#1
|
||||
|
||||
موقعة اليرموك (دراسة تحليلية)
موقعة اليرموك (دراسة تحليلية) محمد السيد الوكيل اليرموك: نهر ينبع من جبال حوران، يجري قرب الحدود بين سوريا وفلسطين، وينحدر جنوباً ليصب في غور الأردن ثم في البحر الميت، وينتهي مصبه في جنوب الحولة، وقبل أن يلتقي بنهر الأردن بمسافة تتراوح بين ثلاثين وأربعين كيلو متر يوجد واد فسيح تحيط به من الجهات الثلاث جبال مرتفعة شاهقة الارتفاع، ويقع في الجهة اليسرى لليرموك. اختار الروم هذا الوادي لأنه المكان الذي يتسع لجيشهم الضخم الذي عدده مائتين وأربعين ألف مقاتل. وأما المسلمون فقد عبروا النهر إلى الجهة اليمنى، وضربوا معسكرهم هناك في واد منبطح يقع على الطريق المفتوح لجيش الروم، وبذلك أغلقوا الطريق أمام الجيش المزهو بعدده وعدده، فلم يعد للروم طريق يسلكون منه، أو يفرون إذ اضطروا للفرار؛ لأن جيش المسلمين قد أخذ عليهم مسلكهم الوحيد. وقد يعجب الإنسان كثيراً، وهو ينظر إلى الخارطة، ويرى نفسه مضطراً لأن يسأل كيف رضي قواد الروم لجيوشهم هذا الموقع؟ وكيف وافق الجنود على النزول فيه، وهم يرون ألا سبيل للخروج منه إلا عن طريق هذا الوادي الذي احتله المسلمون؟ أفما كان الأجدر بهم إن اضطروا إلى اتخاذ هذا المكان ميداناً للجيش؛ لأنه لا يوجد مكان سواه يتسع لجيشهم أن يحموا الفتحة الوحيدة التي لا طريق لهم غيرها؟ لاشك أن البديهيات العسكرية تحتم حماية أمثال هذه الفتحة ليؤمن الجيش طريقه إذا اضطر إلى الخروج من هذا الوادي المحاصر بشواهق الجبال. ولكن يبدو أن قوات الروم كانت مغرورة بكثرتها الهائلة، مزهوة بالنصر الذي أحرزته على خالد بن سعيد ومن معه من قوات المسلمين، كما يبدو أن هذا النصر أنساهم أبسط التخطيط العسكري في مثل هذا الموقف. ازداد حماس الخليفة لفتح الشام بعد ما أصاب خالد بن سعيد وجنده من الهزيمة والفرار، فندب أعظم قواده للذهاب إلى بلاد الشام، فأمر عمرو بن العاص –رضي الله عنه- على فرقة من الجيش، وأمره أن يتجه بها إلى فلسطين، واستدعى يزيد بن أبي سفيان وولاه على جيش لجب، فيهم سهيل بن عمر وأمثاله من أهل مكة، وألحقه بجيش آخر بقيادة أخيه معاوية –رضي الله عنه-، ووجه شرحبيل بن حسنة –رضي الله عنه- ليقود جماعة من جيش خالد بن سعيد، وندب الخليفة جيشاً عظيماً، وأمَّر عليه أبا عبيدة بن الجراح –رضي الله عنه-، وعين لكل جيش طريقه، وأمره أن يسلكه حتى يصل إلى مقره. فأخذ عمرو بن العاص –رضي الله عنه- طريق المعرقة (على أيلة) وسلك أبو عبيدة –رضي الله عنه- الطريق نفسه، وأخذ يزيد بن أبي سفيان –رضي الله عنه- طريق التبوكية، وسلكه معه شرحبيل بن حسنة –رضي الله عنه-، وتوجه الأمراء إلى الشام، فلما وصلوها نزل أبو عبيدة الجابية، ونزل يزيد البلقاء، ونزل شرحبيل الأردن، ونزل عمرو بن العاص العربة(1). هرقل ينصح قومه: علم الروم بدخول الجيوش الإسلامية أرضهم فكتبوا إلى هرقل -وكان بالقدس-، فقال هرقل: "أرى أن تصالحوا المسلمين، فوالله لأن تصالحوهم على نصف ما يحصل من الشام ويبقى لكم نصفه مع بلاد الروم أحب إليكم من أن يغلبوكم على الشام، ونصف بلاد الروم" (2). وأغضبت هذه النصيحة قواد الروم، وظنوا أن الإمبراطور قد وهن وضعف، وسيسلم البلاد للغزاة الفاتحين، والحق أن هرقل قد ضعف أمام غضبة قواده، وعزم على قتال المسلمين مع يقينه بالهزيمة، وجمع هرقل الثائرين، وتوجه بهم إلى حمص، وهناك أعد جيشاً ضخم العدة، كثير العدد، وقسمه أربعة أقسام، وجعل كل قسم منه يقابل فرقة من جيش المسلمين ليوهنهم ويشغلهم عن مناصرة إخوانهم. عدد الجيش: بلغ جيش المسلمين ثلاثين ألفا أو تقل قليلاً، وأما جيش الروم فقد بلغ مائتين وأربعين ألفا(3). فزع المسلمون لهذه الأعداد الضخمة التي واجهتهم، وكتبوا إلى عمرو بن العاص –رضي الله عنه- يسألونه ماذا يفعلون، فأجابهم: "الرأي لمثلنا الاجتماع، فإن مثلنا إذا اجتمعنا لا نغلب من قلة"(4)، وكتبوا إلى أبي بكر –رضي الله عنه-، فأجابهم بمثل ما أجابهم به عمرو –رضي الله عنه- وقال: "إن مثلكم لا يؤتى من قلة، وإنما يؤتى العشرة آلاف، والزيادة على العشرة آلاف إذا أتوا من تلقاء الذنوب، فاحترسوا من الذنوب، واجتمعوا باليرموك متساندين، وليصل كل رجل منكم صاحبه"(5). اتجه المسلمون إلى اليرموك تنفيذاً لوصية الخليفة، فوجدوا الروم قد نزلوا بالوادي السابق الذكر، وعبر المسلمون النهر فنزلوا بإزائهم. الخليفة يدرس أسباب تأخر النصر: واستشار الخليفة أصحابه ذوي الرأي، وقلب الأمر على كل وجوهه، فاهتدى إلى أن ضعف المسلمين ناتج إلى ضعف القيادة؛ ذلك لأن الأمراء الذين بعثهم الخليفة إلى الشام ليس فيهم من يصلح في نظر الخليفة لخوض هذه المعركة الرهيبة، فأبو عبيدة بن الجراح –رضي الله عنه- مع قدرته العسكرية الفائقة إلا أنه رقيق القلب لا يقدم على الحسم، وابن العاص –رضي الله عنه- مع دهائه وحسن حيلته يهاب الإقدام على عدوه، وعكرمة –رضي الله عنه- مع إقدامه وحنكته غير أنه تنقصه دقة التقدير للمواقف، وبقية القواد لم يشتركوا من قبل في مثل هذه المعارك الكبيرة. وهناك أمر آخر ينبغي للخليفة أن يقدره ولا يغفله ذلكم هو تساوي القواد في القدرة، فليس فيهم من يقرون له بالتفوق أو العبقرية التي يتميز بها عليهم حتى يجتمعوا عليه. ومن أجل هذا فكر الخليفة كثيراً في الأمر، وطال تفكيره، فالأمر ليس بالهين اليسير، وإنما هي معارك فاصلة، لا بدّ أن تحسم في الشام كما حسمت في العراق. واهتدى الخليفة -رضي الله عنه- إلى الحل، فقال لمجلس الشورى: "والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"(6). خالد يتوجه إلى الشام: كتب الخليفة إلى خالد يأمره بأن يستخلف على العراق ويتجه بخيرة جنده إلى الشام، وصدع خالد بأمر الخليفة، واتجه إلى الشام في تسعة آلاف مقاتل من خيرة الجند، حيث اختار أصحاب رسول -صلى الله عليه وسلم- وضن بهم على المثنى بن حارثة –رضي الله عنه- خليفته على العراق، وغضب المثنى لذلك التقسيم وقال: "والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر، وبالله ما أرجو من النصر إلا بأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-"(7)، فلما سمع خالد –رضي الله عنه- منه ذلك أرضاه وأسكته، وأراد خالد –رضي الله عنه- أن يغادر العراق وهو مطمئن فرد النساء والضعفاء إلى المدينة حتى لا ينشغل بهم المثنى –رضي الله عنه- عند منازلة عدوه. وقطع خالد –رضي الله عنه- بجيشه بادية الشام المعروفة ببادية السماوة، وهو طريق لم يعبره جيش قط قبل جيش خالد، وذلك لوعورته وقلة الماء فيه، وتعرض من يسلكه للهلاك بالعطش والضياع، وإنما صمم خالد –رضي الله عنه- على اختراق هذه البادية رغم تحذير العارفين بها لأنه كان يريد أن يباغت العدو، فينزل خلفهم حتى لا يحبسوه عن إغاثة المسلمين. وبالعزم والإيمان اخترق خالد –رضي الله عنه- وجيشه تلك البادية، وغامر هذه المغامرة، وقطعها في خمسة أيام، وكلما مر بجماعة من أعداء المسلمين قاتلهم وتغلب عليهم، وغنم منهم حتى وصل اليرموك في آخر ربيع الآخر من السنة الثالثة عشر من الهجرة. كانت الجيوش الإسلامية قد نزلت موقعها من اليرموك قبل مجيء خالد –رضي الله عنه- إليهم بثلاثة أشهر: صفر وربيع الأول وربيع الآخر، وكان المسلمون قد ضجروا وملوا هذا الموقف الذي لا يتناسب مع إقدامهم وشجاعتهم وتضحياتهم في سبيل الله، فأرسلوا إلى الخليفة يصفون له الحال، ويستمدونه ليحسموا الموقف، وكان عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قد أحس من المسلمين بما يشبه اليأس من طول المقام، وعدم القدرة على خوض معركة تفصل بينهم وبين عدوهم، وخاف أن تسري هذه الروح إلى صفوف المسلمين، فيضعفون ولا يستطيعون مواجهة العدو، ولم يكن العدو يرجو من وراء هذا الموقف أكثر من ذلك، فإن روح اليأس إذا سرت في جيش مهما كانت قوته لا بدّ أن يؤول حاله إلى أحد أمرين: إما أن ينسحب ويفوز خصمه بالسلامة من غير قتال، وإما أن يدخل في معركة تكون نتيجتها حتماً في مصلحة الطرف الآخر. أدرك عمرو بن العاص –رضي الله عنه- أن هذه الروح بدأت تدب في أوصال الجيش المرابط أمام عدوه ثلاثة أشهر، فأراد أن يخفف عنهم، وينفخ فيهم روحاً جديدة تبعث فيهم الأمل، وتجدد فيهم نشاطهم وحيويتهم، فنظر إلى جيوش الروم المثيرة العدد الكثيفة العدد، ولفت نظر المسلمين إلى وضعهم الجغرافي الذي لا يحسدون عليه، وقال: "أيها الناس، أبشروا، حصرت والله الروم، وقلما جاء محصور بخير"(8). وصادف قدوم خالد –رضي الله عنه- قائد المسلمين وصول باهان قائد الروم، واستبشر المسلمون بقدوم خالد –رضي الله عنه-، بقدر ما فرح الروم بوصول باهان، وبلغت إحصاءات الجيش عندئذ ما وصفه الطبري بقوله: "وحارب المشركون وهم أربعون ومائتا ألف، منهم: ثمانون ألف مقيد، أربعون ألفاً مسلسلون للموت، وأربعون ألفاً مربطون بالعمائم، وثمانون ألف راجل، وثمانون ألف فارس، والمسلمون سبعة وعشرون ألفا ممن كانوا مقيمين، إلى أن قدم عليهم خالد في تسعة آلاف، فصاروا ستة وثلاثين ألف" (9). وتواجه الجيشان في تعبئة لم ير مثلها قط، وكان القسيسون والشمامسة والرهبان يحرضون جيوش الروم، ويحثونهم على القتال لمدة شهر قبل المعركة حتى امتلئوا حماساً، وأخذوا يتحينون الفرصة للقاء. خالد يدعو إلى توحيد القيادة: ونظر خالد –رضي الله عنه- إلى المسلمين فوجدهم متساندين كل جماعة على رأسها قائد ليس لها أمير واحد يجمعهم، ورأى -رضي الله عنه- بعبقريته العسكرية أن هذا الحال لا يؤدي إلى النصر، فخطب في المسلمين، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم، وأريدوا الله بأعمالكم، فإن هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبية وأنتم متساندون، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي، وإن من ورائكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبتكم". قالوا: "فهات فما الرأي"؟ قال: "إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أننا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون لما جمعكم، إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم، وقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله، فقد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان لا ينتقصه منه أن دان لأحد من أمراء الجنود ولا يزيده عليه أن دانوا له. إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله، ولا عند خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هلموا فإن هؤلاء تهيئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها، فهلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غداً، والآخر بعد غدٍ حتى يتأمر كلكم، ودعوني إليكم اليوم، فأمروه، وهم يرون أنها كخرجاتهم، وأن الأمر أطول مما صاروا إليه" (10). كانت لكلمة خالد –رضي الله عنه- تلك أعظم الأثر في نفوس المسلمين من تحريض القسيسين والرهبان في نفوس الروم، ولئن ظل هؤلاء يعبئون تلك التعبئة الروحية مدة شهر كامل، فإن نفوسهم لم يكن فيها من اليقين وحسن الثقة في وعد الله كما كان في نفوس المسلمين، ولذلك أثمرت كلمة خالد –رضي الله عنه- التي لم تستغرق دقيقتين ما لم تثمره مواعظ الرهبان والقسيسين لمدة شهر؛ لأن النفوس المؤمنة بالحق تكون دائماً مهيأةً لاستقبال التوجيه والموعظة، سريعة التأثر بما يلقى عليها إذا ذكرت بوعد الله -عز وجل- حسنة الثقة فيما عنده. على أننا نرى في كلمة خالد -رضي الله عنه- من الإخلاص والحث عليه، وعظيم الاعتماد على الله ما لا يمكن أن يخيب صاحبه، زد على ذلك بعد نظر خالد –رضي الله عنه-، وإدراكه لما حوله من أبعاد المعركة وقدرته العسكرية التي تجعل أصحابه يدينون له من غير منازع، كل ذلك جعلهم يجتمعون على قيادته بعد أن كانوا متساندين لا يدين أحد لأحد، ولا يرى أحد أن أحداً أحق بالأمرة منه. خطة خالد لمواجهة الروم: اجتمع المسلمون على خالد –رضي الله عنه- بعد أن مكث شهراً على اليرموك ليس بينه وبين الروم قتال، واقترح خالد –رضي الله عنه- بعد أن آلت إليه القيادة العامة لجيش المسلمين أن يقسم الجيش إلى كراديس –فرق-، كل فرقة من ألف رجل، وجعل على كل كردوس رجلاً ممن اشتهروا بالشجاعة والإقدام، أمثال: القعقاع بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وأضرابهم، وأسند قيادة القلب إلى أبي عبيدة بن الجراح –رضي الله عنه-، وقيادة الميمنة إلى عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة –رضي الله عنهما-، وقيادة الميسرة إلى يزيد بن أبي سفيان –رضي الله عنه-، وقال لأصحابه: "إن عدوكم كثير وليس تعبية أكثر في رأي العين من الكراديس"(11). حاول خالد –رضي الله عنه- بذلك أن ينسي المسلمين كثرة الروم المخيفة، وأن يظهر المسلمين في حالة تدخل الرعب والفزع في عدوهم، ولكنه لم يلبث أن سمع رجلاً يقول: "ما أكثر الروم وأقل المسلمين"! فغضب خالد –رضي الله عنه- لما سمع وصاح مغضباً: "بل ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان، والله لوددت أن الأشقر -يعني فرسه- براء من توجِّيه وأنهم أضعف في العدد،" وكان فرسه قد حفي من مشيه بالمفازة -بادية الشام- (12). وخشي خالد –رضي الله عنه- أن تسري كلمة الرجل في صفوف المسلمين فتوهنهم، وتضعف مقاومتهم، فعجل بالمعركة ليشغل المسلمين بها بدلاً من أن يشغلوا عنها بالنظر في عددهم وعدد عدوهم. لم ينس خالد –رضي الله عنه- أن يختار من جنوده من يتولى أمور المسلمين، فبعد أن نظم الكراديس واختار لها مهرة القواد، عين أبا الدرداء قاضياً، وأبا سفيان واعظاً، وجعل على الطلائع قباث بن أشيم، وعلى الأقباض عبد الله بن مسعود، وكان القارئ المقداد –رضي الله عنهم جميعاً-، يقول الطبري: "ومن السنة التي سن رسول الله صلى الله عليه وسلم- بعد بدر أن تقرأ سورة الجهاد عند اللقاء -وهي الأنفال- ولم يزل الناس بعد ذلك على ذلك" (13). وقام أبو سفيان –رضي الله عنه- بدوره كواعظ للمسلمين خير قيام، فقال وهو يمشي بين الكراديس: "يا معشر المسلمين، أنتم العرب وقد أصبحتم في دار العجم منقطعين عن الأهل، نائين عن أمير المؤمنين وإمداد المسلمين، وقد والله أصبحتم بإزاء كثير عدده، شديد عليكم حنقه، وقد وترتموهم في أنفسهم وبلادهم ونسائهم، والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم، ولا يبلغ بكم رضوان الله غداً إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة، ألا وإنها سنة لازمة، وإن الأرض وراءكم، وبينكم وبين أمير المؤمنين وجماعة المسلمين صحاري وبراري، ليس لأحد فيها معقل ولا معول إلا الصبر، ورجاء وعد الله فهو خير معول، فامتنعوا بسيوفكم وتعاونوا ولتكن هي الحصون". ثم ذهب إلى النساء فوصاهن، ثم عاد فنادى: "يا معشر أهل الإسلام حضر ما ترون، هذا رسول الله والجنة أمامكم، والشيطان والنار خلفكم"، ورجع إلى موقفه في الصف حيث كان. وقام أبو هريرة –رضي الله عنه- بعد أبي سفيان فقال: "سارعوا إلى الحور العين وجوار ربكم -عز وجل- في جنات النعيم، ما أنتم إلى ربكم في موطن بأحب إليه منكم في مثل هذا الموطن، ألا وإن للصابرين فضلهم" (14). خالد يأمر بالهجوم: سمع المسلمون هذه الكلمات فوقعت من نفوسهم موقعاً أنساهم قلتهم وكثرة عدوهم، وتطلعت قلوبهم إلى ما عند الله، وهبت عليهم من خلالها نسائم الجنة، فاشتاقوا إليها، ولمح خالد –رضي الله عنه- في الجنود حماساً لم يره من قبل، ورأى حبهم للجهاد على النحو الذي كان يتطلع إليه منذ قدم إلى اليرموك، وتأكد أن المسلمين قد تأهبوا للمعركة بكل إمكاناتهم، فانتهز الفرصة، وأمر عكرمة والقعقاع – رضي الله عنهما- أن ينشبا القتال، فبرز القعقاع وهو يرتجز: يا ليتي ألقاك في الطراد *** قبل اعترام الجحفل الورَّاد *** وأنت في حلبتك الوارد وتبعه عكرمة وهو يقول: قد علم بهكنة الجواري *** أني على مكرمة أحامي ونشبت المعركة حامية الوطيس، مستعرة الأوار، السيوف تخطف الأرواح، وتزيل الهام، وتفري الأجسام. خالد يستقبل بريد الخليفة: وبينما المسلمون كذلك إذ أقبل البريد من المدينة مسرعاً يتخطى الناس، ويسأل عن خالد، والناس وراءه يتبعونه ليستطلعوا منه أخبار المدينة، يبشرهم بالخير، ويخبرهم عن الإمداد. ولما بلغ البريد خالداً –رضي الله عنه- سلمه الكتاب، وأخبره بوفاة أبي بكر –رضي الله عنه- سرا، وأخبره بما أخبر به الجند، فسر خالد –رضي الله عنه- في حسن تصرف البريد، وقال له: "أحسنت"، ووضع الكتاب في كنانته حتى لا يتطلع أحد على ما فيه فيجزع الجند، وينتشر الأمر. إسلام قائد من قواد الروم: وفي الوقت نفسه خرج جرجة من صفوف الروم حتى وقف بين الصفين، ونادى ليخرج إلي خالد فخرج خالد –رضي الله عنه- إليه، وأناب أبا عبيدة –رضي الله عنه- عنه، والتقى الرجلان بين الصفين، وسأل جرجة خالد عن سبب تسميته سيف الله، فأخبره خالد –رضي الله عنه- بأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- هو الذي سماه بذلك، ودار بين الرجلين حديث طويل أسلم جرجة على أثره، وتبع خالداً إلى خيمته ليعلمه الإسلام. موقف عكرمة من هجوم الروم: ظن الروم أن جرجة حمل على المسلمين، وأنه في حاجة إلى المدد، فحملوا على المسلمين حملة أزالتهم عن مواقفهم، وثبت لهم عكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام –رضي الله عنهما-، وكانا على حامية فسطاط خالد، ولما رأى عكرمة تراجع المسلمين قال: "قاتلت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل موطن، وأفر منكم اليوم"، ثم نادى في المسلمين: "من يبايع على الموت"؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور، ومعهما أربعمائة من أبطال المسلمين وفرسانهم، ودافعوا عن الفسطاط حتى أثبتوا جميعاً جراحاً، و***وا إلا من برأ وكان منهم ضرار بن الأزور (15). وتراجعت الروم أمام ثبات عكرمة وأصحابه، ورأى خالد –رضي الله عنه- تراجع الروم فزحف بقواته يرافقه جرجة على جيوش الروم المنهزمة، وظل يضرب فيهم بسيفه ومعه جرجة يضرب وي*** من طلوع النهار حتى مالت الشمس إلى الغروب، وقاتل كل فريق من المسلمين تحت رايتهم حتى صارت الروم تدور كأنها الرح، يقول ابن كثير: "فلم تر في يوم اليرموك إلا مخًّا ساقطاً، وعصماً نادراً، وكفاً طائرة" (16). خالد يدير المعركة: وواجه خالد –رضي الله عنه- مسيرة الروم التي حملت على ميمنة المسلمين، ف*** منهم ستة آلاف، والتفت إلى صاحبه وقال: "والذي نفسي بيده لم يبق عندهم من الصبر والجلد إلا ما رأيتم، وإني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم"، ثم اعترضهم فحمل بمائة فارس على مائة ألف منهم، فلم يكد يصل إليهم حتى انفض جمعهم، وحمل عليهم المسلمون حملة صادقة، فانكشفوا لا يلوون على شيء، وتبعهم المسلمون ي***ون ويأسرون. وصلى المسلمون صلاة الظهر والعصر إيماء، واستشهد جرجة، وحمل خالد –رضي الله عنه- برجاله على الروم حتى صار في وسطهم، وذعر الروم لهول ما رأوا من المسلمين، وفر خيالتهم وأفسح لهم المسلمون الطريق، فهاموا على وجوههم في البلاد، ثم تبعوا من فر من الخيالة، واقتحم خالد –رضي الله عنه- عليهم الخندق، وجعل الروم يتقهقرون أمام الهجوم الكاسح الذي شنه خالد –رضي الله عنه- في اللحظة المناسبة حتى وصلوا إلى الواقوصة. وجعل الذين سلسلوا أنفسهم لئلا يفروا يتساقطون في الواقوصة كما يتساقط الفراش في النار، وكلما سقط رجل من مجموعة سقطت معه بأكملها حتى سقط فيها، و*** عندها مائة ألف وعشرون ألفاً، ثمانون ألف مقترن وأربعون ألف مطلق، سوى من *** في المعركة من الخيل والرجل (17)، وأخر الناس صلاة العشائين حتى استقر الفتح. وأمعن المسلمون في *** الروم، وظلوا يقاتلون حتى أصبحوا، ودخل خالد رواق تذارق أخو هرقل، فلما أصبحوا وقد انتهت المعركة أتي خالد بعكرمة بن أبي جهل جريحاً فوضع رأسه على فخذه، وبعمرو بن عكرمة فجعل رأسه على ساقه، ومسح وجهيهما، وأخذ يقطر في حلقيهما الماء حتى استشهدوا....(18). وقاتل نساء المسلمين في هذا اليوم، و***وا عدداً كبيراً من الروم، وكن يضربن من انهزم من المسلمين ويقلن: "أين تذهبون وتدعوننا للعلوج"، وعندئذ يرجع المنهزمون. دفع الشبهة: وكان يزيد بن أبي سفيان –رضي الله عنه- من الذين ثبتوا ولم يفروا، وقاتل قتالاً شديداً، لأن أباه مر به، وذكره بما يجب عليه وعلى أمثاله من الأمراء، وأمره بالصبر والثبات، ورغبه فيما عند الله من الأجر والمثوبة، فأجاب يزيد: "أفعل إن شاء الله" (19). وهذه الرواية ترد رواية ابن الأثير التي رواها عن عبد الله بن الزبير –رضي الله عنهما-، وفيها يتهم أبا سفيان ورجالاً من مكة يسميهم مهاجرة الفتح، بأنهم تنحوا عن الميدان، وظلوا بعيداً يتربصون بالمسلمين فإذا ركب الروم المسلمين قالوا: "إيه بني الأصفر"، وإذا غلب المسلمون يقولون: "ويح بني الأصفر". تدل هذه الرواية على تجنب أبي سفيان المعركة، وأنه لم يشترك فيها، ولكن ابن الأثير نفسه يذكر ما يكذب ذلك، حيث يروى بعدها مباشرة وفي الصحيفة نفسها: أن عين أبي سفيان قد أصيبت في المعركة، وذلك أمر مجمع عليه من المؤرخين، فكيف يكون أبو سفيان بعيداً عن ميدان المعركة يتربص بالمسلمين، وكيف يصيب سهم في عينه فيفقؤها، وينتزع السهم من عينه أبو حثمة(20). ويروي ابن كثير عن سعيد بن المسيَّب عن أبيه قال: "هدأت الأصوات يوم اليرموك فسمعنا صوتاً يكاد يملأ المعسكر يقول: يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات يا معشر المسلمين، قال: فنظرنا فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد(21). أين كان أبو سفيان–رضي الله عنه- وهو ينادي نصر الله؟ وهو يطلب الثبات من المسلمين؟ هل كان يطلب الثبات وهو هارب من الميدان؟ وهل يليق برجل كأبي سفيان أحد زعماء قريش أن يطلب الثبات من المسلمين ويفر هو خارج المعركة؟ ومن الذي يصيح بالمسلمين ليثبتوا ثم يرى بعد ذلك بعيداً عن الميدان؟. أغلب الظن أن الرواية مكذوبة على أبي سفيان، فقد أجمع المؤرخون على أنه كان واعظ الجيش، وروى عنه المؤرخون كلمات في الحض على القتال، والحث على الثبات تثير إعجاب كل من قرأها أو سمع بها. هزيمة الروم: وفر المنهزمون من اليرموك حتى بلغوا دمشق، وأما هرقل فإنه لما بلغه خبر اليرموك وكان بحمص تركها وولى عليها رجلاً، وجعلها بينه وبين المسلمين، وودع سوريا الوداع الأخير. وتوجه المسلمون بعد ذلك إلى الأردن، وطهرها مما بقي فيها من جنود الروم، ثم تابعوهم إلى دمشق حيث حاصروهم هناك. وبلغ عدد الشهداء من المسلمين ثلاثة آلاف شهيد، بينهم كثير من كبار الصحابة، مثل: سعيد بن الحرب بن قيس السهمي، ونعيم النحام، والنضير بن الحارث، وأبو الروم عمير بن هشام أخو مصعب بن عمير –رضي الله عنهم جميعاً-. وكان في جنود هذه المعركة ألف صحابي منهم مائة ممن شهد بدراً(22). وغنم المسلمون كل ما كان في معسكر الروم، وكان شيئًا عظيماً حتى خص الفارس من النفل ألف وخمسمائة درهم(23) أو ألف وخمسة دراهم(24)، وكانت الموقعة الفاصلة عند اليرموك في شهر جمادى الآخرة من السنة الثالثة عشرة من الهجرة بعد أن مكث المسلمون قرابة أربعة أشهر لا ينالون من الروم، ولا ينال منهم. ــــــــــــــــــــــ الهوامش: [1] ابن الأثير (2/406). [2] نفسه. [3] الصديق أبو بكر (ص: 285). [4] الطبري (3/392)، ابن الأثير (2/406). [5] نفسه. [6] ابن كثير (7/5). [7] ابن الأثير (2/407). [8] الطبري (3/393). [9] الطبري (3/394). [11] الطبري(3/395-396)، ابن الأثير (2/411). [12] ابن الأثير (2/411). [13] ابن الأثير (2/412). [14] الطبري (3/397). [15] ابن كثير (7/9). [16] الطبري (3/401). [17] ابن كثير (7/12). [17] الطبري (3/400). [18] ابن الأثير (2/414). [19] نفسه. [20] ابن الأثير (2/414)، والطبري (3/401). [21] ابن كثير (7/14). [22] ابن الأثير (2/410-414). [23] الطبري (3/400). [24] هيكل (ص: 303) |
العلامات المرجعية |
|
|