#1
|
|||
|
|||
التاريخ الاسلامي بالكامل
بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذا الموضوع بأذن الله سوف يتناول التاريخ الاسلامي بأكمله إن شاء الله ياريت محدش يرد علي الموضوع غير لما يكتمل بأذن الله |
#2
|
|||
|
|||
البداية
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته البداية
بدأ تاريخ الإسلام يوم خلق الله -عز وجل- الكون بسماواته وأراضيه، وجباله وسهوله، ونجومه وكواكبه، وليله ونهاره. وسَخَّرَ كل هذا للإنسان. وبدأت حياة هذا الإنسان فى الكون عندما خلق الله -عز وجل- آدم من تراب، ونفخ فيه من روحه. ثم خلق الله حواء؛ لتكون زوجة لآدم، ولتكون منهما البشرية. وسمح الله -سبحانه- لآدم وحواء أن يعيشا فى الجنة، ويستمتعا بكل شىء فيها بشرط أن لا يأكلا من شجرة واحدة منها، ونبَّه سبحانه آدم إلى عداوة الشيطان له، وحذره منه. وعاش آدم وحواء فى الجنة، سالمين عابدين يستمتعان بخيراتها، تحيط بهما الأشجار المثمرة، والأنهار العذبة، فكانت حياة جميلة هادئة، حتى جاءهم الشيطان، وأغواهما أن يأكلا من الشجرة التى نهاهما الله عنها، وأكل هو وزوجه من الشجرة المحرمة، فأخرجهما الله-عز وجل- من الجنة حيث كانت السعادة والراحة، وأنزلهما إلى الأرض حيث التعب والشقاء. وعلم آدم أنه عصى ربه، فأسرع وتاب إليه؛ ودعا ربه، فعفا عنه، وتاب عليه، وأمر آدم أن يهبط إلى الأرض هو وزوجته، وأُنزل معه الشيطان، قال تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة: 38]. وبدأت حياة البشرية على الأرض بآدم -عليه السلام- وزوجه وجاءت منهما ذرية مسلمة مؤمنة بالله، وعلمهم الله الزراعة، وكيفية الاستفادة من مياه المطر، ومن الأنعام، بلحومها وألبانها وأصوافها، وعلمهم صناعة السفن وركوب البحر، وكيف يهتدون بالنجوم فى سيرهم فى ظلمات الطرق، وغير ذلك مما ييسر لهم العيش على الأرض. وعلَّم الله -سبحانه- آدم -عليه السلام- كيف يباشر المهمة التى خلقه لها، ووضَّح آدم لذريته طريق الخير، وحذرهم من طريق الشر، وأخبرهم أنهم سيموتون ويبعثون ويحاسبون، وأن الفائز من يدخل الجنة، والخاسر من انتهت حياته وأعماله إلى النار. ونبه آدم ذريته إلى أن الشيطان عدوهم الأول، وإلى خطورة دوره فى حياتهم، وأخبرهم أنهم فى مأمن من الشيطان ماداموا عبادًا مخلصين لله -عز وجل-، قال الله تعالى للشيطان: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) [الحجر: 42]. وفهمت الأجيال المسلمة التى تربت على عهد آدم الدرس كاملا، فعاشت فى طاعة الله مئات السنين، حتى بدأ العصيان يظهر بينها، وبدأ الانحراف يزداد يومًا بعد يوم، وينتهى إلى عبادة غير الله والكفر باليوم الآخر، وكان الله -عز وجل- يرسل إلى هذه الأجيال المنحرفة الأنبياء والرسل، ومنهم نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى ومحمد -عليهم السلام-، وكانت دعوتهم جميعًا يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 59]. وهذه هى دعوة الإسلام: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون )[الأنبياء: 92]. إن مسيرة الأنبياء الكرام عبر السنين الطويلة وحتى مبعث أكرم الأنبياء محمد ( هى جزء أصيل من تاريخنا الإسلامى، لذا كانت دعوة محمد (: (قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون )[البقرة: 136]. إنه لا دين غير الإسلام: ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران: 19]. (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين [آل عمران: 85]. |
#3
|
|||
|
|||
النور الخاتم
النور الخاتم
كان الأنبياء يبشرون بآخر الرسل ، ويخبرون أنه سيجىء فى آخر الزمان نبى لا نبى بعده، وتحققت البشرى الكريمة، وجاء محمد ليقول: " مثلى ومثل الأنبياء من قبلى كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة فى زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا تلك اللبنة، وأنا خاتم النبيين" [متفق عليه]. فالإسلام صرح عظيم ساهم فى بنائه كل نبى من أنبياء الله. وكان فضل الله على نبيه عظيمًا، فقد آتاه من أنعمه ما لا يحصى، ولأجل ذلك أسرعت إليه الأفئدة السوية من سادات الأقوام وضعفائهم، وجاء إليه الرجال الأطهار من الأنصار أهل المدينة يطلبونه؛ ليخرج إليهم، ويبايعونه على أن يخوضوا معه الصعاب لترتفع راية الإسلام. ووقف رسول الله وهو يحمل أشرف رسالات السماء إلى الأرض، ويصعد بأصحابه إلى مراقى الكمال، حتى كان منهم علماء الدنيا وقادتها ورجالها، ولم يهدأ رسول الله لحظة منذ حمل الأمانة، وحتى اللحظات الأخيرة من عمره المبارك، لما ثقل به الوجع جعل يحاول الخروج للصلاة مع أصحابه، لكنه كان لايستطيع، فيطلب ممن حوله أن يصبوا عليه ماء فيفعلون، فيفيق، فيكون أول سؤاله: "أصلى الناس؟" فيقال له: لا، هـم ينتظرونك يا رسول الله. فيطلب أن يصبوا عليه الماء، ليفيق من مرضه، ويحاول مرة بعد مرة فلا يستطيع، كل ذلك والناس منتظرون فى المسجد لا يستطيعون مفارقته قبل أن يروا حبيبهم وزعيمهم وقائدهم، لكنه لا يخرج، فقد اشتد به الوجع، وأمر أبا بكر أن يصلى بالناس. وفى الأيام التالية، وجد فى نفسه خفَّة، فخرج لأصحابه فى صلاة الظهر متوكئًا على ابنىْ عمه الفضل بن العباس وعلى بن أبى طالب، وجلس على أول درجة من درجات المنبر، وقال: "إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله" [أحمد]. فبكى أبو بكر الصديق ووقف الصحابة يتعجبون لبكائه. لكن أبا بكر كان قد فهم ما لم يفهمه الصحابة؛ لقد فهم أن العبد المخير هو رسول الله وأن اختيار رسول الله لما عند الله يعنى قرب الفراق. وصعدت روح رسول الله إلى الرفيق الأعلى فى هذا اليوم، فتزلزلت نفوس الصحابة حتى وقف عمر بن الخطاب يهدد من يذيع الخبر قائلا: زعموا أن محمدًا مات، وإنه والله ما مات، لكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى، والله ليرجعن رسول الله حقّا. وجاء أبو بكر الصديق فدخل على رسول الله، وتحقق من الخبر، فقَبَّل جبين رسول الله قائلا: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، طبت حيًا وميتًا وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من العالمين. ثم خرج إلى أصحابه يعيد صوابهم قائلا: أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت. ثم تلا عليهم قول الله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِين )[آل عمران: 144] [والحديث رواه أحمد]. وهنا رجع الصحابة إلى رشدهم، فقد فهموا أن الله قد اختار حبيبه إلى جواره، وأن الأمانة لا زالت فى أعناقهم، وأنهم كى يلتقوا به ثانية لابد أن يكونوا على طريقه حتى يكون الملتقى فى الجنة إن شاء الله. تُرى كيف سيكون تاريخهم وتاريخ من بعدهم؟ هذا هو حديث الكتاب. |
#4
|
|||
|
|||
دولة الخلفاء الراشدين
دولة الخلفاء الراشدين
لقد كان المسلمون أثناء حياة النبى فى أمن وسكينة، فالرسول يدبر أمورهم، ويقود جموعهم، ويرشدهم، ويهديهم، ويفتيهم فيما يعنيهم. فلما مات النبى شعر المسلمون أنه لابد لهم من راعٍ يخلف الرسول فى تدبير أمورهم، ويقود مسيرتهم، ويحمل راية الإسلام عالية خفاقة، فمن يتولى أمرهم بعد النبى ؟! إن الرسول لم يعيّن أحدًا من بعده ؛ بل ترك الأمر شورى بينهم، يختارون خليفتهم بأنفسهم لكن من يكون ذلك الخليفة ؟ سقيفة بنى ساعدة: لابد من اجتماع للتشاور، والاتفاق على رأى، فليلتق الجميع فى سقيفة بنى ساعدة، وليتفقوا على من يختارونه، لكن الأنصار قد سبقوا إلى السقيفة، واختاروا واحدًا منهم هو سعد بن عبادة. فلما علم عمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق وأبو عبيدة بن الجراح، أسرعوا إلى السقيفة، ووقف أبو بكر فيهم خطيبًا، فتحدث عن فضل المهاجرين وفضل الأنصار ثم ذكر أن الخليفة يجب أن يكون قرشيّا، إذ إن الناس لا يطيعون إلا هذا الحىّ من العرب، ثم اختار للناس أن يبايعوا إما عمر وإما أبا عبيدة، فرفض عمر وأبو عبيدة ذلك الأمر لعلمهما بفضل أبى بكر وسابقته، وهنا وقف بشير بن سعد وهو أحد زعماء الأنصار، وطلب من قومه ألا ينازعوا المهاجرين فى الخلافة ! وهذا موقف نبيل؛ إنه حريص على وحدة الصف، وعلى الأخوة الإسلامية، لا يفكر إلا فى المصلحة العامة، وهنا أعلن عمر ابن الخطاب ومعه أبو عبيدة بن الجراح مبايعتهما لأبى بكر الصديق. وبايع كل من كان فى السقيفة أبا بكر، ثم شهد مسجد الرسول ( بالمدينة بيعة عامة على نطاق أوسع ضمت كل الذين شهدوا بيعة السقيفة والذين لم يشهدوها، وأصبح أبو بكر خليفة المسلمين، وكان ذلك سنة 11هـ/ 633م. لقد كان أبو بكر جديرًا بذلك، وكان المسلمون جميعًا على قناعة بذلك، فقد رضيـه رسول الله ( لدينهم إمامًا فصلى خلفه، وأمر الناس بالصلاة خلفه، وهو مريض، فكيف لا يرضونه لدنياهم؟! |
#5
|
|||
|
|||
خلافة أبى بكر الصديق
خلافة أبى بكر الصديق
(11 - 13 هـ / 632- 634م ) تمت البيعة لأبى بكر، ونجح المسلمون: الأنصار والمهاجرون فى أول امتحان لهم بعد وفاة الرسول ، لقد احترموا مبدأ الشورى، وتمسكوا بالمبادئ الإسلامية، فقادوا سفينتهم إلى شاطئ الأمان. وها هو ذا خليفتهم يقف بينهم ليعلن عن منهجه، فبعد أن حمد الله وأثنى عليه، قال: "أيها الناس، إنى قد وليت عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى (ردونى عن الإساءة)، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوى عندى حتى آخذ له حقه، والقوى ضعيف عندى حتى آخذ منه الحق إن شاء الله تعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة فى قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله" [ابن هشام]. كان الإسلام فى عهد النبى قد بدأ ينتشر بعد السنة السادسة للهجرة، وبعد هزيمة هوازن وثقيف بدأت الوفود تَرِد إلى الرسول معلنة إسلامها، وكان ذلك فى العام التاسع! جهاد أبى بكر: لقد دخل الناس فى دين الله أفواجًا، وقلَّ عدد المشركين الذين يعبدون الأصنام، وطهرت الجزيرة العربية من الشر، لكن بعض الذين دخلوا فى الإسلام كان منهم ضعاف الإيمان، ولم يكن الإيمان قد استقر فى قلوبهم، وقد دخله بعضهم طمعًا فى الأراضى والأموال. وكانت وفاة الرسول فرصة لهؤلاء وأولئك لكى يظهروا ما أخفوه خلال الفترة الماضية، ولكى يعلنوا ردتهم عن الدين الحنيف، فماذا يفعل الصديق، والخلافة فى أول عهدها ؟! إن هناك جماعة منعت الزكاة، وأخرى ارتدت، بل ادعى بعض الناس منهم النبوة ! جيش أسامة: لقد كان على أبى بكر -رضى الله عنه- أن يواجه هؤلاء جميعًا. وليس هذا فقط بل كان عليه أن يؤمِّن حدود الدولة الإسلامية ضد الأعداء الخارجيين، وكان الرسول ( قد أعدَّ لذلك جيشًا بقيادة أسامة بن زيد، ولكنه ( مات قبل أن يبرح الجيش المدينة، وظل أسامة بجيشه على حدود المدينة ينتظر الأوامر! وراح الجميع يفكرون فى مواجهة أعداء الأمة الإسلامية الوليدة! وكان رأى بعض المسلمين أن توجه كل الجهود إلى محاربة المرتدين، وأن يؤجل إنفاذ جيش أسامة لمحاربة الروم إلى ما بعد القضاء على المرتدين، وأن يتفرغ أبو بكر لذلك، ولكن أبا بكر وقف شامخًا راسخًا، يؤكد العزم على قتالهم جميعًا فى كل الجبهات، قائلا عن مانعى الزكاة: "والله لو منعونى عِقَال بعير (ما يربط به البعير) كانوا يؤدونه إلى رسول الله ( لقاتلتهم عليه" [متفق عليه] ولقد أصر أن يتم بعث أسامة قائلا: "والله لو ظننت أن السباع تخطفنى لأنفذت بعث أسامة كما أمر الرسول (" [ابن كثير]. حملات عسكرية: وأعد أبو بكر -رضى الله عنه- إحدى عشرة حملة عسكرية، كان من أشهرها: حملة خالد بن الوليد، وحملة العلاء بن الحضرمى. جيش العلاء بن الحضرمى: كان ملك البحرين، قد أسلم فى عهد الرسول ، وأقام فى رعيته الإسلام والعدل، وعندما مات رسول الله ومات ملك البحرين، ارتد أهل البحرين، وقال قائلهم: لو كان محمد نبيّا ما مات. وبقيت بالبحرين قرية يقال لها جُوَاثا ثابتة على دينها، فقد قام فيها رجل من أشرافهم وهو الجارود بن المعلى، وكان ممن هاجروا إلى رسول الله ، فقال: يا معشر عبد القيس إنى سائلكم عن أمر فأخبرونى إن علمتموه. قالوا: سَلْ. قال: أتعلمون أنه كان لله أنبياء قبل محمد؟ قالوا: نعم. قال: تعلمونه أم ترونه؟ قالوا: نعلمه. قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا. قال: فإن محمدًا مات كما ماتوا، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فقالوا: ونحن أيضًا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وثبتوا على إسلامهم [ابن كثير]. وأرسل أبو بكر العلاء بن الحضرمى أحد كبار الصحابة إلى حرب المرتدين من أهل البحرين، وكان العلاء على معرفة بأحوال هذه البلاد لأن الرسول كان قد أرسله ليجمع الزكاة من أهلها. وحدث فى هذه الغزوة أن نزل العلاء منزلا فلم يستقر الناس على الأرض حتى نفرت الإبل بما عليها من زاد الجيش وخيامهم وشرابهم، وبقوا على الأرض ليس معهم شىء سوى ثيابهم، وذلك ليلا، ولم يقدروا منها على بعير واحد، فأصاب الناس همٌّ عظيم وجعل يوصى بعضهم إلى بعض، فنادى منادى العلاء، فاجتمع الناس إليه، فقال: أيها الناس، ألستم المسلمين؟ ألستم فى سبيل الله؟ ألستم أنصار الله؟ قالوا: بلى. قال: فأبشروا والله لا يخذل الله مَنْ كان فى مثل حالكم. ونودى لصلاة الصبح حين طلع الفجر، فصلى بالناس، ثم جثا على ركبتيه، وجثا الناس، واستمر فى الدعاء حتى طلعت الشمس، وجعل الناس ينظرون إلى سراب الشمس يلمع مرة بعد مرة وهو يجتهد فى الدعاء، فوجدوا إلى جانبهم غديرا عظيمًا من الماء. فمشى ومشى الناس إليه فشربوا واغتسلوا، فما انتهى النهار حتى أقبلت الإبل من كل مكان بما عليها لم يفقدوا شيئًا من أمتعتهم. والتقى جيش العلاء بالمرتدين فهزموهم، وفروا منهم فى البحر إلى "دارين"، فتبعهم المسلمون، لكنهم عندما وصلوا إلى ساحل البحر ليركبوا، وجدوا أن المسافة بعيدة،ولو انتظروا حتى يجهزوا المراكب التى سوف يعبرون عليها، لتمكن الأعداء من الهروب، فاقتحم العلاء البحر بفرسه وهو يقول: يا أرحم الراحمين، يا حكيم يا كريم، ويا أحد يا صمد، يا حى يا محيى، يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت يا ربنا. وأمر الجيش أن يقولوا ذلك، ففعلوا وعبر بهم الخليج بإذن الله، فقطعه إلى الساحل الآخر، فقاتل عدوه وهزمهم، وأخذوا غنائمهم وأموالهم. ولم يفقد المسلمون فى البحر شيئًا سوى عليقة فرس. وكان مع الجيش راهب من أهل هجر، فأسلم وقال: خشيت إن لم أفعل أن يمحقنى الله لما شاهدت من الآيات، ولقد علمت أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله، فحسن إسلامه [ابن كثير: البداية والنهاية]. لقد خرج المؤمنون خالصة نواياهم، غايتهم العزة لدين الله العظيم، من أجل ذلك أمدهم الله بكراماته، وأيدهم بنصره. لقد هزت هذه الجيوش الجزيرة العربية هزّا عنيفًا، وأعادت المارقين والخارجين إلى حظيرة الإيمان من جديد؛ ليعرفوا أن الله هو الحق المبين، وأن رسوله ( هو خاتم النبيين، وإذا كان محمد قد مات، فإن دين الإسلام الذى جاء به باق إلى يوم القيامة بإذن الله. وكان جيش أسامة الذى أرسله أبو بكر لمحاربة الروم قد حقق الهدف الذى بعث من أجله، فَأَمَّنَ الحدود، وأعاد الثقة إلى النفوس! وعرف الروم أن الدولة الإسلامية مازالت قوية، لم تضعف، وفى استطاعتها أن تصد كيد الأعداء. وفى وقت بعث أسامة، كان بعض مانعى الزكاة قد جاءوا إلى أبى بكر، فلما رأوا تصميمه على أخذ الزكاة، رجعوا إلى قبائلهم وأغروهم بالقضاء على الإسلام، والاستيلاء على المدينة، وكان أبوبكر قد وضع بعض الصحابة على أنقاب المدينة؛ لأنه توقَّع إغارتهم، وعندما اتجهوا بالفعل إلى المدينة، وعرف أبو بكر أوصى الواقفين على الأنقاب بالصبر، ثم اتجه هو وبعض الصحابة، إليهم ولقنوا هؤلاء المرتدين درسًا لا يُنسى، حتى يعلموهم وغيرهم أن الدولة الإسلامية لم تضعف بعد وفاة النبى(. كما عمل أبو بكر -رضى الله عنه- على القضاء على كل من تسول له نفسه أن يطعن فى دين الله، كأولئك الذين ادعوا النبوة أمثال الأسود العنسى وسجاح التى أسلمت فيما بعد، ومسيلمة الكذاب الذى أرسل إليه أبو بكر جيشًا هزمه شر هزيمة فى وقعة اليمامة، حيث قتل الله الكذاب بعد ما استشهد كثير من الصحابة وخاصة بعض حملة القرآن منهم. فتوحات أبى بكر: انتهت حروب الردة، وتم القضاء على كل من ادعى النبوة كالأسود العنسى، ومسيلمة الكذاب، وسجاح. ورجع الهدوء والاستقرار إلى الجزيرة العربية. وبدأت أنظار المسلمين تتجه ناحية حدود دولتهم، فالفرس يقفون فى وجه الدعوة الإسلامية، ويساندون أعداءها. والروم يحاربون الدعوة وينصرون خصومها. أبو بكر والفرس: بدأت عداوة الفرس للمسلمين فى عهد الرسول (، عندما أمر ملك الفرس عامله على اليمن أن يرسل من عنده رجلا ليقتل رسول الله أو يأسره بعدما أرسل له النبى من يدعوه إلى الإسلام ولكن الله أهلك ملك الفرس عندما ثار عليه قومه وحفظ رسوله ( حتى مات. وعندما ارتدت العرب ظن الفرس أن العرب المرتدين سيقضون على الإسلام فى مهده، ولكن الله خَيَّبَ ظنهم، فعادوا يكيدون للإسلام، فما كان من أبى بكر الصديق -رضى الله عنه- إلا أن بعث إليهم خالد بن الوليد، وتحرك الجيش بقيادته نحو العراق، ونزل الحيرة فدعا أهلها إلى الإسلام، أو الجزية، أو الحرب. ولهم أن يختاروا الموقف الذى يناسبهم، فلا إكراه فى الدين، ولا عدوان إلا على الظالمين! والإسلام أحب إلى كل مسلم من الجزية أو الحرب. وقبل أهل الحيرة أن يدفعوا للمسلمين الجزية ويعيشوا فى أمان وسلام، وكانت هذه أول جزية تؤخذ من الفرس فى الإسلام. وسار خالد بجيشه إلى الأنبار، فهزم أهلها حتى نزلوا على شروطه، وقبلوا دفع الجزية أيضًا. ثم اتجه إلى "عين التمر"، ومنها إلى "دومة الجندل"، وفتحهما عنوة وقهرًا بعد أن رفض أهلها الإسلام والجزية وأعلنوا الحرب! فعاد البطل الفاتح منتصرًا بعد أن أَمَّنَ حدود الدولة الإسلامية الناشئة من ناحية الفرس. مواجهة الروم: لكن خطر الروم ما زال يهدد الدولة الإسلامية !! فهذا هرقل إمبراطور الروم قد جمع قواته على حدود فلسطين؛ وحرض العرب المجاورين له على معاداة المسلمين ليوقف المد الإسلامى والزحف المبارك، ولكن كلمة الله لابد أن تكون هى العليا، وكلمة الذين كفروا هى السفلى! لابد أن يزيل أبو بكر -رضى الله عنه- كل العوائق التى تقف فى طريق الدعوة الإسلامية، وتتربص بها، تريد القضاء عليها! ودعا أبو بكر المجاهدين لحرب الروم فى الشام، وأعلن التعبئة العامة ليلقن كل الذين يفكرون فى العدوان على الإسلام والمسلمين درسًا لا ينسى، وتحركت الجيوش من "المدينة المنورة" وبتشكيل أربع فرق يقودها قواد عباقرة عظام. كان على رأس الأولى: "عمرو بن العاص" ووِجْهَتُه "فلسطين". وكان على رأس الثانية "يزيد بن أبى سفيان" ووجهته دمشق. وكان على رأس الثالثة "الوليد بن عقبة" ووجهته "وادى الأردن". أما الرابعة فكان على رأسها "أبو عبيدة عامر بن عبدالله بن الجراح" ووجهته "حمص". اليرموك: لما انتهى أبو بكر الصديق من القضاء على فتنة المرتدين، قرر مواجهة القوتين العظميين آنذاك، وفكر فى مواجهة إحداهما، وبعث عددًا من الجند لمناورة القوى الأخرى، حتى لا تكون هناك فرصة لهما أن يجتمعا ضد المسلمين. وكان الفرس قد عرفوا بعدائهم الشديد للإسلام، وقد ظهر هذا من خلال بعض الأعمال، كمساندتهم للمرتدين، وإمداد كل من ادعى النبوة فى الجزيرة العربية، بل حاولوا القضاء على الإسلام، ولذا، فقد استجاب أبو بكر لطلب المثنى بن حارثة للتحرش بالفرس، بل أمر أبو بكر خالد بن الوليد أن يساعد المثنى، وذلك بالإرسال إليه بعد انتهاء خالد من حرب أهل العراق، وشعر الفرس بقوة المسلمين بعد الذى صنعه خالد ببعض الأراضى التى كانوا يحتلونها. أما القوى الرومية، فقد بعث أبو بكر خالد بن سعيد بن العاص يرابط بقواته قرب مناطق يسيطر عليها الروم والقبائل العربية التى تعتنق النصرانية وتحالف الروم، ثم أرسل أبو بكر الجيوش بقوادها الأربعة إلى بلاد الشام، وقد أدرك الروم ما يرمى إليه خليفة المسلمين، فاستعدوا لحرب آتية لابد منها مع المسلمين، بل نقل هرقل مقر القيادة إلى حمص ليكون أقرب من ميدان القتال، ولما رأى المسلمون ذلك، طلبوا من أبى بكر أن يرسل إليهم بالمدد، فأرسل أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يتحرك بمن معه فى نجد إلى الشام، ولاسيما أن الفرس فى حالة من الضعف، ورحل خالد بمن معه إلى الشام، حيث جرت معركة اليرموك بين المسلمين والروم، واحتشدت القوات للمواجهة، وقبل البدء فى القتال كان أبو بكر قد توفى ورحل إلى الرفيق الأعلى وتولى مكانه عمر، ولكن الجيش الإسلامى لم يكن يعلم بذلك، وتجهز جيش المسلمين للقاء الروم. هيكلة الجيش: استعد جيش المسلمين للقاء، فكان على ميمنة الجيش إلى الشمال عمرو بن العاص، وعلى الميسرة من الجنوب قرب نهر اليرموك يزيد بن أبى سفيان بن حرب، وكان أبو عبيدة بن الجراح بينهما. وخرج المسلمون على راياتهم، فكان على راية الميمنة معاذ بن جبل -رضى الله عنه-، وعلى راية الميسرة نفاثة بن أسامة الكنانى، وعلى الرجّالة هاشم بن عتبة بن أبى العاص، وعلى الخيّالة خالد بن الوليد، وهو المشير فى الحرب الذى يصدر الناس كلهم عن رأيه، ولما أقبلت الروم بأعدادها وعتادها وقد سدت الأفق، ورهبانهم يتلون الأناجيل يباركون صفهم. وأثناء ذلك، تحرك خالد بن الوليد إلى أبى عبيدة، وقال له: إنى مشير بأمر. فقال أبو عبيدة: قل ما أمرك الله أسمع لك وأطيع. فقال خالد: إن هؤلاء القوم لابد لهم من حملة عظيمة لا محيد لهم عنها، وإنى أخشى على الميمنة والميسرة، وقد رأيت أن أفرق الخيل فرقتين، وأجعلها وراء الميمنة والميسرة حتى إذا صدوهم كانوا لهم ردءًا، فنأتيهم من ورائهم، وجعل قيس بن هبيرة فى الخيل الأخرى، وأمر أبا عبيدة أن يتأخر عن القلب إلى وراء الجيش كله، حتى إذا فر أحد رآه، فيستحى منه، ورجع يقاتل مرة ثانية، فجعل أبو عبيدة مكانه فى القلب سعيد ابن زيد بن عمرو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وابن عم عمر، وزوج أخته، وساق خالد النساء وراء الجيش، ومعهن عدد من السيوف، وقال لهن: من رأيتنه هاربًا، فاقتلنه. ثم رجع إلى موقفه من الجيش. قبل اللقاء: ولما برز الفريقان، قام عدد من أعلام المسلمين يعظون الجيش ويذكرون الناس بفضل الجهاد، والثواب عند الله يوم القيامة، فقام أبو عبيدة ووعظ الناس، كما قام معاذ بن جبل وعمرو بن العاص، وأبو سفيان بن حرب وأبو هريرة -رضى الله عنهم-. السياسة الحربـية: ولما تقارب الفريقان، تقدم أبو عبيدة ويزيد بن أبى سفيان ومعهما ضرار بن الأزور والحارث بن هشام وأبو جندل بن سهيل ابن عمرو، ونادوا: إنما نريد أميركم لنجتمع له. فلما ذهبوا إلى (تذارق) أراد أن يجلسهم على فرش من حرير فرفضوا، وجلس هو معهم حيث شاءوا، فعرضوا عليه إما الإسلام وإما الجزية وإما الحرب، ولكن الروم آثروا الحرب على الإسلام والجزية. عز الإسلام: ثم طلب ماهان خالد بن الوليد ليبرز له فيما بين الصفين، فقال ماهان: إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع، فهلموا إلى أن أعطى كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعامًا وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها. فرد عليه خالد قائلا: إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنَّا قوم نشرب الدماء، وأنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك. فقال أصحاب ماهان: هذا والله ما كنا نحدث به عن العرب. بداية ونهاية: وتقدم خالد إلى عكرمة بن أبى جهل والقعقاع بن عمرو، وهما على جانبى القلب، وأمرهما ببدء القتال، وهكذا بدأت المعركة، وكان ذلك فى أوائل رجب عام (13 هـ)، وحملت ميسرة الروم على ميمنة المسلمين، فمالوا إلى جهة القلب، ثم تنادى المسلمون فتراجعوا، وحملوا على الروم وردت النساء من فر، ثم نادى عكرمة بن أبى جهل قائلا: قاتلت رسول الله ( فى مواطن، وأفر منكم اليوم! وبايعه جماعة من الصحابة على الموت، وصل عددهم إلى 400 رجل، وقاتلوا أمام فسطاط خالد، فجرحوا جميعًا، ومات بعضهم، ثم حمل خالد بن الوليد بالخيل على ميسرة الروم التى حملت على ميمنة المسلمين، فأزالوهم إلى القلب، وقتل المسلمون فى حملتهم هذه 6000 من الروم، ثم حمل خالد بمائة فارس على ما يقرب من 100000 من الروم، فانهزم الروم أمامهم بإذن الله تعالى، ولما عاد المسلمون من حملتهم جاء صاحب البريد إلى خالد بوفاة أبى بكر وتولية عمر، وكتب إليه بعزله عن قيادة الجيش وتولية أبى عبيدة، وكان يكلمه سرّا، فقال له خالد: أحسنت. وأخفى الخبر حتى لا تحدث زعزعة فى صفوف المسلمين. وبينما كان القتال على أشده بين جيش الإسلام وجيش الروم، خرج "جرجة" -أحد أمراء الروم الكبار- من الصف، واستدعى خالد بن الوليد، فجاء إليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما، فقال جرجة: يا خالد، أخبرنى فاصدقنى ولا تكذبنى، فإن الحُرّ لا يكذب، ولا تخادعنى، فإن الكريم لا يخادع، هل أنزل الله على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاه لك، فلا تسلَّه على أحد إلا هزمته؟ قال: لا! قال: فبم سميت سيف الله؟ قال: إن الله بعث فينا نبيّا، فدعانا، فنفرنا منه، ونأينا عنه جميعًا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا كذبه وباعده، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه، فقال لى: "أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين"، ودعا لى بالنصر، فسميت سيف الله بذلك؛ فأنا من أشد المسلمين على المشركين. فقال جرجة: يا خالد إلى ما تدعون؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند الله -عز وجل-. قال: فمن لم يجبكم؟ قال: فالجزية ونمنعهم (نحميهم). قال: فإن لم يعطها؟ قال: نؤذنه بالحرب ثم نقاتله. قال: فما منزلة من يجيبكم ويدخل فى هذا الأمر اليوم؟ قال: منزلته واحدة، فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا. قال جرجة: فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم؟ قال: نعم وأفضل. قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ فقال خالد: لقد قبلنا هذا الأمر، وبايعنا نبينا وهو حى بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتاب، ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل فى هذا الأمر بحقيقة دينه كان أفضل منا. فقال جرجة: بالله لقد صدقتنى ولم تخادعنى؟ قال: تالله لقد صدقتك، وإنَّ الله ولىّ ما سألت عنه من الإسلام. ودخل جرجة الإسلام فأخذه خالد إلى خيمته، وصب عليه قربة من ماء، ثم صلى به ركعتين ورجعا إلى المعركة يضربان بسيفيهما من بدء ارتفاع النهار حتى غروب الشمس، وأصيب جرجة رحمه الله، فمات شهيدًا، ولم يكن صلى لله -عز وجل- غير هاتين الركعتين مع خالد. بعد أن فر الروم ليلا إلى الواقوصة. وتم الفتح المبارك، وانهزمت الروم هزيمة بالغة، علم بها هرقل، وارتحل من حمص. لقد كان المسلمون رجالا لا يثبت لهم العدو رغم قلتهم، ولقد انهار هرقل وهو يرى هزيمة الروم رغم كثرتهم، فقال لقواده: ويلكم أخبرونى عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونك أليسوا بشرًا مثلكم؟ قالوا: بلى. قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافًا في كل موطن. قال: فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم. ومن أجل أنا نشرب الخمر ونزنى، ونركب الحرام وننقض العهد، ونغضب ونظلم ونأمر بالسخط، وننهى عما يرضى الله، ونفسد فى الأرض. فقال هرقل: أنت صدقتنى. وكان تعداد الجيوش التى سيرت إلى الشام سبعة وعشرين ألفًا، ولكنها زيدت بوصول جيش خالد إلى ستة وثلاثين. وكان جيش الروم يقارب المائتين وأربعين ألفًا، ولكن الله نصر عباده رغم قلة عددهم، بسبب إيمانهم وقوة عقيدتهم. منجزات أبى بكر: كان عهد أبى بكر امتدادًا لعصر النبى (، لم يكن إلا متبعًا ومنفذًا لكل ما أشار به الرسول ( أو أمر به، لم يبتدع أبو بكر -رضى الله عنه- شيئًا يخالف ما كان عليه رسول الله (، بل كان كل شىء يسير وفقًا لشريعة الإسلام، وانشغل الناس فى فترة خلافته بقتال المرتدين والفتوحات الإسلامية. ولم يبق فى المدينة إلا من استبقاهم أبو بكر لحمايتها، ولاستشارتهم ولتبادل الرأى معهم، وعلى رأس هؤلاء: عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص. وكانت المدينة المنورة فى عهده عاصمة الدولة الإسلامية ومركز الحكم ومقر الخلافة. قسم أبو بكر الجزيرة العربية إلى ولايات جعل على كل منها أميرًا، يؤم الناس فى الصلاة، ويفصل بينهم فى القضايا، ويقيم الحدود؛ فكان على "مكة" عتاب بن أسيد، وعلى صنعاء المهاجر بن أمية، وعلى عمان والبحرين العلاء بن الحضرمى. وقد اتخذ الصديق عمر قاضيًا على المدينة، وجعل أبا عبيدة أمينًا على بيت مال المسلمين. ولقد كانت فترة حكمه قصيرة، لكنها كانت حاسمة فى تاريخ الإسلام، فقد واجه أحرج المواقف، وربما وقف وحده عند إصراره على محاربة المرتدين فى وقت اتجه فيه باقى المسلمين إلى المسالمة، قائلين: كيف نحارب الجزيرة العربية كلها؟! لكنه بإيمانه ويقينه وصدقه سرعان ما ضم المسلمين إلى رأيه، ثم سار بهم جميعًا يدكّ صروح الشرك، ويقضى على الشكوك والأوهام! ولم يتوقف عند هذا، بل راح يحطم قصور كسرى وقيصر. رحم الله أبا بكر لقد تمثلت فيه كل المعانى الإسلامية الرائعة. جمع المصحف: استشهد كثير من حفظة القرآن وقرائه فى حروب الردة، وهنا أشار عمر -رضى الله عنه- على أبى بكر بضرورة جمع القرآن الكريم ؛ حيث كان مكتوبًا على سعف النخيل، وقطع الجلد، وألواح عظام الإبل، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت ومعه بعض أصحابه بتولى هذه المهمة العظيمة. وقاموا بتدوين القرآن كله فى دقة متناهية بالترتيب الذى أمر به رسول الله (، ودون أى تغيير، وسموه مصحفًا. إن القرآن هو دستور المسلمين، وقد تعهد الله بحفظه، وكان أبو بكر أول من أسهم فى هذا الحفظ رحمه الله. موت الخليفة: وفى هذا العام (13هـ/635م)، مرض أبو بكر، وظل المرض ملازمًا إياه طيلة شهر، ثم عهد بالخلافة لعمر بن الخطاب بعد أن استشار كبار الصحابة. وبعد ذلك، لقى ربه راضيًا مرضيًّا، وكانت ولايته -رضى الله عنه- سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام، وصعدت روحه إلى الرفيق الأعلى وله من العمر ثلاثة وستون عامًا. وكان آخر ما تكلم به : ( تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِين [يوسف: 101]. ولم يترك ثروة طائلة، وإنما ترك ذكرى طيبة. وحسبه أنه جمع المسلمين، ووحّد كلمتهم، وأمَّن حدود الدولة، ولقَّن الأعداء درسًا لا يُنسى. |
#6
|
|||
|
|||
خلافة عمر بن الخطاب
خلافة عمر بن الخطاب
(13 - 23 هـ/ 634- 643م ) لاختيار: رحم الله أبا بكر، لقد قال فيه عمر يوم أن بويع بالخلافة: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده. ولقد كان عمر قريبًا من أبى بكر، يعاونه ويؤازره، ويمده بالرأى والمشورة، فهو الصاحب وهو المشير. وعندما مرض أبو بكر راح يفكر فيمن يعهد إليه بأمر المسلمين، هناك العشرة المبشرون بالجنة، الذين مات الرسول ( وهو عنهم راضٍ. وهناك أهل بدر، وكلهم أخيار أبرار، فمن ذلك الذى يختاره للخلافة من بعده ؟ إن الظروف التى تمر بها البلاد لا تسمح بالفرقة والشقاق؛ فهناك على الحدود تدور معارك رهيبة بين المسلمين والفرس، وبين المسلمين والروم. والجيوش فى ميدان القتال تحتاج إلى مدد وعون متصل من عاصمة الخلافة، ولا يكون ذلك إلا فى جو من الاستقرار! إن الجيوش فى أمسِّ الحاجة إلى التأييد بالرأى، والإمداد بالسلاح، والعون بالمال والرجال، والموت يقترب، ولا وقت للانتظار، وعمر هو من هو عدلا ورحمة وحزمًا وزهدًا وورعًا. إنه عبقرى موهوب، وهو فوق كل ذلك من تمناه رسول الله يوم قال: اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك، عمر بن الخطاب وأبى جهل بن هشام" [الطبرانى]، فكان عمر بن الخطاب. فلِمَ لا يختاره أبو بكر والأمة تحتاج إلى مثل عمر؟! ولم تكن الأمة قد عرفت عدل عمر كما عرفته فيما بعد، من أجل ذلك سارع الصديق -رضى الله عنه- باستشارة أولى الرأى من الصحابة فى عمر، فما وجد فيهم من يرفض مبايعته، وكتب عثمان -رضى الله عنه- كتاب العهد، فقرئ على المسلمين، فأقروا به وسمعوا له وأطاعوا. إنه رجل الملمات والأزمات، لقد كان إسلامه فتحًا، وكانت هجرته نصرًا، فلتكن إمارته رحمة، ولقد كانت؛ قام الفاروق عمر بالأمر خير قيام وأتمه، وكان أول من سمى بأمير المؤمنين. وبدأت الدولة الجديدة فى عهده تتسع رقعتها، ولم تعد مقصورة على مكة والمدينة وما حولهما من القرى، لكنها أصبحت تضمُّ شبه الجزيرة العربية، وتمتد لتشمل بعض المدن فى العراق والشام. وها هى ذى الجيوش الإسلامية تواصل زحفها المبارك لإعلاء كلمة الله، وتنتقل من نصر إلى نصر، هناك شعوب مقهورة مظلومة تحت حكم الفرس والرومان تتطلع إلى من يأخذ بأيديها، ويخلصها من القهر والظلم. وهناك فى العراق، والشام، ومصر، وشمال إفريقية، شعوب تعانى من الظلم والطغيان، والآن راحت تتطلع إلى غد يسود فيه العدل والأمان. وعمر العادل خير من يحمل الراية فى هذه الظروف، وكأنما أعده النبى ( لهذا اليوم الموعود فهو مثال العدل والرحمة فى الإسلام ! لقد اقترن اسم عمر بدولة الفرس ودولة الروم، وسمى عصره عصر الفتوحات الإسلامية. تعديل فى القيادة: فى البدء وجه عمر -رضى الله عنه- اهتمامه إلى الجيوش المحاربة؛ لأنه يريد لها أن تنتصر، ويريد لكلمة الله أن تعلو وتنتشر، ويود أن يكون مع الجنود فى صفوف القتال لولا أن أهل الشورى نصحوا له أن يختار من ينوب عنه؛ ليظل بعاصمة الخلافة حيث تقتضى المصلحة العامة وجوده. أصدر عمر -رضى الله عنه- أوامره بتعيين أبى عبيدة بن الجراح قائدًا عامّا للقوات الإسلامية فى الشام، فى نفس الوقت الذى أمر فيه بعزل خالد بن الوليد من إمارة الجيش حتى لا يفتتن الناس به. ولقد قابل خالد الأمر بالطاعة فهو جندى فى صفوف جيش الإسلام، والجندية طاعة، فليضعه الخليفة حيث يشاء، وما عليه إلا أن يطيع، إن خالدًا لا يهمه أن يكون فى مركز القيادة، يكفيه أن يكون جنديَّا فى صفوف المسلمين، يجاهد فى سبيل الله، رافعًا راية الإسلام، فراح يحارب فى جلد وإخلاص تحت إمرة القائد الجديد. فتح دمشق: وكانت المعركة الثانية بين المسلمين والروم حول دمشق، لقد أحاط المسلمون بالمدينة، وتحصن الروم بها، وأغلقوا أبوابها، خالد بجنوده على الباب الشرقى، وأبو عبيدة على باب الجابية (الجولان)، وعمرو بن العاص على باب توما، وشرحبيل بن حسنة على باب الفراديس، ويزيد بن أبى سفيان على الباب الصغير، كانت دمشق ممتنعة غاية الامتناع، وطال بها الحصار، واشتدت الحال على الجميع، وكان أهل دمشق يرسلون إلى ملكهم هرقل يطلبون مددًا فلا يصل إليهم لقوة حصار المسلمين لها، وهنا فشل أهل دمشق وضعُفوا وقَوِىَ المسلمون، وقدّر الله أن وُلِد لبطريق دمشق مولود فى إحدى الليالى، فصنع للناس طعامًا، وسقاهم شرابًا، وباتوا عنده فى وليمته قد أكلوا وشربوا وتعبوا، فناموا عن مواقعهم واشتغلوا عنها، وفطن لذلك خالد وهو على الباب الشرقى، فقد كان قائدًا يقظًا لا تفوته فائتة، فأعد سلالم من حبال، وجاء هو وأصحابه من الصناديد الأبطال مثل: القعقاع بن عمرو، ومذعور بن عدى وغيرهما، وقد أحضر جيشه عند الباب، وقال لهم: إذا سمعتم تكبيرنا عند السور فاصعدوا إلينا. وقام هو وأصحابه فقطعوا الخندق سباحة، وفى أعناقهم جعبة النبال، فنصبوا السلالم وصعدوا فيها ولما استندوا على السور رفعوا أصواتهم بالتكبير، وجاء المسلمون، فصعدوا فى تلك السلالم، وانحدر خالد وأصحابه الشجعان إلى البوابين، فقتلوهم وفتحوا الأبواب، فدخلت جيوش المسلمين، والتكبير يجلجل المكان ويضىء جنباته بنور جديد، هو نور الإسلام. وهكذا دخلها خالد من الباب الشرقى قسرًا وقهرًا، ودخلها أبو عبيدة من باب الجابية مسالمًا، وكان ذلك سنة 13هـ / 635م. إن دمشق حصن الشام، وبيت مملكتهم، وها هى ذى قد سقطت فى أيدى المسلمين. موقعة فحل: وتقدم المسلمون بعد ذلك نحو "فحل"، فقاتل المسلمون الروم أشد قتال، فانهزم الروم وهم حيارى لا يجدون ملجأ ولا مهربًا، فأصيبوا جميعًا وكانوا ثمانين ألفًا لم ينج منهم إلا القليل. فتح بــيت المقدس: ثم واصل أبو عبيدة تقدمه نحو حمص، وترك يزيد بن أبى سفيان ليتجه نحو بلاد ساحل دمشق، وظل القادة المسلمون يفتحون المدن واحدة بعد أخرى، ولم يبق أمام المسلمين إلا بيت المقدس، وله فى نفس المسلمين مكانته واحترامه، وقداسته، فإليه كان إسراء الرسول (، ومنه كان معراجه. وإليه كانت قبلتهم الأولى. وقد دافع عنه الروم دفاعًا مستميتًا ألحق بجنود المسلمين كثيرًا من الخسائر لكنهم صبروا وتحملوا، ليخلِّصوا بيت المقدس وأهله من حكم الرومان وظلمهم. وكتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص بالمسير إلى القدس، فلما وصل إلى "الرملة" وجد عندها جمعًا من الروم عليه قائد داهية اسمه (الأرطبون) كان أدهى الروم، وكان قد وضع "بالرملة" جندًًا عظيمًا و"بإيلياء" جندًا عظيمًا، فكتب عمرو إلى عمر بالخبر، فلما جاءه كتاب عمرو قال: رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب- يعنى عمرو بن العاص. ظل عمرو يتربص بالأرطبون زمنًا فلا يجد فرصة لذلك، وكان يرسل إليه الرسل ليعرف أمره فلا تشفيه الرسل، فقرر أن يلقاه بنفسه مدَّعيًا أنه رسول عمرو بن العاص إليه. دخل عليه وأبلغه ما يريد، وسمع كلامه وتأمل حضرته، وقال الأرطبون فى نفسه: والله إن هذا لعمرو أو أنه الذى يأخذ عمرو برأيه. فقرر قتله، وأحس عمرو بذلك فقال للأرطبون: أيها الأمير إنى قد سمعت كلامك وسمعت كلامى، وإنى واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب لنكون مع هذا الوالى لنشهد أموره، وقد أحببت أن آتيك بهم ليسمعوا كلامك، ويروا ما رأيت. فطمع الأرطبون أن يقتلهم جميعًا، فقال له: نعم فاذهب فأتنى بهم، فقام عمرو فذهب إلى جيشه، وعلم الأرطبون بعد ذلك أن الرسول كان عمرًا، فقال: خدعنى الرجل، هذا والله أدهى العرب. وكان أبو عبيدة لما فرغ من دمشق قد كتب إلى أهل بيت المقدس يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام أو يدفعون الجزية، وإلا كان الحرب بينهم، فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه، فركب إليهم فى جنوده، وحاصر بيت المقدس، وضيق عليهم حتى أجابوا إلى الصلح. وأحس أرطبون قائد الروم بهذه المناورات تدور حوله فهرب إلى مصر، وطلب المسيحيون الصلح على أن يحضر الخليفة بنفسه لتسلم المدينة، ويتعهد لسكانها بالحرية الدينية، فكتب عمرو إلى عمر يحيطه علمًا بذلك، فحضر عمر، وكتب بنفسه كتاب الأمان المسمى "العهدة العمرية". وفى تلك الأرض المباركة أقام عمر -رضى الله عنه- مسجدًا من الخشب فى خرائب كانت عند الصخرة المقدسة، بعد أن طهره من القمامة التى كان الروم يلقونها عليه، ثم عاد إلى المدينة المنورة فى سنة 16هـ / 677م.. لقد قضى على حكم الروم فى هذه البلاد، وراحت الجيوش الإسلامية تواصل زحفها لتطهير البلاد من فلول الروم. فتح مصر: وها هى ذى جيوشهم تفر أمام الجيوش الإسلامية وتهرب إلى مصر، لقد قدم المسلمون آلاف الشهداء فى حروبهم ضد الروم فى سوريا وفلسطين، فصارت هذه الديار غالية عليهم، ولن يحس المسلمون بالاستقرار فى سورية وفلسطين، وهناك جيش كبير للروم على مقربة منهم، لقد اتخذوا من مصر مركزًا لتجمعهم، وأصبح وجودهم خطرًا يهدد جيش الشام. من أجل هذا استأذن عمرو بن العاص الخليفة فى فتح مصر. وسارع عمرو إلى مصر فتم له فتحها سنة 20هـ/ 641م، وولاه عمر عليها يرتب أمورها، وينظم أحوالها، ومن مصر تحرك جيش المسلمين غربًا إلى برقة فى ليبيا، وجنوبًا إلى بلاد النوبة لفتحهما. وبنى عمرو بن العاص الفسطاط لتصبح عاصمة مصر الإسلامية، وأقام بها الجامع الذى عرف فيما بعد بجامع عمرو، وارتفعت كلمة التوحيد فى سماء مصر، لتكون منارة مسلمة على مر الأجيال. إن مصر هى كنانة الله فى أرضه، وجندها خير أجناد الأرض، وبفتح مصر أصبحت بلاد الشام آمنة، وزال الخطر الذى كان يهدد الجيش الإسلامى بعد أن استسلم الروم، وفروا هاربين إلى بلادهم. عودة إلى جبهة الفرس: كان اهتمام المسلمين بغزو الروم يفوق اهتمامهم بغزو فارس؛ فالروم بدءوا بالشغب والعدوان على الحدود، والشام وفلسطين ومصر أراض احتلتها الروم، لكنها كانت تترقب إلى الخلاص من بين أنياب هذا المستعمر الظالم، وكان المسلمون يعلقون الآمال على أن يجدوا من أهل هذه البلاد بعض المساعدة لطرد هؤلاء المستعمرين القساة، وقد تحقق لهم ما أرادوا. موقعة البويب: وفى عهد عمر كانت كفة المسلمين قد رجحت على الروم بعد انتصارهم فى معركة "أجنادين"، فاتجه عمر -رضى الله عنه- إلى معاودة الزحف على بلاد الفرس. فبعث أبا عبيدة بن مسعود الثقفي، وأمر عمر -رضى الله عنه- المثنى بن حارثة أن يكون فى طاعة أبى عبيدة. وسار أبو عبيدة حتى عبر الفرات بمن معه من المسلمين، وهناك دارت معركة عظيمة هى معركة "الجسر" استشهد فيها القائد أبو عبيدة الثقفى وعدد كبير من المسلمين، بعد أن انتصروا على أهل فارس أولا فى عدة مواقع سابقة. أرسل عمر -رضى الله عنه- إلى فارس جيشًا يقوده المثنى بن حارثة، وقد حقق المسلمون فى هذه الموقعة انتصارًا رائعًا، فقد قُتل "مهران" قائد جيش الفرس فى المعركة هو وكثير من أتباعه، وتلك كانت وقعة "البويب" وقد سماها المسلمون "الأعشار" لأن كثيرًا من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة من الفرس. وفى "القادسية" التقى الفرس والمسلمون، قاد المسلمين سعد ابن أبى وقاص، وقاد الفرس رستم، وفر رستم وعشرات الآلاف من جنوده، وغنم المسلمون غنائم كثيرة بعد أن استمرت المعركة عدة أيام. وتساقطت مدن فارس فى أيدى الجيش الإسلامى تساقط الثمرات واحدة بعد أخرى، وكان انتصار المسلمين فى القادسية دافعًا لهم إلى مواصلة الزحف على العاصمة "طيسفون" التى سماها العرب "المدائن"، ويشتد القتال ضراوة، ويهدم الفرس الجسور حتى لا يستطيع العرب عبور نهر دجلة، ولكن المسلمين سرعان ما عبروا النهر بخيولهم، وهنا اضطرب الفرس وأحاطت بهم الهزيمة، وهرب "يزدجرد بن شهريار" إلى حلوان بأرض فارس. وسقطت العاصمة الفارسية العريقة فى أيدى المسلمين، وكان سقوط العاصمة فى العام السادس عشر من الهجرة، (637م). إنهم لم يقبلوا مع العرب صلحًا، ورفضوا أن يدفعوا الجزية، وفضلوا عبادة الكواكب والنار والمجوسية على دين الله، وأعلنوا عداءهم واستعدادهم لقتال المسلمين، إذن لم يبق إلا الحرب. معركة جلولاء: لقد هرب "يزدجرد" ليعد عدته للقاء آخر، وراح يعسكر بمنطقة "جلولاء"، والإمدادات تنهال عليه، والجنود يقومون بحفر الخنادق حول معسكره، ولكن المسلمين يقتحمون عليهم خنادقهم، وتدور معركة من أعنف المعارك، وثبت المسلمون حتى كُتِبَ لهم النصر، وكان قائد المسلمين فى معركة جلولاء "هاشم بن عتبة" ويهرب "يزدجرد" مرة ثانية؛ حيث ترك حلوان وفر إلى الري، ولم يبق إلا فتح الفتوح "موقعة نهاوند" إنها آخر محاولة يقوم بها "يزدجرد". نهاوند: لقد جمع الكثير من الجيوش التى استماتت فى الدفاع والحرب، ولكن المسلمين هزموهم بإذن الله، لقد عزل عمر سعد ابن أبى وقاص، وولى مكانه النعمان بن مقرن وقد سقط النعمان شهيدًا بعدما رأى بشائر الفتح لاحت فى الأفق، فأخذ الراية أخوه نعيم، وناولها " حذيفة بن اليمان" وأشار عليهم المغيرة بن شعبة بكتمان خبر استشهاد الأمير حتى لا يرتاب الناس، فلما تم النصر على المشركين، جعل الناس يسألون عن أميرهم، فقال أخوه: "هذا أميركم، لقد أقر الله عينه بالفتح وختم له بالشهادة". فاتبع الناس حذيفة ودخل المسلمون نهاوند بعد هزيمة الفرس، وكان العرب يسمون فتح نهاوند "بفتح الفتوح". وبعد نهاوند تقدمت الجيوش الإسلامية لتستولى على المدن المجاورة، وخضعت لهم منطقة "أذربيجان"، وكانت هذه الانتصارات الباهرة سببًا فى إضعاف الروح المعنوية عند الفرس. لقد استسلم عدد كبير منهم ومالوا إلى الصلح، واستسلم عدد كبير منهم عنوة وقهرًا، ولم يستطع "يزدجرد" مقابلة المسلمين فى قوة كما فعل فى الماضي، وظل أمره فى نقصان حتى قتل بخراسان سنة 31هـ/ 652م، فى عهد عثمان -رضى الله عنه- وبموته انتهت دولة (آل ساسان). لقد دانت بلاد الشام للإسلام، ودانت بلاد الفرس للإسلام، حتى أصبح عصر عمر بن الخطاب بحق هو عصر الفتوحات الإسلامية. فلم يكد المسلمون يستقرون هنا وهناك حتى أرسل سعد بن أبى وقاص أحد قادته وهو عياض بن غنم إلى أرض الجزيرة ؛ حيث تجمع جند الروم فى أعلاها فافتتح هذه البلاد. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل استمرت الدولة الإسلامية فى عهد عمر تواصل فتوحها، والجند ينشرون الدعوة، والجهاد لا تنطفئ شعلته. فتح أرمينية: لقد أرسل الخليفة القائد عبد الرحمن بن ربيعة الباهلى لفتح "أرمينية" سنة 18هـ/ 639م، وأرسل إليه المدد بقيادة سلمان الفارسى من جهة، وحبيب بن مسلمة الفهرى من جهة أخرى، وتمكنت القوات الإسلامية من فتح أرمينية، وراحت تواصل تقدمها حتى شمال جبال القوقاز. ما هذا الذى يجرى على الساحة؟ إنه نصر من الله. قد أدى الجنود الفاتحون واجبهم، فلابد أن تقام لهم مدن جديدة تكون قريبة من الأراضى المفتوحة حديثًا ومواطن الغزو والجهاد فى المستقبل، ويقع الاختيار على الكوفة والبصرة فى العراق، وترتفع مآذنهما لتنضم إلى قائمة المدن الإسلامية. لقد كان عهد عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- حافلا بالفتوحات الإسلامية، مليئًا بالغزوات والجهاد فى سييل الله، فقد فتح فيه مدن كثيرة، كحمص وقنسرين، تستر، والسوس، والرى، وقوس، وجرجان، وغير ذلك من البلاد الكثيرة. إدارة عمر وسياسته: إن عمر بن الخطاب يعد نفسه مسئولا عن توفير الحياة الكريمة الشريفة للجميع، ويرى أنه لو عثرت بغلة فى العراق لكان مسئولا عنها. ومن أجل هذا نراه يوجه اهتمامه إلى تقوية الثغور والشواطئ والموانئ. ولا يفوته أن يحصى أسماء الجنود الفاتحين ليجعل لهم رواتب تفى بمطالبهم، وتكفل لهم حياة كريمة، ونراه يقوم بعمل إحصاء عام، ويدوِّن الدواوين، ويقسم الدولة إلى ثمانى ولايات هى: مكة، والمدينة، وفلسطين، والشام، والجزيرة الفراتية، والبصرة، والكوفة، ومصر، ويعين واليًا لكل ولاية ينوب عنه فى الصلاة وقيادة الجند، وإدارة شئون الحكم فى الولاية. ولا يكتفى بهذا، بل يرتب البريد، ويتخذ من الهجرة بداية للتقويم الهجرى. كل ذلك فى عشر سنوات، وستة أشهر وأربعة أيام، مات بعدها شهيدًا بيد الغدر، فقد قتله أبو لؤلؤة المجوسى، الفارسى الأصل -وكان غلامًا للمغيرة بن شعبة-؛ حقدًا على الإسلام والمسلمين. أمنية لم تتحقق: كان عمر مع عدله ورحمته يخشى أن يموت وهو مقصر فى حق رعيته، وكم كان يتمنى أن يذهب إلى الناس فى الولايات الثمانية ليدرس مشكلاتهم، ويحقق رغباتهم، وقد ورد عنه أنه قال فى آخر حياته: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن فى الرعية حولا (عامًا) فإنى أعلم أن للناس حوائج تقطع دونى (لا أطلع عليها)، أما عمالهم (ولاتهم) فلا يرفعونها إلى، وأما هم فلا يصلون إلى، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، والجزيرة شهرين، وبمصر شهرين، وبالبحرين شهرين، وبالكوفة شهرين وبالبصرة شهرين. والله لنعم الحول هذا، لكن القدر لم يمهله فاستشهد -رضى الله عنه- قبل أن تتحقق هذه الأمنية. لقد طبق عمر المبادئ الإسلامية على نفسه أولا قبل أن يطلب من غيره تنفيذها. وكان يشترط على من يُولِّيه أمرَ المسلمين ألا يتعالى عليهم، ولا يستأثر لنفسه بشىء دونهم، ولا يغلق فى وجوههم بابه. وكان يتباطأ فى معاقبة المسئولين فى حزم وقوة، إن هم أساءوا إلى الرعية، فالناس قد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، وليس من حق أحد أن يستعبدهم حتى لو كان واليًا، لقد قاسم بعض ولاته أموالهم لما أحس أن ثرواتهم زادت عما كانت عليه قبل تولى مناصبهم، وأنصف القبطى المصرى الذى اعتدى عليه ابن والى مصر عمرو بن العاص، وقال له: اضرب ابن الأكرمين. ووجه كلامه إلى عمرو قائلا: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا. القوى الأمين: وعندما بخلت السماء بمائها، وتوقفت الأرض عن أن تجود بزرعها فى عام الرمادة، واجه عمر الأزمة الطاحنة، وأشرف على إعداد الطعام بنفسه حتى مرت الأزمة بسلام، فكان عمر بحق كما وصفه على بن أبى طالب، إذ قال لعثمان يومًا فى كتاب الله: (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) [القصص: 26]. وهو الذى جعل من القلة كثرة، ومن الضعف قوة، ومن الذل عزّا، ومن الموت حياة، وأخرج من الصحراء رجالا كانوا أمثلة عظيمة فى العدل والإحسان، ولم يكن وراء هؤلاء إلا الإيمان المتين، والخلق الصالح، والأخذ بأسباب النصر والعمل الجاد المخلص لله. . |
#7
|
|||
|
|||
خلافة عثمان بن عفان
خلافة عثمان بن عفان
(23 - 35 هـ/ 643- 655م ) جعل عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- الخلافة قبل وفاته شورى في ستة من كبار الصحابة، هم عثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن ابن عوف، وسعد بن أبى وقاص -رضى الله عنهم-، وجعل ابنه عبدالله بن عمر معهم مشيرًا ولا يحق لهم اختياره، وقد وقع الاختيار على عثمان بن عفان سنة 24هـ لتولى خلافة المسلمين. وقد بدأ عثمان عهده بأن كتب إلى الولاة وعمال الخراج ينصحهم بالسير فى طريق العدل والإنصاف والمساواة بين الناس، وزاد فى أعطيات جيشه. الحالة السياسية للدولة: عمل عثمان على توطيد نفوذ المسلمين فى كثير من البلاد التى تم فتحها من قبل، كما نجح ولاته فى ضم مناطق جديدة إلى حوزة الدولة الإسلامية، ففى سنة 24هـ، جرى غزو "أذربيجان" و"أرمينية" للمرة الثانية على يد الوليد بن عقبة بعد أن امتنع أهلها عن دفع ما كانوا قد صالحوا المسلمين عليه، وفى نفس العام وصل معاوية بن أبى سفيان إلى الشام لصد الروم التى تحركت لغزو الشام واستعادتها من المسلمين، فأرسل جيشًا من أهل الكوفة بقيادة سلمان بن ربيعة الباهلى فى ثمانية آلاف رجل، وتولى قيادة جيش الشام حبيب بن مسلمة الفهرى، فشنوا الغارات على الروم، وأوقعوا بهم، وتوالت الفتوحات الإسلامية، فعاود معاوية بن أبى سفيان غزو الروم، وتوغل فى أرضهم حتى وصل "عمورية"، وكان معاوية يهدف من وراء ذلك إلى شغل الروم بالدفاع عن الأقاليم المتاخمة للقسطنطينية فيسهل عليه فتح ما تبقى لهم من قلاع وحصون على ساحل الشام، وقد نجح فى ذلك ففتح قنسرين وغيرها. وفى الشرق بلغ "عثمان بن عبدالله" أرض كابل (أفغانستان الحالية). وفى سنة 27هـ جهز الخليفة جيشًا لفتح إفريقية (تونس حاليّا) وفى العام التالى أمد الخليفة جيش الفتح بقوات جديدة فى مقدمتها عدد من أعلام الصحابة كعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن عمرو بن العاص، والذين قد عرفوا بالعبادلة. وانتصر جيش المسلمين على الجيش البيزنطى وسميت هذه الواقعة بغزوة "العبادلة"، وفيها قتل القائد البيزنطى جُرْجير على يد عبدالله بن الزبير، واستولى المسلمون على أرض تونس سنة 27هـ. وفى سنة 28هـ عمل معاوية على وضع النواة الأولى للأسطول الإسلامى، فاستأذن الخليفة فى ذلك، فأذن له فبدأ يعمل على إنشاء هذا الأسطول، كذلك سلك نفس المسلك عبد الله بن سعد بن أبى سرح والى مصر، ولما أتم معاوية تجهيز أول أسطول إسلامى اتجه به إلى غزو قبرص حيث كانت تعد محطة تموين للأسطول البيزنطى فى البحر المتوسط وهو الذى اعتاد مهاجمة الشواطئ الإسلامية، وتم لمعاوية فتحها سنة 28هـ. ذات الصوارى: ولما بلغ هرقل إمبراطور الروم خبر استيلاء العرب على بلاده فى إفريقية جهز أسطولاً كبيرًا مؤلفا من 600 مركب، واتجه به من القسطنطينية فى البحر إلى ناحية تونس هادفًا إلى القضاء على البحرية الإسلامية الناشئة، فخرج إلى الأسطول الإسلامى بشقيه الشامى والمصرى بقيادة عبدالله بن سعد بن أبى سرح، والتقوا بمراكب الروم بالقرب من شواطئ "كيليكيا" فانهزم الأسطول الرومى، وفر قائده بما بقى من مراكبه فى موقعة "ذات الصوارى" سنة 31هـ. وهكذا فقد كانت الفتوحات الإسلامية أيام عثمان بن عفان كبيرة وواسعة إذ أضافت بلادًا جديدة فى إفريقية وقبرص وأرمينيا، وأجبرت من نقض العهد إلى الصلح من جديد فى فارس وخراسان وباب الأبواب. وضمت فتوحات جديدة فى بلاد السند وكابل وفرغانة، ورغم هذا فقد حدثت فتنة فى أواخر عهد عثمان، فقد اتهمه فيها البعض بأنه يقرب إليه بنى أمية ويستشيرهم فى أموره، ويسند إليهم المناصب الهامة فى الدولة، وظهرت بعض الشخصيات التى صارت تبث روح السخط والتمرد فى نفوس أهل البلاد، ومن ذلك ما قام به عبدالله بن سبأ (المعروف بابن السوداء) وكان يهوديّا يُظهر الإسلام، حيث تنَّقل بين الأقاليم الإسلامية محاولا إثارة الناس ضد الخليفة، ولم يمضِ على ذلك وقت طويل حتى أقبل إلى المدينة فى شوال سنة 35هـ وفد من العرب المقيمين فى مصر والكوفة والبصرة ومعهم بعض المطالب منها عزل الولاة الذين أساءوا للمسلمين، ومازالوا بالخليفة حتى قبل بعض مطالبهم، وسافروا من المدينة، ثم مالبثوا أن عادوا إليها وفى يدهم كتاب بختم عثمان، قالوا إنهم وجدوه مع رسول عثمان إلى ولاته يأمر فيه بحبسهم وتعذيبهم، فحلف عثمان أنه لم يكتب ذلك، ثم زعم الثائرون أن الكتاب بخط مروان بن الحكم فطلبوا إلى الخليفة أن يخرجه لهم فلم يقبل لكذب هذا الزعم ولخشية أن يقتلوه ظلمًا، فاشتدت الفتنة وحرَّض المحرضون بقيادة ابن السوداء، وضرب الثائرون حصارًا حول دار عثمان بن عفان، ولما علموا أن ولاة الخليفة فى الأقاليم الإسلامية أعدوا الجند لإرسالهم إليه شددوا الحصار على عثمان، وأساءوا معاملته، وبعد أن استمروا فى محاصرته أربعين يومًا، هجم عليه بعضهم وقتلوه، فقتل مظلومًا -رضى الله عنه- فى اليوم الثامن عشر من شهر ذى الحجة سنة35هـ الموافق السابع عشر من يونيه سنة 656م، وفُتِحَ بذلك باب عظيم من الفتنة والابتلاء على المسلمين. |
#8
|
|||
|
|||
خلافة على بن أبى طالب
خلافة على بن أبى طالب
(35 - 40 هـ/ 655- 660م ) أصبحت الحالة فى المدينة المنورة بعد مقتل عثمان تقتضى وجود خليفة قوى يعيد الأمور إلى وضعها الطبيعى داخل عاصمة الدولة الإسلامية، لذا أسرع أهل المدينة إلى مبايعة على بن أبى طالب سنة 35هـ وأيدهم الثوار بالمدينة، واضطر على بن أبى طالب إلى قبول الخلافة منعًا للشقاق وخشية حدوث الخلاف بين المسلمين. الدولة والمجتمع: بدأ على بن أبى طالب عمله بعزل ولاة عثمان الذين كانوا سببًا فى اعتراض الكثيرين على عثمان، وعين بدلا منهم ولاة آخرين، لكن الوالى الذى أرسله الخليفة إلى الشام لم يتمكن من استلام عمله؛ حيث تصدى له أنصار معاوية بن أبى سفيان -والى الشام من أيام عثمان رضى الله عنه- وأخرجوه من البلاد، ورفض معاوية مبايعة على للخلافة، واستمر على ذلك مدة ثلاثة أشهر، فأخذ على بن أبى طالب يعد جيشًا قويّا لغزو الشام، وعزل معاوية ابن أبى سفيان عنها؛ حيث رأى أن هيبة الدولة لا تكون إذا لم يستطع الخليفة أن يعزل واليًا وأن يعين غيره، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن هذا الوضع سوف يشجع العصاة والمنحرفين على العبث بمقدرات الدولة مما يؤثر على استقرار النظام، وبينما هو يعد العدة للسيطرة على الشام، إذ ظهر تمرد آخر نشأ عن طلحة ابن عبيد الله والزبير بن العوام وعائشة أم المؤمنين فى البصرة واستيلائهم عليها سنة 36هـ فعدل "على" عن غزو الشام وأعد العدة للذهاب إلى البصرة للقضاء على التمرد وذهب معه عدد غير قليل من أهل الكوفة حيث دارت موقعة الجمل فى جمادى الآخرة سنة 36هـ والتى انتهت بانتصار على بن أبى طالب. وقُتل طلحة بن عبيد الله، وقُتل الزبير بن العوام بعدما ترك المعركة، وقد نوى عدم الاشتراك فيها. وأعيدت السيدة عائشة -رضى الله عنها- مكرمة معززة، وسار معها على بن أبى طالب بنفسه يحميها ثم وكل بها بعض بنيه حتى وصلت إلى مكة، فأقامت حتى موسم الحج. بوادر الفتنة: واستقرت الأمور فى "البصرة" عقب ذلك، وأخذ على البيعة لنفسه من أهلها ثم وجه أنظاره ناحية الشام حيث معاوية بن أبى سفيان الذى رفض الطاعة وأبى البيعة له إلا بعد الأخذ بثأر عثمان، فبعث إليه يدعوه مرة أخرى فلم يجبه إلى ثلاثة أشهر من مقتل عثمان، ولما تحقق علىّ من عدم استجابته لدعوته وتأهبه للقتال، سار من الكوفة لردعه والتقى بجند الشام وعلى رأسهم معاوية بن أبى سفيان حيث دارت بين الطرفين مناوشات يسيرة فى سهل "صفين" فى ذى الحجة سنة 36هـ، ثم اتفقا على إيقاف الحرب إلى آخر المحرم طمعًا فى الصلح، وترددت الرسل بينهما لكن معاوية ابن أبى سفيان كان يعتبر نفسه ولى دم عثمان بن عفان وطالب بثأره فأصر على موقفه وهو مطالبة على بن أبى طالب بالتحقيق مع قتلة عثمان والاقتصاص منهم، بينما رأى على أنَّ هذا الأمر لن يتم إلا بعد أن تهدأ الفتنة وتستقر الأحوال فى الدولة، ولما لم يصل الطرفان إلى حل يرضى كلا منهما عادوا إلى القتال فى شهر صفر سنة 37هـ. موقعة صفين: واشتعلت نار الحرب بين الفريقين أيامًا متوالية وزحف علىّ ابن أبى طالب بجنده على جند معاوية بن أبى سفيان الذين رفعوا المصاحف على أسنة الرماح وقالوا: "هذا كتاب الله عز وجل بيننا وبينكم" فلما رأى أهل العراق المصاحف مرفوعة قالوا: "نجيب إلى كتاب الله" ولقيت هذه الدعوة قبولا لدى عدد كبير من جند "على" الذين يُعرفون بالقراء؛ لأنهم يجيدون حفظ القرآن الكريم، فرفضوا المضى فى القتال ووافقوا على التحكيم، وبذلك انتهت موقعة "صفين"، وحل محلها التحكيم، واتفق الفريقان على أن يختار كل منهما رجلا من قِبَله، فاختار معاوية "عمرو بن العاص"، واختار أتباع على "أبا موسى الأشعرى"، لكن فئة من أنصاره عادوا ورفضوا التحكيم فى قضية تبين فيها الحق من الباطل، وخرجت هذه الفئة على أمير المؤمنين على بن أبى طالب ورفضوا السير معه إلى الكوفة وعرفت هذه الفئة "بالخوراج". استمر على بن أبى طالب فى قبول مبدأ التحكيم وأرسل أبا موسى الأشعرى، فاجتمع بعمرو بن العاص، واتفق الحكمان على خلع على ومعاوية، وترك الأمر شورى للمسلمين يختارون فيه من يريدون، فلما بلغ عليّا خبر الحكمين أنكر عليهما ما اتفقا عليه، وقال: إن هذين الحكمين نبذا حكم القرآن واتبع كل واحد هواه، واختلفا فى الحكم فاستعدوا للسير إلى الشام، وأخذ يحرض الناس على حرب معاوية، لكن الخوارج اشتدوا على أصحاب "على" وقتلوا بعضًا منهم، فجهَّز "على" جيشًا لمحاربة الخوارج والتقى بهم عند النهروان على بعد ميلين من "الكوفة" وهزمهم شر هزيمة ثم أخذ يعد العدة لمحاربة معاوية بن أبى سفيان بالشام سنة 38هـ، لكن أحد الخوارج ويُدعى عبدالرحمن بن مُلْجَم استطاع قتل على فى المسجد بالكوفة؛ حيث ضربه بسيف مسموم فتوفى فى 17 رمضان سنة 40هـ . وبوفاته انتهى عهد الخلفاء الراشدين. |
#9
|
|||
|
|||
دولة الخلافة الأموية
دولة الخلافة الأموية
بعد مقتل على -رضى الله عنه- سنة 40هـ تهيأت الظروف للأمويين لكى يبسطوا سلطانهم على الدولة الإسلامية. حقّا إنهم ذَوُو حسب ونسب، فهم سلالة "أمية بن عبد شمس" أحد سادات قريش وزعمائها قبل الإسلام. وقد كان سفيان بن حرب والد معاوية أحد أبناء هذا البيت الأموى ومن أكبر سادات قريش، وإليه كانت قيادة قوافل التجارة، وإدارة شئون الحرب، ولم يسلم إلا عند فتح مكة، وروى عن معاوية أنه أسلم يوم عمرة القضاء وكتم إسلامه حتى فَتْح مكة، وقد لقى أبوسفيان من الرسول ( معاملة كريمة حيث أعلن عند فتح مكة أن "من دخل دار أبى سفيان فهو آمن". واستخدم الرسول ( معاوية كاتبًا له، واستعان الخلفاء الراشدون بأبناء البيت الأموى، فكان يزيد بن أبى سفيان أحد قادة الجيوش الأربعة التى بعث بها أبو بكر -رضى الله عنه- لفتح الشام سنة 11هـ/633م. وقد حارب يزيد وتحت إمرته أخوه معاوية فى عهد الخليفة عمر فلما توفى يزيد سنة 18هـ/ 639م، استعمل الخليفة "عمر" معاوية بن أبى سفيان على دمشق وعلى خراجها، ثم جمع له الشام كلها. عام الجماعة: ولقد مهدت الأقدار لمعاوية بن أبى سفيان فى أن يخطو خطوات ثابتة لكى يتولى منصب الخلافة، وبايعه الحسن بن على -رضى الله عنه- الذى كان قد خلف أباه وصار معه ما يقرب من اثنين وأربعين ألفًا من الجند، لكنه لم يطمئن إلى ولاء العاملين معه. كان ذلك عام 41هـ/662م، وهو عام الجماعة الأول، لأن معاوية نال فيه البيعة بالخلافة من جميع الأمصار الإسلامية، ويعتبر هذا العام الميلاد الرسمى لقيام الدولة الأموية. ولقد روى عن الحسن البصرى أنه قال: استقبل- والله- الحسنُ بن على معاويةَ بن أبى سفيان بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إنى لأرى كتائب لا تتولى حتى يقتل أقرانها. فقال معاوية وكان والله خير الرجلين إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، من لى بأمور المسلمين، من لى بضعيفهم؟ من لى بنسائهم؟ وبعث معاوية إلى الحسن يطلب المصالحة وحقن دماء المسلمين، وكان الحسن مهيأ لهذا الأمر النبيل، فما أعز دماء المسلمين عنده. وتنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية على أن تعود الخلافة بعده شورى بين المسلمين. ولما قدم الحسن الكوفة قابله سيل من التعنيف واللوم لتنازله عن الخلافة، لكنه كان بارًا راشدّا لا يجد فى صدره من هذا الأمر حرجًا أو ندمًا، قال له رجل اسمه عامر: السلام عليك يا مذل المؤمنين. قال: لا تقل هذا يا عامر، لست بمذل المؤمنين، ولكنى كرهت أن أقتلهم على الملْك. وتحققت نبوءة النبى ( فى الحسن يوم قال: "إن ابنى هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". [أحمد والبخارى وأبو داود، والترمذى والنسائى]. |
#10
|
|||
|
|||
خلافة معاوية بن أبى سفيان
خلافة معاوية بن أبى سفيان
(41 - 60 هـ/ 661- 679م ) عندما أصبح معاوية خليفة للمسلمين، كانت الدولة الإسلامية تقوم على شبه الجزيرة العربية، والشام، والعراق، ومصر، وبلاد الجزيرة، وخراسان. أما الجهات التى وصلت إليها الجيوش الإسلامية فيما وراء تلك البلاد فإنها كانت تفتقر إلى الاستقرار. وكان للفتنة التى حدثت فى عهد عثمان، وما أعقبها من صراع بين على ومعاوية أثرهما فى توقف حركة الفتوحات الكبرى، ومتابعة الجهاد فى سبيل حماية الإسلام، وأداء رسالته، واستكمال بناء الدولة الإسلامية. فلابد أن تعود المياه إلى مجاريها، ولابد أن تعود الفتوحات الإسلامية كما كانت، بل وأكثر مما كانت. لقد أصبحت "دمشق" عاصمة الخلافة، ومنها تنطلق الجيوش باسم الله. وعمل معاوية منذ توليه الخلافة على تجهيز الجيوش بشن حرب شاملة ضد "الإمبراطورية البيزنطية"، وهى "إمبراطورية الروم". لقد كانت مركز القوة الرئيسية المعادية للدولة الإسلامية، وطالما حاولت فى لحظات الخلاف والفتنة أن تسترد الشام ومصر، أغلى أقاليم "الإمبراطورية الرومانية" قبل فتح العرب لهما. إن أراضى آسيا الصغرى التابعة لتلك الإمبراطورية تتاخم الجهات الشمالية من بلاد الشام والعراق، وتنطلق منها الجيوش الرومية لتخريب هذين الإقليمين العربيين ! فلماذا لا يحاول معاوية القضاء على ذلك العدو اللدود؟ لماذا لا يستولى على القسطنطينية نفسها عاصمة تلك الإمبراطورية ؟ أعد معاوية الحملة الأولى، وزودها بالعَدد والعُدد، وجعل على رأسها ابنه وولى عهده يزيد، ولم يتخلف صحابة رسول الله ( عن الجهاد فى سبيل الله، فانضموا إلى هذه الحملة متمثلين أمام أعينهم، قول الرسول ( "لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش" [أحمد والحاكم]، آملين أن يتحقق فيهم قول الرسول (. فقد ثبت عن رسول الله (: "أول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم" [البخارى]. ولقد اشترك فى هذه الحملة أبو أيوب الأنصارى الذى نزل النبى ( فى بيته عند الهجرة. ولم يستطع المسلمون فتح المدينة هذه المرة، ولكن حسبهم أنهم أول جيش يغزو القسطنطينية. ولقد سعد معاوية باشتراك الصحابة فى هذه الغزوة، فهم خير وبركة، فبهم تعلو راية المجاهدين. واتجهت هذه الجيوش إلى القسطنطينية حتى فتحوا بلادًا عديدة فى آسيا الصغرى وضَربوا الحصار على العاصمة الحصينة. وعزز معاوية هذه الغزوة بأسطول سار تحت قيادة فضالة بن عبيد الأنصارى، وسار هذا الأسطول إلى مياه العاصمة البيزنطية. وأثناء الحصار، مرض "أبو أيوب الأنصارى" ولم يلبث أن توفى، ودفن جثمانه قرب أسوار القسطنطينية، وأظهر الجنود المسلمون ضروبًا من الشجاعة أذهلت الروم، ثم انسحبت الجيوش الإسلامية بعد ذلك تأهبًا لكرّة أخرى من الجهاد. . حرب السنوات السبع: بعث معاوية حملة ثانية ضد القسطنطينية؛ إنه يدرك خطر البيزنطيين، ويعمل جاهدًا على تدمير قوتهم. لقد دام الحصار للقسطنطينية سبع سنوات (54 - 60 هـ / 674 - 680م)، وكان التعاون قائمًا بين القوات البحرية والأسطول الإسلامى، فقد اتخذ الأسطول مقرّا له فى جزيرة "أرواد" قرب مياه القسطنطينية، وبمطلع الربيع، تم إحكام الحصار، فانتقلت القوات البرية لإلقاء الحصار على أسوار العاصمة، على حين تولت سفن الأسطول حصار الأسوار البحرية. وباقتراب فصل الشتاء نقل الأسطول قوات المسلمين إلى جزيرة "أرواد" حماية لها من برد تلك الجهات القارص، ثم عاد فنقلها لمتابعة الحصار بمطلع الربيع. ولم تستطع هذه " الحملة الثانية" اقتحام القسطنطينية بسبب مناعة أسوارها، وما كان يطلقه البيزنطيون على سفن الأسطول الإسلامى من نيران، فانتهى الأمر بعقد صلح بين المسلمين والبيزنطيين مدته ثلاثون عامًا، عام 56هـ / 676م. وبرغم عجز هاتين الحملتين عن الاستيلاء على القسطنطينية فإنهما حققتا أهدافًا واسعة، فلقد تخلى أباطرة الروم عن مشاريعهم وأحلامهم القديمة فى استعادة مصر والشام، وغيرهما من الأراضى التى كانت تابعة لهم من قبل، وعلموا أن جيوش الإسلام باتت قوية، وراحت تدق أبواب عاصمتهم بعنف. لقد زلزلت القوات الإسلامية إمبراطوريتهم نفسها، وشلت نشاط القوات البيزنطية، وقلمت أظفارها، مما أتاح للأمويين بسط رقعة الدولة شرقًا وغربًا. الجهاد فى الميدان الشرقى: فإذا انتقلنا من الشام إلى الميدان الشرقى نجد أن الفتوحات التى توقفت أواخر خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضى الله عنه- قد استأنفها الأمويون، فعندما تولى معاوية الحكم بعث الجيوش لنشر الإسلام فى مواطن جديدة سكنها الأتراك فى بلاد ما وراء النهر، وإلى بلاد الهند التى كانت موطن حضارة من أقدم الحضارات فى جنوب شرق آسيا. وفى بلاد الشرق، حيث كان زياد بن أبيه واليًا على تلك البلاد من قِبَل معاوية بن أبى سفيان، غزا المسلمون أفغانستان فسقطت "كابول" فى أيديهم سنة 664م، وعبروا نهر جيحون، واستولوا على بخارى سنة 674م، ثم على سمرقند سنة 676م، ثم واصلوا زحفهم حتى نهر سيحون، وذلك على يد قادة من شباب الإسلام مثل محمد بن القاسم الثقفى وقتيبة بن مسلم الباهلى وغيرهما. الجهاد فى الميدان الغربى: وانطلقت الفتوحات الأموية منذ ولى معاوية بن أبى سفيان نحو الميدان الغربى فى البلاد التى تلاصق مصر من جهة الغرب، وتمتد من "برقة" إلى المحيط الأطلسى، وكانت معروفة عند العرب باسم بلاد المغرب، وكان يسكنها أناس عرفوا باسم البربر، وهم ينتمون فى أصلهم إلى العنصر الليبى القديم الذى يرتبط مع الأصول التى ينتمى إليها المصريون القدماء. وكان هؤلاء البربر ينقسمون بحسب مسكنهم إلى قسمين: حضر يزرعون الأرض ويعيشون مستقرين قرب الساحل، وعلى سفوح الجبال الخصبة، واشتهروا باسم "البرانس". وبدو يرعون قطعانهم من الماشية فى الصحاري، وعرفوا باسم "البتر". عقبة فى بلاد المغرب: وأسند الخليفة معاوية بن أبى سفيان فتح تلك البلاد وإفريقية سنة 50هـ إلى "عقبة بن نافع الفهرى"، الذى كان مقيمًا ببرقة منذ أن فتحها عمرو بن العاص أثناء ولايته الأولى على مصر، فكان عقبة من أكثر الناس خبرة ودراية بأحوال هذه البلاد، وعهد إليه معاوية بقيادة بعض السرايا الحربية التى توغلت فى شمال إفريقية، ورأى عقبة أن أفضل الطرق لفتح بلاد المغرب يقتضى إنشاء قاعدة للجيوش العربية فى المنطقة التى عرفها العرب باسم إفريقية، وهى جمهورية تونس الحالية. واستطاع عقبة تنفيذ مشروعه حين انطلق بجيوشه إلى إفريقية واستولى عليها، لقد اختار موقعًا يلتقى عنده "البرانس" و "البتر" وأقام عليه قاعدته التى سماها "القيروان"، وشرح عقبة أهدافه من تأسيس القيروان قائلا لجنوده: وأرى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا بها (أى بأفريقية) مدينة نجعل فيها عسكرًا، وتكون عز الإسلام إلى أبد الدهر. وكان عقبة بن نافع صادق الإيمان، فيروى أنه لما بدأ فى بناء القيروان، وكان مكانها مكان ملتف بالشجر تأوى إليها السباع والوحوش والحيات العظام، فدعا الله تعالى فلم يبق فيها شىء من ذلك، حتى إن السباع صارت تخرج منها تحمل أولادها، والحيات يخرجن هاربة من أحجارهن، ولما رأى البربر ذلك أسلم منهم عدد كبير. الأحوال الداخلية للدولة: 1- دمشق العاصمة الجديدة: كان على -رضى الله عنه- قد اتخذ من "الكوفة" مركزًا للخلافة، فاتخذ معاوية بن أبى سفيان مدينة "دمشق" لتكون مقرّّا لخلافته ولآل بيته من بعده. وكانت هذه الخطوة تعنى أن مقر الخلافة أصبح محصنًا بقوة مادية وبشرية كبيرة، وشجعه على ذلك أن أهل الشام برهنوا له عن ولائهم للبيت الأموى، ووقفوا إلى جانب معاوية خلال تلك الفترة التى قامت فيها الفتنة. وكان معاوية قد راح يدعم علاقته بالقبائل الكبيرة منذ ولايته على الشام، فصاهر أقواها وأعزها، وأكثرها نفرًا، وهى قبائل كلب اليمانية، فكانت زوجته ميسون من بنى بحدل من قبيلة كلب، وأنجب منها ابنه يزيد الذى صار ولى عهد الدولة الأموية. أما عن موقع مدينة دمشق عاصمة الخلافة الجديدة، فقد كان موقعًا فريدًا، فهى تقع على حافة بادية البلقاء، فى واحة الغوطة الخصيبة، ويغذيها نهر بردى، وتحيط بها جبال شاهقة من جميع نواحيها وهى إلى جانب هذا كله متجرًا للقوافل التجارية المعروفة باسم "رحلات الصيف". وها هى ذى قد أصبحت بعد الفتح الإسلامى معسكرًا للجيوش الإسلامية، وقاعدة تباشر منها مهامها الحربية، وتستطيع مراقبة العدو الأول للدولة الإسلامية، وهو إمبراطورية الروم. 2- الوراثة فى الحكم: وكانت السمة الثانية التى ميزت الدولة الأموية: تطبيق مبدأ الوراثة فى الحكم، لقد تخلى معاوية عن القواعد التى جرى عليها انتخاب الخلفاء الراشدين من قبله، معتقدًا أن المجتمع الإسلامى بعد هذه السنين قد تطور، وأن قوى جديدة فيه قد ظهرت تريد أن تبحث لها عن دور، وأن القبائل الكبرى التى قامت بالدور البارز فى حركة الفتوح وقيادة الجيوش لم تعد تقبل بسهولة أن تنقاد لمن لا ترى مصالحها عنده، وتضمن نفوذها لديه، وأن الأمصار والولايات الجديدة قد أصبحت حريصة على جعل جهاز الحكم فيها، أو قريبًا منها، مما يهدد الدولة الإسلامية بالتنازع والحروب الداخلية فرأى أن يستخلف ولده يزيد إذ تؤيده قوة أهل الشام وتحميه قوة قبيلة كلب التى منها أمه وأخواله. . وبالرغم من العقبات التى اعترضت معاوية فإنه استطاع الحصول على البيعة لابنه يزيد سنة 56هـ / 676م، وبهذا تم تحويل الخلافة إلى سلطة مبدأ التوريث. وصار معاوية بذلك مؤسس الدولة الأموية، وأول من طبق الوراثة فى الخلافة الإسلامية. منجزات معاوية: أما عن عهد معاوية فقد كان حافلا بالإنجازات، فقد أعاد حبات العقد التى انفرطت فنظمها من جديد، وبعث الجيوش شرقًا وغربًا، وقضى على الفتنة، وأتاح للراية الإسلامية أن تواصل تقدمها فى كل اتجاه، ولقن أعداء الأمة دروسًا لا تنسى! ولقد تحقق له ما أراد، فأقام دولة لبنى أمية وَوَرَّثَ ابنه يزيد الخلافة من بعده، ثم أجاب داعى الله بعد حياة حافلة، وقد قال فيه رسول الله (: "اللهم اجعله هاديًا مهديّا واهدِِ به" [أحمد والترمذى]. وقد لقى معاوية ربه، فى رجب سنة 60هـ / 680م. |
#11
|
|||
|
|||
خلافة يزيد بن معاوية
خلافة يزيد بن معاوية
(60 - 64 هـ/ 679- 683م ) بويع له فى حياة أبيه ليكون وليّا للعهد من بعده، ثم أكد البيعة لنفسه بعد موت والده فى النصف الثانى من رجب سنة ستين، واستمر فى منصبه إلى أن توفى سنة أربع وستين ! وقد واجهته المشاكل والعقبات عقب تسلمه الحكم، فقد قامت ضده ثلاث ثورات، ترجع دوافعها إلى تقرير "مبدأ الوراثة" فى بنى أمية. الفتنة: ما كاد يزيد يتسلم زمام الحكم حتى واجه نفرًا من المسلمين يمتنعون عن مبايعته، ثم ما لبثت معارضتهم لبيعته أن تحولت إلى ثورة مسلحة. وكان يزيد قد طلب من أمير المدينة المنورة الوليد بن عتبة بن أبى سفيان الحصول على البيعة من الحسين بن على، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، لكن الحسن وابن الزبير رفضا، وخرجا من المدينة إلى مكة، وتوقف ابن عمر فقال: إن بايع الناس بايعت. فلما بايع الناس بايعه ابن عمر، وتعقَّد الموقف فى الحجاز. وعلم أهل العراق برفض الحسين مبايعة يزيد وتوجهه إلى مكة، فوجدوا الفرصة سانحة للتخلص من الأمويين وإعادة الدولة كما كانت فى عهد على؛ ليتولى أمرهم الحسين بن على، فهو أحب إليهم من يزيد بن معاوية! وبقاء الحكم فى العراق أحب إليهم من بقائه فى الشام. فأرسلوا رسلهم إلى الحسين، ليحرضوه على المطالبة بالخلافة، ويطلبوا منه المسير إلى الكوفة، فبعث الحسينُ ابنَ عمِِّه "مسلم بن عقيل بن أبى طالب" إلى الكوفة ليتبين الموقف؛ وليمهد له الأمر، حتى إذا رأى إجماع الناس على بيعته أسرع بإحاطته علمًا بذلك. وعندما أقبل "مسلم بن عقيل" على الكوفة رأى من أهلها إقبالا ورغبة فى مبايعة الحسين، فبعث إليه على الفور يستعجل قدومه. لكن الأمويين كانوا قد أحيطوا علمًا بما يدور فى الكوفة فأرسلوا على الفور عبيد الله بن زياد واليًا عليها ليحفظ الأمن والنظام، وليضبط الأمر على النهج الذى اتبعه والده زياد من قبل أيام الخليفة معاوية بن أبى سفيان. استطاع عبيد الله أن يُحكم سيطرته على البلاد، ويقتل قادة الدعوة إلى الحسين، ومن بينهم "مسلم بن عقيل" ويخرس الألسنة التى تنادى بالحسين خليفة. وتحرك ركب الحسين إلى الكوفة فى هذا الجو المتأزم الملبد بالغيوم، فنصحه كبار الصحابة وكبار شيعته مثل أخوه: محمد بن الحنفية، وعبد الرحمن بن الحارث المخزومى، وعبد الله بن عباس، ليصرف النظر عن الذهاب إلى العراق، وعدم الاطمئنان لما نقل إليه من موافقة أهلها على مبايعته، غير أن الحسين -رضى الله عنه- لم يستمع لنصح الناصحين. حادث كربلاء: خرج -رضى الله عنه- فى جماعة من شيعته لا يزيدون عن ثمانين رجلا، ومعه نساؤه وأطفاله قاصدًا الكوفة دون أن يعلم بما حدث ! فلما بلغه ما حدث لم يتراجع، بل واصل المسير وكانت القوات الأموية فى انتظاره، ولم يكن اللقاء متكافئًا. وفى "كربلاء" التحم الفريقان، فسالت الدماء وسقط الحسين شهيدًا بالقرب من الكوفة يوم عاشوراء فى العاشر من المحرم سنة 61هـ / 681م، وتخلص يزيد من أحد منافسيه الأقوياء، وبقى عبد الله بن الزبير. مواجهة عبدالله بن الزبير: ذهب عبدالله إلى مكة محتميًا بها، وسمى نفسه العائذ بالبيت. فلما بلغه استشهاد الحسين أخد البيعة لنفسه من أصحابه فى وجود والى مكة الأموي "عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق" الذى كان فى استطاعته أن يتغلب على ابن الزبير، لكنه كان يرفق به. فماذا يفعل يزيد، وقد لجأ ابن الزبير إلى الحمى ؟! ولى على الحجاز الوليد بن عتبة بن أبى سفيان الذى اشتد على "ابن الزبير" فلم يجد ابن الزبير بدّا من اللجوء إلى حيلة معقولة؛ لكى يتخلص من الوليد. وهداه تفكيره إلى أن يطلب إلى يزيد تغيير هذا الوالى حتى يتسنى له أن يفكر فى مصالحته. وسرعان ما استجاب يزيد، فعزل الوليد وعين مكانه "عثمان ابن محمد بن أبى سفيان". وقد نجحت حيلة ابن الزبير، فعثمان كان شابّا صغيرًا لم تصقله التجارب، ولا خبرة له بسياسة الناس وقيادتهم، فأساء من حيث أراد الإصلاح. لقد أرسل وفدًا من أشراف أهل المدينة إلى دمشق ؛ لكى يرى الخليفة بنفسه مدى طاعتهم وولائهم، وأحسن يزيد وفادتهم، وأغدق عليهم، ومنحهم العطايا ليستميل قلوبهم، وليكونوا خير دعاة له إذا رجعوا إلى أهليهم وذويهم، فمن رأى ليس كمن سمع، ولكنهم بعد أن رأوا فى عاصمة الخلافة الجديدة مظاهر البذخ والإسراف، وسمعوا مالا يتفق مع تقاليد الخلفاء الراشدين من مظاهر الترف، عادوا وهم يعلنون بين أهليهم وذويهم أنهم قد خلعوا طاعة يزيد، ثم بايعوا عبد الله بن حنظلة بن أبى عامر "ابن غسيل الملائكة" وتوجهوا بعد ذلك إلى والى يزيد على المدينة فأخرجوه منها، وحاصروا دار مروان بن الحكم بالمدينة تعبيرًا عن سخطهم ورفضهم لبنى أمية. واستغاث مروان بن الحكم بيزيد، وتأزم الموقف من جديد، فقد أعد يزيد جيشًا ضخمًا من جند الشام، وأسند قيادته إلى مسلم ابن عقبة، ليحمى بنى أمية بالمدينة، وليخضع الثائرين عليه. وعلم أهل المدينة بمقدم الجيش فلم يجدوا بدّا من إخراج بنى أمية إلى الشام بعد أن يأخذوا عليهم العهود والمواثيق ألا يساعدوا عليهم أحدًا. وخرج بنو أمية مطرودين من المدينة، لكنهم تقابلوا مع جيش مسلم بن عقبة، فطلب منهم أن يشيروا عليه بما ينبغى أن يفعله، فأرشده عبد الملك بن مروان إلى كيفية الزحف على المدينة، والدخول إليها، وزحف مسلم كما أشار عليه عبد الملك، ونفذ الخطة فوصل إلى الحرة شمالى شرق المدينة، وهى أرض صخرية بركانية، فخرج إليه أهل المدينة بقيادة عبد الله بن حنظلة، والتحموا مع جند الخليفة فى معركة شديدة انتهت بهزيمة أهل المدينة، وقتل عدد كبير من بنى هاشم وقريش والأنصار. وفى جو الهزيمة هذا دعا مسلم الناس للبيعة؛ محذرًا من عاقبة المخالفة بعد أن رأوا بأعينهم ما حل بغيرهم. فبعد أن انتهى مسلم من إجبار الناس على البيعة، سار بمن معه من الجند إلى البيت الحرام بمكة؛ حيث يعتصم ابن الزبير، لكن القدر لم يمهله، فتوفاه الله قبل أن يصل إلى مكة. ويتولى على الفور قيادة الجيش الأموى الزاحف على مكة للقاء عبد الله بن الزبير: "الحصين بن نمير السكوني" ، ويواصل مسيرته إلى مكة المكرمة، ويشتد على الثائرين، ولا يمنعه شىء مما يحتمون به، ويستمر الحصار شهرين، وابن الزبير متحصن بالبيت الحرام، وتأتى الأنباء بوفاة الخليفة يزيد، فيتوقف القتال، ويرفع الحصار، ويعود الجيش الأموى إلى الشام، ويخرج ابن الزبير على الناس فتذعن جزيرة العرب كلها له، ويبايعه كثير من أنصار الدولة الأموية وسط العواصف خليفة للمسلمين. الفتوحات الإسلامية فى عهد يزيد: وبالرغم من الصراعات الشديدة التى حدثت فى عهد يزيد، فإن الفتوحات الإسلامية لم تتوقف، واستمرت فى العديد من الجهات، فهناك فى الشرق واصلت الجيوش الإسلامية فتوحاتها فى خراسان وسجستان تحت قيادة مسلم بن زياد، فغزا سمرقند وحُجَنْدة، أما هناك فى الغرب فقد أعاد يزيد بن معاوية، عقبة بن نافع واليًا على إفريقية، وكان معاوية قد عزله عنها، فواصل عقبة بن نافع فتوحاته بحماس منقطع النظير وقال: إنى قد بعت نفسى لله-عز وجل-، فلا أزال أجاهد من كفر بالله. ففتح مدينة "باغاية" فى أقصى إفريقية، وهى مدينة بالمغرب، وهزم الروم والبربر مرات عديدة، ثم واصل المسير إلى بلاد الزاب، فافتتح مدينة "أَرَبَة" وافتتح "تَاهَرْت" و"طَنْجة" و"السُّوس الأدنى"، ثم صار إلى بلاد السوس الأقصى، واستمر فى فتوحاته حتى بلغ "مليان"، حتى رأى البحر المحيط (المحيط الأطلنطى) فوقف عليه وقال مقالته التى حفظها له التاريخ: يا رب لولا هذا البحر لمضيت فى البلاد مجاهدًا فى سبيلك. ثم عاد راجعًا إلى القيروان. |
#12
|
|||
|
|||
خلافة مروان بن الحكم
خلافة مروان بن الحكم
(64 - 65 هـ/ 683- 684م ) نحن الآن فى عام 64هـ / 684م، وما زال الطريق طويلا أمام الدولة الأموية التى دبت فيها الروح ثانية؛ لتواصل المسيرة حتى سنة 132هـ /750م، فكيف واجهت الأعاصير والأنواء؟! وكيف أعادت بسط سلطان الدولة الأموية من جديد على الأقاليم التى أعلنت البيعة لابن الزبير. والعجيب أن عرب الشام انقسموا إلى فريقين بعد أن اجتمعت بنو أمية على مروان بن الحكم! فالعرب اليمانية راحوا وحدهم يؤيدون مروان، أما العرب القيسية، وعلى رأسهم الضحاك بن قيس، فقد راحوا يؤيدون عبدالله بن الزبير. وهنا يتجلى دور مروان بن الحكم؛ لقد جمع أنصاره، وسار أولا إلى الضحاك، واقتتل الفريقان بـ "مرج راهط" بغوطة دمشق وكان ذلك فى المحرم سنة 65هـ، وانتصر مروان بن الحكم، ودخل دمشق بعد أن قضى على الفتنة، ونزل بدار معاوية بن أبى سفيان، وبايعه الناس بالخلافة. مصر فى حوزة الأمويين: وبعد أن استقرت الأمور فى دمشق توجه مروان إلى مصر على رأس جيش قوى، ودخلها سنة 65هـ/685م وكان عليها عبد الرحمن بن جحدم القرشى عاملا لابن الزبير، وولى ابنه عبدالعزيز بن مروان على مصر، وأمده بموسى بن نصير؛ ليكون وزيرًا له ومشيرًا. وعادت مصر للأمويين مرة أخرى بعد انفصال دام تسعة أشهر تحت قيادة أنصار ابن الزبير. وبقى الحجاز والعراق فى يد ابن الزبير بعد أن دانت الشام ومصر للأمويين. لقد كانت مصر على اتصال بالحجاز فى عهد عبدالله بن الزبير، تمده بما يحتاج إليه من الغلال، فلما خضعت ثانية للأمويين حرم الحجاز مما كانت مصر تمده به، وتأثر موقف ابن الزبير فى الحجاز بهذا الوضع الاقتصادى، وفى هذا الوقت كان مروان بن الحكم يعمل على تنفيذ خطوات محسوبة بدقة وإحكام، لقد أعد جيشين: أحدهما إلى الحجاز للقضاء على عبد الله بن الزبير، أما الجيش الآخر فقد سيره إلى العراق للقضاء على مصعب بن الزبير شقيق عبد الله وواليه هناك. ويشاء الله أن تحل الهزيمة بجيش الحجاز، وألا يقوم جيش العراق بشىء يذكر فى حياة مروان الذى عاجلته المنية سنة 65هـ بعد أن عهد بالخلافة لابنيْه عبد الملك، ثم عبد العزيز. |
#13
|
|||
|
|||
خلافة عبد الملك بن مروان
خلافة عبد الملك بن مروان
(65 - 86 هـ/ 684- 705م ) كان الأمويون عندما عقدوا "مؤتمر الجابية" لمبايعة مرْوان بن الحكم قد اتفقوا على أن يخلفه: "خالد بن يزيد بن معاوية" ثم "سعيد بن العاص" من بعده. " غير أن "مروان بن الحكم" نقض ذلك العهد وعهد بالخلافة لابنه "عبد الملك" ومن بعده ابنه " عبد العزيز" وراح يصرف الأنظار عن "خالد بن يزيد" الذى كان شابّا محدود الخبرات فى الإدارة.. بما أوتى من وسائل، ورغم ما فى ذلك من إيثار لابنه ونقض لعهده فإنه كان خيرًا لاستقرار الدولة وكان خيرًا للإسلام والمسلمين. وباتت الدولة الإسلامية الموحدة تتقاسمها خلافتان: الأولى: عليها عبد الله بن الزبير وتضم الحجاز والعراق. أما الثانية: فيتولاها عبد الملك بن مروان الذى تولى عقب وفاة أبيه، ولم تعد تضم إلا الشام ومصر. وقد نجح عبد الملك بن مروان فى ضبط الأمور، والقضاء على الفتن، فانتشل الدولة من الفوضى التى وصلت إليها، وأعاد الأمن والاستقرار إلى ربوعها. لقد ظهر بالكوفة المختار بن عبيد الله الثقفي، وجمع من حوله شيعة على -رضى الله عنه-، وراح يتتبع قتلة الحسين هنا وهناك وقتل منهم الكثير وعلى رأسهم أمير الجيش الذى حارب الحسين " عمر بن سعد بن أبى وقاص"، وقتل "عبيد الله بن زياد" أمير العراق الأموى، وشتت جيشًا قوامه (40) ألفًا، كما قتل "الحصين ابن نمير" واستولى على الموصل، وراح يدعو لمحمد بن الحنفية ابن الإمام على كرم الله وجهه، ويناديه بالإمام المهدى يريد المهدى المنتظر. لقد انتشر نفوذ الشيعة فى شرق الدولة وكان هذا العامل هو المعول الذى مهد لزوال الدولة الأموية على مر الزمن! وقد عمد الشيعة فى ذلك الوقت وعلى رأسهم المختار إلى الانتساب لمحمد بن الحنفية، ليستفيدوا من هذه النسبة فى اكتساب مزيد من المؤيدين الناقمين على بنى أمية والثائرين من أجل المطالبة بدم الحسين وآله. والمعروف أن محمد بن الحنفية كان عالمًا زاهدًا، قد رفض أن يبايع لأحد من الخليفتين ابن الزبير أو ابن مروان، وقال لا؛ حتى يبايع الناس أجمعون فإن بايعوا بايعت. وهكذا فعل عبد الله بن عباس، ولم يكن له مطمع فى الخلافة، أو هدم البيت الأموى أوالقضاء على ابن الزبير. ولقد أغضب الدعوة باسم محمد بن الحنفية "عبد الله بن الزبير" فأرسل أخاه "مصعب بن الزبير"؛ ليكون أميرًا على العراق، وأمره بالقضاء على "المختار الثقفى". وقد نجح مصعب فى حصار المختار بالكوفة وقتله، وأصبح الحجاز والعراق لابن الزبير ومصر والشام لعبد الملك بن مروان. وفى سنة 70هـ /690م خرج عبد الملك بن مروان إلى العراق لأخذها من الزبيريين، وتدور بينه وبين مصعب عدة معارك، وأخيرًا يتمكن "عبد الملك بن مروان" من القضاء على "مصعب ابن الزبير" فى معركة "دير الجاثليق" وكان ذلك سنة 71هـ/691م وقيل: سنة 72هـ/692م. المهم أن عبد الملك بعد مقتل "مصعب ابن الزبير" دخل "الكوفة" معقل الزبيريين، وأخذ البيعة من أهلها لنفسه، وولَّى ولاة من قِبله على العراق. الحجاج وابن الزبـير: ولم يبق إلا الحجاز يسيطر عليه عبد الله بن الزبير من مكة، وقد حانت الساعة الفاصلة، ساعة الحزم والحسم، فأمر عبدالملك ابن مروان "الحجاج بن يوسف الثقفى" -الذى يمكن أن يتخذ من الطائف مسقط رأسه قاعدة لعملياته الحربية- أن يتصدى لعبد الله ابن الزبير المتحصن بمكة المكرمة. وتحرك جيش الحجاج من الطائف إلى مكة فحاصرها كما فعل الحصين بن نمير من قبل، وقذف ابن الزبير بالمنجنيق، وظل يضيق على ابن الزبير وأنصاره الخناق حتى تفرق عنه معظم أنصاره، لكن ابن الزبير ظل يقاوم رافضًا أن يستسلم حتى قتل سنة 73هـ/ 693م، وكانت خلافته تسع سنين. وبمقتل ابن الزبير دخلت الحجاز من جديد تحت حكم بنى أمية، وكوفئ الحجاج بأن ظل واليًا على الحجاز من قبل عبد الملك ابن مروان حتى سنة 75هـ/ 695م. ثورات ابن الأشعث: ولا يكاد عبد الملك بن مروان يلتقط أنفاسه ليتفرغ للبناء والتعمير، ومواصلة الفتوح حتى يرى أن جماعات الشيعة فى مدن العراق مثل الكوفة تشكل خطرًا على الدولة؛ بسبب قربها من بلاد فارس، التى رأى أهلها فى الشيعة خير سبيل لتحقيق أطماعهم القومية فى ضرب الأمويين باعتبارهم ممثلين للعنصر العربى وسلطانه فى الدولة الإسلامية، وركز الفرس نشاطهم فى سبيل وصول أبناء الحسين بن على بن أبى طالب إلى منصب الخلافة، مدعين بأنهم من سلالة الحسين؛ وذلك لأنه تزوج من شهر بانوه بنت يزدجرد الثالث آخر أكاسرة الفرس، وزعموا أن تلك السلالة من أبناء الحسين تجمع بين دم عربى، وأشرف دم فارسى. وتصدى الحجاج بن يوسف لهذه الفتنة مرة أخرى، ويحقق الأمن والاستقرار فى ربوع البلاد. ويصدر الأمر من الخليفة الأموى بأن يتولى الحجاج أمر العراق والمشرق الإسلامى، ويسير إليها فى جيش من أهل الشام. وكان الحجاج شديدًا عنيفًا، فراح يواجه عدة ثورات كانت إحداها بقيادة "عبد الرحمن بن الأشعث". وتدور معارك شرسة مثل "دير الجماجم" بين الجيش الأموى وبين جيش ابن الأشعث، يتبادل فيها الفريقان النصر والهزيمة، وتستمر سجالا بينهما فى أكثر من ثمانين موقعة، تدور الدائرة بعدها على ابن الأشعث، فيهرب إلى بلاد الهند. ولكن الحجاج يرسل من يلاحقه ويتابعه حتى يأتى إليه برأسه فى الكوفة. وهكذا استطاع الحجاج إخضاع بلاد العراق وما والاها من بلاد المشرق لسلطان عبد الملك بن مروان، وبهذا توطدت دعائم الدولة فى عهده، وانتشر الأمن فى البلاد، ويتفرغ عبد الملك لجانب من الإصلاح الداخلى، فيصدر أمره بصك الدنانير الإسلامية، عليها شهادة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله بسم الله، فكان أول من ضرب الدنانير والدراهم الإسلامية، لتحمل محل العملة البيزنطية فيتحقق للدولة استقلالها المالى والاقتصادى. وأصدر أمره بجعل اللغة العربية هى اللغة الرسمية التى تكتب بها الدواوين فى أرجاء الدولة، وينفذ ابنه عبد الله بن عبدالملك بن مروان والى مصر هذه التعليمات؛ حيث كانت مصر ما تزال تكتب باللغة القبطية، بما أدى إلى انتشار اللغة العربية لغة القرآن والحديث، فهى بلا شك إحدى المقومات الأساسية للدولة الإسلامية. وسوف تظل هذا الخطوة الرائدة صفحة مضيئة يسجلها التاريخ لعبد الملك بن مروان على مر الزمان. الفتوحات الإسلامية فى عهد عبدالملك: وبعد أن استقرت الدولة فى الداخل، وتم القضاء على الفتن والثورات، راح عبد الملك يواصل ما بدأه السابقون من الفتوحات، ويعمل على تأمين الحدود التى تعرضت للإغارة والمهاجمة والاستيلاء على بعضها من جانب الروم، منذ أن أصدر معاوية أمره إلى الجيش الذى كان يحاصر القسطنطينية بالعودة إلى البلاد، وتمكن عبد الملك من استرداد الثغور الإسلامية، وإخضاع أرمينية، وسواحل سورية، وكثير من الثغور الإسلامية، وفَتْح عدد من حصون الروم منها: "مرعش" و"عمورية" و"أنطاكية"، وأظهر للروم أن الدولة الإسلامية باقية، وأنها لم تضعف ولم تهن! وما كاد عام 62هـ/682م يأتى حتى صدر الأمر بأن يتولى "عقبة بن نافع" إفريقية للمرة الثانية؛ ليواصل حروبه وفتوحاته، ويتمكن من فتح الجزائر، ويتوغل نحو بلاد "السوس" فى المغرب الأقصى. وكان عقبة فى عهد معاوية قد انطلق بجيوشه إلى إفريقية واستولى عليها واختار "القيروان" قاعدة له، ولكن بعد الانتهاء من بناء القيروان صدر قرار بتعديل القيادة العليا بالميدان الإفريقى سنة 55هـ/ 675م. فقد استعمل معاوية بن أبى سفيان مسلمة بن مخلد على مصر وإفريقية، فاستعمل مسلمة على إفريقية مولى له يقال له "أبو المهاجر" فلما وصلها عزل عقبة. وكان معاوية يهدف من ذلك إلى مواجهة الإمبراطورية البيزنطية صاحبة السيادة إذ ذاك على شمال إفريقية، ومحاولاتها إيقاف الزحف الإسلامى المنتظر من القيروان. واستطاع "أبو المهاجر دينار" أن يفسد خطط البيزنطيين باكتساب البربر إليه، ونشر الإسلام بينهم. وتجلّى نجاح هذا القائد حين اكتسب إلى صفوفه زعيم قبيلة البربر وهو "كسيلة" فدعاه إلى الإسلام، فأسلم وترتب على ذلك انتشار الإسلام بين كثير من البربر، فراحوا يتفهمون حقيقة الإسلام، ويقبلون عليه، وراح الفتح الإسلامى فى شمال إفريقية يمتد وينتشر. ولكن الفتوحات الإسلامية تتعرض لأول نكسة خطيرة لها لعدم معرفة نتيجة السلطة المركزية فى "دمشق" بالتطورات التى طرأت على السياسة البيزنطية فى تلك البلاد، فعندما أعادت السلطات "عقبة بن نافع" سنة 62هـ/682م إلى القيادة العليا للميدان الإفريقى، ووصل إلى "القيروان" قاعدته الحربية التى أنشأها من قبل، انطلق منها لممارسة المهمة التى عين ثانية من أجلها، بل إن عقبة لما عاد إلى ولاية إفريقية جازى المهاجر عما فعله به عندما عزله سنة 55هـ، فقبض عليه وأوثقه فى الحديد، وخرج به مكبلا فى زحف خاطف، وصل به إلى ساحل المحيط الأطلسى، وعند ذلك النهر الذى تقوم عليه مدينة مراكش اليوم أدخل عقبة ابن نافع فرسه فى المحيط وراح يرفع رأسه فى عزة المؤمن، وتواضع المعترف بفضل الله عليه قائلا: "اللهم فاشهد أنى لو كنتُ أعلم وراء هذا البحر أرضًا لخضته غازيًا فى سبيلك". لكن عقبة فاته أن يستمع إلى أبى المهاجر ونصائحه حول البيزنطيين وسياستهم، ولجوئهم إلى أسلوب الغدر والخديعة والمكر والخيانة، فقد انتظروا حتى عاد قاصدًا القيروان، وكان يسير فى مؤخرة جيشه، وأعدوا له كمينًا وهو فى طريق العودة بالتعاون مع كسيلة -الزعيم البربرى- الذى تحالف مع الروم، وادعى أن عقبة قد عزم على تأديب البربر؛ لأنه أساء الظن فى حقيقة إسلامهم. والتقى الجميع فى معركة "تهوذة" عام 63هـ/ 683م، وأحاطت قوات البزنطيين بعقبة بن نافع وراح "أبو المهاجر" يدافع عنه دفاع الأبطال ولكنهم تمكنوا من قتله، واستشهد عقبة ولحق بالرفيق الأعلى. وبعثت الخلافة الأموية بجيوش جرارة على رأسها قائد من خيرة قادتها هو "حسان بن النعمان" الذى عمل على تحرير شمال إفريقية تمامًا من البيزنطيين، والقضاء على أساليبهم الغادرة. دخل حسان القيروان سنة 74هـ / 694م، وبادر بالزحف على "قرطاجنة"، وهى أكبر قاعدة للبيزنطيين فى إفريقية "تونس الحالية" ودمرها تمامًا، ثم طارد فلول الروم والبربر، وهزمهم فى "صطفورة" و"بنزرت" ولم يترك حسان موضعًا من بلادهم إلا دخله بجنوده، ثم عاد "حسان" إلى القيروان، فأقام بها حتى استراح الجيش وضمدت جراح المصابين. واضطر حسان إلى اتخاذ مراكزه فى "برقة" حتى جاءته الإمدادات من مصر سنة 81هـ/ 700م، فخرج بالجيوش لملاقاة جيوش البربر بقيادة امرأة منهم تدعى الكاهنة، واستطاع الانتصار على البربر، وأعاد القيروان إلى حضن الإمبراطورية الإسلامية. وأخذ حسان يعمل بعد ذلك على تدعيم الفتوحات الإسلامية بشمال إفريقية، فأسس قاعدة بحرية إسلامية باسم "تونس". واستعان بعمال مصر وخبرتهم فى بناء تلك القاعدة، ثم أقبل حسان على إفساد خطط البيزنطيين، وراح يعمل للقضاء على مكرهم وألاعيبهم. فحبب الإسلام وزينه فى قلوب أبناء الكاهنة، ثم قربهم إليه، وجعلهم فى الرئاسة العليا على أبناء قبيلتهم، مبينًا لهم أن العزة لله ولرسوله وللمسلمين، وأن الإسلام يستهدف عزة أبناء إفريقية وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وهكذا عادت إفريقية إلى الإسلام والمسلمين. وعلى الجانب الآخر، فى خراسان، تابع "المهلب بن أبى صُفرة" أمر الفتوح فى تلك البلاد بعد أن أسند إليه الحجاج ولايتها! لقد فتح خُجَنْدة وغزا "كَشّ" سنة 80هـ/699م، واتخذها مركز القيادة، وأرسل منها أولاده لغزو كثير من البلاد، لكنه مات فى شهر ذى الحجة على مقربة من "مرو" وتولى ابنه يزيد بعد أبيه، فاستهل عهده بغزو "خوارزم". ويأتى عام 85هـ فيتولى "المفضل بن أبى صفرة" أمر خراسان ويفتح "باذغيش" و"أخرون" "وشومان"، لكن الحجاج سعى بآل المهلب لدى عبد الملك حتى لا يولى منهم أحدًا، واتهمهم بأنهم كانوا من أتباع عبد الله بن الزبير، وأشار على "عبد الملك" بأن يولى قتيبة بن مسلم الباهلى على خراسان، وهو من باهلة التى تنتمى إلى قيس، وبذلك يستطيع أن يجذب إليه القيسيين فى خراسان. ووصل قتيبة بن مسلم إلى "مرو" فى نهاية سنة 85هـ/704م. ولكنه لم يكد يستقر فى خراسان حتى وصلت الأنباء فى سنة 86هـ/705م بوفاة الخليفة عبد الملك بن مروان رحمه الله رحمة واسعة. |
#14
|
|||
|
|||
خلافة الوليد بن عبدالملك
خلافة الوليد بن عبدالملك
(86 - 96 هـ/705- 714م ) توفى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان سنة 86هـ/ 705م وخلفه ابنه الوليد، وكان أبوه قد عهد إليه بالخلافة، وبويع له بها يوم وفاة أبيه. وكان عهده، عهد فتح ويسر وخير للمسلمين، لقد اتسعت فى أيامه رقعة الدولة الأموية شرقًا وغربًا، فعندما تولى الوليد الحكم استعمل عمه عبد الله بن مروان على إفريقية، فعزل حسانًا واستعمل بدلا منه موسى بن نصير عام 89هـ، فكان شديدًا وصارمًا على البربر الذين طمعوا فى إفريقية بعد مسير حسان عنها فوجه إليهم ابنه عبد الله، فقَتل وسبى منهم خلقًا كثيرًا، وتوجه إلى جزيرة "مايوركا"، فاقتحمها وسبى أهلها، وتوجه إلى طائفة أخرى من البربر، فأكثر فيهم القتل والسبى، حتى بلغ الخمس "ستين ألفًا من السبى"، فلم يكن سبى أعظم منه، ثم خرج غازيًا طنجة يريد من بها من البربر، فانهزموا خوفًا منه، فتبعهم وقتلهم، واستأمن من بقى منهم، ودخلوا فى طاعته، وترك عليهم وعلى طنجة مولاه "طارق بن زياد" وأبقى معه جيشًا أكثره من البربر، وترك معهم من يعلمهم القرآن والفرائض، حينئذ لم يبق له فى إفريقية من ينازعه. ورأى الوليد أن أهم ما يجب عمله تقوية الأسطول الإسلامى وضرب قواعد البيزنطيين فى صقلية وغيرها من جزر البحر المتوسط المقابلة لإفريقية، لكى يدعم هذا الوضع المستقر للمسلمين فى الشمال الإفريقى الذى أصبح جزءًا من الدولة الإسلامية. لقد دخلت الفتوح الأموية فى شمال إفريقية مرحلتها الختامية سنة 89 هـ/ 708م بتولى إمارة القيروان موسى بن نصير خلفًا لحسان بن النعمان. فلقد أجاد التنسيق بين الأساطيل الإسلامية فى غرب البحر المتوسط، وبين قواته البرية، وفتح الأجزاء النائية، كما رأينا، وهى التى تعرف باسم المغرب الأقصى، وطرد البيزنطيين من قواعدهم البحرية القريبة من سواحل إفريقية "تونس"، وعندئذ أصبح شمال إفريقية الجناح الأيسر للدولة الإسلامية فى عهد الأمويين، وأصبح أهلها دعاة للإسلام يسهمون فى نشره فيما جاورهم من بلاد. وقد عهد موسى بن نصير إلى طارق بن زياد بالقيادة العليا للقوات الإسلامية، وهو من أبناء البربر المسلمين فى مدينة "طنجة". وجاءت هذه الخطوة من جانب موسى بن نصير، دليلا على سمو وعلو مبدأ المساواة فى الإسلام، فقد رأى البربر أن أحد أبناء إحدى القبائل البربرية صار القائد العام لجبهة المغرب الأقصى. وكان من نتيجة هذا العمل أن أتاح للدين الإسلامى الحنيف دماء جديدة هيأت له الانطلاق إلى فتح الأندلس، ونشر نوره على أرجاء هامة من غرب أوربا. فتح الأندلس: نحن الآن فى سنة 91هـ / 710م؛ حيث استشار موسى بن نصير الخليفة الوليد بن عبد الملك، فى فتح الأندلس "أسبانيا"، وعلى أثر الموافقة أرسل موسى سرية استطلاعية بقيادة طريف بن مالك، وكان من البربر، فشن غارة على جنوب أسبانيا، ومعه أربعمائة مقاتل ومائة فرس. واستطاع أن يتوغل بهم فى الجزيرة الخضراء، ويعود إلى ساحل إفريقية حاملا الكثير من الغنائم، وكان ذلك فى رمضان سنة 91هـ/710م، وقد تأكد له قصور وسائل الدفاع فى أسبانيا بل انعدامها. ولقد شجع نجاح طريف فى تلك الغزوة القائد الأعلى موسى ابن نصير على التقدم لفتح الأندلس (أسبانيا)، ووقع اختياره على والى طنجة وقائد جيشه طارق بن زياد ليتولى مهمة هذا الفتح العظيم. وفى شهر رجب من سنة 92هـ/711م قام طارق بن زياد ومعه جيش مكون من سبعة آلاف مقاتل بعبور المضيق الذى عرف باسمه، ونجحت عملية العبور، واحتل المسلمون الجبل بكامله. لقد جمع طارق قواته بعد العبور عند هذه الصخرة من جنوب البلاد وهى التى نسبت إليه وعرفت باسم "جبل طارق"، وها هو ذا يندفع بقواته كالسهم، لا يقف فى طريقه شىء، ولقد حاول ملك أسبانيا "لذريق" أن يوقف هذا الزحف بجيش جرار قوامه مائة ألف، ولكن طارق بن زياد كان قد طلب المدد من قائده موسى بن نصير فأمده بخمسة آلاف حتى أصبح عدد جنده اثنى عشر ألفًا. واندفع طارق بكل إيمان زاحفًا على القوط -حكام شبه جزيرة أسبانيا-، وأنزل بهم هزيمة فادحة فى موقعة رمضانية على نهر لكة "وادى لكة" بمقاطعة "شَذُونة"، وراح يواصل فتوحاته بعد أن قتل "لذريق"، فأوقع بالقوط الهزيمة الثانية عند مدينة "إِسْتِجَة"، فألقى الله الرعب فى قلوب أعدائه، ففزعوا منه فزعًا شديدًا، وظنوا أنه سيفعل بهم فعل سلفه "طريف بن مالك"، وكان طريف قد أوهمهم أنه سيأكلهم، هو ومن معه، فهربوا منه إلى طليطلة. يا إلهى إن النصر من عندك، هذه الراية الظافرة تتقدم، وتتوغل، ومدن أسبانيا تتهاوى واحدة بعد الأخرى فى يد المسلمين. وها هم أولاء جنود الإسلام ينتشرون؛ حيث قرر طارق وهو فى مدينة إستجة أن يفرق جيشه ويوجهه إلى جهات شتى، فهذه شعبة تتوجه إلى "قرطبة"، فتدخلها وتستولى عليها، وتلك شعبة من الجيش وصلت إلى مدينة "غرناطة"، فدخلتها وملكتها، وشعبة من الجيش تقتحم مدينة "تُدْمِير" فيضطر أهلها إلى مصالحتها، وسار طارق ومعه معظم الجيش إلى مدينة "جيان" يريد "طليطلة" فهرب أهلها وتركوا له المدينة خالية. ويواصل المنتصرون متابعة الفلول المنهزمة، وملاحقتهم حتى "جِلِّيقية" فى أقصى الشمال الغربى من الأندلس، ثم عاد من هناك، وعادت جيوشه إلى "طليطلة" فى سنة 93هـ/712م، وهنا خشى "موسى بن نصير" أن تقطع على الجيش الإسلامى خطوط المواصلات، ويحال بينه وبين قواعده التى انطلق منها، ويقوم العدو بالانقضاض عليه ومحاصرته، والقضاء عليه، فيسرع بإصدار أوامره إلى طارق أن ينتظره فى "طليطلة" حتى يسعى إليه بنفسه هو، ويؤمن خطوطه الخلفية ويلحق به. وعَبرَ موسى بقواته إلى الأندلس، مستهدفًا تطهير الجيوب التى خلفها طارق وراءه، من هنا كان على موسى أن يقوم بتأمين مؤخرة الجيش الفاتح، فافتتح مدنًا وحصونًا كان بقاؤها بين الأسبان خطرًا على الوجود الإسلامى الجديد بشبه الجزيرة حتى وصل إلى "طليطة"، وهناك التقى بجيش طارق بن زياد، وقد استغرق ذلك من موسى جهدًا ووقتًا حتى وصل إليه، وهناك فى "طليطلة" التقى القائدان طارق وموسى، وراحا ينسقان الفتوح الباقية ببلاد الأندلس فيما بينهما. وسارا معًا حتى بلغا "سرقسطة" على نهر "الإبرو"، ومن هناك سار طارق إلى الشمال حتى بلغ جبال "ألبرت" أى الأبواب، وهى التى تسمى اليوم جبال البرانس ووقف على أبواب فرنسا. وكان ذلك فتحًا عظيمًا، أن ترفرف راية الإسلام، وتقف على أبواب فرنسا فى أقل من مائة عام من هجرة الرسول (! وبينما كان طارق بن زياد يقف على أبواب "فرنسا"، كان موسى يتجه غربًا حتى دخل ذلك الإقليم الذى يطل على خليج "بسكاية" ويسمى "أشتوريس" وانتهى بفتوحاته أخيرًا على ساحل "بسكاية" واستدعى الخليفة الوليد كلا من موسى وطارق إلى دمشق سنة 95هـ/714م، ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن موسى بن نصير قد أرسل الأسطول الإسلامى لفتح جزيرة "سردينيا" فافتتحوها عنوة، وعادوا بالسبايا والغنائم سنة 92هـ. وتابع ولاة الأندلس من بعد موسى الفتوح، فقام ابنه عبد العزيز باستكمال فتح شرق الأندلس وغربه، وجعل عاصمته فى مدينة "إشبيلية". فتح بلاد ما وراء النهر: وننتقل من جبهة إلى جبهة لنتابع تقدم الراية الظافرة فى أرجاء الأرض، وإذا كنا قد تركناها، وهى ترفرف على أبواب "فرنسا" فها نحن نعود لمتابعتها وهى ترفرف على أبواب "الصين"، كل ذلك كان فى عهد الوليد بن عبد الملك الذى كان عهده خيرًا وبركة على الإسلام والمسلمين. فعندما تولى "قتيبة بن مسلم" خراسان سنة 86هـ/ 705م، اتخذ من "مرو" قاعدة له، تم فتح بلاد النهر -المعروف بنهر جيحون- ودخل المسلمون بلادًا عديدة، سرعان مادخلت فى دين الإسلام ودافعت عنه مثل "الصَّفَد" و"طخارستان" و"الشاش" و"فَرْغَانة" فى نحو عشر سنين. وأخيرًا، أنهى أعماله الحربية بفتح "كاشغر" فى "التركستان" الصينية سنة 96هـ/ 715م، وصارت الدولة الإسلامية بذلك تجاور حدود الصين. فتح الهند: لقد فتح المسلمون بلاد "فارس" و "خراسان" و"سجستان"، وكانت غايتهم نشر الإسلام، وحماية الحدود الجنوبية للدولة الإسلامية؛ ولم يبق إلا الهند. وفى عهد الوليد بن عبد الملك كلف الحجاج بن يوسف الثقفى الشاب المسلم: "محمد بن القاسم" مهمة غزو بلاد الهند، وسار محمد بن القاسم إلى الهند سنة 89هـ/ 708م وفتح ثغر الديبل (إحدى مدن الساحل الغربى للهند)، ثم سار عنه وجعل لا يمر بمدينة إلا فتحها حتى عبر النهر، فصالحه أهل "سربيدس" وفتح "سهبان"، ثم سار إلى لقاء "داهر" ملك السند والهند، وكان لقاء فريدًا. إن "دَاهِر" وجنوده يقاتلون على ظهور الفيلة، والفيلة عندما تستثار تكتسح كل ما أمامها وتدوسه. ودارت معركة حامية كتب الله فيها النصر لراية الإسلام، وهزم "محمد بن القاسم" الملك "داهر" وقتله، وراح محمد بن القاسم يتقدم، ويمد فتوحاته فى كافة أرجاء بلاد السند، حتى وصل إلى "الملتان" ودخلها وغنم منها مغانم كثيرة. ولقى الوليد بن عبد الملك ربه سنة 96هـ/ 715م بعد أن رفعت راية الإسلام فى عهده على حدود فرنسا والصين وفى خراسان وسجستان والسند، وبلاد الهند. |
#15
|
|||
|
|||
خلافة سليمان بن عبدالملك
خلافة سليمان بن عبدالملك
(96 - 99هـ/ 714- 717م ) لم تطل خلافة سليمان بن عبد الملك كثيرًا، فأوصى بالخلافة من بعده "لعمر بن عبد العزيز"، ابن عمه بدلا من ابنه أيوب لما عرف فيه من ورع وعدل. |
العلامات المرجعية |
|
|