اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > التاريخ والحضارة الإسلامية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 04-08-2017, 08:06 PM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
Impp القدس عربية برغم المزاعم الصهيونية

منذ أن اختمرت فكرة الصِّهيونية في عقلية مؤسسيها الذين تزعموا هذه السياسة الاستيطانية ذات المغزى الاستعماري البحت، في ضرورة وحتمية أن يكون لهم كِيان مستقل في الأراضي العربية الفلسطينية التي هي بمكان الروح من الجسد في كِيان الأمة الإسلامية، لِما تحويه من مقدسات تهم ديانات التوحيد، ويجتمع شملهم من دياسبورتهم المبددة لشملهم المزعزع في أرجاء المعمورة - وهم يخطون خطوات واسعة لغرس أقدامهم في هذه المنطقة العربية بأساليب كثيرة ومتنوعة، منها: تزييف الحقائق التاريخية بوسائل الإعلام المختلفة، ومحاولة تهويد المدينة المقدسة، وطمس معالمها الأثرية والحضارية والتراثية الخالدة، التي تُثبت أحقية المدينة تاريخيًّا ودينيًّا للإسلام والعرب - بلا منازع - وكذا بالأساطير المختلفة، وأوهام زائفة، متجاهلةً أن الحقائق التاريخية الراسخة، والثوابت الواضحة، والمعالم الدالة على ذلك - يستحيل التلاعب بجوهرها مهما تفنن المخادعون في أنواع الخداع، وأن الزمن لا يمكن المساس به أو تغييره، وإنها إذا استطاعت - إذا افترضنا ذلك جدلًا - أن تُزيف فترة زمنية من عمر التاريخ، فإن الزمن سَرعان ما يُجدد نفسه ويكشف عن مخبوئه، ويعود إلى مجراه، وعند ذلك ينكشف الزيف، ويظهر الحق، ويعلو على الباطل الذي يكون عند ذلك قد هوى بناؤه على رأسه، ولم يعد له أثر؛ لأنه لم يؤسس على قاعدة صُلبة من الحقائق، وأنه أُسِّس على جرف هارٍ، وعند ذلك ستحاول الأجيال إعادة الحقوق، أو أن الحقوق ستعود بنفسها وتطفو على سطح الحياة، وهكذا أثبتت القدس على مر العصور والأزمان، فكم من غزاة بقوا فيها بعض الوقت، ثم مضوا في طريقهم إلى الأبد بغير رجعة، وخرجوا منها مُطأطِئي الرؤوس، وستبقى القدس عربية إسلامية - بمشيئة الله - رغم كل الظروف.
*
وقبل أن نسبق الأحداث سنتحدث عن الحقوق العربية والإسلامية في القدس، لنفنِّد المزاعم الصِّهيونية التي تحاول أن تجرِّد العرب من حقوقهم الراسخة في أعماق التاريخ الإنساني الطويل في عروبة فلسطين، معتمدًا في ذلك على الكتب المقدسة التي يستند إليها اليهود الصِّهْيَونيون، ويؤمنون بها، وكذا المصادر التاريخية الموثقة، وما يقطع به علماء الآثار والتاريخ والأديان.
*
أولًا: نصوص التوراة تقول: القدس عربية:
ومع التحريف الذي طغى على نصوص التوراة والتزييف الذي اعترى فقراتها، وذلك بعد أن نسوا حظًّا مما ذُكِّروا به، أومأت التوراة، بل أشارت إشارة واضحة أشد الوضوح إلى عروبة القدس، حيث ورد ذكر "يبوس" في التوراة في أكثر من موضع، واليبوسيون كما هو معروف هم سكان القدس، وهم بطن من بطون العرب الأوائل، وقد نشؤوا في الجزيرة العربية، وترعرعوا في أرجائها، ثم نزحوا عنها مع مَن نزح من القبائل الكنعانية، فاستوطنوا هذه الديار، ويذهب كثير من المؤرخين إلى أن ذلك كان حوالي عام 3000 ق.م، وقد جاء في "السير السليم" في يافا والرملة وأورشليم للآباء الفرنسيسيين - أن أول من اختطها وبناها هو الملك العربي التقي "ملكي صادق"[1]، بل إننا نرى أن سفر التكوين يرجع تسميتها بأورشاليم إلى ذلك الملكي العربي "ملكي صادق" الذي اختطها أو كما يقول: ".... الباني الأول للقدس الذي أُطلق عليه ملك السلام"[2]، ويفسر ذلك "إميل الغوري"، فيقول[3]: فكلمة (أور) بالكنعانية تعني مدينة، وعليه يصبح اسم مدينة القدس مدينة السلام"، ومن النصوص التوراتية التي أشارت إلى ذلك:
(1) جاء في سفر القضاة: "فلم يرد أن يبيت، بل قام وذهب وجاء إلى مقابل "يبوس"، وهي أورشاليم[4].
*
(2) وفي القضاة أيضًا: "وفيما هم عند "يبوس"، والنهار قد انحدر جدًّا، قال الغلام لسيده: تعالَ نَمِلْ إلى مدينة "اليبوسيين" هذه، ونبيت فيها، فقال له سيده: لا نميل إلى مدينة غريبة؛ حيث لا أحد من بني إسرائيل هنا نعبر إلى جَنبه"[5].
*
(3) وفي الأخبار: وذهب داود وكل إسرائيل إلى أورشاليم - أي: "يبوس" - وهناك اليبوسيون سكان الأرض[6].
*
(4) وفي الأخبار أيضًا: "وقال سكان "يبوس" لداود: لا تدخل هنا، فأخذ داود حصن صِهيون، وهي مدينة داود"[7].
*
واليبوسيون كما يذكر المؤرخون هم قبائل عربية نزحت منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد من قلب الجزيرة العربية، وقد ذكر كثير من المؤرخين هذه الحقيقة التاريخية، ولنا أن نستدل على ذلك بما ذكره الأستاذ الدكتور عبدالخالق عبدالله أستاذ التاريخ العبري بجامعة القاهرة؛ إذ يقول: "إنهم أقوام عرب ينتمون إلى اسم قبيلة كنعانية سكنت يبوس والجبال التي حولها في أيام يشوع"[8].
*
وقد اتخذ اليبوسيون في هذه المدينة التي سكنوها أماكن آمنة توفر لهم الحماية، وتحفظ لهم الأمن، وتجعلهم بمنأى من الأخطار المحدقة بهم، ومركزًا عصيًّا تصعب الإغارة عليه، ونظرًا لهذه المنعة ولتلك القوة، لم يستطع داود القضاء عليهم أو طردهم من يبوس[9]، وتذكر بعض أسفارهم: "بل اشترى داود عليه السلام بيارة من أروحة اليبوس"[10].
وجاء في سفر الملوك "... حيث بنى سليمان من بعده الهيكل، ولكن سليمان هو الذي أخضع اليبوسيين وضرب عليهم تسخير العبودية، وفرض عليهم الجزية"[11].
*
إذًا من خلال هذه النصوص التي تزخر بها بطون الكتب المقدسة، لا يمكن الشك بحال من الأحوال في عروبة الأراضي الفلسطينية، وذلك باعتراف الكتب المقدسة لديهم، وبالأدلة الثابتة في عيون أسفارهم التي نقلت لنا هذه النصوص المصرحة بأحقية اليبوسيين، وملكيتهم لهذه الأراضي التي عمروها، وظلوا يقطنونها أزمانًا طويلة، والتي هي في الوقت ذاته كانت غريبة عن اليهود بلفظ أسفارهم، ولذا لم يستجب السيد لغلامه حينما دعاه ليميل إلى المدينة - أي القدس - وهو أحرى بمعرفة ما يقول ليركن إلى الراحة أو السكن، قائلًا: "لا نميل إلى مدينة غريبة؛ حيث لا أحد من بني إسرائيل هنا نعبر إلى جانبه".
*
ومن خلال النصوص التوراتية السالفة الذكر، يجدر بنا أن نشير إلى الترادف الحادث في بعض النصوص لكلمة القدس، وتلك الأسماء التي عُرِفت بها القدس عبر العصور المختلفة[12]، وقد جاءت هنا مرادفات يبوس: "أورشاليم، مدينة داود، حصن صهيون....".
وقد جاء ذكر أسماء القدس في كثير من المصادر التاريخية والدينية، ولعل القدس أو القدس الشريف هو أكثر الأسماء انتشارًا واتساعًا، وذلك منذ بزوغ فجر الإسلام، وما يهمنا هنا الأسماء التي ورد ذكرها في النصوص التوراتية التي وردت ضمن إسناد الأنبياء الأوائل: يشوع والقضاة، وصموئيل الأول والثاني، والملوك الأول والثاني، والأنبياء الأواخر: أشعياء وأرميا وحزقيال، وغيرهم.
*
وكذا وردت ضمن الكتابات التي تشكل أسفار المزامير والأمثال وأيوب، حتى سفر أخبار الأيام، وهذه الأسفار جميعها تعرض تاريخ أنبياء بني إسرائيل الذين أرسلوا بعد موسى عليه السلام، وجميع هذه الأسفار تحتل في قدسيتها الدينية المرتبة الثانية بعد القسم الأول، وهو التوراة التي تشتمل على الأسفار الخمسة التي نزلت على موسى عليه السلام في جبل سيناء، وكتبها بنفسه، ومِن ثم تأتي قدسيتها لديهم ويؤمنون بها، وهي المحرك لهم لو كانوا صادقين!
ولم ترد كلمة "يبوس" نسبة إلى يبوس المدينة، التي من المؤكد أنها لم تُعرَف باسم آخر حتى ذلك الوقت؛ حيث وردت بهذا المعنى في سفر التكوين[13]، وكذا وردت صريحة في سفر الخروج[14]. أصعدكم من مذلة مصر إلى أرض الكنعانيين واليبوسيين إلى أرض تفيض لبنًا وعسلًا، وكذا وردت بالصراحة نفسها في سفر العدد[15].
*
والحقيقة التي يجب التنبه إليها أن ورود هذه الأسماء المسندة إلى "يبوس" التي عُرِفت بعد ذلك في سفر يشوع بأنها هي القدس، و"اليبوس" هي أورشليم، وإعطاء صفة القدسية للمدينة من ناحية - يؤكد لنا بما لا يدع مجالًا للشك وجودها العربي قبل الوجود اليهودي، وقبل أن يسرقوا اسمها، ويُحرفونه ويحشرونه في توراتهم.
وهكذا يُظهر الله الحق، ويبطل الباطل، ويجعل لنا من بين أنامل أيدي الأعداء نورًا نستضيء به، ويكون لنا برهانًا ساطعًا، وحجة دامغة لإبطال حججهم الواهية التي لا تستند على قاعدة حية من قواعد الحق، وهكذا يُحق الله الحق بكلماته، ويأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
*
أسطورة أرض الميعاد:
احترَف اليهود الخداع، وتفنَّنوا في أساليب التزييف، وتاريخهم الطويل يثبت مدى قدرتهم الفائقة على التضليل والتزييف والخداع والمماطلة، والاستهزاء بالله تعالى وأنبيائه ورسله، وما فعلوه مع نبي الله موسى عليه السلام خير شاهد على خِستهم ودناءة أنفسهم، وسفاهة عقولهم، وحدِّث عنهم ولا حرج، فقد تفنَّنوا في اختلاق الأساطير، وترويج الأكاذيب والافتراءات التي يحاولون من خلالها تحقيق مآربهم وما يَصبون إليه، وقد حرفوا التوراة وبدَّلوا كلام الله تعالى، فملؤوا التوراة أساطيرَ هائلةً مما تهوى أنفسهم، لبسوها ثوبًا مزركشًا من الدين، وأقاموا حولها رتوشًا براقة زيَّنوها "بديكوراتهم" المزيفة؛ ليُضفوا عليها القدسية الكاملة، لينجذب إليهم السُّذَّج من اليهود بكُليتهم، ويتحركون بوازع من الدين - باطلًا - يُملي عليهم الانقياد والانصياع لأوامر الرب دون تردُّد وتريُّث؛ لأن أوامر الرب ونواهيه تعلو على المناقشة وتسمو عن الجدال، هذا ما نعتقده، وإن كانت الحركة الصِّهيونية لا تَمُتُّ لدين بصلة، لأي دين!! فقد اتخذت بُعدًا سياسيًّا قوميًّا بحتًا، وهذا باعتراف مؤسسها الأول هرتزل، وقد أفاد مؤسسوها من خلال اتخاذهم الدين وسيلةً لتحقيق أغراضهم الاستعمارية العنصرية، وهكذا يدَّعي اليهود أن الله تعالى أو بالأحرى الرب - كما يذكرون - هو الذي حدد لهم هذه الأماكن وجعلها ملكًا خالصًا لهم، وأقسم لآبائهم أن تكون هذه الأرض لنسْلهم المختار! ويؤيدون هذه الادعاءات من نصوص أسفارهم التي تملأ ما بين دفتي العهد القديم والأسفار الأخرى التالية له، وهي جِدُّ كثيرةٍ، ومِن ثَمَّ فإن تفنيدنا لأسطورة أرض الميعاد ومزاعمهم بهذا الصدد سيُبنى على أساسين:
الأول: الأرض الموعود بها وحقيقة وجود الوعد.
الثاني: الموعود له بالأرض وأسطورة النسب الواحد.
*
وسنقف أيضًا عند التفسير الموضوعي المحايد الذي لا يميل إلى التزييف والتحوير في الفكر اليهودي الذي يستمد مصداقيته من الواقع التاريخي.
أولًا: الأرض الموعود بها وحقيقة وجود الوعد:
جاء في سفر التكوين[16]: "وظهر الرب لإبرام، وقال: "لنَسْلك أُعطي هذه الأرض"، ثم جاء في نص آخر: "وقال الرب لإبرام بعد اعتزال لوط عنه: ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا؛ لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أُعطيها ولنسلك إلى الأبد، واجعل نسلك كتراب الأرض"[17]، والحق أننا لا نتصور عقليًّا أن الرب قد ظهر لإبراهيم أو غيره، ومنحه الصكوك الشرعية لامتلاك أرض كنعان، أو غيرها، ولكننا إذا سلَّمنا جدلًا بصدق ما جاء في هذه النصوص، فإن الوعد الإلهي الذي جاء في هذه النصوص لا يخص بني إسرائيل وحدهم دون إخوتهم، إنما يتساوى في ذلك الوعد إسرائيل وإسماعيل عليهما السلام وذريتهما أيضًا، وهذا يوضح لنا أن هذا الوعد لا يقتصر على بني إسرائيل وحدهم، بل هو لسلالة إبراهيم جميعًا، وقد ثبت أن أنبياء الديانات الثلاث موسى وعيسى ومحمد عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليمات، كلهم يرجعون إلى جدهم نبي الله إبراهيم عليه السلام، ومِن ثم فهم فرع وارث في أبيهم إبراهيم عليه السلام، وليس لليهود وحدهم.
*
ومن هنا يمكن القول طبقًا للنص: إن هذا الوعد قد تحقق فعلًا لبني إسرائيل في عهد موسى عليه السلام، حين خرج اليهود من مصر إلى سيناء، ثم إلى فلسطين - وقد كانوا مؤمنين برسالة نبي الله موسى عليه السلام - وقد تكوَّنت لهم دولة مؤسسة على الشرعية الدينية، كما تحقق هذا الوعد أيضًا في عصر آخر، وهو عصر الملكين داود وسليمان، وهما من ملوك وأنبياء بني إسرائيل، ومن هنا فإن لم يكن قد تحقَّق هذا الوعد في عهد موسى عليه السلام، فقد تحقق في عهد سليمان الذي أُوتي الحكمة وفصل الخطاب.
*
وما دام الوعد من الله تعالى والمنة منه، فحاشا لله تعالى أن يحابي طرفًا على حساب الآخر، ومِن ثم فلن يكون وعده مقصورًا على أحد أبناء إبراهيم دون الآخر، فيمكن أن يتحقق الوعد في بيت إسماعيل، وهو الابن الثاني لإبراهيم عليه السلام، ولا سيما في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أُرسِل للناس كافة، ووصلت رسالته أرجاء المعمورة، ودخل الإسلام بلدانًا كثيرة، ذلك إذا كان الوعد لإبراهيم كما جاء في النص، فلو كان لإسرائيل "يعقوب عليه السلام"، فما جدوى ظهور الرب لإبراهيم عليه السلام، وإذا كان اليهود يريدون استبعاد إسماعيل عليه السلام من هذه القسمة أو التركة، وقد خصوا بها إسحاق، فإن الأمر أيضًا يدق؛ لأن إسحاق له ولدان هما إسرائيل وعيسو الابن البكر... ولو كان الوعد لإسحاق، لاشتركت فيه ذرية الأخوين، وإذا كان المقصود هم ذرية إسرائيل - يعقوب عليه السلام - دون غيرهم، فإن إعطاء الوعد لإسحاق - ومن قبله لإبراهيم عليه السلام - يغدو غير ذي جدوى، أوهام وخرافات، واقتصار فائدته على يعقوب ونسله، يوجب أن يكون الوعد ليعقوب دون غيره من قبل ومن بعد، وهو ما لا يحدث، أو يتجرأ على القول به شخص واحد عبر التاريخ الإنساني الطويل[18].
*
وفي موضع آخر من العهد القديم نجد وعودًا ليعقوب عليه السلام، وهي لا تتوافق مع الوعود السابقة من الناحية العقلية: " فخرج من البئر - بئر سبع - وذهب نحو حاران، وصادف مكانًا وبات هناك؛ لأن الشمس كانت قد غابت، وأخذ من حجارة المكان ووضعه تحت رأسه، فاضطجع في ذلك المكان، ورأى حلمًا، فإذا سُلَّم منصوب على الأرض ورأسه يمس السماء، وهو ذا ملائكة الله تعالى صاعدة ونازلة عليها، وهو ذا الرب واقف عليها، فقال: أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق... الأرض التي أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسْلك... وها أنا معك وأحفظك حيثما تذهب، وأردك إلى هذه الأرض؛ لأني لا أتركك حتى أفعل ما كلمتك به"[19].
*
والواقع أنه - حتى في إطار العقائد اليهودية - ينبغي التمييز بين تلك الوعود التي أعطيت لإبراهيم عليه السلام، وتلك التي تنص على أن يكون لنسله الأرض من النيل إلى الفرات كما يحلو للصهاينة أن يشطحوا بخيالاتهم المريضة، وإذا كان يعقوب لم يوعد إلا بتلك المنطقة التي اضطجع فيها، وهي مجازًا منطقة صغيرة من أرض كنعان[20]، ذلك إذا سلمنا جدلًا بمصداقية التوراة وتجاوزنا الحقيقة، والواقع أن الله عز وجل لم يَعِد أحدًا بشيء من رفات الدنيا، وأن خلقه سبحانه وتعالى سواسية، لم يفرق بين أحد من خلقه إلا بالتقوى والعمل الصالح، والواضح من هذه النصوص التوراتية أنها تحاول تعزيز فكرتهم الداعية إلى العنصرية، وأنهم شعب الله المختار!
*
يقول الأستاذ طارق العماوي معقبًا على بعض تلك النصوص[21]: "إن المنطق يذهب إلى هذا النحو في تأييد الفكرة؛ حيث إن موسى عليه السلام كافح بعد ذلك؛ ليخرج ببني إسرائيل من أرض مصر؛ حيث نهر مصر، ولو كان نهر مصر موعودًا لبني إسرائيل، لما خرج بهم موسى من جواره!
*
ولنا أن نستعين هنا - بشأن خرافة أرض الميعاد - بآراء أساتذة الأديان في الأكاديميات الغربية، فقد أوجز "ألبير دي بوري" أستاذ العهد القديم في كلية اللاهوت البروتستانتية في جنيف - رسالته للدكتوراه: "الوعد الإلهي والخرافة الشعائرية في أدبيات يعقوب"، التي ناقش فيها كبار المؤرخين والمفسرين والمحدثين - خاصة ألبرخت آلت، ومارتن نوت - على النحو التالي: "إن الموضوع التوراتي لهبة البلاد، يستمد أصوله من "الوعد الأول"؛ أي: الوعد الإلهي لإبراهيم بحسب المأثور في سفر التكوين، فأقاويل سفر التكوين تنقل لنا في مرات عديدة وبأشكال مختلفة أن الله وعد الآباء وذرياتهم بملكية الأرض التي كانوا في سبيلهم إلى التوطن فيها[22].
*
ويشير ألبير دي بوري في رسالته إلى عدم قناعته بما تُمليه التوراة من النصوص، وذلك لما تعرضه من الذكريات والتواريخ التي لا تستند إلى حقائق واقعية، بل هي عبارة عن حكايات وخرافات، والأشعار التي وصلت إليهم من التراث الشفهي الخيالي.
وهكذا اتفق معظم المفسرين المحدثين على أن هذه الصورة التاريخية ما هي إلا صورة وهمية إلى حد كبير.
وقد تنبَّه كثير من الباحثين والمفسرين إلى حقيقة الكِيان الصِّهيوني، ولعبة أرض الميعاد التي يروِّجها بين الأوساط العالمية؛ ليتخذ من ذلك ذريعة لكسب العطف العالمي، وتحقيق طموحاته وأغراضه السياسية والقومية، البعيدة كل البعد عن الدين، بل هي عين الهرطقة.
*
وفي معرض إيجازها لأعمال التفسير المعاصرة، وفقًا لمقولة ألبير دي بوري، كتبت السيدة "فرانسواز سميث" عميدة كلية اللاهوت البروتستانتية في باريس تقول: "إن البحوث التاريخية الأخيرة توصلت إلى تقليص العروض الكلاسيكية للخروج من مصر، وغزو كنعان والوحدة القومية الإسرائيلية قبل المنفى، وصوَّرتها على أنها قصة خرافية، فعلم التاريخ التوراتي لا يخبرنا بما يقصه علينا، بل يخبرنا عمن كتبوه"[23]، لقد قدمت السيدة " فرانسواز سميث " لأسطورة الوعد توضيحًا صارمًا في كتابها "الأساطير غير الشرعية دراسة حول الأرض الموعودة"، ثم يستطرد ألبير دي بوري موضحًا حقيقة الأسطورة الصهيونية؛ ليدحض فكرة الوعد المعطى للآباء بمعناه الكلاسيكي الذي أخفى الشرعية على فكرتهم الاستيطانية لغزو الأراضي الفلسطينية، أو كما يقول بوري: "أو على أنه امتداد للسيادة الإسرائيلية في عهد داود، وبعبارة أخرى فقد أدخل الوعد ضمن أحاديث الآباء، بغية اتخاذ هذه الملحمة السلفية تمهيدًا وإعلانًا عن العصر الذهبي الداودي والسليماني".
*
ويقول الأستاذ رجاء جارودي[24] عن حقيقة أصول الوعد المعطى للآباء في تفسيره الوعد بالأرض بمعنى الوعد بالاستقرار، وقد وجه أولًا إلى قبائل البدو الرُّحل التي كانت تطمح في الاستقرار في مكان ما بالمناطق الصالحة للسكنى، وبمقتضى هذا فإن الوعد كان جزءًا من الإرث الديني والروائي لعدة قبائل بدوية متباينة، أما وعد الرحَّل فقد كان الغرض منه ليس الغزو السياسي أو العسكري لمنطقة أو لبلد بأكمله، بل الاستقرار في منطقة محدودة.
*
وفي الأصل فإن الوعد المعطى للآباء الذي تحدث عنه سفر التكوين، لم يقطعه يهوى "الرب الذي دخل فلسطين مع مجموعة الخروج"، ولكن الرب الكنعاني آيل في إحدى أقانيمه المحلية، والرب المحلي مالك الأرض هو وحده الذي يستطيع أن يمنح للرُّحَّل حقَّ الاستقرار في أراضيه.
وبعد ذلك وعندما تجمعت القبائل الرُّحل التي استقرت مع قبائل أخرى، لتشكيل "شعب إسرائيل"، فإن الوعود القديمة كانت أهدافًا قد تحققت، ومِن ثم بدأ الوعد يتخذ أبعادًا سياسية وعسكرية "قومية"، وعلى ذلك فإن الوعد بعد إعادة تفسيره على هذا النحو، فُهِم على أنه تجسيد مسبق للغزو النهائي لفلسطين، وإعلان وإضفاء للشرعية على مملكة داود[25].
*
ثم يستطرد الأستاذ رجاء جارودي في حديثه لدحض المفتريات اليهودية في الوعود التوراتية التي يفسرها اليهود تبعًا لما تهوى أنفسهم، وما تمليه عليهم أغراضهم السياسية دون المثول للحقيقة والواقع التاريخيين، وقد وسعوا تفسيرهم للوعد التوراتي، لأجل خدمة أهدافهم ذات الطابع الاستعماري والأبعاد القومية، بينما يرجع وعد الرُّحل الذي يهدف إلى توطين عشيرة موحدة إلى أصل يسبق الحوادث دون شك، ومن ثم فإن الوعد يختلف بالنسبة للوعد ذي الأبعاد القومية، يقصد الفكر الصهيوني الحالي الذي لا يهدف إلا إلى استعمار الأرض واستبعاد الفلسطينيين، وترحيلهم وإبادتهم.
*
ونظرًا لأن القبائل الإسرائيلية لم تتوحد إلا بعد استيطانها في فلسطين، فإن إعادة تفسير وعد الرُّحَّل يصبح وعدًا بالسيادة السياسية التي تَمت بعد الأحداث، وعلى ذلك فإن وعد سفر التكوين[26]الذي يتوخى سيادة الشعب المختار على جميع المناطق الواقعة بين نهر النيل والفرات، وعلى جميع الشعوب التي تقطن هناك - هو بجلاء نبوءة ما قبل الأحداث مستوحاة من غزوات داود.
وقد أتاحت البحوث التفسيرية تأكيد توسيع وعد الرحل، وجعله وعدًا قوميًّا، قد حدث قبل تحرير أقاويل الأوائل خطيًّا، وأن محرر أحاديث العهد القديم قد عاش في عصر سليمان، ومِن ثم كان معاصرًا وشاهدًا على هذه العقود التي تَحقَّق فيها وعد الآباء الذي أُعيد تفسيره في ضوء داود بما يفوق كل الآمال[27].
*
ويقول المفكر رجاء جارودي: وفقًا لنص سفر التكوين، فإن بركة إسرائيل قد رافقتها بركة جميع قبائل الأرض، وقبائل الأرض هم أولًا كل الشعوب التي كانت تتقاسم مع إسرائيل فلسطين والضفة الغربية[28].
ذلك إذا كنا نُسلم بما جاء في التوراة من نصوص لم يعترها التحريف أو الاختلاق، مع أننا على إيمان عميق وثقة كبيرة بأن كل هذه النصوص التي تمتلئ بها أسفارهم، هي محض أساطير ومفتريات مختلقة مِن قِبَل اليهود الذين جاء ذكرهم صراحة في القرآن الكريم: ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ [النساء: 46]، ومِن ثَم فهم لا يؤتمنون على شيء، ولا يمكن تصديقهم فيما يقولون، أو يذهبون إليه، وهنا نستأنس بما قاله المفكر الكبير رجاء جارودي من أنه لا يصدق ما جاء به سفر التكوين من أن الرب قد ظهر لإبراهيم عليه السلام، ومنحه الصكوك الشرعية لامتلاك أرض كنعان ونسْله، ويقول أيضًا: "ومن الناحية القانونية فإننا لا نملك أي صك للهبة موقَّعة من الله، بل لدينا من الأسباب القوية ما يجعلنا نفكر في أن المنظر الوارد في سفر التكوين[29] على سبيل المثال لا يعكس حادثة تاريخية.
*
ومن هنا فإنه لا يمكن الاعتراف بمصداقية وعد الآباء، واستخدامه صكًّا شرعيًّا في خدمة المطالبات السياسية؛ إذ ليس هناك أي سياسة لها حق ادعاء كفالة الوعد وضمانه؛ لأنه ليس من العقلانية في شيء القول بأن الأراضي الفلسطينية التي شهِدت حضارات متعاقبة منذ أكثر من خمسة آلاف سنة إلى اليوم، تظل حكرًا على اليهود الذين لم تَدُم إقامتهم فيها أكثر من 73 سنة.
فمن الغرابة أن يقول اليهود - وذلك بعد أن انقطعت صلتهم بفلسطين منذ أكثر من ألفي سنة -: إنها أرض الميعاد، وأرض الأجداد، وحقوق تاريخية، وغير ذلك مما نسمعه من الافتراءات، في حين أنها تنكر تلك الحقوق على العرب الذين أسَّسوها وعمروها، وبذلوا فيها الغالي والنفيس، ودام حكمهم وإقامتهم فيها أكثر من أي *** آخر عبر التاريخ كما يقومون فيها الآن!
*
فمن السذاجة أن يقال: إن الصلة الروحية بفلسطين لم تنقطع بين اليهود وبينها طوال آلاف السنين، فهذه الصلة غير موجودة من جهة، وهي من جهة أخرى لا تعطيهم - على افتراض وجودها جدلًا - حقًّا في ****** أرض فلسطين من أصحابها، وقياسًا على ذلك فإن الصلة الروحية التي تربط المسلم الذي في الهند أو الصين أو أمريكا بمكة المكرمة في المملكة العربية السعودية، وكذا الصلة الروحية التي تربط المسيحيين في أمريكا بالفاتيكان - لا تجعل لهم حقوقًا قانونية في روما.
وهنا نستأنس بما جاء في محاضرة ألقاها المؤرخ البريطاني "أرنولد توينبي" في جامعة ماكجيل بكندا في يناير 1960م؛ حيث قال فيها: "إن مطالبة اليهود بفلسطين أمر مشكوك في صحته، فلو اعترفنا بالحقوق المسلوبة منذ عام 1935م، لَمَا استطعنا إعادة توزيع الأراضي في أنحاء العالم، ولكان عليكم إعادة كندا إلى الهنود الحمر!"[30].
*
وإذا كانت إسرائيل تتخذ من قدسية هذه الأماكن الفلسطينية ذريعة لغزوها واحتلالها؛ لكونها تحوي أماكن مقدسة تخصها، فإن الديانات الأخرى لها من المقدسات أضعاف مضاعفة مما يخص إسرائيل، فالنصارى مثلًا لهم أماكن مقدسة وكنائس، فضلًا عن "الناصرة" المدينة التي هي مسقط رأس المسيح عليه السلام، ناهيك عن المسلمين المنوطين بمقدسات ديانات التوحيد منذ آدم إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
*
في التفسير اليهودي للنبوءات:
ومن حاخامات اليهود مَن يحتكم إلى العقل، ويستأنس بالواقع، ولا يركن إلى الزيف الواضح، والتحريف المعلن الذي لا يستمد مصداقيته من واقع التاريخ، فها هو الحاخام ألمر برجر الرئيس السابق لرابطة "من أجل اليهودية في الولايات المتحدة"، يقول بصدد النبوءة التوراتية التي توظفها إسرائيل لخدمة أهدافها الاستعمارية: "إنه من غير المقبول من أي إنسان الادعاء بأن إنشاء دولة إسرائيل حاليًّا، هو تحقيق لنبوءة توراتية، ومن ثم فإن كل الأفعال التي قام بها الإسرائيليون لقيام دولتهم والإبقاء عليهم، هو تنفيذ لإرادة الرب"[31]، ومن هنا فهو يرى أن السياسة قد اتخذت طريقًا خاطئًا، وحطمت أو على الأقل طمَست المعنى الروحاني لإسرائيل[32]، واقترح برجر بحث عنصرين أساسيين لإرث النبوءات:
أ- حديث الأنبياء عن استعادة صِهيون لا يعني الأرض التي كان لها في حد ذاتها صفة القداسة. والمحك الذي لا يقبل النقاش بشأن مفهوم النبوءة، هو استعادة العلاقة بالرب في وقت كانت فيه هذه العلاقة قد قُطعت من جانب الملك وشعبه.
*
ب- ليست الأرض وحدها هي التي تتوقف عليها مراعاة العلاقة مع الرب والإخلاص له.
وهكذا توضح تقاليد النبوءات بجلاء أن قداسة الأرض لا تتوقف على تربتها ولا على شعبها، ولا على الوجود الوحيد لهذا الشعب على هذه الأرض.
*
ومع ذلك فإن إسرائيل ليس لها أي حق في ادعاء تحقيق النية الإلهية من أجل عصر مسيحي؛ لأن الشعب الإسرائيلي ليس بمقدس ولا الأرض بالنسبة لهم مقدسة، وهم ليسوا جديرين بأي امتيازات روحية في العالم، وليس أدل على ذلك من موقف هرتزل في بحثهم عن وطن لجمع شمل اليهود من دياسبورتهم، وقد فكَّر في توطينهم في أي مكان في العالم، دون أن يحدد مكانًا بعينه، وقد قدَّم عدة اقتراحات لتشمبرلين وغيره من وزراء بريطانيا، فقد قال هرتزل بقبول أوغندا، أو طرابلس، أو قبرص، أو الأرجنتين، أو موزمبيق، أو الكونغو[33]، فكيف يمكن القول بعد ذلك بأن أرض فلسطين هي أرض الميعاد وقد ألبسوها الصبغة الدينية؟!
*
♦ الشق الثاني:
أسطورة أرض الميعاد تأخذ شقين، الشق الأول: هو الأرض الموعود بها، وقد فنَّدنا هذا الزعم الذي لا يقوم على أدلة ثابتة من التاريخ والواقع والدين، واستندنا إلى ذلك بما ذهب إليه جهابذة الفكر في علم الأديان، ولا سيما في دراساتهم الأكاديمية المتخصصة التي خصوها بدراسة أساطير اليهود الواضحة، ثم نأتي هنا إلى الشق الثاني وهو خاصية الموعود لهم بهذه الأرض، والموعود له هنا كما جاء في النصوص السالفة الذكر، هم حفدة إسرائيل - ذلك إذا سلمنا جدلًا بما جاء في تلك النصوص التوراتية - ومِن ثم لا ينطبق الوعد على مَن تهوَّدوا - دخلوا في ديانة اليهود - لأن بني إسرائيل الذين خُصُّوا بهذا الوعد، لم يكن لهم أثر في التاريخ؛ لأنهم ذابوا في الشعوب الأخرى إزاء الظروف والاضطهادات المتكررة التي حدثت لهم عبر التاريخ.
*
ولنا أن نتأمل في هذا النص: "لا تقل في قلبك لأجل بري، أدخلني الرب لأمتلك هذه الأرض، ليس لأجل برك وعدالة قلبك تدخل لتمتلك أرضهم، بل لأجل إثم أولئك الشعوب يطردهم الرب إلهك من أمامك، ولكي يفي بالكلام الذي أقسم الرب عليه لآبائك"[34]، فإننا نلحظ في هذا الوعد أنه معطى لفصيلة بشرية محددة بعينها، وليس لأهل دين أو ملة، وهذا التمييز مسألة مهمة جدًّا؛ لأنه يترتب عليه نتيجة جوهرية هي: وجود الوعد وفناء الموعود له! فلا محل للنفاذ[35].
*
ولقد أصاب "اللورد موين" كبد الحقيقة، حينما أعلن أمام مجلس اللوردات في 9 يونيه 1942م أن اليهود لا ينتمون إلى العبرانيين من قريب أو بعيد: "إن اليهود ليسوا أحفاد العبرانيين القدماء، وأنهم لا يملكون المطالبة الشرعية بالأراضي المقدسة[36]، وقد أدى إعلانه هذا - الذي فضح الخطط الصهيونية - إلى اغتياله في القاهرة على يد اثنين من أفراد جماعة شتيرن التابعة لإسحاق شامير؛ لأن اليهود يريدون أن تتحقق دولتهم إن لم يكن بالأساطير الواهية، فالإكراه واغتيال المفكرين الذين يُعلنون حقيقة مخططاتهم.
*
ويهود اليوم كما نعتقد يقينًا ليسوا بني إسرائيل، ولا يَمُتُّون لهم بصلة، إنما هم طائفة تكونت من كل *** ولون، ومن كل لسان، وسِيق بهم كالأنعام إلى أرض فلسطين العربية، وهذه الطائفة صنعتها أساطير الصِّهيونية التي اختلقت نصوص العهد القديم، أو بالأحرى صنعتها أسطورةُ أفضلية بني إسرائيل والشعب المختار، فالذين تهوَّدوا إنما أُلصقوا بإسرائيل ضلالًا وبهتانًا، بلا حجة دافعة أو دليل قاطع، ثم ما لبث أن بات لفظ (يهود) مرادفًا للفظ إسرائيل، وغدا عند الجهلة اليهودي هو الإسرائيلي، والكل يَهرف بما لا يَعرف!
والأمر الواضح بداهة أن يهود اليوم هم يهود دوليون، لا تَجمعهم سلالة نسب واحدة، ناهيك عن أن تكون سلالة نسب ليعقوب، لكن الذي يجمعهم معًا هو الفكرة الصهيونية الاستيطانية ذات الأهداف السياسية التي لا تؤمن بدين أو مِلة.
*
فاليهود المحدثون هم أقرب إلى الجنس الآري منهم إلى الجنس السامي، وهم عبارة عن طائفة دينية تميزت بميزات اجتماعية واقتصادية، وجمعتهم ظروف واحدة، وهم من مختلف بقاع الأرض، سلالات مختلفة؛ فمنهم الفلاش الأحباش، والألمان الشُّقر، ومنهم التاميل الهنود، ومنهم الخزر المنتمين إلى الجنس التركي، ومن المستحيل أن يكون اليهود ذو الشعر الأشقر والعيون الزرقاء يَمُتُّون بصلة الدم إلى إسرائيل!
ولا يتصور عاقل أن بني إسرائيل لم يتأثروا بعوادي الزمن وتقلُّباته إزاء التشتت الذي مُنوا به في الأحقاب التاريخية المختلفة؛ سواء بالفناء، أو الدخول في الديانات التالية لليهودية.
*
وقد لوحِظ أن الفينيقيين اختفوا فجأة من التاريخ بعد سقوط صور وصيدا وقرطاجنة، كما ظهرت المجتمعات اليهودية مكانهم، وبمثل تلك الطريقة الفجائية عينها[37]!
كما أن هناك شعبًا دخل الديانة اليهودية بأكمله دون أن يَمُت بصلة الدم إلى إسرائيل، وهو شعب مملكة الخزر التركي الجنس، ويقال: إن تهوُّد هذا الشعب حدث بطريقة لا تخلو من الطرافة؛ حيث كان شعبًا وثنيًّا، ثم قرر ملكُهم أن يغيِّر ديانته، فأرسل في طلب ثلاثة من علماء الأديان، يهودي ونصراني ومسلم، فلما أتوه اجتمع بهم، فسأل كل واحد منهم عن دينه ودين الآخرين، ثم سأل النصراني إن لم يكن على دينه، فأي دين يختار؟ فأجابه: اليهودية، وسأل المسلم كذلك، فأجابه: اليهودية أيضًا معللًا ذلك بأنها ديانة توحيد، بخلاف النصرانية التي اتخذت مع الله إلهًا آخر، فصرَفهم الملك، واعتنَق اليهودية، وحمل شعبه على اعتناقها[38]!
*
وهكذا الحال، جماعة اعتنقت اليهودية، وجماعة تعتنق المسيحية، وهذا الأمر مع جماعة يهودية في القدس، اعتنقت الدين المسيحي، وكانوا أتباعًا حقيقيين، وأصبحوا دعاة أيضًا ويؤكد ذلك شارل جينيبر رئيس قسم الأديان بجامعة باريس؛ حيث يقول: "وكانت الجماعة الأولى من المؤمنين بعيسى في القدس جماعة يهودية صرفة، وليس لدينا ما يدعو إلى الشك فيما ترويه أعمال الرسل بهذا الشأن، وكان أعضاء هذه الجماعة لا يفترقون عن اليهود الآخرين الأتقياء إلا في إيمانهم بأن عيسى الناصري قد شرَّفه الله، فجعل منه مسيحيًّا، وأنه قد تحقَّقت به الآمال[39].
*
وهكذا فقدت هذه الجماعة صفاتها - جماعةً يهوديةً لها ميزاتها وخصائصها - بفعل العوامل الخارجية والظروف القهرية، وتروي لنا أعمال الرسل أن بعضًا من "الهيلينستين" قد ارتحلوا من القدس إلى أنطاكيا، وبها أعلنوا البشرى عن السيد المسيح[40].
ومن هنا يقوم الإجماع بين علماء الأجناس على أن اليهود الحاليين ليسوا جنسًا واحدًا، أو سلالة بعينها، وإنما هم خليط تغلب فيه العناصر الآرية، وأن العرب في العصر الحديث هم وحدهم الذين يُمثلون ملامح الساميين القدماء الجماعية، أما اليهود فإن صِلاتهم مع الحيثيين بآسيا الصغرى، وتبادل الزيجات معهم - قد أثَّرت فيهم، وأخفت منهم كثيرًا من الملامح السامية[41].
*
ويشير إلى هذه الحقيقة الصِّهيونيون أنفسهم، وذلك فيما يصرح به "رافييل باتان" مدير معهد هرتزل، قائلًا: "إن ما وصل إليه علم الأنثروبولوجيا الطبيعية، يُبين أنه بعكس المعتقد الشائع، لا يوجد عنصر يهودي"[42]، فما بالنا إذًا بالعنصر الإسرائيلي، وهم سلالة واحدة، وينتمون إلى أب واحد!
وتقر الأسفار اليهودية بحقيقة اختلاط بني إسرائيل بالشعوب المختلفة، وذلك بعد تشرُّدهم في بقاع الأرض، بعد الفناء المبكر لدولتهم الأولى، والأسفار اليهودية مفعمة بكثير من الاعترافات المثيرة حول اختلاطهم وامتزاجهم بالأجناس الأخرى، وهو ما يُبطل زعمهم في أسطورة أرض الميعاد التي تقبَّلها كثير من السُّذج برضا واقتناع تامَّين، وقد جاء في أسفارهم: "وفي تلك الأيام أيضًا رأيت يهودًا قد تزوجوا نساء أشدوديات وعمونيات وموآبيات، وكان نصف كلام أولادهم بلغة أشدود، ولم يكونوا يُحسنون التكلم باليهودية، بل بلسان شعب وشعب، فخاصمتهم ولعنتهم، وضربت منهم رجالًا ونتفت شعرهم، واستحلفتهم بالله ألا تعطوا بناتكم لبنيهم، ولا تأخذوا بناتكم لبنيكم، ولا لكم"[43].
*
فهذا نص من عيون أسفارهم المقدسة، يعترفون فيه بحقيقة واقعية، لا يُمكن الشك في مصداقيتها، تثبت للتاريخ كذب ما يذهبون إليه في أسطورتهم الواهية "أرض الميعاد" وبني إسرائيل، والشعب المختار.
وهذا نص آخر ندفع به جدلية أسطورتهم المزعومة، "فإنه في عهد عذرا النبي اجتمع كل رجال إسرائيل، فقام عذرا الكاهن وقال لهم: إنكم قد خنتم واتخذتم نساء غريبة؛ لتزيدوا على إثم إسرائيل"، وفي آخر سفر عذرا - وبعد أن يعددوا من وجدوه متخذًا زوجات من غير بنات إسرائيل - نجد هذه العبارة: "كل هؤلاء نساء غريبة، ومنهن نساء قد وضعنَ بنين"[44].
*
وهكذا تنكسر أسطورة أرض الميعاد التي تتخذ من النصوص التوراتية المقدسة ذريعة لاحتلال الأراضي العربية الفلسطينية، دون الاستناد إلى حقيقة أو قاعدة صلبة، وقد انجذَب إليهم أصحاب النفوس الضعيفة وذوو العقول الفجة، والحقيقة التي تصارع الأسطورة، وتثبت أمام الأنواء أن بني إسرائيل الموعود لهم بالأرض لم يعد لهم وجود، فقد ذابوا في الأمم والتاريخ، وأن هؤلاء الطفيليين الذين جاؤوا إلى الوطن العربي مهبط رسالات السماء، ومهد الديانات، يتزعمون هذه الأفكار - إنما هم استعماريون لا يمتون لدين بصلة، وإنما الدين عندهم وسيلة يحاولون بها تحقيق مآربهم الدنيئة، مستغلين سذاجة اليهود وغيرهم من ذوي الأهواء والناقمين على الإسلام والمسلمين.
*
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

[1] السير السليم في يافا والرملة وأورشليم؛ للآباء الفرنسيسيين، ص 51، ط في ديرهم بالقدس 2189.
[2] سفر التكوين الإصحاح 14/18.
[3] إميل الغوري ص 55 من كتاب فلسطين.
[4] سفر القضاة الإصحاح 19 الفقرة 10.
[5] سفر القضاة الإصحاح 19 / 11 - 12.
[6] أخبار الأيام الأول الإصحاح 11 فقرة 4.
[7] أخبار الأيام الأول 11/4.
[8] عروبة القدس في الفكر الديني اليهودي حقيقة علمية؛ الدكتور عبدالخالق عبدالله عن سفر التكوين 7 /1،20 /17.
[9] صموئيل الثاني 5 /6.
[10] صموئيل الثاني 24 / 16- 25.
[11] سفر الملوك الأول 9 /20.
[12] لمزيد من التفاصيل ينظر: المراجع السابقة.
[13] المسجد الأقصى ومعركة النصر والفتح؛ الشيخ عبداللطيف مشتهري ص 34، 35.
[14] سفر الخروج.
[15] سفر العدد.
[16] سفر التكوين الإصحاح 12 العدد 7.
[17] سفر التكوين الإصحاح 13 العدد 14.
[18] ينظر: من أسرار المعبد اليهودي؛ طارق العماوي، دار الفكر الحديث ص 35.
[19] سفر التكوين، إصحاح 28 /10.
[20] أسرار المعبد، مرجع سابق ص 36.
[21] السابق نفسه.
[22] الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، رجاء جارودي، ص 35 دار الغد العربي.
[23] السابق ص 36 عن فرانسواز سميث؛ البروتستانت والتوراة وإسرائيل، مجلة لالتر نوفمبر 84 رقم 313 ص 23.
[24] الأساطير، لرجاء جارودي ص 36، 37.
[25] السابق ص 38.
[26] سفر التكوين 15 - 18 /21.
[27] الأساطير لجارودي ص 38.
[28] السابق ص 39.
[29] سفر التكوين 12 - 1/ 8، 12 - 14 /18.
[30] المزاعم الدينية لليهود في فلسطين؛ للأستاذ شوقي محمد بدران، منار الإسلام العدد 7 س 22 رجب 1417 ص 79.
[31] محاضرة الحاخام ألمر برجر، ص 40 من رجاء جارودي.
[32] السابق ص 40.
[33] ينظر: إسرائيل وإفريقيا، محمد عمر بشير، بحث مقدم لندوة الخرطوم، أكتوبر 1973 ص4، نقلًا عن جوليان أمري؛ حياة جوزيف تشمبرلين، لندن 1951 ص 262، وينظر بكثير من التفصيل ص 11 من إسرائيل وإفريقيا د. عواطف عبدالرحمن، حلمي شعراوي، دار الفكر العربي، وفي يوميات هرتزل، ط فيكتور جولانسز 1958، وفي رجاء جارودي الأساطير ص 18.
[34] سفر التثنية الإصحاح التاسع.
[35] أسرار المعبد؛ طارق العماوي، مرجع سابق ص 36.
[36] الأساطير المؤسسة للسياسة الصهيونية، رجاء جارودي، ص 159، واللورد موين وزير بريطاني مفوض في القاهرة في 9 يونيه 1942م.
[37] أسرار المعبد اليهودي سابق ص 37.
[38] ينظر: أسرار المعبد ص 37.
[39] المسيحية نشأتها وتطورها، شارل جينيبر، ت. د. عبدالحليم محمود دار المعارف ص 113، وبهذا الشأن انظر: ص 113- 117، وكذا في أسرار المعبد ص 67، 68.
[40] المسيحية ونشاتها وتطورها ص 116.
[41] اليهودية، د. أحمد شلبي ص 47.
[42] في مواجهة إسرائيل؛ إسماعيل صبري عبدالله ص 41، وأسرار المعبد اليهودي ص 38.
[43] نحميا،13، 23 - 25، والأساطير المؤسسة لرجاء جارودي ص 64.
[44] أسرار المعبد اليهودي ص 38.


د. أحمد إسماعيل عبدالكريم
__________________
رد مع اقتباس
 

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 03:51 PM.