#1
|
||||
|
||||
كيف كان بدء الوحي؟
كيف كان بدء الوحي؟ الصراط السوي في سؤالات الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم (2) أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة ♦ عن عائشة أمِّ المؤمنين - رضي الله عنها - أنَّ الحارثَ بن هشام - رضي الله عنه - سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحيانًا يأتيني مثلَ صلصلة الجَرسِ، وهو أشدُّه عليَّ، فيُفصم عنِّي وقد وعيتُ عنه ما قال، وأحيانًا يتمثَّل لي الملَك رجلاً، فيكلِّمني، فأعي ما يقول))[1]. فيه مسائل: المسألة الأولى: ترجمة الحارث بن هشام: هو الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، أبو عبدالرحمن المكي، أسلم يوم الفتح، واستُشهد بالشام في خلافة عمر - رضي الله عنه - يوم اليرموك، ويقال: مات في طاعون عَمَوَاس سنة ثمانية عشرة، وكان قد عمِي قبل وفاته، زوجته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، أخت خالد بن الوليد، تزوَّجها عمر - رضي الله عنه - بعد استشهاده، إخوتُه مَسْلمة بن هشام، وأبو جهل بن هشام، وأمُّه أم الجُلاس أسماء بنت مخرمة بن جندل، وابن عمِّ خالد بن الوليد، وابن عمِّ حَنتمة أم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على الصحيح. وشهد بدرًا كافرًا، فانهزم، وعُيِّر بفراره هذا. وقال عنه حسان بن ثابت - رضي الله عنه -: إن كنتِ كاذبةَ الذي حدَّثتِني فنجوتُ منجى الحارثِ بن هشامِ ترَك الأحبَّةَ أن يُقاتلَ دونهم ونجا برأْسِ طِمِرَّةٍ ولَجَامِ فاعتذر الحارثُ بقول الأصمعي: اللهُ يعلم ما ترَكتُ قتالَهمْ حتى رَمَوْا فرسي بأشْقَر مزْبِدِ [2] المسألة الثانية: معاني الكلمات: قوله: (كيف يأتيك الوحي؟). يحتمل أن يكون السؤال عن صفة الوحي نفسِه، ويحتمل أن يكون صفةَ حاملِه. قوله: (أحيانًا) جمع حينٍ، يطلق على كثيرِ الوقت وقليله، والمراد هنا مجرد الوقت، فكأنه قال: أوقاتًا يأتيني. قوله: (مثل صَلصلة الجرس): الصلصلة: هي صوتُ وقوع الحديد بعضه على بعض. قوله: (وهو أشدُّه عليَّ): يُفهم منه أن الوحي كلَّه شديد، ولكن هذه الصفة أشدُّها. قوله: (فيُفصَم)؛ أي: يقلع وينجلي، وأصل الفَصم: القطع، ومنه قوله - تعالى -: ï´؟ لَا انْفِصَامَ لَهَا ï´¾ [البقرة: 256]. وقيل: الفصم بالفاء: القطعُ بلا إبانةٍ، وبالقافِ: القطع بإبانةٍ؛ فذُكر بالفصم إشارة إلى أنَّ الملَك فارقه ليعود. قوله: (وقد وعيتُ عنه ما قال)؛ أي: القولَ الذي جاء به الملَك. قوله: (يتمثَّل له الملَك رجلاً)؛ أي: يتصور، والمقصود جبريلُ - عليه السلام - وفيه دليلٌ على أن الملَك يتشكَّل بشكل البشر. قوله: (قالت عائشة): هو بالإسناد الذي قبله، فقد فصلها مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام، ونكتةُ هذا الانقطاع - أي: قطْع المتن - اختلافٌ في التحمل؛ لأنها في الأول أخبرتْ عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدَتْه تأييدًا للخبر الأول. قوله: (ليتفصَّد): الفصدُ هو قطع العِرْق لإسالة الدم، وشُبِّه جبينُه بالعِرْق المفصود؛ مبالغةً من كثرة العَرَق[3]. المسألة الثالثة: أنواع ومراتب نزول الوحي: كان الوحي ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بصور مختلفة ومتعددةٍ، بعضها أشدُّ من بعض، ومن هذه الصور: 1 - الرؤيا الصالحة أو الصادقة: وكانت مبدأَ وحيِه - صلى الله عليه وسلم - وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصُّبح؛ كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - أنَّها قالت: أوَّل ما بُدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرُّؤيا الصَّادقة في النَّوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثلَ فَلَق الصبح[4]. 2 - ما كان يُلقيه الملَك في روعه وقلبه من غير أن يراه؛ كما في الحديث: ((نفَث رُوحُ القدس في روعي أنَّ نفسًا لن تخرج من الدنيا؛ حتى تستكمل أجلَها، وتستوعب رزقَها، فأجملوا في الطلب، ولا يحملنَّكم استبطاءُ الرِّزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإنَّ اللهَ لا يُنال ما عنده إلا بطاعته))[5]. 3 - أنه كان يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعيَ عنه ما يقوله له، وفى هذه الحالة كان يراه الصحابةُ أحيانًا؛ كما في حديث الباب الذي مرَّ معنا. 4 - أنه كان يأتيه الوحي مثلَ صلصلة الجرس، وكان أشدَّه عليه، فيتلبَّس به الملك، حتى إن جبينه ليتفصَّد عرقًًا في البرد الشديد؛ كما في حديث الباب الذي مرَّ معنا، وكما في حديث عبادة بن الصامت، قال: "كان نبي الله إذا أُنزِل عليه الوحي، كُرِبَ لذلك، وتربَّد وجهه"[6]. وحتى إن راحلتَه لتبرُك به الأرض إذا كان راكبَها من شدة الوحي؛ كما في حديث أسماء بنت يزيد، قالت: "إنِّي لآخذ بزمام العضباء ناقةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ نزلت عليه المائدةُ، فكادت من ثقلها تدقُّ عنقَ النَّاقة"[7]. ولقد جاءه الوحي مرة وفخِذُه على فخِذ زيد بن ثابت، فثقُلت عليه حتى كادت ترضُّها، وفيه: (فأنزل الله - تبارك وتعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفخِذُه على فخذي، فثقُلت علي؛ حتى خفتُ أن ترضَّ فخِذي، ثم سُرِّي عنه؛ فأنزل الله - عز وجل -: ï´؟ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ï´¾ [النساء: 95][8]. 5 - أنه يرى الملَك في صورته التي خُلِق عليها، فيوجه إليه ما شاء الله، ووقع ذلك له مرتين، مرة كما في حديث الغار المشهور، وأخرى كما في رحلة المعراج. 6 - ما أوحاه الله إليه وهو فوق سبع سموات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها. 7 - كلام الله له بلا واسطةِ ملَكٍ. وزاد بعض العلماء تكليمَ الله له كفاحًا من غير حجاب، وهذا على مذهب من يقول: إنَّ النبي رأى ربَّه - تبارك وتعالى - يوم الإسراء، والراجح أنه لم يرَه؛ كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - في باب رؤية المؤمنين ربَّهم. فائدة: هل الوحي كان ينزل على النبي بالقرآن فقط؟ أم كان يشمل السنَّة أيضًا؟ الوحي كان ينزل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن والسنَّة سواءً، ومما يدل على ذلك حديث صفوان بن يعلى بن أميَّة، قال: إنَّ يعلى كان يقول: ليتني أرى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حين ينزل عليه، قال: "فبينا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالجِعْرَانة وعليه ثوبٌ قد أُظلَّ به، معه فيه ناسٌ من أصحابه؛ إذ جاءه أعرابيٌّ عليه جبَّةٌ متضمِّخٌ بطيبٍ، فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجلٍ أحرم بعمرةٍ في جبَّةٍ بعد ما تضمَّخ بالطِّيب؟ فأشار عمر إلى يعلى بيده أنْ تعالَ، فجاء يعلى، فأدخل رأسه، فإذا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - محمَرُّ الوجهِ يغِطُّ كذلك ساعةً، ثمّ سُرِّي عنه، فقال: ((أين الذي يسألني عن العمرةِ آنفًا))، فالتُمِس الرجل، فأُتي به، فقال: ((أما الطِّيب الذي بك، فاغسِلْه ثلاث مراتٍ، وأما الجبَّة، فانزِعْها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجِّك))[9]. المسألة الرابعة: إثبات وجود الملائكة وكيفية الإيمان بهم: الملائكة لغة: جمع ملأك، وأصل ملأك (مألك)؛ لأنه من الأُلوكة، والألوكة في اللغة: الرِّسالة؛ قال الله - تعالى -: ï´؟ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ï´¾ [فاطر: 1]. اصطلاحًا: عالَم غيبيٌّ، عباد الله المكرَّمون، والسفرة بين الله - تعالى - ورسله، طاهرون ذاتًا وصفةً وأفعالاً، مطيعون لله، لا يعصونه ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. ♦ خُلقوا من نور؛ كما في حديث عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خُلقتِ الملائكةُ من نور......))[10]. ♦ خُلقوا قبل الإنسان؛ لقوله - تعالى -: ï´؟ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ï´¾ [البقرة: 30]. الإيمان بالملائكة يتضمن أربعة أمور: 1 - الإيمان بوجودهم. 2 - الإيمان باسم مَن علِمنا من أسمائهم. 3 - الإيمان بصفاتهم. 4 - الإيمان بأفعالهم. الأول: أن تؤمن بوجودهم وقد دلَّ على وجودهم النقلُ؛ وذلك في آيات كثيرة؛ قال الله - تعالى -: ï´؟ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ï´¾ [فاطر: 1]. ويتضمن الإيمانُ بوجودهم الإيمانَ بأنهم أجسام، لا أنهم مجرَّد أعراض، أو أنهم قوَى الخير؛ كما يقوله بعضُ طوائف الفلاسفة الحمقى. الثاني: الإيمان بمن علِمنا اسمه منهم ومَن لم نعلَمِ اسمه منهم، فنؤمن بهم إجمالاً، فمَن علِمنا اسمه: جبريل وميكائيل وإسرافيل، ومالك ومنكر ونكير، وكلُّ مَن صحَّ الدليلُ باسمه، فنؤمن به وباسمه. الثالث: الإيمان بما علِمنا من صفاتهم الواردةِ في الكتاب والسنة، وإليك بعضها: ♦ فمنها: أنهم أولو أجنحةٍ؛ قال - تعالى -: ï´؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ [فاطر: 1]. ♦ ومنها: وصف الله - تعالى - لعبده ورسوله جبريل - عليه السلام - كما قال - جل وعلا -: ï´؟ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ï´¾ [النجم: 5، 6]، وقال - جل وعلا -: ï´؟ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ï´¾ [التكوير: 19 - 21]. وفي الحديث عند مسلم عن عائشة مرفوعًا: ((رأيته مُنهبطًا من السماء له، ستمائة جَناح، سادًّا عِظَمُ خلقِه ما بين السماء والأرض))[11]. ♦ ومنها: وصف الله - تعالى - لملائكة العذاب، في قوله: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ï´¾ [التحريم: 6]. ♦ ومنها: أنهم لا يفتُرون ولا يملُّون في القيام بما أُوكِلَ إليهم من الأعمال، ولا في عبادة الله تعالى؛ قال - تعالى -: ï´؟يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ï´¾ [الأنبياء: 20]، وقال - تعالى -: ï´؟ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ï´¾ [فصلت: 38]. ♦ ومنها: أنهم منزَّهون عن مخالفة الأمر وفعل المعصية؛ قال - تعالى -: ï´؟ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ï´¾ [التحريم: 6]، وقال - تعالى -: ï´؟ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ï´¾ [الأنبياء: 26- 27]. وقد ذكر اللهُ - تعالى - في آيات كثيرة أنه لَمَّا قال لهم: ï´؟ اسْجُدُوا لِآدَمَ ï´¾ [البقرة: 34] امتثلوا الأمرَ، فبادروا بالسجود. ♦ ومنها: أنهم لا يأكلون ولا يشربون، ويُستدل عليه بقصة أضياف إبراهيم؛ قال - تعالى -: ï´؟ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ï´¾ [الذاريات: 27]. ♦ ومنها: أنهم أعداد كثيرةٌ لا يحصيهم الرقْم، ولا يحيط بهم العدُّ؛ قال - تعالى -: ï´؟ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ï´¾ [المدثر: 31]، وقال - عليه الصلاة والسلام -: "أطَّتِ السماءُ، وحُقَّ لها أن تئطَّ، ما من موضعِ أربعِ أصابع، إلا ملَكٌ ساجدٌ أو راكع))[12]، وفي الحديث في صفة البيت المعمور: ((فإذا هو يدخلُه كلَّ يوم سبعون ألفَ ملَك، لم يَعودوا إليه آخر ما عليهم))[13]. الرابع: الإيمان بما علِمنا من أعمالهم الواردة في الكتاب والسنة، فمن ذلك أن جبريل - عليه السلام - هو الموكَّل بالوحي، وميكائيل هو الموكَّل بالقطر والزرع مما به حياة الأرض، وإسرافيل هو الموكَّل بالنفخ في الصُّور، ومنكر و نكير موكَّلان بسؤال أصحاب القبور، وملك الموت هو الموكل بقبْض أرواح العباد، ومنهم ملائكة موكَّلون بالنُّطفة في الرحم؛ من نَفخ الرُّوح فيها، وكتابة ما سيكون عليه من ذكورةٍ وأنوثة، أو شقاوة وسعادة، ومنهم الملائكة الموكلة بالجبال، ومنهم الملائكة الحفَظة الذين يحفظون العبد؛ قال - تعالى -: ï´؟ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ï´¾ [الرعد: 11]. والملائكة الذين يحفظون أعمال العبادة بكتابتها؛ قال - تعالى -: ï´؟ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ï´¾ [الانفطار: 10 - 12]. ومن ذلك الملائكةُ الذين يتعاقبون علينا بالليل والنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر والعصر؛ كما في الحديث: ((يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل والنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرُج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلمُ بكم، فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلُّون، وأتيناهم وهم يصلون))[14]. ومنهم الملائكة السيَّارة الذين يَسيحون في الأرض بحثًا عن حِلَقِ الذِّكر؛ كما في حديث: ((إن لله ملائكةً سيارة فُضُلاً، يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكرٌ، قعدوا معهم، وحفَّ بعضُهم بعضًا بأجنحتهم حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرَّقوا عرَجوا وصعِدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله - عز و جل - وهو أعلم بهم من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادٍ لك في الأرض، يسبِّحونك، ويكبِّرونك، ويهلِّلونك، ويحمَدونك، ويسألونك، قال: وماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك جنَّتك، قال: وهل رأَوا جنتي؟ قالوا: لا، أي رب، قال: فكيف لو رأوا جنتي؟! قالوا: ويستجيرونك، قال: ومِمَّ يستجيرونني؟ قالوا: مِن نارك يا رب، قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري؟! قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرتُ لهم، فأعطيتُهم ما سألوا، وأجَرتُهم مما استجاروا، قال: فيقولون: رب فيهم فلانٌ عبدٌ خطَّاء، إنما مرَّ فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرتُ، هم القوم لا يشقى بهم جليسُهم))[15]. ومنهم الملائكة الموكلون بالنار، ومقدمهم مالك - عليه السلام - وغير ذلك من الأعمال مما ثبت في الكتاب والسنَّة. ♦ فإذا أتممتَ الإيمانَ بهذه الأمور الأربعة، فإنك تكون قد حقَّقت الإيمان بالركن الثاني من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالملائكة، والله يُعيننا وإياك على تحقيق ذلك التحقيق الكامل، والله أعلم. ♦ اعلم أن هناك من اعتقد في الملائكة اعتقاداتٍ فاسدة، فمن ذلك أن بعض الطوائف تعتقد أنهم يتَّصفون بشيء من صفات الألوهية، فعبدوهم من دون الله تعالى؛ قال - تعالى -: ï´؟ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ï´¾ [سبأ: 40 - 41]. وقال - تعالى - عنهم: ï´؟ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ï´¾ [الأنبياء: 26 - 29]. وبه يتقرَّر أن الملائكة لا تحمل شيئًا من صفات الألوهية، ولا يجوز صرفُ شيء من العبادة لها؛ لأن العبادة حقُّ الله الخالقِ لا يَشرَكُه فيه ملَكٌ مقرَّب، ولا نبي مرسَل، ولا وليٌّ صالح. ♦ ومن ذلك: أن المشركين كانوا يعتقدون أن الملائكة إناث، وهذا اعتقاد فاسد باطل كل البطلان؛ قال - تعالى -: ï´؟وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ï´¾ [الزخرف: 19]. وقال - تعالى -: ï´؟ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ï´¾ [الصافات: 149 - 152]. ♦ ويتضمن ذلك الاعتقادُ اعتقادًا آخرَ فاسدًا، وهو اعتقاد أنَّ بين الملائكة والله نسبًا؛ قال - تعالى -: ï´؟ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ï´¾ [الصافات: 158]. والجِنَّة هنا يراد بهم الملائكةُ على قول كثيرٍ من المفسرين. ♦ ومن ذلك: ما يعتقده الفلاسفة الحمقى المجانين السفهاء السُّقَطاء، الذين خالفوا المنقولَ وناقضوا المعقول، من أنه لا حقيقة للملائكة وليسوا بأجسام، ولكن المراد بهم قُوَى الخير، كما أن المراد بالشياطين قُوَى الشر، وهذا المذهب كفرٌ مخالفٌ للقرآن والسنَّة؛ فإن ما ورد من صفاتهم في الكتاب والسنة يدل على أنَّ لهم حقيقةً وأنهم أجسام. [1] البخاري (2)، كتاب بدء الوحي، ومسلم (2333)، كتاب الفضائل، والترمذي (3634)، كتاب المناقب، والنسائي (933)، كتاب الافتتاح، وأحمد (25252)، والموطأ (474). [2] انظر: أُسد الغابة (1/ 397 - 398)، وتهذيب الكمال (5/ 294 - 295)، والتقريب (214). [3] انظر: الفتح (1/ 28 - 30). [4] جزء من حديث متفق عليه؛ البخاري (6982)، ومسلم (160). [5] حسن لغيره؛ الطبراني في المعجم الكبير (7549)، وأبو نعيم في الحلية (10/ 27) من حديث أبي أمامة، وفيه غفير بن معدان ضعيف، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 129)، والبيهقي في شعب الإيمان (9989) من حديث عبدالله بن مسعود، وفيه انقطاع، ورواه البزار (2914) من حديث حذيفة، وفيه قدامة بن زائدة بن قدامة، لم يُذْكَر فيه جرحٌ ولا تعديل، وبالجملة، فالحديث على أقل الأحوال حسنٌ لغيره، والعلم عند الله، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 2085). [6] مسلم (2334). [7] أحمد (27575)؛ حسنه شيخنا عادل العزازي في هداية المُستنير في تخريج أحاديث ابن كثير، وكذا محقِّقو المسند (45/ 557 - 558). [8] البخاري (4592)، ومسلم (1898). [9] البخاري (4329)، ومسلم (1180). [10] مسلم (2996). [11] جزء من حديث عند مسلم (177). [12] الترمذي (2312)، أحمد (21516)، وصححه الألباني في الصحيحة (852). [13] جزء من حديث عند مسلم (162)، من حديث أنس بن مالك. [14] متفق عليه؛ البخاري (7429)، ومسلم (632). [15] مسلم (2689) من حديث أبي هريرة. |
العلامات المرجعية |
|
|