتح أبواب الهجرة أمامهم إلى فلسطين، وكان تيودور هرتزل زعيم المنظمة الصهيونية العالمية قد أطلق على سيناء اسمًا مُعَبِّرًا هو فلسطين المصرية؛ ليتخذ منها في المستقبل نقطة وثوب إلى فلسطين الآسيوية (فلسطين الحالية)، ولذلك دخل هرتزل في مفاوضات عام (1316 هـ / 1898م) مع بعض أعضاء الوزارة البريطانية، وبخاصة جوزيف تشمبرلين وزير المستعمرات، ولورد لانزدون وزير الخارجية، من أجل توطين اليهود في سيناء على أساس إقامة دولة يهودية فيها، تتمتع بالحكم الذاتي في نطاق الإمبراطورية البريطانية، ووافق الوزيران على الاقتراح؛ لأنه يحقق لبريطانيا أهدافًا استراتيجية؛ منها: ضمان حماية شرقي قناة السويس، وعزل مصر عن الولايات العربية في غربي آسيا، وإضعاف الدولة العثمانية، وإقامة دولة موالية لبريطانيا؛ غير أن هذا المشروع بعد بحثه فشل بسبب معارضة السلطان عبد الحميد الثاني له أولاً، وبسبب معارضة اللورد كرومر حاكم مصر، ومعتمَد بريطانيًا لدى مصر، وتوقف بحث مشروع استيطان اليهود في سيناء [22]. ثامنًا: الدولة تحد من هجرة اليهود إلى فلسطين تطلَّع اليهود على مر العصور التاريخية إلى فلسطين؛ كإقليم يجمع شتاتهم، ويُنشئون فيه دولة، متذرِّعِين بادعاءات دينية وتاريخية؛ فقد أسس اليهود الحركة الصهيونية، ونجحت في استقطاب الدول الكبرى وتأييدها، وكان على الدولة العثمانية أن تخوض -دفاعًا عن فلسطين- صراعًا سياسيًّا مريرًا ضد القوى الصهيونية، والدول الأوروبية المناصرة، ونجح الصهاينة في توقيت حركتهم ونجاحها نجاحًا باهرًا، فاختاروا فترة عصيبة من فترات الاضمحلال التي كانت تمر بها الدولة العثمانية، ولكن الدولة العثمانية عملت في حدود إمكانياتها على الحدِّ من الهجرة إلى فلسطين، وقاومت بذلك الحركة الصهيونية، وقد رفض السلطان عبد الحميد الإغراءات الصهيونية التي عرضها عليها هرتزل، رغم الضائقة المالية التي تمر بها الدولة العثمانية، وبذلك حافظ على عروبة وإسلامية فلسطين [23]. المصدر: إسماعيل أحمد ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، الناشر: مكتبة العبيكان 1995م، ص235- 249. [1] عبد العزيز الشناوي، "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها"، جـ 2 ، القاهرة 1980، ص 862. [2] نفس المرجع، ص 862 – 863. [3] نفس المرجع، ص 862 – 863. [4] عبد العزيز الشناوي: "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها"، جـ 2 ، ص 863. [5] د . محمد أنيس، "الدولة العثمانية والشرق العربي"، القاهرة 1977، ص 45 – 46. [6] عبد العزيز الشناوي، "الدولة العثمانية ..." مرجع سبق ذكره، جـ 2، ص 936. [7] يرى الدكتور أنيس الصايغ أن العلاقات بين الأكثرية المسلمة السُّنية في الولايات العربية، والأقليات المذهبية والعنصرية فيها قد خلقتْ مشكلة شائكة ومزمنة بشكل عام، وقد أسهمت بريطانيا وفرنسا في توسيع شُقَّة الخلاف بين الأكثرية والأقلية، وشجعت الأقلية على عدم الاختلاط والاندماج، ونتج عن ذلك انكماش من الأقليات، وانقلابها على نفسها، مما عزلها عن الأكثرية. أنيس الصايغ، "الهاشميون وقضية فلسطين"، بيروت 1966، ص 95. [8] المرجع السابق. [9] [التوبة: 41]. [10] عبد العزيز الشناوي، "الوحدة العربية في التاريخ الحديث والمعاصر"، القاهرة 1975، ص 8 وانظر كذلك: الجبرتي "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، القاهرة 1980، ج3، ص 88 ص 107. [11] عبد العزيز الشناوي، "الدولة العثمانية ..." ص 946 – 947. [12] أنيس الصايغ، "الهاشميون ، وقضية فلسطين"، بيروت 1966، ص 93 – 94. [13] د/ محمد أنيس، "الدولة العثمانية والشرق العربي"، ص 88 – 89. [14] د. عبد العزيز الشناوي "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها"، ص 953 – 958. [15] د/ عبد العزيز الشناوي، المرجع السابق ص 958 – 959. [16] د/ محمد فؤاد شكري، "مصر والسودان"، دار المعارف بمصر 1958، ص 473 – 518. [17] دكتور محمد بديع شريف وآخرون، "دراسات تاريخية في النهضة العربية الحديثة"، القاهرة 1963، ص 269 – 275. [18] د/ عبدالعزيز الشناوي، المرجع السابق، ص 961 – 963. [19] د/ عبد العزيز الشناوي، المرجع السابق، جـ 2 ص 964 – 966. [20] نفس المرجع ص 966. [21] د/ أنيس صايغ، "الهاشميون وقضية فلسطين"، بيروت 1966، ص 22. [22] Stein Leonard. The Balfour DeclarationLondon1967, PP. 26 - 93 [23] "مذكرات هرتزل"، ص 275. |
#9
|
|||
|
|||
مجهود مشكور بارك الله لك
|
العلامات المرجعية |
|
|