#1
|
|||
|
|||
الإعراض عن القرآن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: * قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124]. هذا بيان موجزٌ من الله تعالى، وإعلان واضح لا لبسَ فيه إلى الناس أجمعين في كل مكان وزمان؛ ليكون حُجَّة عليهم وإنذاراً لهم، لعلهم يتفكرون، ولعلهم يتنبَّهون، فيعملون بما يَحْمِله هذا البيان الموجز من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، ألا وهو الإقبال على الذِّكر والقرآن الحكيم. * * المراد بالذِّكر: * يرى عامَّة المفسِّرين أنَّ المراد بالذِّكر هنا القرآن. ومن هؤلاء: البغوي، والقرطبي، والرَّازي، وابن الجوزي، وابن القيِّم، والشَّوكاني، والسَّعدي، وغيرهم [1]. قال البغوي - رحمه الله - في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ «يعني القرآن، فلم يؤمن به ولم يتَّبعه»[2]. * * وقال ابن القيِّم - رحمه الله: « فَذِكْرُه: كلامُه الذي أنزله على رسوله. والإعراض عنه: ترك تدبُّره والعمل به»[3]. * * المراد بالمعيشة الضَّنْك: * أكثر ما جاء في كتب التَّفسير عن المعيشة الضَّنك: أنها عذاب القبر، وروي في ذلك آثار عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهم. * * وأصل الضَّنك في اللُّغة: الضِّيقُ والشِّدَّة، يُقال: مَنزِلٌ ضَنْك، وعَيش ضنك، يستوي فيه الواحد والاثنان، والمذكَّر والمؤنَّث والجمع [4]. * * وروى المفسِّرون في المعيشة الضَّنك خمسة أقوال[5]: * أحدها: أنها عذاب القبر، وممِّن قال بذلك: ابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، والسُّدي. * الثاني: أنها ضغطة القبر حتى تختلف أضلاعه فيه، رواه عطاء عن ابن عباس. * الثالث: شدَّة عيشه في النَّار، رواه الضَّحاك عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد. * الرابع: أنها كسب الحرام؛ لأنَّ الحرام وإنْ اتَّسَعَ فهو ضنك، رواه الضَّحَّاك عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. * الخامس: أنها المال الذي لا يتَّقي اللهَ صاحبُه فيه، رواه العَوفي عن ابن عباس. * * قال ابن الجوزي - رحمه الله: «فخرج في مكان المعيشة ثلاثة أقوال: أحدها: القبر، والثاني: الدُّنيا، والثالث: جهنَّم»[6]. * * والصَّحيح في معنى المعيشة الضَّنك: * أنَّها عامَّة في الدُّنيا بما يُصيب المعرض عن القرآن من الهموم والغموم والآلام، والتي هي عذاب مُعَجَّل، وفي البرزخ، وفي الآخرة؛ لإطلاق المعيشة الضَّنك، وعدم تقييدها، وبه قال: الرَّازي[7]، وابن القيِّم[8]، والشَّنقيطي[9]، والسَّعدي [10]. * * قال الشَّنقيطي - رحمه الله: «واختلف العلماء في المراد بهذا العيش الضيِّق على أقوال متقاربة، لا يُكذِّب بعضها بعضاً. وقد قدَّمنا مراراً: أنَّ الأَولى في مثل ذلك، شمول الآية لجميع الأقوال المذكورة»[11]. * * «فقلوبُ أهل البدع، والمُعرِضين عن القرآن، وأهل الغفلة عن الله، وأهل المعاصي: في جحيم قبل الجحيم الأكبر، وقلوبُ الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: 13-14]. هذا في دُورهم الثلاث، ليس مختصاً بالدَّار الآخرة، وإن كان تمامه وكمال ظهوره: إنما هو في الدَّار الآخرة، وفي البرزخ دون ذلك، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ﴾ [الطور: 47]. * * وقال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ [النمل: 71-72]. * * وفي هذه الدَّار دون ما في البرزخ، ولكن يمنع من الإحساس به: الاستغراق في سكرة الشَّهوات، وطرح ذلك عن القلب، وعدم التَّفكر فيه»[12]. * * المراد بالعَمَى: * قال الله تعالى - في المُعْرِض عن القرآن العظيم: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124]. * * واختلف أهل التَّأويل في بيان كيفيَّة حَشْرِ المُعْرِضِ أعمى يوم القيامة، وهل هو عمى البصيرة أم عمى البصر، على قولين: * القول الأوَّل: إنه أعمى البصيرة، بمعنى أنَّه: أعمى عن الحُجَّة، فلا حُجَّة له يهتدي بها؛ لأنه ليس للنَّاس على الله حُجَّةٌ بعد الرُّسل. وبه قال مجاهد. ورجَّحه الطَّبري[13]. * واستدلوا: بقوله تعالى: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ [مريم: 38]. * * وقوله: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: 22]. وقوله: ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: 45]. وقوله: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾ [الكهف: 53]. ونظائر هذا ممَّا يُثبت لهم الرؤية في الآخرة. * * القول الثَّاني: إنه أعمى البصر، فلا يرى شيئاً. * واستدلوا: بأنَّ سياق الآية لا يدلُّ إلاَّ على ذلك؛ لقوله: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا﴾ [طه: 125]. فقد صرَّح بأنَّ عماه هو العمى المقابل للبصر، وهو بصر العين؛ لأنَّ الكافر في الدُّنيا أعمى القلب، كما دلَّت على ذلك آياتٌ كثيرة من كتاب الله. * * فإنه لمَّا أعرض عن الذِّكر الذي بعث اللهُ به رسولَه وعميت عنه بصيرته: أعمى الله بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب، كما ترك الذِّكرَ في الدُّنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة. * * واستدلُّوا أيضاً بمثل قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾ [الإسراء: 97]. وصَوَّب هذا القول العلاَّمةُ ابن القيم[14]، واختاره: السَّعدي[15]، والشَّنقيطي [16]، وابن عاشور[17]. * * الجمع بين القولين: * وقد جمع العلاَّمة ابن القيِّم بين القولين: * بأنَّ هناك حشرين: أحدهما: من القبور إلى الموقف. والآخَر: حشر من الموقف إلى دار المستقر. * وبيَّن أنَّ معنى الحشر هو: الضَّمُّ والجَمْع. * فالحشر الأوَّل: إلى موقف القيامة، وعليه تُحمل أدلَّة القول الأوَّل، فهم يسمعون ويُبصرون ويُجادلون ويتكلَّمون. * * والحشر الثاني: يراد به الضَّمُّ والجمع في دار المستقر. فحَشْر المتَّقين: جَمْعهم وضمُّهم في الجنَّة. * كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا﴾ [مريم: 85]. * * وحشر الكافرين: جَمْعهم وضمُّهم في النار، كما قال تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: 22-23]. فهذا هو الحشر الثَّاني، يُحشرون على وجوههم عمياً وبكماً وصماً، وعليه تُحمل أدلة القول الثَّاني. * * إذاً فلكلِّ موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرَّب تبارك وتعالى وحكمته، فالقرآن يُصدِّق بعضه بعضاً: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82][18]. * * ويدلُّ على ذلك أيضاً ما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: «إذا أُخرج من القبر خرج بصيراً، فإذا سِيق إلى المحشر عَمِي»[19]. * * ومِثله قال الفرَّاء: «يُقال إنَّه يخرج بصيراً من قبره، فيعمى في حشره»[20]. وكذا قال الزجاج: «يخرجون بصراء في أول مرَّة، ويَعْمَون في المحشر»[21]. * * فالكافر المُعرِض عن القرآن يكون في حشره الأوَّل أعمى البصيرة لا البصر. وفي حشره الثَّاني: أعمى البصر والبصيرة، نسأل الله العافية. * * ويشهد لذلك ما جاء عن ابن كثير - رحمه الله - في قوله: «ويحتمل أن يكون المراد أنه يُحشر أو يُبعث إلى النَّار أعمى البصر والبصيرة أيضاً»[22]. * * الجزاء من جنس العمل: * لمَّا توجَّه هذا المُعْرِض عن القرآنِ إلى الله تعالى، قائلاً: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا﴾ [طه: 125]؛ جاء الجوابُ المُفحِمُ من ربِّه: ﴿كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ [طه: 126]، فكان الجزاءُ من جنس عمله، فلا يلومنَّ إلاَّ نفسَه. * * * [1] انظر هذه الأقوال ونسبتها، في معنى الذِّكر: تفسير البغوي (3/ 145)؛ تفسير القرطبي (11/ 275)؛ التفسير الكبير (22/ 112)؛ زاد المسير (6/ 243)؛ الفوائد (ص165)؛ تفسير الشوكاني (3/ 560)؛ تفسير السعدي (3/ 258). [2] تفسير البغوي (3/ 145). [3] الفوائد (ص165). [4] انظر: لسان العرب (5/ 93)، مادة: (ضنك). [5] انظر الأقوال في معنى المعيشة الضَّنك في: تفسير الطبري (9/ 282)، تفسير ابن كثير (5/ 316)؛ زاد المسير (5/ 244)؛ تفسير القرطبي (11/ 276)؛ البحر المحيط، لأبي حيان (6/ 286)؛ تفسير الشوكاني (3/ 553). [6] زاد المسير (5/ 244). [7] انظر: التفسير الكبير (22/ 112-113). [8] انظر: مدارج السالكين (1/ 422-423)؛ الجواب الكافي (ص176-177). [9] انظر: أضواء البيان (4/ 595). [10] انظر: تفسير السعدي (3/ 258). [11] أضواء البيان (4/ 595). [12] مدارج السالكين (1/ 423). [13] انظر: تفسير الطبري (9/ 286)؛ زاد المسير (5/ 245). [14] انظر: مفتاح دار السعادة (ص46-47). [15] انظر: تفسير السعدي (3/ 358). [16] انظر: أضواء البيان (4/ 597). [17] انظر: التحرير والتنوير (16/ 200). [18] انظر: مفتاح دار السعادة (ص47-48). [19] زاد المسير (5/ 245). [20] معاني القرآن، للفرَّاء (2/ 194). [21] التفسير الكبير (22/ 99). [22] تفسير ابن كثير (5/ 332). د. محمود بن أحمد الدوسري
__________________
|
#2
|
|||
|
|||
بارك الله فيك
|
#3
|
|||
|
|||
وقانا الله وإياكم الضيق والشدة.
|
#4
|
|||
|
|||
وفقكم الله لما يحبه ويرضاه
|
#5
|
|||
|
|||
بارك الله فيكم
|
#6
|
|||
|
|||
جزاك الله كل خير على المشاركه
|
#7
|
|||
|
|||
بارك الله فيك
__________________
|
#8
|
|||
|
|||
جزاك الله خيرا
|
العلامات المرجعية |
|
|