مقدمة: لقد تمكن العلم من تحقيق تقدم ملموس واسع خلال الخمسين سنة الماضية، خصوصًا في مجال المعالجة الكيميائية والهرمونات. كان مريض البول السكري قبل 70 عامًا محكومًا عليه بالإعدام؛ إذْ كان شِفاؤُه مَيْئُوسًا منه، فهو إذًا مرضٌ قاتل؛ ولكن اكتشاف الأنسولين والأدوية الأخرى الَّتي تخفض من مستوى السكر في الدم، أحدثت تغييرًا دراميًّا في مسيرة البشرية، فأصبح مريض البول السكري مفعمًا بالأمل؛ لأنَّه صار بإمكانه أن يحيا حياة عادية.
وقبل اكتشاف المضادات الحيوية كان المريض المصاب بالنيمونيا والتهاب الرئتين يحتاج فترة لا تقل عن ثمانية أسابيع في المستشفى، هذا إذا نجا من الموت. أمَّا الآن فإنَّ معدَّل بقائِه في المستشفى لا يتجاوز سِتَّة أيام، كما أنَّ نسبة الوفيَات انخفضت من 35 % إلى 5 %، وقد حدث تقدّم ملموس في معالجة مرض السرطان، واكتشاف العديد من الأدوية الجديدة؛ فارتفعت نسبة الشفاء، فبينما كان مريض فقر الدم الخبيث لا أمل يرجى منه، ارتفعت الآن نسبة الشفاء منه بشكل ملحوظ.
إن أكثر من 80 % من المستحضرات الطبية التي كانت معروفة قبل ثلاثين عامًا قد اندثرت وخرجت من نطاق الطبابة والمعالجة، وليس لها وجود الآن في الصيدليات أو الأسواق؛ وذلك أنَّ البحث المتواصل، والتصنيع المستمر هما من سمات العصر، ومن أساسيات الصناعة الصيدلية المتفجّرة. لقد حدث في عام 1828 حادث مغمور، كان من نتيجتِه فتح الأبواب على مصاريعها أمام تقدم الكيمياء العضوية، فقد كان الاعتقاد السائد أنَّ الكائنات الحيَّة هي وحدها القادرة على إنتاج الموادّ العضوية والكربونيَّة؛ ولكن تمكَّن العالم الألماني "وهلر" (Wuhler ) من إثبات عكس ذلك بتحضيره مادة اليوريا في مختَبَرِه، ومعروف أنَّ المادَّة مادة عضوية، يصنعها الجسم بشكل طبيعي، وكان من نتيجة ذلك أن قامَ العُلماءُ بِتَخْلِيق أكثر من مليوني مستحضر كيماوي جديد، هي من صنع الإنسان؛ وليست موجودة في الطبيعة أصلاً.
بعد ذلك الحادث بِحَوالي 82 عامًا تمكن العالم الدكتور الألماني إيرليخ من تخليق مادة الأرسفنابين كأوَّل مادَّة قاتلة للجراثيم، ولكنه لم يصل إلى هدفه إلا بعد أن جرب 605 مستحضرات قبل ذلك، وعثر على ضالته المنشودة في المحاولة رقم (606). يقدر عدد المواد الكيميائية التي تحضر سنويًّا بما لا يقل عن 40.500 مادة؛ وذلك من أجل إيجاد أدوية جديدة نافعة للإنسان، وذات تأثير فعال مفيد، وخالية من الأضرار الجانبية، كما طرق العلماء باب العلوم الجرثومية، وحضروا أدوية جديدة من هذه الكائنات الحية الصغيرة؛ بدءًا بالبنسلين عام 1928، والآن يوجد تحت تصرف الأطباء والصيادلة آلاف من هذه الأدوية المضادة الحيوية، كما تمكن الإنسان من تحضير فئة دوائية أخرى من دم الحيوانات منها الخيول، حضروا الأمصال، واللقاحات الوقائية التي ساعدت الإنسان على القضاء على الأوبئة والأمراض المعدية ووقايته منها.
ومن أهم المصادر الدوائية بالطبع المملكة النباتية ويكفي أن نذكر - كمثال على ذلك - نبات عين القط، وعلاقته بشفاء السرطان، وكذلك نبات قفاز الثعلب، وفضله على مرضى القلب، ونبات الروالفيا الثعبانية، والاستفادة منه في معالجة مرض ضغط الدم المرتفع، وست الحسن، والخشخاش، والسنكونا، والكوراري، والديسكورا، وغير ذلك كثير.
أهمية الأبحاث الدوائية: إن التَّقدّم الدَّوائِي الَّذي وصلتْ إِلَيْهِ الإنسانيَّة لم يبدأ من الصفر، والحقيقة الناصعة هي أنَّ بداية التقدّم الدَّوائِي قد انطلقت منذ أن اقتبست بلدان أوروبا مختلف علوم العرب، خلال القرون الوسطى. وقد سبق أن أشرنا إلى الشواهد التي تدل على فضل العرب في هذا المجال، وقد استند علماء الغرب على كتب العرب الرائدة ومؤلفاتهم أمثال: "الحاوي" للرازي، و"القانون" لابن سينا، وكتاب "الجامع لِلمُفْردات" لابْنِ البَيْطَار في الأعشاب الطبيعية، واكتشافات ابن النفيس، وابن الهيثم، والزهراوي، وغيرهم.
فمنذ مطلع القرن العشرين نجحت جهود علماء الغرب في القضاء على كثير من الأوبئة المرعبة والأمراض السارية بفضل الاكتشافات الصيدلية، والدوائية العلاجية، والوقائية. فانخفضت نسبة وفيات الأطفال وزاد متوسط الأعمار بشكل عام، ولم تعد الإصابة ببعض الأمراض مثل حكم بالإعدام المحقق. أصبح بالإمكان الوصول إلى تشخيص سريع، ومعالجة فورية، وشفاء ناجح في كثير من الحالات.
ومع ذلك بقي الإنسان مكتوف الأيدي أمام الكثير من الحالات المرضية حائرًا، كما أنَّ الأبحاث الطبية والصيدلية لم تتعرض لبعضها حتى الآن، وهكذا وبرغم التقدم العلمي الباهر ما زالت البشرية عاجزة عن إيجاد أدوية ناجحة لعدد غير قليل من الأمراض والآفات.
ومن الشواهد المذهلة الأرقام الخيالية من النقود التي يصرفها العالم الصناعي على الأبحاث، مبالغ تزيد على 5 بلايين دولار سنويًّا، فهل يا ترى تعود بالفائدة المرجوة الحقيقية في مجال الطبابة والدواء. ومع أنَّه يصعب تحديد بداية الأبحاث الدوائية والصيدلية تحديدًا دقيقًا؛ إلا أن البشرية أصبحت في وضع يستحيل معه الاستغناء عن الأبحاث والدراسات الحديثة على صعيد الدواء والعقاقير، وعلى أي حال فقد تجلت أهمية ذلك ما بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فقد برز في تلك الآونة نخبة من العلماء الأكفاء – أطباء وصيادلة وكيميائيين وغيرهم – عملوا جاهدين على تطوير الأدوية من حيث مكوناتها ومفعولها. وإحراز درجة من الأمان والسلامة، مع الاستعداد لتصنيع كميات هائلة تغطي حاجة الجميع في كل مكان بقدر الإمكان.
وتدل الإحصائيَّات على أنَّ أعداد الأدوية الجديدة الَّتي بَرَزَتْ خلال الثلاثين سنة الماضية، قد زادت على 1500 دواء جديد بشري وبيطري، وهي أدوية كيميائية محدودة التركيب، حضرها العلماء في المختبرات، ولم يكن لها وجود من قبل.
وتدلّ الإحصائيات نفسُها أيضًا على أنَّه حصل تدهور في إعداد الأدوية الجديدة سنة بعد سنة؛ لأسباب عدة أهمها: ارتفاع كلفة الأبحاث الدوائية، وارتفاع كلفة تصنيعها على شكل مستحضرات، بالإضافة إلى أسباب جوهرية أُخْرَى سنأتي على ذكرها، كذلك يلاحظ التفاوت في هذا الانحدار من بلد إلى آخر. ومن العجيب أن نسبة التدهور هي أكثر ما تكون في الولايات المتحدة الأمريكية، بالرغم من أنها ما زالت في المقدمة من حيث الكم وعدد الأدوية الإجمالي من المواد الجديدة، التي تنتجها فقد انخفض إنتاجها من 27 دواء عام 1972 إلى 12 دواء عام 1982، أما اليابان فيلاحظ أنها من البلدان التي حافظت على مستواها، وعلى نسبة نموها في باب اكتشاف الأدوية الجديدة، وتأتي فرنسا وألمانيا في القائمة بعد الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة.
كما تفيدنا الإحصائيات أنها – على المستوى العالمي – تشير إلى أن العدد الإجمالي للأدوية الجديدة انخفض عام 1960 من 98 دواء إلى 84 دواء عام 1968، ثم أصبح 63 دواء عام 1976، وأخير أصبح 48 دواء عام 1980؛ أي إن نسبة الانخفاض تزيد عن 50 % تقريبًا خلال عشرين عامًا. هذه الحقائق تدعونا إلى النظر في ظاهرة أزمة الأبحاث الدوائية التي بدأت بعد كارثة الثاليدوميد، وازدياد القوانين والتشريعات صرامة وحدة.
مأزق الأبحاث الدوائية: في الوقت الذي يتطلب الأمر ازدياد الأبحاث الدوائية وتطورها لمجابهة مختلف المشاكل الصحية والمرضية والزيادة السكانية، نجد أن هناك عوامل كثيرة تعيق البحث الدوائي وتؤخره، وتتلخص هذه العوامل بعدم توفر الأموال اللازمة، وصعوبات الاختيار والتقييم، ومشاكل صحة ودقة هذه الاختبارات، مع تعدد الأنظمة وتعقيدها وصرامة الاشتراطات الجديدة.
ومِن الناحية المالية فكُلَّما زاد الإنفاقُ على نشر استخدام أدوية معينة معروفة، قلَّ عددُ الأدوية الجديدة التي يمكن تصنيعُها وفحصُها واختبارُها، فقد بات من الضروري على الشركات الصناعيَّة أن تركّزَ نَشاطَها على أدوية فعَّالة ضِدَّ أمراض شائعة؛ من أجل الحصول على مردودها المالي العالي والمُجْدِي، وذلك من أجل استمراريَّتها وانتعاشها.
وما دامت الحياة، وما دام الناس فالحاجةُ للأدوية تبقى مُلِحَّة، بل يجب أن يستمرَّ البحثُ عن أنواع من الأدوية أفضل وأكثر فعالية، ولكن لكل دواء مَخاطرُه ومحاذيرُه، ومع ذلك فقد أنقذت الأدوية الجديدة حياة الكثيرين من البشر، وحمت المجتمعات من كثير من الأوبئة - كاستئصال الجُدَريّ دون رجعة، والتَّخفيف من حدَّة شلل الأطفال، والدفتريا بواسطة اللقاحات، والطعوم، والأمصال، والمضادات الحيوية - هذا بالإضافة إلى تحسين طرق التشخيص، والعناية بالمرضى، وبالمعالجة التعويضية؛ كما هو الحال في استعمال الأنسولين، والهرمونات، وغير ذلك.
ولكن هناك أدوية يستعملها بنو البشر؛ ولكنَّها لا تعيد الصحة إليهم - كأدوية أمراض الحساسية، والتهاب المفاصل، والأورام السرطانية، والأمراض النفسية - فيقتصر مفعولها على إزالة الأعراض مؤقَّتًا، والتخفيف من وطأتها. يضاف إلى ذلك أنَّ بعض البلدان المتقدمة تمنع لوائحها إنتاج واستعمال بعض الأدوية الجديدة، فيضطر السكان إلى عبور الحدود إلى البلدان الأخرى؛ للحصول عليها. كما أن الأبحاث الدوائية تنعدم تمامًا في البلدان الفقيرة.
إنَّ الخطة الرئيسة اللازم اتباعها لاكتشاف أدوية جديدة، تتمثل في متابعة تفاصيل نظام فسيولوجي، أو كيميائي حيوي، واستغلال تطبيقاته العلمية، وقد أفضت هذه الطريقة إلى اكتشاف الأنسولين، ويعود الفضل في ذلك إلى الجو الأكاديمي الذي كان سائدًا آنذاك؛ لكن هذه الطريقة فقدت أهميَّتها في المُدَّة الأخيرة؛ بِسبَبِ عَجْزِ الجامعات المادّي، وعَدَمِ قُدْرَتِها على توفير الموارد اللازمة للتطوير. يُضافُ إلى ذلك أنَّ ازْدِيادَ التَّخصّص أدَّى إلى انفصال الدراسات بعضها عن البعض الآخر؛ كما هو الحال مثلاً بالنسبة للكيمياء العضوية وعلم الصيدلة، اللذينِ كانا مرتبطين ارتباطًا وثيقًا في السابق.
وصفوة القول إنَّ اكتشافَ أدويةٍ جديدة فعَّالة أصبح أمرًا يزداد صعوبة؛ ولذلك فالأمراض غير القابلة للشفاء تظلّ – مع الأسف – غير قابلة للشفاء، وتدخل العمليَّة في دوَّامة، وفِي حلْقة مُفْرَغة. هذا بِالرَّغْمِ من أنَّ بَعْضَ الشَّرِكات الصناعيَّة أصابتْ نَجاحًا لا بأسَ بِهِ فِي اكْتِشاف العديد من الأدوية الجديدة؛ لِما بَذَلَتْهُ منَ التَّضحية بالمال، والوقت، والجهد. وقد تَمكَّنتْ بعضُ كبريات الشركات الصناعية من اكتشاف أدوية جديدة مضادَّة للملاريا، وللأورام السرطانية، وأدوية النقرس، ومضادات الجراثيم، وغير ذلك.
لكن لا بد من الإشارة إلى الحوادث المُفْجِعة، الَّتِي أثارت قلق الجماهير، وإلى خوف المسؤولين من الأدوية الجديدة بالرغم من أنها حصلت بسبب ظروف خاصة، لم تكن متوقَّعة (الثاليدوميد)، أو بِسَبب حساسية مفرطة لا تعليلَ لَها لدى أقلّيَّة منَ النَّاس (البروكتالول الذي سبب الاعتلال البصري، الذي أصاب القرنية بالضرر والجفاف)، ولا شك في أن هذه الحوادث كان لها تأثير سلبي على الأبحاث الدوائية، وعلى احتمال اكتشاف أدوية جديدة مفيدة. ومع أنه يجب إجراء تجارب سريرية على الحيوانات قبل طرح الدواء الجديد لاستعمال البشر، إلاَّ أن هناك مآخذ على التجارب الحيوانية أهمها؛ أنه لا يمكن دائمًا استقراء النتائج منها وتطبيقها على الإنسان، السبب في ذلك أنَّ لكل *** من المخلوقات نَمَطَهُ الخاصَّ بِهِ. فإِذَا كان أحدُ الأدْوِيَة سامًّا لِلْحيوان، فلا يجري عادة اختباره على الإنسان، فهل يحتمل أن يكون ضارًّا بالنسبة للإنسان أيضًا؟ لا أحدَ يعرف الجواب عن هذا السؤال، ولذا قد تخسر البشرية علاجًا هامًّا!!
كذلك من الصعب مُقارنة الخطر الناجم عنِ استعمال دواء ما بخطر عدم استعماله، إذ مِمَّا يدعو إلى العجب أنه إذا كان الأذى الذي يحصل للمريض باستخدامه الدواء الجديد هو عمل شرير، فهل يعتبر الامتناع عن استعماله عملاً غير أخلاقي؟
الأدوية الجديدة: اشتملتِ الأدوية الجديدة المكتشفة - خلال الفترة موضوع البحث - عدة أنواع وفئات لعدة مجالات. فمنها الأدوية الخافضة للكولسترول، ومنها الخافضة لضغط الدَّم المرتفع، ومنها المُضادَّات للفطور، ومُدِرَّات البَوْلِ مع تطوير المُشتقَّات للهرمونات ال***يَّة، والأدوية المسكنة للألم، والأدوية النفسية والمضادة للكآبة، والمضادة للأورام والسرطان، وأدوية الروماتزم، كذلك الأدوية المضادة لمستقبلات الهيستامين (هـ 2)؛ كالتاجامات، والزانتاك.
أمَّا المضادات الحيوية فتحتلّ مكان الصدارة في قائمة الاكتشافات الدّوائية الجديدة، وأهمها مشتقات بيتا لاكتام، والسيفالوسبورين، والبنسلينات المصنعة نصف؛ ولكن الآثار الجانبية العديدة لها؛ كالتفاعلات التحسسية الخطرة، وبروز ظاهرة مقاومة الجراثيم لها بتشكيلها سلالات جرثومية جديدة ضارية وقوية، دفعت العلماء إلى بذل المزيد من الجهد بحثًا عن مضادات حيوية أخرى جديدة ؛تحتل أمكنة المضادات الحيوية القديمة.
ويوضح الجدول التالي أهم الفئات الدّوائية التي تمت اكتشافات تنتمي إليها:
- أدوية الجملة العصبية. - أدوية الجهازين العضلي والهيكلي. - أدوية الجهاز الهضمي. - أدوية الجهاز التنفسي. - أدوية القلب والأوعية الدموية. - الأدوية المضادة للسرطان. - الأدوية المضادة للالتهابات. - أدوية الجهازين البولي والتناسلي. - الأدوية الجلدية. - أدوية الطفيليات. - الهرمونات. - أدوية الدم. هذا وتهتم الأبحاث الدوائيَّة بالحصول على مزيد من المعلومات عن الجسم البشري، من حيث كيميائيته الحيوية، والكشف عن سير العمليات المرضية؛ بهدف الأغراض الوقائية والعلاجية المبكرة على دراسة جهاز المناعة، ودعمه ضد الفيروسات والجراثيم والطفيليات وغير ذلك.
ويشمل برنامج الأبحاث الدوائية عزل المواد الطبيعية الموجودة في الجسم، ومن ثم تصنيعها في المختبر، وبعد ذلك تحضير مشتقات جديدة لها ذات فعالية أفضل، عند ذلك تتاح الفرصة للعلماء إعادة النظر بالأدوية القديمة، ومقارنة مزاياها، وتأثيرها، وآثارها الجانبية.
ولكي يحصل العالم الباحث على مادة كيميائية جديدة عليه أن يتبع نظام الغربلة، مثلما حصل مع إيرليخ عندما اكتشف السالفرسان، ومع ذلك فهناك من يعثر على دواء يفيد بطريق الصدفة مثلما حصل مع الدكتور سستاينباخ الذي اكتشف الأدوية المهدئة من فئة (Chloordiazepoxide ). وأدى ذلك إلى اكتشاف الفاليوم الَّذي ما لبث أن غَزَا العالم وما زال في المقدّمة.
ومن الأمور الطريفة التي يُصادفها العلماء حصولُهم على موادَّ مُفيدة لأمراض معينة، غير تلك التي كانوا يهدفون إليها أصلاً. ومن الأمثلة على ذلك أنه خلال البحث عن مشتقات جديدة للسلفوناميد ذات أطياف واسعة لِمُكافَحَةِ أكبر عدد من الجراثيم، وإذا بالعلماء يعثُرُونَ على دواءٍ مُدِرّ لِلْبَوْلِ، وخافض لضغط الدم المرتفع، اسمه التجاري داياموكس الذي انتشر استعماله انتِشارًا واسعًا. وفي نفس الوقت وأثناء إجراء التَّجارب على مشتقَّات السلفا، عثر فريق آخر من العلماء على أدْوية فموية قادرة على تخفيض السكر في الدم مثل الدايونيل (يوجلوكون)، والَّذي أصبحَ أهمَّ أدويةِ البول السكري الفموية، والذي تستهلك منه البشرية كميات كبيرة يوميًّا.
يقودنا ذلك إلى التطرّق إلى أدوية المحصرة للبيتا (Beta Blockers )، والتي كانت بدايتُها أبحاثًا أراد العلماء إجراءها على الأدرينالين؛ لتحضير مشتقَّات منه تكون أقلَّ خُطُورةٍ في معالجة الرَّبْوِ؛ ولكن كانتِ النتيجة أنَّهم - بدلاً من ذلك - اكتشفوا الأنديرال الذي يعد من أشهر ما في الترسانة الدوائية حاليًّا لِمُعالَجَةِ أمراض القلب، والأوعية الدموية، وضغط الدم المرتفع. وينتَمِي الأنديرال إلى فِئَةِ "صادّات المستقبلات"، وأصبح لدينا سلسلة من أمثالها: التنورمين، فيسكين، سكترال، وغيرها.
ومن أعجب الأمور أن يصادف العلماء خلال أبحاثهم مادة كيميائية جديدة، ذات آثار جانبية أهم من آثارها الدوائية الرئيسة، ومن أوضح الأمثلة على ذلك دواء كلوندين. لقد كانت هناك محاولات لاختبار كلوندين؛ كمضاد للزكام والأنفلونزا، إذ إنه يقلل من احتقان الأغشية المخاطية الأنفية، إلى تأثيره الجانبي غير المرغوب فيه بالنسبة لتخفيفه ضغط الدم المرتفع. وكانت النتيجة أن هذا الأثر الجانبي غير المرغوب فيه، أصبح هو المفعول الرئيس المرغوب فيه؛ كدواء ضمن الأدوية المخفضة لضغط الدم المرتفع.
وبالرغم من كل ذلك؛ وبالرغم من المأزق الذي يواجهه البحاثة فالأبحاث الدوائية ظاهرة حضارية، لا بُدّ من وجودها وتطورها ودفعها إلى الأمام، وبدونها تتدهور العلوم وتتراجع. كذلك بالرغم من التقدم العلمي الذي تم إنجازه، فما زال أمام البشرية أشواط وخطوات عديدة، فالحالات المرضية المعروفة حاليًّا تزيد عن 27000 حالة، ومع ذلك فإن الحالات القابلة للمعالجة الدوائية لا تتجاوز ثلث هذا العدد، أما تلك الأمراض القابلة للشفاء فهي أقل بكثير.
وتسعى الصناعة الدوائية في أبحاثها إلى عدة أهداف؛ أولها الحصول على مزيد من المعلومات عن الكيمياء الحيوية للجسم البشري في حالته الصحية والمرضية، ومن ثم إيضاح سير العمليات المرضية بهدف الوقاية والعلاج المبكر، وكذلك دراسة القدرة المناعية للأعضاء، وكيفية دعمها ضد الفيروسات، والجراثيم، والأمراض الالتهابية؛ كما يشتمل ذلك على عزل وتعيين ذاتية وهوية المواد الطبيعية – بروستجلاندين، إنترفيرون، والقنينات، وغيرها - ومن ثَمَّ تصنيع هذه الموادّ في المُخْتَبَر لِلحصول على مُشتقَّات جديدة لها ذات فعاليَّة أفضل، وعند ذلك يعاد النظر في الأدوية الجديدة من حيث المفعول، والآثار الجانبية. لذلك لا بد من متابعة الأبحاث فهي أمر في غاية الأهمية، وذلك للتخفيف من مآسي البشرية وآلامها، ويتطلب البحث العلمي الصحيح فريق من البحاثة يضم مختلف التَّخصّصات، ومنَ المستغرَب أنَّ كُلَّ دواء يحتاج إلى حوالي 700 – 800 خطوة منذ ابتداء التعامل مع المادة الخام إلى أن يصل البحث إلى نِهايته؛ كمستحضر دوائي جاهز للاستعمال.
أمَّا الأبحاث الصيدليَّة فهي ذات أهمية كبرى بالنسبة لوضع الدواء الجديد في شكله المناسب، بحيث يضمن الفائدة العلاجية اللازمة. ويلعب الصيدلي دورًا هامًّا في هذا المجال الذي لا يقتصر فقط على تحديد الشكل النهائي فحسب؛ بل يشمل كذلك دراسة المواد المساعدة، والسواغ، التي يجب مزجها مع المادة الفعالة. ففي حالة الأقراص مثلاً يجب أن تكون السواغ خاملة دوائيًّا وكيميائيًّا. وأن تؤمن – في الوقت ذاته – التفكك والتماسك الجيدين للأقراص. كما يجب على الصيدلي اختيار الشكل البلوري للمادة من أجل وصولها بسرعة كافية إلى الدم. كما عليه البحث دائمًا عن طرق جديدة لإعطاء الأدوية؛ كي يحصل على أفضل النتائج.
كل ذلك يدل على أن الكلفة الإجمالية باهظة. وتعتمد المبالغ المنصرفة على الأبحاث على مقدار ما تنتجه الشركات الصناعية ومقدار مبيعاتها وأرباحها، ففي عام 1972 بلغت المبيعات للشركات الدوائية حوالي 70 بليون دولار، أما في عام 1982 فقد ارتفع هذا الرقم إلى حوالي 115 بليون دولار، هذه القفزة الجبارة تدل على أهمية البحث الدوائي، وعلى مكانته المرموقة والحاجة الماسة إليه من أجل الحضارة والإنسانية. نَعَمْ؛ فالبشرية على وشك الدخول في القرن الحادي والعشرين، وعلى منكبيها كل هذه الاختراقات الحديثة مقرونًا ذلك بآمال بالوصول إلى اختراعات أحدث وأهم.