#1
|
|||
|
|||
فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه
جاء في فقه الطهارة الآيتان التاليتان: الأولى: قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا} (النساء:43). الثانية: قوله سبحانه: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} (المائدة:6)، وموضوع الآيتين واحد، وهو الطهارة للصلاة، والتيمم تحديداً. بيد أن بينهما تبايناً في النظم من نواح ثلاث: الناحية الأولى: زيادة {منه} في آية المائدة، وخلوها من آية النساء. الناحية الثانية: الأمر بمسح الوجه واليدين في آية النساء أعقبه قوله سبحانه: {إن الله كان عفوا غفورا}، في حين أن الأمر بمسح الوجه واليدين في آية المائدة أعقبه قوله عز وجل: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم}. الناحية الثالثة: جاء تعقيب آية النساء قصيراً، حيث اقتصر على قوله تعالى: {إن الله كان عفوا غفورا}، في حين جاء تعقيب آية المائدة طويلاً، وذلك قوله سبحانه: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}. وقد أجاب ابن الزبير الغرناطي على هذه التباينات الثلاثة بما حاصله: - الجواب عن الأول: أن زيادة {منه} في آية المائدة زيادة بيان؛ ذلك أن قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} لا يحصل منه ما يحصل من زيادة {منه}، فزيدت في آية المائدة بياناً، واختصت بذلك آية المائدة؛ لتأخرها في الترتيب الثابت عليه المصحف، والبيان يتأخر عما هو بيان له، فجاء على ما يجب. وقد أجاب الكرماني عن وجه التباين هنا بعبارة أخرى، مفادها أن المذكور في آية النساء بعض أحكام الوضوء والتيمم، فحسن الحذف، والمذكور في آية المائدة جميع أحكامهما، فحسن الإثبات والبيان. وظاهر أن كلاً من ابن الزبير والكرماني متفقان على أن مرجع التباين بين الآيتين إلى (البيان)، بمعنى أن آية النساء جاءت مجملة، وآية المائدة جاءت مبينة لما أُجمل في آية النساء، غير أنهما يختلفان في توجيه هذا البيان؛ فالكرماني يرى أن (البيان) مرده إلى أن آية المائدة سيقت مساق التفصيل، بعد الإجمال في آية النساء، في حين أن ابن الزبير يرى أن البيان جاء في آية المائدة مرده إلى ترتيب المصحف؛ إذ سورة المائدة متأخرة في الترتيب المصحفي على سورة النساء، ومن عادة البيان أن يأتي متأخراً. - الجواب عن الثاني: أن آية النساء نزلت قبل تحريم الخمر، وقد ذكر المفسرون وغيرهم السبب في نزول قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} (النساء:43)، وأنها نزلت قبل التحريم، وكان شاربها قبل أن تحرم ربما عرض له بسببها التأخير لصلاته، كما أشارت إليه الآية، وفى تأخيرها عن أول وقتها نقص للفضل الموجود في أدائها أول وقتها، فلما كان ذلك مِظنة النقص، والوقوع في أدائها في آخر وقتها، أو بعد وقتها مسبب للوقوع في الإثم، والآية قد أعقبت بآية التيمم، ناسب ما تقدم التعقيب بقوله: {إن الله كان عفوا غفورا}؛ إذ العفو والمغفرة مرجوان في نحو ما تقدم. أما آية المائدة فإنه لما تقدم قبلها آية حلِّية طعام أهل الكتاب، وجواز نكاح نسائهم، وذلك قوله تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} (المائدة:5)، ناسب ذلك تعقيب آية المائدة بقوله تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}، فجاء كل على ما يناسب. - والجواب عن الثالث: أن آية النساء غير مقصود بها ما قُصد بآية المائدة من الإطناب، وتأمل ما انطوت عليه كل آية منها من عدد الكلم والحروف من لدن قوله تعالى في آية النساء: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} إلى قوله: {وأيديكم}، وقوله في آية المائدة: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى قوله: {وأيديكم منه} نجد أن آية المائدة يزيد عدد حروفها على آية النساء بضعاً وثلاثين حرفاً، فلما أطيل في آية المائدة، ناسبها ما أعقبت به، وبنى عليها من قوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}، وناسب إيجاز آية النساء ما بنى عليها من قوله: {إن الله كان عفوا غفورا} إيجازاً بإيجاز، وإطناباً بإطناب. أخيراً: قد يكون مفيداً القول: إن كتب التفسير التي رجعنا إليها، لم تذكر شيئاً يتعلق بأوجه اختلاف النظم بين آيتي سورتي النساء والمائدة، وما تقدم القول به مستفاد من كلام ابن الزبير في كتابه "ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل".
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|