اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > رمضان كريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16-06-2015, 11:52 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي نفحات قرأنية رمضانية


(نفحات قرأنية رمضانية)

من فضائل القرآن في رمضان



أبو الفرج عبدالرحمن بن أحمد (ابن رجب الحنبلي)






وَدَلَّ الحديث[1] أيضًا على استحبابِ دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وعَرْض القرآن على مَن هو أحفظ له، وفيه دليلٌ على استحبابِ الإكثار مِن تلاوة القرآن في شهر رمضان.

وفي حديثِ فاطمة - رضي الله عنها - عن أبيها - صلى الله عليه وسلم - أنه أخْبَرَهَا أنَّ جبريل - عليه السلام - كان يعارضُه القرآن كل عام مَرَّة، وأنه عارَضَه في سنة وفاتِه مَرَّتين.

وفي حديثِ ابن عباس: أنَّ المُدَارَسة بينه وبين جبريل - عليهما الصلاة السلام - كانتْ ليلاً، فدَلَّ على استحباب الإكثار منَ التلاوة في رمضان ليلاً، فإنَّ اللَّيل تنقطع فيه الشَّواغل وتجتمع فيه الهِمم، وَيَتَوَاطأ فيه القلب واللسان على التَّدَبُّر، كما قال - تعالى -: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً}[2].

وشهر رمضان له خصوصيَّة بالقرآن، كما قال - تعالى -: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ}[3]، وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إنه أُنْزِل جملةً واحدة منَ اللوح المحفوظ، إلى بيت العِزَّة في ليلة القدر، ويشهد لذلك قوله - تعالى -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[4]، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}[5]، وقد سَبَق عن عبيد بن عمير أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: بدئ بالوحي ونزول القرآن عليه في شهر رمضان.

وفي "المسند" عن وَاثِلة بن الأسقع، عنِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التَّوراة لستٍّ مضينَ من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خَلَت من رمضان)).

وكان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يُطيل القراءة في قيام رمضان باللَّيل، أكثر من غيره.

وقد صَلَّى معه حُذَيفة ليلة في رمضان، قال: فقرأ بـ"البقرة"، ثمَّ "النِّساء"، ثم "آل عمران"، لا يمرُّ بآيةِ تخويفٍ إلاَّ وقف وسَأَل، قال: فما صَلَّى الرَّكعتينِ حتى جاءَه بلال فآذنه بالصَّلاة؛ خرجه الإمام أحمد؛ وخَرَّجه النَّسائي، وعنده: أنه ما صلى إلاَّ أربع ركعات[6].

وكان عمر قد أَمَر أُبَي بن كعب، وَتَمِيمًا الدَّاري، أن يقوما بالنَّاس في شهر رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمائتينِ في ركعة، حتى كانوا يعتمدونَ على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلاَّ عند الفجر[7]. وفي رواية: أنَّهم كانوا يربطونَ الحبال بين السواري، ثمَّ يَتَعَلَّقُون بها.

ورُويَ أنَّ عمر جمع ثلاثة قُرَّاء، فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأَ بالناس ثلاثين، وأوسطهم بخمس وعشرين، وأبطأهم بعشرينَ.

ثم كان في زمن التابعين يَقْرَؤُون بـ"البقرة" في قيام رمضان في ثماني ركعاتٍ، فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعة، رأوا أنه قد خَفَّف.

قال ابن منصور: سُئِل إسحاق بن راهويه: كم يقرأ في شهر رمضان؟ فلم يرخص في دون عشر آيات، فقيلَ له: إنهم لا يرضون، فقال: لا رضوا، فلا تؤمنهم إذا لم يرضوا بعشر آيات من (البقرة)؛ يعني في كل ركعة.


وكذلك كَرِه مالك أن يقرأ دون عشر آيات.

وسُئِل الإمام أحمد عَمَّا رُوي عن عمر؛ كما تقدم ذكره في السَّريع القراءة، والبطيء، فقال: في هذا مَشَقَّة على الناس، ولا سِيَّما في هذه اللَّيالي القصار، وإنَّما الأمر على ما يحتمله النَّاس.

وقال أحمد لِبَعْض أصحابه، وكان يُصَلِّي بهم في رمضان: هؤلاءِ قومٌ ضُعَفاء، اقرأ خمسًا، ستًّا، سبعًا، قال: فقرأت، فَخَتَمْتُ ليلة سبع وعشرين.

وَقَد رَوَى الحَسَن: أنَّ الذي أَمَره عمر أن يُصَلِّي بالناس، كان يقرأ خمس آيات، ست آيات، وكلام الإمام أحمد يدل على أنَّه يُرَاعى في القراءة حال المَأْمومينَ، فلا يشقّ عليهم.

وقاله أيضًا غيره منَ الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة، وغيرهم.

وقد روي عن أبي ذر: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قام بهم ليلة ثلاث وعشرين، إلى ثلث الليل، وليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، فقالوا له: لو نَفَّلْتَنَا بَقِيَّة ليلتنا، فقال: ((إنَّ الرَّجل إذا صَلَّى مع الإمام حتى ينصرفَ، كُتِبَ له بقيَّة ليلته))؛ خرجه أهل "السُّنن"، وحسنه الترمذي.

وهذا يدل على أنَّ قيام ثلث الليل يكتب به قيام ليلة؛ لكن مع الإمام.

وكان الإمام أحمد يأخذ بهذا الحديث، ويُصَلِّي مع الإمام حتى ينصرفَ، ولا ينصرفُ حتى ينصرفَ الإمام.

وقال بعض السَّلَف: مَن قام نصف الليل، فقد قامَ اللَّيل.

وفي "سُنَن أبي داود"، عن عبدالله بن عمرو عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن قام بعشر آيات لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغافلين، ومَن قام بمائة آية كُتِبَ منَ القانتين، ومَن قام بألف آية كتب منَ المقنطرين))؛ يعني: أن يكتبَ له قنطار منَ الأجر.

ويُرْوَى من حديث تميم وأنس مرفوعًا: "مَن قرأ بمائة آية في ليلة، كتب له قيام ليلة"، وفي إسنادهما ضَعف، وروي حديثُ تميم موقوفًا عليه، وهو أصح.

وعن ابن مسعود قال: مَن قرأ في ليلة خمسين آية لَمْ يكتبْ مِنَ الغافلينَ، ومَن قَرَأَ مائة آية كُتِب منَ القانتينَ، ومَن قرأ ثلاثمائة آية كتب له قنطار، ومن أراد أن يزيدَ في القراءة ويطيل - وكان يُصَلِّي لنفسه - فليطول ما شاء؛ كما قاله النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك مَن صَلَّى بِجَماعة يرضون بِصَلاته.

وكان بعضُ السَّلَف يختم في قيام رمضان في كُلِّ ثلاث ليال، وبعضهم في كلِّ سبع، منهم قتادة، وبعضهم في كلِّ عشرة، منهم أبو رجاء العطاردي.

وكان السَّلَف يَتْلُون القرآن في شهر رمضان في الصلاة، وغيرها، كان الأسود يقرأ القرآنَ في كلِّ لَيْلَتينِ في رمضان، وكان النَّخَعِي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصَّة، وفي بقيَّة الشهر في ثلاث.

وكان قتادة يَخْتِم في كل سَبْع دائمًا، وفي رمضان في كلِّ ثلاث، وفي العَشْر الأواخر كل ليلة.

وكان للشَّافعي في رمضان سِتُّون ختمة يقرؤها في غير الصلاة، وعن أبي حنيفة نحوه، وكان قتادة يَدْرس القرآن في شهر رمضان، وكان الزُّهْرِي إذا دَخَل رمضان قال: فإنَّما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطَّعام.

قال ابن عبدالحكم: كان مالك إذا دَخَل رمضان يفِرُّ مِن قراءة الحديث، ومُجَالَسة أهل العلم، وأقبل على تِلاوة القرآن منَ المُصْحف.

وقال عبدالرَّزَّاق: كان سُفْيان الثَّوْري إذا دَخَل رمضان، تَرَك جميع العِبادة، وأقْبل على قراءة القرآن.

وكانت عائشة - رضي الله عنها - تَقْرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طَلَعتِ الشَّمس نامَتْ.

وقال سفيان: كان زُبَيْد اليَامِي[8] إذا حَضَر رمضان، أحضر المَصَاحف، وجَمَع إليه أصحابه.

وإنَّما وَرَد النَّهيُ عن قِرَاءة القرآن في أقل مِن ثلاث على المُدَاوَمة على ذلك؛ فأمَّا في الأوقات المُفَضَّلة؛ كشهر رمضان، خصوصًا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكنِ المُفَضَّلة؛ كمكة لِمَن دخلها من غير أهلها، فيُسْتَحَبُّ الإكثار فيها مِن تلاوة القرآن؛ اغتنامًا للزَّمان والمكان، وهو قولُ أحمد، وإسحاق، وغيرهما منَ الأئمَّة، وعليه؛ يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره.

واعلم أنَّ المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جِهَادان لنفسه: جهاد بالنَّهار على الصيام، وجهاد باللَّيل على القيام، فمَن جمع بين هذين الجهادين، وَوَفَّى بحقوقهما، وصَبَرَ عليهما، وُفِّي أجره بغير حساب.

قال كعب: يُنادي يوم القيامة منادٍ: إنَّ كلَّ حارث يعطى بحرثه ويزاد، غير أن أهل القرآن والصيام يعطون أجورهم بغير حساب، ويشفعان له أيضًا عند الله - عَزَّ وَجَلَّ - كما في "المسند"، عن عبدالله بن عمرو، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصِّيام والقُرآن، يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: ربِّ مَنَعْته الطَّعام والشراب بالنهار، ويقول القرآن: منعته النَّوم باللَّيل، فَشَفّعني فيه، فيشفعان)).

فالصِّيام يشفع لِمَن منعه الطَّعام والشَّهَوات المُحَرَّمة كلها، سواء كان تحريمها يختص بالصِّيام، كشَهوة الطعام، والشَّراب، والنِّكاح، ومقدماتها، أو لا يختص به، كشهوة فضول الكلام المُحَرَّم، والسَّماع المحرم، والنَّظَر المُحَرَّم، والكَسْب المُحَرَّم، فإذا منعه الصيام مِن هذه المحرمات كلها، فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة، ويقول: ياربِّ، منعته شهواته، فشَفِّعني فيه، فهَذا لِمَن حفظ صيامه، ومنعه من شهواته، فأمَّا مَن ضَيَّع صيامَه، ولم يمنعه عمَّا حَرَّمَهُ الله عليه، فإنه جديرٌ أن يضرب به وجه صاحبه، ويقول له: ضَيَّعَكَ الله كما ضَيَّعْتَنِي، كما وَرَد مثل ذلك في الصَّلاة.

قال بعض السَّلَف: إذا احتضر المؤمن يُقال لِلْملك: شم رأسه، قال: أجد في رأسه القرآن، فيقال: شم قلبه، فيقول: أجد في قلبه الصيام، فيقال: شم قدميه، فيقول: أجد في قدميه القيام، فيقال: حفظ نفسه، حفظه الله - عز وجل.

وكذلك القرآن إنَّما يشفع لِمَن منعه منَ النَّوم بالليل، فإن مَن قَرَأ القرآن وقام به، فقد قام بحقِّه؛ فيشفع له.

وقد ذكر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فقال: ((ذاك لا يتوسد القرآن))؛ يعني لا ينام عنه، فيصير له كالوسادة.

وخرج الإمام أحمد، من حديث بُرَيْدة مرفوعًا: "إنَّ القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة، حتى ينشق عنه قبره، كالرجل الشاحب، فيقول: هل تعرفني؟ أنا صاحبكَ الذي أظمأتُكَ في الهَوَاجِر، وأسهرتُ ليلكَ، وكل تاجِرٍ من رواء تجارته، فيُعْطَى المُلْك بِيَمِينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوَقار، ثم يقال له: اقْرأ، واصعد، في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هَذًّا كان، أو ترتيلاً".

وفي حديث عُبادة بن الصامت، الطويل: أنَّ القرآن يأتي صاحبه في القبر، فيقول له: أنا الذي كنت أسهر ليلكَ، وأظمئ نهارك، وأمنعك شهوتك، وسمعك وبصرك، فستجدني منَ الأَخِلاَّء خليل صدق، ثم يصعد فيسأل الله له فِرَاشًا ودثارًا، فيُؤْمَر له بفراشٍ منَ الجَنَّة، وقنديل منَ الجنَّة، وياسمين منَ الجنَّة، ثم يدفع القرآن في قبلة القبر، فيوسع عليه ما شاء الله مِن ذلك".

قال ابن مسعود: ينبغِي لقارئ القرآن أن يُعْرَف بِلَيْلِه إذا الناس ينامون، ونهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبِوَرَعه إذا الناس يخلطون، وبِصَمْته إذا الناس يخوضون، وبِخُشوعه إذا الناس يَخْتالون، وبِحُزنه إذا الناس يفرحون.

قال محمد بن كعب[9]: كنا نعرف قارئ القرآن بِصُفرة لونه، يشير إلى سَهَره، وطول تَهَجُّده.

قال وهيب بن الورد[10]: قيل لرجل: ألا تنام؟ قال: إنَّ عجائب القرآن أطرن نَوْمي، وصحب رجل رجلاً شهرين، فلم يره نائمًا، فقال: مالي لا أراك نائمًا؟ قال: إنَّ عجائب القرآن أطرن نومي، ما أخرج من أعجوبة إلاَّ وقَعْتُ في أخرى.

قال أحمد ابن أبي الحواري[11]: إنِّي لأقرأ القرآن، وأنظر في آية فيحير عقلي بها، وأعجب من حُفَّاظ القرآن، كيف يهنيهم النوم، ويسعهم أن يشتغلوا بشيء منَ الدنيا، وهم يتلون كلام الله، أما إنهم لو فهموا ما يتلون، وعرفوا حقه، وتَلَذَّذوا به، واستحلوا المناجاة به، لذهب عنهم النوم فرحًا بما قد رزقوا[12].

أنشد ذو النون المصري:

مَنَعَ القُرَانُ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ مُقْلَ العُيُونِ بِلَيْلِهَا لاَ تَهْجَعُ
فَهِمُوا عَنِ المَلِكِ العَظِيمِ كَلاَمَهُ فَهْمًا تَذِلُّ لَهُ الرِّقَابُ وَتَخْضَعُ

فأمَّا مَن كان معه منَ القرآن فنامَ بالليل، ولم يعملْ به بالنهار، فإنَّه ينتصب القرآن خصمًا له، يطالبه بحقوقه التي ضَيَّعَها.

وخرج الإمام أحمد من حديث سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامِه رجلاً مستلقيًا على قفاه، ورجل قائمٌ بيده فهر[13] أو صخرة، فيشدخ به رأسه، فيتدهده[14] الحجر، فإذا ذهبَ ليأخذه عاد رأسه كما كان، فيصنع به مثل ذلك، فسأل عنه، فقيل له: هذا رجل آتاه الله القرآن، فنامَ عنه بالليل، ولم يعمل به بالنهار، فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة؛ وقد خرجه البخاري بغير هذا اللفظ.

وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يمثل القرآن يوم القيامة رجلاً، فيؤتى بالرجل قد حمله، فخالف أمره، فيمثل له خصمًا، فيقول: يا ربِّ حملته إياي، فبئس حامل تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فلا يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: شأنك به، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار، ويؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله، وحفظ أمره، فيمثل خصمًا دونه، فيقول: يا رب حملته إياي، فخير حامل، حفظ حدودي، وعمل بفرائضي، واجتنب مَعصيتي، واتبع طاعتي، فلا يزال يقذف له بالحجج حتى يقال: شأنك به، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر)).

يا مَن ضَيَّع عمره في غير الطاعة، يا مَن فَرَّط في شهره؛ بل في دهره وأضاعه، يا مَن بضاعته التسويف والتفريط، وبئست البضاعة، يا مَن جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة.

وَيْلٌ لِمَنْ شُفَعَاؤُهُ خُصَمَاؤُهُ وَالصُّورُ فِي يَوْمِ القِيَامَةِ يُنْفَخُ

رُبّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، وقائم حَظّه من قيامه السَّهر، كل قيام لا يَنْه عن الفَحْشاء والمنكر لا يزيد صاحبه إلاَّ بُعْدًا، وكل صيام لا يُصان عن قول الزُّور والعمل به، لا يورث صاحبه إلاَّ مَقْتًا وردى، يا قوم أين آثار الصيام، أين أنوار القيام.
إِنْ كُنْتَ تَنُوحُ يَا حَمامَ البَانِ لِلْبَيْنِ أَيْنَ شَوَاهِدُ الأَحْزَانِ
أَجْفَانُكَ لِلدُّمُوعِ أَمْ أَجْفَانِي لاَ تُقْبَلُ دَعْوى بِلا بُرْهَانِ


هذا - عبادَ الله - شهر رمضان، الذي أُنْزل فيه القرآن، وفيه بقيته للعبادين مستمتع، وهذا كتاب الله يُتْلى فيه بين أظهركم ويسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا يَتَصَدَّع، ومع هذا فلا قَلْب يخشع، ولا عين تدمع، ولا صيام يُصان عنِ الحرام فينفع، ولا قيام استقام فيرجى لصاحبه أن يشفع، قلوب خَلَت منَ التقوى فهيَ خراب بلقع[15]، وتراكمتْ عليها ظلمة الذنوب، فهي لا تبصر ولا تسمع.

كم تتلى علينا آيات القرآن، وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا شهر رمضان، وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، ولا الشاب منا ينتهي عنِ الصبوة، ولا الشيخ منَّا يَنْزَجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة، أين نحن من قوم، إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم، وجلتها جلوة؛ وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار، أفما لنا فيهم أسوة؟ كم بيننا وبين أهل الصفا؟ بيننا أبعد مما بيننا، وبين الصفا والمروة[16]، كلما حسنت منَّا الأقوال، ساءت منا الأعمال، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله.


يَا نَفْسُ فَازَ الصَّالِحُونَ بِالتُّقَى وَأَبْصَرُوا الحَقَّ وَقَلْبِي قَدْ عَمِ
يَا حُسْنَهُمْ وَاللَّيْلُ قَدْ جَنَّهُمُ وَنُورُهُمْ يَفُوقُ نُورَ الأَنْجُمِ
تَرَنَّمُوا بِالذِّكْرِ فِي لَيْلِهِمُ فَعَيْشُهُمْ قَدْ طَابَ بِالتَّرَنُّمِ
قُلُوبُهُمْ بِالذِّكْرِ قَدْ تَفَرَّغَتْ دُمُوعُهُمْ كَلُؤْلُوءٍ مُنْتَظِمِ
أَسْحَارُهُمْ بِهِمْ لَهُمْ قَدْ أَشْرَقَتْ وَخلعُ الغُفْرَانِ خَيْر القَسَمِ
وَيْحَكِ يَا نَفْسُ أَلاَ تَيَقّظ يَنْفَعُ قَبْلَ أَنْ تَزِلَّ قَدَمِي
مَضَى الزَّمانُ فِي تَوَانٍ وَهَوًى فَاسْتَدْرِكِي مَا قَدْ بَقِي وَاغْتَنِمِي

[1] يقصد حيث الصَّحيحينِ عن ابن عباس - رضيَ الله عنهما - قال: "كان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أجود ما يكون في رمضان، حين يَلْقاه جبريل، فيُدَارسه القرآن - فَلَرَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود منَ الرِّيح المرسلة".
[2] سورة المزمل الآية 6.
[3] سورة القدر الآية 1.
[4] سورة البقرة الآية 185.
[5] سورة الدخان الآية 3.
[6] يُلاحَظُ أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قَدَّمَ "النِّساء" على "آل عمران"، وهذا أحق بالاتِّباع منَ الذين أَوْجَبُوا متابعة القراءة في الصلاة، حسب تَرْتيب المُصْحَف.
[7] إذا كان الإمام في التَّراويح بعهد عمر، يقرأ في الرَّكعة مائتي آية، ويطيل القِيَام والركوع والسجود، فكَيف تكون التَّراويح أكثر من ثماني ركعات؟! وانظر رسالة "صلاة التَّراويح"، طبع المكتب الإسلامي.
[8] هو أبو عبدالرحمن، زبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب اليامي الكُوفي، ثقة ثَبْت عابِد، روى له الجماعة، توفِّي سنة 122 هـ.
[9] هو أبو حمزة القرظي التابعي المدني، من أهل العِلْم والرِّواية، قالوا عنه: ما كان أحدٌ أعلم بتأويل القرآن منه، وكان يقص في المسجد، فوقع عليهم السّقف، ومات سنة 118.
[10] هو عبدالوهاب بن الورد المخزومي بالولاء، أبو أمية، تابعي، متعبد، معروف بالحكمة والأدب، كان الإمام سفيان الثوري يسميه: الطيب، عاش وتوفي في مكة سنة 153هـ، وصغر اسمه وعرف بـ"مهيب".
[11] هو أحمد بن عبدالله بن ميمون بن أبي الحواري، التغلبي، منَ الزُّهاد، وكان ثقة في الحديث، مات سنة 146هـ.
[12] ولو شهد ما نعهده من أكثر القُرَّاء الآن، مِن اهتمام بالإلحان، وجعل القرآن مزامير وغناء، وأخذ الأجور على التلاوة، وارتكاب المخالفات!! فماذا يقول؟!
[13] الفهر: الحجر الذي يملئ الكف، ويكون رقيقًا.
[14] أي: يتدحرج.
[15] البلقع: المكان المقفر الخالي من كل خير.
[16] الصفا والمروة في مكة، وهو يقول هذا في دمشق للدلالة على بعد المسافة.


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 18-06-2015, 02:22 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (26)
بخاري أحمد عبده




ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ï´¾ [البقرة: 183 - 185]. مسَسْنا في مقالنا السَّابق بعض قضايا الصوم مسًّا مباشرًا، أردنا به أن نَفِي بحقِّ المناسبة، وأن نقوِّي الطارق الكريمَ الغريب "رمضان" الذي أطلَّ مأخوذًا ينكر البلاد، ويستغرب العباد، ويستعجل لحظة الرَّحيل، ولبث فينا مرتاعًا، وانطوى حسيرًا يُحَوقل، ويسترجع، ويأسى للأُمَّة الممتهنة، والعزة الْمُهراقة، والتاريخ الكاسف الحزين. وعَلِمنا - هناك - أنَّ آياتنا نَبْضة من نبضات سورة البقرة التي تزيد الإيمان، وتعلي الأركان وتجلو، وتَنْزح، وتغذو، وتصنع للمسلمين. وعجبنا لغفلة المسلمين، وضيعة العرب، رغم صفحات الاتِّهام الدافع التي يَنْشرها القرآن، يكشف بها أحزابَ الشيطان، ويجلو قسماتِهم، ويفضح حركاتِهم وسَكناتِهم. ورأينا كيف يتدرَّج المولى بالمسلمين، وكيف يُمهِّد لهم، ويهيِّئهم لنفحات رمضان، ولأعبائه الجسيمة[1]. مدارج التحرير: تحسُّ وأنت ترتع في رياض الآيات التي تكتنف آيات الصِّيام بأرواح الحرِّية تنبعث فوَّاحة منشِّطة، وتشعر بعمليات (فكِّ الارتباط) التي تقوم بها الآيات الكريمة، وتكاد تسمع وقْعَ معاول الحقِّ تحطم الأطواق التي غلَّ بها أهلُ الكتاب أعناقَ العرب، وتكاد تشَمُّ أرياح العفَن الوبيء، والقرآن يَنْزَح مُخلَّفات اليهود، ورواسبَ الزَّيف، ويُبْطِل[2] آثارَ غزوهم للأفكار في عبقريَّةٍ منقطعة النَّظير. وشَرُّ ألوان الرِّق أن تَسْبِيَك[3] شهواتُك، وأن تكبِّلك أهواؤُك، أن تَنْسج بيديك القيودَ، وتسلِّم بنفسك زمامك للنَّزعات الدُّنيا وللشَّيطان، فتمسي - منها - وَفْق المشهد الذي تَعْرضه آيات سورة (يس): ï´؟ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ï´¾ [يس: 7 - 9]. واستمراء الغواية، وإشباع كلِّ رغبات النَّفْس يوهن الإرادة، ويسلم لنِير الشَّيطان[4]، والإسلام الذي يعمل على تَحريرك يرفض أن تبيت عبْدَ الأهواء؛ ï´؟ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ï´¾ [الفرقان: 43 - 44]. وتقديرًا لأوزار هذا النوع منَ العُبُوديَّة أشادت الآثار بِجهاد النَّفس، وشكمها عن نزعاتِها، وارتفعَتْ بِمنْزِلة هذا الجهاد (جهاد النَّفس) حتَّى عدَّتْه الجهاد الأكبر. والصوم بكافَّة أدبيَّاته يحطم أغلال الهوى، ويحرِّر من أصفاد الشيطان وسلاسله، تلك السلاسل التي تُرَدُّ إلى نَحْر الشيطان - في رمضان - ليبيت ويصبح مغلولاً مدحورًا. والصَّائم إذا استخلص نفسه من أوضارها، وحرَّرها من نزعاتِها، فقد تبوَّأ قمَّة يستطيع من عليائها أن يرى فيُحْكِم الرُّؤية، وأن يسدِّد فيصيب السَّداد. الصوم إذًا - بعد كونه عبادةً خالصة - مَظْهرُ تحرُّر، ووسيلةٌ إلى مزيدٍ من تحرُّر. وإبرازًا لمعاني الحرية التي تزخر بِها شعيرة الصوم جاءت الآيات التي تكتنف آيات الصيام دواعِيَ تحرُّر، ومدارج نحو القمَّة الشمَّاء التي يتربَّع عليها الصائم. في موكب الحرية: والحديث عن التَّحرير في معرض الحديث عن الإسلامِ والصِّيام ليس بِدْعًا، ولا تكلُّفًا، ولا افتعالاً؛ فالعلاقة بين الإسلام والتحرير علاقةٌ وثيقة وبيِّنة، الإسلام أن تُسْلِم وجْهَك لله، وتَنْبذ كل القُوَى الأرضية التي تتنازعك وتحتويك، وتتسلَّط عليك. والإسلام إذْ يأمرك بأن تبرِّئ وجهتك، وتطهِّر بالتوحيد عقيدتَك، إنَّما يَمْنعك من أن تتعدَّد جهاتُ ذلك، وتُطْحَن بين شركاءَ متشاكسين؛ ï´؟ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ï´¾ [الزمر: 29]. وهو إذْ يحدِّد لك قبلتك، وإذْ يَحدو نزعاتك وقلبَك، حتَّى لا يتشعَّب ويغدو بكلِّ وادٍ شعبة إنَّما يريد أن يَجْمع شتاتك، ويحرِّرك من أن تَخْلد إلى الأرض، أو تحتبس رهْنَ عنصر الطِّين الذي يَؤُودك، ويَغُلُّك. وهو إذْ يفرض عليك، ويستنفِرُك كي تستَبِق الخيرات، يوثِّق صلاتك بالله، ويُحْكِم رباطَك؛ حتَّى لا تكون قلقًا تلين لكلِّ لامس، وتدور مع كلِّ رياح. والقرآن يحدد لنا رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- فيَذْكر خلالاً تحمل معاني التحرير - ضمنًا - ويعود فينصُّ على التحرير - صراحةً - مِمَّا يدلُّ على علُوِّ كعب قضية التَّحرير في الإسلام. ذلك ما تجده حين تتمعَّن في مغزى قولِه سبحانه: ï´؟ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ... ï´¾ [الأعراف: 157]. فما أُمِرنا به، وما نُهِينا عنه، وما أُحِلَّ من طيبات، وما حرِّم من خبائث تتضافر فتَصْنع إنسانًا لا يستهويه نداءُ الحيوان الكامن في الأعماق، ولا يطويه الزَّبَد الذي يتطاير كثيفًا من مستنقع الغريزة، ولا يعميه الدُّخان الذي يتصاعد خانقًا من التقاليد الموروثة والعادات. ووَضْع الآصارِ والأغلال تصريحٌ بالأمر مِن بَعد تلميح، ونَصٌّ على قضية التحرير من بعد تضمين؛ ï´؟ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ï´¾ [الأعراف: 157]، عبوديَّة النَّزعة المادية يحطمها الإيمان بالغيب. النَّزعة المادية غلٌّ يضمُّ الأعناق إلى الأذقان، ويُقْمِح[5] المرء، فيَغْدو كتمثال شُدَّ شدًّا إلى جهة واحدة. وتَغلغل النَّزعة المادية هو الذي يجعل الإنسان لا يؤمن إلاَّ بالمحسوس الملموس، وتحت وطأة هذه النَّزعة ضعف الإدراك، ووهَى حسُّ اليقين عند كثيرين، فاستعظموا أن يَعْبدوا غير مرئيٍّ مُدْرَكٍ بالأبصار، فأضفَوْا عظمة المعبود على موادَّ يصنعونَها، أو صُوَرٍ ينحتونها، أو مخلوقاتٍ يعظِّمونها، ثم عكفوا على ما صنعوا، واختلقوا، وقدَّسوا. والنَّزعة المادية هي التي طمسَتْ نور الفطرة، وأفسدتْ على الإنسان رؤيته، ونوَّعت له الشُّركاء، وعدَّدت الآلهة ï´؟ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ï´¾ [الأعراف: 198]، وهكذا أمسى الإنسانُ عبْدَ هذه النَّزعة في دينه ودُنياه. وحَدًّا من طغيان هذه النَّزعة، واستنقاذًا من عبودية المَحسوس؛ حتَّم الإسلامُ الإيمانَ بالغيب، وأشاد القرآنُ بالمؤمنين بالغيب في آياتٍ جَمَّة، أُولاها آية البقرة التي جعلت الإيمان بالغيب أُولَى سِمات المتَّقين؛ ï´؟ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ï´¾ [البقرة: 2 - 5]. فالإيمان بالغيب دليلُ التحرُّر من أصفاد المادانية، وهو قمَّة الإيمان، ومظهر الثِّقة المُثْلى بكلِّ ما يَصْدر من الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- بل هو الإيمان كلُّه؛ لأنَّ خبَر السَّماء غيب كلُّه، يعالِج أمورًا تنطوي في دائرة المَحجوبات، أو المعقولات، أو المَحسوسات. والإيمان بالغيب يتجلَّى أوضح ما يكون الجلاء في الأُمِّيين الأوَّلين؛ فالغيب بالنِّسبة لَهم غيب مُطْبق، وبالنسبة لغيرهم - من اللاَّحقين - غيبٌ استأنس بالأضواء التي عكسَتْها معارف السَّماءِ والأرض، والقلب الذي يَمتلك خاصِّية الإيمان بالغيب قلبٌ مؤهَّل، يطيق أن يقام فوقه صرحُ الإيمان بكلِّ طوابقه وشُعَبِه. وخاصيَّة الإيمان بالغيب تختلف في قوَّتِها من قلب إلى قلب؛ فمن القلوب قلوبٌ تعجز عن الغَوْر والاستيعاب، وقلوب تستوعب، وتنفذ إلى عمقٍ محدود، ثم تَلْهث، وقلوب تذهب إلى نهاية الشَّوط. وكلَّما كان الغيبِيُّ أبعدَ عن التصوُّر، وأدخلَ في عالَمِ ما وراء الطَّبيعة، كان المؤمنُ به أجلى وجدانًا، وأعمق إيمانًا؛ شريطةَ أن يعتمد ذلك الغيبِيُّ على أثَرٍ معتمَدٍ صحيح. ومِمَّن امتلك خاصِّية الإيمان بالغيب في أعلى مستوياتِها الصِّديق - رضي الله عنه - ومِن رحاب هذه الخاصِّية استمدَّ موقِفَه من قصَّة الإسراء والمعراج، ومن كلِّ أخبار السماء. ولِمقام الإيمان بالغيب، ولشدَّة تأثيره في شُعَب الإيمان الأخرى، أشادَ رسولُ الله بالآخِرين الذين يؤمنون به ولَم يرَوْه، وعجَّب (بتشديد الجيم المفتوحة) من إيمانِ قومٍ يكونون من بَعْد، يجدون صحفًا فيها كتاب، فيؤمنون بِما فيها. إن تحرير الوجدان بتحتيم الإيمان بالغَيْب، وتحرير الجَنان بعقيدة التوحيد التي تَعْصمك من أن تذلَّ فتتَّخذ من دون الله الأرباب: ï´؟ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ï´¾ [التوبة: 31]. إنَّهما دعامتا كلِّ الحريات التي يتيحها لك الإسلامُ الحنيف لتنطلق على أجنحتها نحو قمَّتِك الشمَّاء. والإخلال بعقيدة التوحيد يورث التخبُّط، والشَّلل، والزَّلَل إلى قاعٍ سحيق؛ ï´؟ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ï´¾ [الحج: 31]. واهتزاز الإيمان بالغيب يَنْسف الدِّين كلَّه، ويحيل العبد أرضانيًّا[6]، يغوص في الظَّلام، ويعيش في الحُفَر مع الديدان. وظنِّي أن هاتين الحرِّيتين اللَّتين تلتئم بِهما سائر الحريات المشروعة هما النُّور الذي منَّ الله علينا به، وأمرنا أن نكون - باستمرارٍ - الأُمَّةَ التي تشيع هذا النُّور وتنشره، والقوَّةَ الضاربة التي تذود عنه، وتَمْنعه؛ ï´؟ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ï´¾ [التوبة: 32]. والمسلمون منذ فرَّطوا في أمر التوحيد فأشركوا، وأذعنوا لغير الله، وقرَّبوا، ورجَوا، خافوا... إلخ. ومنذ اهتزَّ موقفهم من الغيب، فعكفوا على المادَّة، وكفروا بغير المَعْمل، والمخبَر، والتَّجربة... إلخ، أضحوا مهيضي الجناح، مَشْلولين، مَخنوقين، ويرقِّعون دُنيا غيرهم بدِينهم. ولَست - بِهذه الإشارة - أقلِّل من شأن التَّجربة، والمعمل، كيف والإسلام هو الدِّين الوحيد الذي طوَّف بك في الآفاق، وحلَّق بك في الأجواء، ونفذ بك إلى الأغوار، وجال بك بَيْن ظواهر الكون، وأغراك بالتَّحليل، ولفت نظرك إلى الشَّيء وأبعاضِه التي لا تتناهى، وأوحى إليك - بِهذا - أن تتَّخذ المعمل، والمجهر، والمرصد... إلخ؟ إنَّما أردت ألاَّ يصرفنا ذلك عن الله وملكوته، وعن النَّفس وأوضارها، وعن الغَيْب وأسراره، وعن الدِّين وقِيَمه، وعن الآخرة ومشاهدها، وأردتُ ألاَّ ننحو منحى المسلم اللَّوْذَعي الذي أُشْرِب مَقْت الإسلام والمسلمين، فهو يَنِبُّ وراء دينه نبيبَ التُّيوس[7]، وقلَمُه لا يسيل ولا يصول إلاَّ إذا صُوِّب إلى صدر الإسلام والمسلمين، ولكَمْ كتبَ يتندَّر بالإسلام، ويزعم أنَّ حضارته حضارة الكلمة - وإنَّها حضارة مطحونة تَذْروها الرِّياح؛ رياح الآلة والتقدُّم العلمي - وأنَّ المناداة بالإسلام معناها الارتداد، والقهقَرى، ومواجهة عصر الآلة بمحصول لفظي، ونادى بضرورة التخلُّص من حضارة الكلمة[8]. ومِثْل هذا الكاتب هو المُقْمَح المغلول بأغلالٍ تَضمُّ إلى عنُقِه ذقنَه وعضدَيْه، وقلبه، ومتنه كلَّه. والإسلام إنَّما جاء ليحرِّر أمثال هذا من آصار الجاهلية الأولى، وهو حريٌّ أن يحرِّر عبيد الماسونيَّة، وضحايا المستشرقين، وصنائعَ الإلحاد والصليبيَّة التي تَجِدُّ كي تفكَّ الارتباط بين المسلم ودينه، وقرآنه[9]، متوسِّلة إلى ذلك بصدور مَحمومة، وأقلام مسمومة تشحن فتبث، وتنفث، وتعكس أصوات سادتِها. وهؤلاء أسرى مكبَّلون، منوَّمون مغناطيسيًّا، وظنِّي أنَّ حالةَ كثيرٍ منهم أضحت متأخِّرة لا تنفعها أشفية، ولا ينقذها طبٌّ، فأشفية الإسلام لا تطبُّ الصُّدور التي تأكَّلَت وبليت، وأصحابها سواءٌ عليهم أأنذرتَهم أم لَم تنذرهم، ï´؟ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ï´¾ [البقرة: 7]. والخطورة في أنَّ مَوالي هؤلاء المكبَّلين جلَوْهم، وموَّهوا ظواهرهم، وأضفَوْا عليهم من بريقِ الشَّيطان ثم بوَّؤوهم مواقعَ تأثير؛ ليقذفوا من فوقها بغازاتِهم السامَّة، ويَخدعوا، وما يخدعون إلاَّ أنفسهم وما يشعرون. ومن أساليب المَوالي أن يثيروا كلابَهم في وقت واحد؛ وذلك: 1- حتَّى يَضيع في صخب النباحِ صوتُ الحق. 2- وحتَّى تَنْطلق قذائفُهم من عدَّة جبهات؛ فيصعب التصدِّي، وتَعِزُّ المواجهة. 3- لما في التَّكرار، وتعدُّد المصادر، ومواصلة القول من أثَرٍ نفْسي يورث الاقتناع. 4- ورُبَّما ليشغلوا السَّاحة الإسلاميَّة عن التربية، والبِناء، ويصرفوا الدُّعاة عن الجادَّة المُثْلى إلى الجدل والمهاترة، والمواجهة التي تستنفد الطاقات، ï´؟ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ï´¾ [آل عمران: 118].
[1] راجع الصفحتين الأوليين من مقال عدد رمضان.
[2] يَنْزح.
[3] تأسرك.
[4] النِّير: القَيْد.
[5] أقمحَ الغُلُّ الأسيرَ: ضيَّق الخناق على رأسه بحيث لا تتحرَّك، ولا تنظر إلا في اتِّجاه واحد، قال تعالى: ï´؟ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ï´¾ [يس: 8].
[6] نسبة إلى أرض تفيد المبالغة.
[7] النَّبيب صوت التَّيس حين يُراود ويصيح، والتَّيس يصيح أوَّل ما يصيح خلفَ أمِّه.
[8] نشرت جريدة الأهرام - إثر معاهدة "كامب دافيد" - عدَّة مقالات بعنوان "مصر ومعركة التحدِّي الحضاري مع إسرائيل"، وأذكر منها ما جاء في أعداد 24/6، 27/6، 1/7/1979، واستغلالاً للمناخ الذي ساد البلادَ وقتئذٍ، هبَّ كاتبُنا يقرِّب القرابين، راجيًا من مَواليه القبول.
[9] في مجلة "الأمَّة" القطَريَّة (عدد رجب 1404- أبريل 1984) حديث عن: "لغة القرآن بين مكر الأعداء وحرص الأبناء"، قدَّم له بما يأتي: مضى أربعة عشر قرنًا من الزمان، وأعداء الله لم يهدأ لهم بالٌ، ولن يهدأ، وكتاب الله موجود يؤرِّق نومهم، فالقضاء عليه هو الهدف والأمنية، هذا ما دفع "جلادستون" رئيس وزراء بريطانيا إلى أن يقول أمام مجلس العموم: "ما دام القرآن موجودًا فلن نستطيع السيطرة على الشرق، ولا أن نكون في أمان"، أمَّا المبشر "تاكلي" فيقول: "يجب أن نَستخدم القرآن - وهو أمضى سلاحٍ في الإسلام - ضدَّ الإسلام نفسه، حتَّى نقضي عليه تمامًا، يجب أن نبيِّن للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديدًا، وأن الجديد فيه ليس صحيحًا"؛ هكذا يريدون استئصالَ شجرة الإسلام، ولكن بأيدي مسلمين!





رد مع اقتباس
  #3  
قديم 19-06-2015, 01:13 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

(نفحات قرأنية رمضانية)
حالنا مع القرآن في شهر القرآن
الشيخ أحمد الفقيهي



عباد الله:
لقد وفَّقَكم الله - تعالى - لبلوغِ شهر رمضان، وإدراكِ خيراته، والْتماسِ أنوارِه وبركاته، وإنَّها لفرحةٌ عظيمة تَغْشى عبادَ الله المؤمنين، فتُضيء لها مُحيَّاهم، وتشرق حياتهم، وتستنير قلوبهم.

أيها المسلمون:لقد أنزل الله - تعالى - كتابَه على نبيِّه محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - جملةً واحدة من اللَّوْح المحفوظ إلى بيْت العِزَّة في السماء الدنيا، وكان ذلك في ليلة القدر؛ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، ويقول – سبحانه -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3].

يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أُنزِل القرآنُ جملةً واحدة إلى سماء الدنيا، ثم أُنزِل بعد ذلك في عشرين سَنَة"؛ رواه النسائي والحاكم.

ويقول ابن جرير الطبري - رحمه الله -: "نَزَل القرآن من اللَّوْح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القَدْر من شهر رمضان، ثم أُنزِل إلى محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - على ما أراد الله إنزالَه إليه".اهـ.

أيها المسلمون:
شهرُ رمضانَ هو شهر القرآن، ذلكم الكتاب الذي لا تكلُّ الألْسنةُ من تلاوته، ولا تملُّ الأسماع من حلاوته ولذَّته، ولا يشبع العلماءُ من تدبُّره، ولا يستطيع أيُّ مخلوق أن يأتيَ بمثله؛ {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

أيها الصائمون:
لقد كان صيامُ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُزْدانًا بقراءة القرآن، ذِكْرًا وتلاوةً وتدبُّرًا، فالقرآن سميرُه وأنيسُه، يُذاكره جبريل - عليه السلام - القرآن كلَّ سَنَة، فيَقِف عند مواعظِه، ويتأمَّل أسرارَه وحِكمَه، عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضانَ حين يَلْقاه جبريل فيُدارسه القرآن، وكان جبريل يَلْقاه كلَّ ليلة من رمضان، فيُدارِسُه القرآن، فَلَرسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين يلقاه جبريل أجودُ بالخير من الرِّيح المرسَلة"؛ أخرجه الشيخان.

قال ابن رجب - رحمه الله -: "دلَّ الحديث على استحباب دِراسةِ القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وفيه دليلٌ على استحبابِ الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان"، وأضاف - رحمه الله -: "وفي حديث ابن عباس دليلٌ على أنَّ المدارسةَ بينه وبين جبريل كانت ليلاً، ممَّا يدلُّ على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً، فإنَّ اللَّيْل تنقطع فيه الشواغل، ويجتمع فيه الهَمُّ، ويتواطأ فيه القَلْب واللِّسان على التدبُّر؛ كما قال – سبحانه -: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل: 6].
نِعْمَ السَّمِيرُ كِتَابُ اللَّهِ إِنَّ لَهُ حَلاَوَةً هِيَ أَحْلَى مِنْ جَنَى الضَّرَبِ
بِهِ فُنُونُ الْمَعَانِي قَدْ جُمِعْنَ فَمَا تَفْتَرُّ مِنْ عَجَبٍ إِلاَّ إِلَى عَجَبِ
أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَأَمْثَالٌ وَمَوْعِظَةٌ وَحِكْمَةٌ أُودِعَتْ فِي أَفْصَحِ الْكُتُبِ

عباد الله:
لقد أدركَ السَّلفُ الصالِح، والتابعون لهم بإحسان سِرَّ عظمةِ القرآن، فطاروا بعجائبه، وعاشوا مواعظَه وحلاوتَه، وفي المواسم الفاضلة يَزداد التعلُّق، ويشتدُّ التسابُق؛ يقول عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "يَنبغي لحاملِ القرآن أن يُعرفَ بلَيلِه إذ الناس نائِمون، وبنهارِه إذ الناس مُفطِرون، وبحُزنِه إذ الناس يفرحون، وببكائِه إذ الناس يَضحكون، وبصَمتِه إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون"، وكان الزهريُّ - رحمه الله - إذا دخل رمضان يقول: "إنَّما هو قراءة القرآن، وإطعام الطعام"، وقال ابن الحكيم: "كان مالك - رحمه الله - إذا دخل رمضانُ يفِرُّ من قراءة الحديث ومجالسةِ أهلِ العِلم"، وقال عبدالرازق: "كان سفيان الثوريُّ إذا دخل رمضان تَرَك جميعَ العبادة، وأقبل على قراءة القرآن"، وقال النووي - رحمه الله -: "وأمَّا الذي يختم القرآنَ في ركعة، فلا يُحصَوْن لكثرتهم، فمِن المتقدِّمين: عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير - رضي الله عنه - خَتَمَه في ركعة في الكعبة"، قال الذهبيُّ: قد رُوي من وجوه متعدِّدة أنَّ أبا بكر بن عيَّاش مَكَث نحوًا من أربعين سَنَة يختم القرآن في كلِّ يوم وليلة مرَّة".

فإن قيل: أيُّهما أفضل: أن يُكثِر الإنسانُ التلاوة، أم يُقلِّلها مع التدبُّر والتفكر؟

فيجيب عن ذلك النووي - رحمه الله - بقوله: "والاختيارُ أنَّ ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمَن كان مِن أهل الهمِّ وتدقيق الفِكْر، استُحبَّ له أن يقتصرَ على القدر الذي لا يختلُّ به المقصودُ من التدبُّر واستخراج المعاني، وكذا مَن كان له شُغلٌ بالعِلْم وغيره من مَهمَّات الدِّين ومصالح المسلمين العامة، يُستحبُّ له أن يقتصرَ منه على القَدْرِ الذي لا يُخلُّ بما هو فيه، ومَن لم يكن كذلك، فالأَوْلى له الاستكثارُ ما أَمْكَنه من غير خروج إلى الملل، ولا يقرؤه هَذْرَمَة".ا.هـ.

وأمَّا حديث: ((لم يَفقهْ مَن قرأَ القرآنَ في أقلَّ مِن ثلاث))، فقد أُجيب عنه بما يلي:
يقول ابن رجب - رحمه الله -: "إنَّما وردَ النهيُ عن قراءة القرآن في أقلَّ من ثلاث على المداومة على ذلك، فأمَّا في الأوقات المفضَّلة كشهر رمضان، خصوصًا في الليالي التي يُطلَب فيها ليلةُ القدر، أو الأماكن الفاضلة كمكَّة لِمَن دخلها مِن غير أهلها، فيستحبُّ الإكثارُ فيها من تلاوة القرآن؛ اغتنامًا للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمَّة، وعليه يدلُّ عملُ غيرهم" ا.هـ - رحمهم الله.

إلهنا تقبَّلْ منَّا صيامَنا وقيامَنا ودعاءنا، وسائرَ أعمالنا يا ربَّ العالمين.

الخطبة الثانية

عباد الله:
في رمضانَ يجتمع الصومُ والقرآن، فيدرك المؤمنَ الصادقَ شفاعتانِ: يشفع له القرآنُ لقيامه، ويشفع له الصَّوْم لصيامه؛ يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الصِّيامُ والقرآن يشفعانِ للعبد يومَ القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ، منعتُه الطعامَ والشهواتِ بالنهار، فشفِّعْنِي فيه، ويقول القرآن: ربِّ منعتُه النوم باللَّيْل فشفِّعْني فيه، فيشفعان))؛ رواه احمد، وعند ابن ماجه عن ابن بُريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يجيء القرآن يومَ القيامة كالرجل الشاحبِ، يقول: أنَا الذي أسهرتُ ليلَك وأظمأتُ نهارَك))، قال ابن رجب - رحمه الله -: "واعلمْ أنَّ المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادانِ لنفسه؛ جهادٌ بالنهار على الصيام، وجهادٌ باللَّيْل على القيام، فمَن جَمَع بين هذين الجهادَين، ووفَّى بحقوقهما، وصَبَر عليهما، وُفِّيَ أجرَه بغير حساب".

عباد الله:
في الوقت الذي يجب أن تُغتَنم أجزاؤه بالطاعة وقراءة القرآن، تُطالِعُنا الشاشاتُ يوميًّا، وخلال هذه اللَّيالي الكريمة بما يَصرِف الناسَ عن قراءة القرآن، وطاعةِ الرحمن، ولو كان الصارفُ مباحًا لعُوتِب المتشاغِلُ لتركه اغتنامَ هذه اللحظات العظيمة، التي ربَّما لا تعود، فكيف إذا كان الصارِفُ مُحرَّمًا أو قريبًا من الكُفْر والنِّفاق؛ لسخريته بالدِّين وشعائر عباد الله المسلمين.

ألاَ فاتَّقوا الله أيُّها المسلمون، وطَهِّروا أزمانَكم وأعمالكم من كلِّ ما يشين ولا يَزين، وليحذرْ أولئك الساخرون والمستهزئون مِن عقوبة الله - تعالى - سواء عُجِّلتْ لهم في الدنيا، أم أُخِّرتْ لهم؛ لينالوا العذابَ يوم القيامة؛ {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].

ألا فصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المهداة...


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 20-06-2015, 02:44 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (27)
بخاري أحمد عبده




ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ï´¾ [البقرة: 183 - 185].

إسار العقلانية، ونير العلمانية[1]:
استَسْلمنا لأرواح الحُرِّية التي تَسْترسل رخاءً حول آيات الصِّيام، تُفَتِّت وتَذْرو أثقال الهوى، والطِّين، والمادانية العمياء.

والهوى، والطين، والمادانية تتلاحم بِخَصائصها العنصريَّة، وتتوافَق بعلائقها الشيطانيَّة، وتتفاعل، ثم تُسبك أطواقًا، وتُصاغ سلاسل، وتَرتفع سجونًا تزهق فيها أنفاس الحرِّية الربَّانية التي تتيح للعبد أن يرشد، ويلطِّف، ويعلو ليحوز صلاحيَّات الخلافة في الأرض.

ورأينا في غيابة تلك السُّجون قطعانًا في غَفْلتها تَعْمَهُ[2] وتَمرح، وسمعنا نبيبَ التيوس يُصَلصِل معلِنًا عن حيوانيَّة دنيا، لا تَرُودُها[3] قِيَمٌ، ولا يَكْبَحها إيمان.

والأيادي التي تُمْسِك بزمام تلك التُّيوس، وتلعب بِها مثيرةً وموجِّهة، تَحرص على أن تحشو أديم[4] التيوس بِمُغالطات، وخدع تربِّيها[5]، وتذكِّيها عقدة النَّقص التي تستحكم في أعماق كثيرين منَّا متولِّدةً من الانتكاسة التي أصابت العرب والمسلمين منذ هجروا الدِّين، وجهلوا الدنيا، فخسروا الدَّارين.

ومن الحِيَل التي تَلعب بها القُوَى المضادَّة للإسلام: المبالَغة في تقدير العقل، حتَّى يُمسي ربًّا يُعبَد من دون الله، والبغي في تقديس العلم حتَّى يُخال إِلَهًا يُرجى من دون الله.

والعقل نورٌ روحانِيٌّ، وهو - بِحُكم كونه نورًا - يكشف لك العلومَ الضروريَّة والنَّظرية، وبِحُكم كونه روحانيًّا يأنس بالغيبيات التي جاءت في القرآن أو السُّنة الصحيحة، يَعْبر هذه الحياة المحدودة إلى حياةٍ أخرى لا تُحَدُّ.

وتجريد العقل من خاصيَّتَيْه، وجَعْلُه إليكترونيًّا بحتًا يحيله إلى قَيد يعقل[6] ويُحبَس في محيطٍ مَحدود، ويجرِّده من أجنحته التي يَضرب بها في الآفاق، وقوى العقل مستمَدَّة من كلِّ الطاقات التي ميَّز الله بها الإنسانَ من حواسِّه، ومداركِه، ومشاعره، ومُخِّه، وقلبه وروحه، فإذا عدَدْنا العقل جهازًا قائمًا بنفسه مستقِلاًّ، فقد أوغلنا في الشَّطَط.

والإنسان بكلِّ قُوَاه محدودُ الزَّمان والمكان، والعقل جانبٌ من جوانب هذا المحدود، أمَّا ملَكُوت الله بشهادتِه وغَيْبه، ودنياه وآخرته، فغير محدود، والله الذي لا يكلِّف نفسًا إلاَّ وسعها لَم يكلِّف العقل أن يتجاوز حجمه، ولكنَّه أطلق له العنان - كي ينشط - في عالَم الشَّهادة، وكفاه سبحانه عالَم الغيب، وتكرَّم فعرض أمامه من قضايا الغيب ومَشاهدِ القيامة، ومن تاريخ ما قَبْل التَّاريخ ما عرَض.

وواجِبُ العقل أن يَنظر، ويَسْبر، ويستقرئ، ويَفرض الفروض، ويُحقِّق النَّظريات في مَجالاته الدُّنيوية، أمَّا واجبه حيالَ الغيبات التي صحَّت فهو أن يَخشع ويؤمن، ولا بأس من أن يتبصَّر ويُحاول أن يجد علَّة، أو يستنبط حِكمة، أمَّا أن يَزِنَ بِقُواه الثَّابت الصحيح، فيَقبل إن وافق الهوى، ويردّ إن لَم يوافِق، فهذا هو الجموح المُرْدي، وهو العقلانيَّة المرفوضة.

والعلم وليد القُوَى العقليَّة، فهو - كأصله - مَحْدود، وصدق الله: ï´؟ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ï´¾ [الإسراء: 85]، ومَحصولنا العلميُّ أهون من أن نقدِّر به كلَّ حقائق الدِّين، والمولى - جلَّ وعلا - يصنع للإنسان، ويَجبر قصورَه العلميَّ، فيعلِّمه من شؤون دينه، وشؤون حياته الأخرى ما به قوام أمرِه، وصلاحُ حياته.

وانتفاخُ الإنسان بِهذا العلم الضَّئيل الذي يُتاح له ظاهرة مرَضيَّة تنذر بالدَّمار ï´؟ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ï´¾ [يونس: 24].

وكمال الإنسان وجمالُه في أن يبحث ويتعلَّم عِلم الدُّنيا والآخرة، وأهليَّة الإنسان للخِلافة تعظم أو تقصر بِمِقدار ما حقَّق من علم مُورَث للتَّقوى ï´؟ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ï´¾ [فاطر: 28]، أمَّا العلم الذي ينفخ الأوداجَ، ويُطغي ويُنسي، فهو عِلم قارونِيٌّ قد يُضْفي بريقًا محدودًا، وقد يكفل مكانةً مؤقَّتة، ومتاعًا قليلاً؛ ï´؟ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ï´¾ [النساء: 77].

والحديث عن رقِّ العقلانيَّة، ورقِّ العلمانية حديث يطول، والذي يهمُّني أن أشير إلى قوم يتشدَّقون بالعقل، والعلم، ويُحكِّمونهما في مثل قصَّة الإسراء والمعراج؛ يُنكرون، ويَرُدُّون، ويتندَّرون بالإسلام، وبالمسلمين الذين يردِّدون كالبَبْغاوات أساطيرَ ينبذها القرنُ العشرون، ويَرْكلها العقل، وينسفُها العلم المعبود!

ولقد قلنا: إنَّ هؤلاء موجَّهون مدفوعون بقوة نَفْخ الأعداء، وبتفاعل السُّموم التي حشيت بِها بواطنهم؛ ï´؟ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ï´¾ [النحل: 107 - 109].

إنَّ هؤلاء يهرُّون كالكلاب المسعورة خلف الإسلام وقِيَمه، ويفقدون الصَّواب كلَّما رأوا مبادئَ الإسلام تستأثر باهتمامات الشَّباب، ويفزعون كلَّما لمَحوا في وجوه ساداتِهم ما ينمُّ عن التبَرُّم من اتِّساع المدِّ الإسلامي، وهؤلاء إذْ يَنطلقون في كل اتِّجاه، ويَعْوون، يضمُّ أعناقَهم حبلٌ طويل، طرَفُه الآخَر في قبضة القوى المضادَّة للإسلام، فهم ليسوا أحرارًا، وإن زعموا أنَّهم ينطلقون من قاعدة الفكر الحُر، كيف وهم مُعبَّؤون بشحنات مستورَدة؟!

وليتَ هؤلاء المتشدِّقين بالقرن العشرين يَعُون مغزى تصنيف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - للقرون تصنيفًا تنازُليًّا، وذلك في حديث شريفٍ متَّفق عليه: ((خير أمَّتِي قرني، ثم الذين يلونَهم، ثم الذين يلونهم، ثم إنَّ بعدهم قومًا يَشهدون ولا يُستشهدون، ويَخونون ولا يُؤتَمنون، ويَنذرون ولا يُوفون، ويَحلفون ولا يُستحلفون، ويظهر فيهم السِّمَن)).

وهذه كلُّها صفات تدلُّ على الاضطراب والخِفَّة والطَّيش، ووطأة السَّمَانة التي تَعتريهم، تحطُّ بهم، وتُفقدهم الهمَّة، وتحبسهم طيَّ رغبات الجسد المليء الجسيم، وهي - بعدُ - سَمَانةٌ جَوفاء يَملؤها الرِّيح:
أُعِيذُهَا نَظَرَاتٍ مِنْكَ ثَاقِبَةً
أَنْ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ وَرَمُ
(المتنبِّي)


وأولئك المنتفخون هم صنائع الشَّيطان؛ فالشيطان منذ أضحى في الملَكوت مذمومًا مدحورًا يُتابع الزَّفرات، ويواصل النَّفخ مستهدِفًا:
1 - إطفاءَ نورِ الله.

2 - ملْءَ تجاويف بعض جنوده بزفيره؛ حتَّى يُرَوْا - بالبناء للمجهول - جِسامًا مترهِّلين:
(أ) يغرون بِمَنظرهم.

(ب) وكي يسدُّوا مسدَّ الطَّبل حين يَبدو للشَّيطان أن يدقَّ ويثير.

(جـ) وحتَّى يَغدوا أفواهًا للشَّيطان، يُفرغون ما اختُزِن - بالبناء للمجهول - في أجوافهم مِن ريحٍ على مصادر نور الله، وموارد دِينه.

(د) وهؤلاء - بِحجمهم المنتفخ - لعبة الشَّيطان، ومُتعة رجلَيه، يُدحرِجهم بينهما، ويَقذف بهم نحو أهدافه التي منها ما ذكَر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يَشهدون ولا يُستشهدون، ويحلفون ولا يستحلفون، ويخونون ولا يؤتمنون...)) إلخ؛ يَخونون الله ورسولَه، ويشهدون زورًا ضدَّ الإسلام، ويحلفون ضرارًا، وتغريرًا وتفريقًا بين المسلمين.

الفراغ الفكري والغزو الفكري:
في "صحيح مسلم" عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((لَمَّا صوَّر الله آدمَ في الجنَّة تركه ما شاء أن يَتركه، فجعل إبليسُ يطيف به؛ يَنظر ما هو، فلمَّا رآه أجوَف، عرف أنَّه خُلِق خلقًا لا يتَمالك)).

ولعلَّ الملائكة الكِرَام حين أفصحوا عن الدَّهشة والعجز عن اكتِناهِ[7] الحِكمة في اصطِفاء آدم بقولِهم: ï´؟ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ï´¾ [البقرة: 30]، لعلَّهم نظروا إلى هذا الفراغ الأجوف الذي أُقِيم عليه آدم، هذا الفراغ الذي لا يتيح لصاحبه أن يتمالك، فوق أنَّه عُرْضة لأنْ يَمتلئ بأيِّ شيء؛ بالطَّاهر والنَّجس، والنَّظيف والقذر، كالحفرة التي تَستقبل كلَّ عارض، وتبتلع أيَّ وارد.

والحقُّ أنَّ الخَواء[8] الأجوف واحة الشيطان، يَخَبُّ[9] فيه ويضع، ويَبِيض ويفرِّخ، ويتَّخِذه محطَّ رحالِه، ومُختزَنَ آصارِه وأغلالِه، والفراغ متنفَّس المستعمِرين، ومَجال الغَزْو الفكريِّ.

والمولى الذي اصطفى آدمَ خليفةً لَم يكن ليتركه نَهْب هذا الفراغ البلوع، فلا عجب إذا سدَّ الله الفراغ، وحشا التجويف بعِلم لا يعلم كنهَه غيْرُ الله: ï´؟ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ï´¾ [البقرة: 31 - 33].

الفراغ إذًا مَتاهةٌ مضِلَّة، ومَطْرح لشباك الغازين، وهوَّة تحجب الأضواء، وتخنق الأنفاس.

والفراغ هو عينُ الجاهلية التي كان العرب يُقاسونَها قبل الإسلام.

وهذا الفراغ الذي ضاعف من وحشتِه عقدةُ الأُمِّية التي أورثَت العرب ما نسمِّيه اليوم بِمركب النَّقص، استغلَّه اليهودُ أسوأ استغلال، فحشَوْه بالغثِّ، وهالوا عليه من قُماماتِهم، وأباطيلهم ما ظَنُّوه يكفل لهم الْهَيمنةَ، وسَوْقَ العرب كما تُساق الأنعام.

والقرآن الكريم وهو يواجه الغَزو الفكريَّ المعتمِدَ أساسًا على الفراغ الفكريِّ قام بعمليتَيْن مترابطتين:
1) بِنَزح ما تراكَم في الأعماق من أباطيلِ أهل الكتاب.

2) وبِشَغل ما كان - أو ما نَجم - مِن فراغٍ ببدائِلَ ذات شعاع يَشفي ويُضيء، بدائل دسمة تغذِّي، وتروي، وتَملأ الفراغ.

أمثلة هادية:
1 - تحريرًا من وطأة الفراغ بدأَتْ سورة البقرة بالإشارة إلى الكتاب بأداةٍ تُوحي برِفْعة المَنْزلة ï´؟ ذَلِكَ ï´¾، ثم جاءت كلمة ï´؟الْكِتَابُï´¾ مُحلاَّةً بـ "أل" الموحية بالاستغراق والْهَيمنة، والاستئثار - دون الكتب الأخرى المتداوَلة - بكلِّ معطيات كلمة "كتاب"، والأوصافُ التي تبِعَت الموصوفَ "الكتاب" تؤكِّد هذه المعاني، وتبيِّن سِرَّ تَميُّزِه عن كلِّ الكتب المتداوَلة، وهو انفراده بأنه ï´؟ لَا رَيْبَ فِيهِ ï´¾، وبأنَّ تذوُّقه التذوُّقَ الكامل حظُّ المؤمنين المتقين ï´؟ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ï´¾ [البقرة: 2].

وهذا الأسلوب - بكلِّ جزئياته الهادفة - فوق ما يَحمل من هدايات؛ صلصلة مُثيرة كتلك التي كانت تواكب الوحي؛ تنبيهًا، وتَهيِئةً لنفس الرَّسول، واستخلاصًا لوجدانه من كلِّ ما يشغل.

والإشادة بالكتاب على هذا النَّحو تشدُّ الانتباه، وتثير الأذهان المتعثِّرة في فراغ الأُمِّية، ومتاهات الجاهلية، فما أشبهَ هذا الأسلوب الوجيز البليغ بِحَبل الإنقاذ تُدلِّيه إلى مُتردٍّ في بئرٍ سحيقة؛ ليتحسَّس، ويتعلَّق، ويلتَمِس أسباب النَّجاة من الوهدة الخانقة! فإذا ضمَمْنا إلى هذا ما تُحْدِثه الأحرف المتقطِّعة (أ ل م) من إثارةٍ وصلصلة زائدة، عَلِمنا مدى اهتمام القرآن بانتشال الهائمين في درب الفراغ.

وتبلغ عمليَّة الانتشال مبلغَها بآيتَيِ التحدِّي: ï´؟ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ï´¾ [البقرة: 23 - 24].

وعندئذٍ تشرئِبُّ الأعناق، وتتطلَّع الأفئدة، وتُعاد - بالبناء للمجهول - الحِسابات، ويعظم الإحساس بوطأة الفَراغ، وضرورة التِماس المَخرج، والمَخْرج يتمثَّل في هذا الحبل الممدود في هذا الكتاب الذي يلوح كما تلوح المنائر لِمُبحرين فقَدوا الهدى في يَمٍّ متلاطمِ الأمواج.

2 - وفي طريق عمارة الفراغ العميق يَنْزع القرآن من التاريخ، ومن تاريخِ ما قبْلَ التاريخ؛ حتَّى تصحَّ المعلومات، وتَتِمَّ دائرة المعارف التي تُحَدِّد الموقف العلميَّ، وتكوِّن التربة التي تَحْتضن جذور الشَّجرة الطيِّبة الوارِفة الظِّلال.

تَعْرض السُّورة قصة الحوار العلويِّ، وتعكس أصوات الملأ الأعلى، وتُبْرِز نُشوزَ إبليس، وفسقَه عن أمر ربِّه؛ كي نشكر، ونقدِّر، ونَحْذر من أن نتَّخِذ إبليس وذرِّيتَه أولياء من دون الله، واقرأ في هذا مِن قوله سبحانه: ï´؟ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ... ï´¾ [البقرة: 30] إلى قوله تعالى: ï´؟ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ï´¾ [البقرة: 38].

ومن هذا تلك النَّظرات السَّديدة في المُجتمع، وتلك الدِّراسة الثَّاقبة التي تقلب الناس، وتبيِّن أنماطهم، ونفسياتِهم واتِّجاهاتهم، ï´؟ وَمِنَ النَّاسِ... ï´¾ [البقرة: 8]، ï´؟ وَمِنَ النَّاسِ... ï´¾ [البقرة: 165]، ï´؟ وَمِنَ النَّاسِ... ï´¾ [البقرة: 204]، ï´؟ وَمِنَ النَّاسِ... ï´¾ [البقرة: 207].

فالنَّاس هم رُفَقاء الطَّريق، وأبطال مَسرح الحياة، والعملة الحيويَّة، وسياسة الناس تنبني على معرفة الناس فهم المَحك، والمسلمون أخرجوا للنَّاس قاطبة، ودينهم يوفِّر لهم دراساتٍ شافية؛ حتَّى لا يُنشئوا احتكاكهم ومعاملاتِهم على فراغ.

3 - وتَسْبح السورة بالمؤمنين سَبحًا طويلاً عَبْر الكائنات والكون؛ تدريبًا على النَّظر، والاستقرار والتَّحليل، وتعميقًا لروافد الإيمان، وطردًا لِما تكدَّس من أوهامٍ ولَّدها الفراغ الرهيب:
ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ï´¾ [البقرة: 21 - 22].

ï´؟ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ï´¾ [البقرة: 29].

ï´؟ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ï´¾ [البقرة: 164].

4 - وتعرض السُّورة ما تعرض من تاريخ الأُمَم وكِفاح المرسلين؛ كي تَستقيم المعلومات التاريخيَّة سدًّا ضد الأساطير والخرافات التي تنعق في الفراغ نعيقَ البُوم في الخرابات ï´؟ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ï´¾ [البقرة: 54]، [البقرة: 67].

ï´؟ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ï´¾ [البقرة: 124]، ï´؟ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ï´¾ [البقرة: 243]، ï´؟ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ï´¾ [البقرة: 246].

5 - وأمدَّ سبحانه بشرائِعَ قويمةٍ تَملأ الفراغ، وتضبط الحياة، وتشدُّ أواصر الأسرة، وتَحْكم العلاقات الاجتماعيَّة بشرائع تناولَت الأحوال الشخصيَّة؛ مِن نكاحٍ، وطلاق، وإرضاع، ونفَقة... إلخ، والأمراض الاجتماعية؛ من خمرٍ، وميسر، وعدوان... إلخ، والأحوال الاقتصاديَّة؛ من ديون، ورهن، وربا، وصدقات، وزكاة... إلخ، والعلل النَّفسية من جزَع، وجُبْن، ونَهَم، وأثَرة، وكتمانٍ للحقِّ... إلخ، والحيل النفسية التي تدفع إلى إعلاء الصَّوت بالأمر والنهي، دون أن نأتَمِر وننتهي: ï´؟ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ï´¾ [البقرة: 44].

إلى غير ذلك من المعارف الدسمة التي تسدُّ الخَصاصة، وتملأ خواءَ العقيدة، والفِكر، والوجدان.


[1] الإسار: القَيد، والنِّير: خشبةٌ تُوضع على عنق الثَّور، فتَحُدُّ حركته.

[2] تتخبَّط.

[3] تَنظر وتَطْلب.

[4] جِلْد.

[5] تَزِيدها وتنمِّيها.

[6] عقَلَ الرَّجلُ البعيرَ: إذا شدَّ ساقَه إلى ذراعه.

[7] الاكتِناه: بلوغ الكُنْه، والكُنه: جوهر الشَّيء، ووَقته، وغايته.

[8] الخواء: الفراغ.

[9] يغشُّ.





رد مع اقتباس
  #5  
قديم 21-06-2015, 12:57 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

كم مرة تختم القرآن في رمضان؟
ياسر مصطفى يوسف


القرآن شعار شهر رمضان، والعَلامة البارزة فيه، وهو العمل العظيم الذي لا يكادُ يَخلو منه جدولُ أعمالِ أيِّ امرئ في هذا الشَّهر العظيم، وإنَّ من نافلة القول أنْ نؤكد على أهمية قراءة القرآن عمومًا، وفي هذا الشهر خصوصًا في ضوء قول الله - عزَّ وجلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29 - 30]، وقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اقرؤوا القرآنَ، فإنه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابه))؛ (رواه مسلم عن أبي أمامة، برقم: 1910).

ولقد كان السَّلف الصَّالح - رضوان الله عليهم - يَحتفلون بهذا الكتاب العظيم في هذا الشَّهر العظيم وفي غيره أيَّما احتفال، ويفسحون ويُخصِّصون له في بياضِ نَهارهم وسواد ليلهم المساحاتِ الشاسعةَ الواسعة، حتَّى كانوا يَختمون فيه الختمات الكثيرة ذوات العدد.
وقد نقل لنا الإمامُ النَّووي في كتابه "التبيان في آداب حملة القرآن" صورًا مُدهشة من عدد الختمات التي كان السَّلف يُحصيها في قراءته للقرآن، فقال - رحمه الله -: "وكان السَّلف - رضي الله عنهم - لهم عاداتٌ مُختلفة في قدر ما يَختمون فيه، فروى ابن أبي داود عن بعضِ السَّلف - رضي الله عنهم - أنَّهم كانوا يَختمون في كل شهرين ختمة واحدة، وعن بعضهم في كل شهر ختمة، وعن بعضهم في كل عشر ليالٍ ختمة، وعن بعضهم في كل ثماني ليالٍ، وعن الأكثرين في كل سبع ليالٍ، وعن بعضهم في كل ست، وعن بعضهم في كل خمس، وعن بعضهم في كل أربع، وعن كثيرين في كل ثلاث، وعن بعضهم في كل ليلتين، وختم بعضهم في كل يوم وليلة ختمة، ومنهم من كان يختم في كل يوم وليلة ختمتين، ومنهم من كان يختم ثلاثًا، وختم بعضهم ثماني ختمات: أربعًا بالليل، وأربعًا بالنهار".
وقد ساق لنا الإمام النَّووي في هذا الباب أخبارًا عجيبة، إضافةً إلى ما نقلنا عنه؛ مما يَجعل الواحد منا يقف مشدوهًا، ويكلم نفسه قائلاً: ما هذه السُّرعة؟ وأيُّ نوع من الرجال أولئك؟ وما نوع قراءتهم التي تَجعل الواحد منهم يَختم كلَّ هذه الختمات في ساعات مَعدودات لا تتجاوز أصابعَ الكفِّ الواحدة؟ ولعل الجوابَ: إنَّ الله - تعالى - قد بارك لأولئك الأفذاذ في أوقاتهم، كما يطوي المكان لمن يشاء من عباده، حتَّى فعلوا ما فعلوا، ولو أنَّنا أَجَلْنَا النَّظرَ في مؤلفاتهم التي أخرجوها للناس، لوجدنا أنفسنا عاجزين عن قراءتها، بَلْهَ نسخها وكتابتها، فساعتهم تعدل يومنا، ويومهم شهرنا، وشهرهم سنتنا، وعمرهم أضعاف أعمارنا.
واليومَ لعل المرء وهو يسمع هذه الأخبار عن سلفنا الصالح تنهض به همّته، وينشط بدنه لقراءة القرآن، فيُحاول أنْ يصنعَ كالذي صنعوا، فيَجْتهِد أنْ يَختم عدة ختمات في رمضان وغيره، فيقع في المحظور؛ ظنًّا منه أنَّ ختم القرآن مطلوب لذاته فحسب، ومقصود بعينه فقط، فيقرأ القرآنَ قراءة سريعة ربَّما أتى على بعض الحروف فأكلها، وبَخَسَ أحكامَ التجويد حقها، وعطل العقل والقلبَ عن فهم معاني ما يَقرأ ولطائف ما يَتلو.
والله - عزَّ وجلَّ - أنزل القرآن لتدبره؛ {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، لا للهذِّ فيه والإسراع بقراءته، ولأنْ تقرأ آيةً أو حزبًا أو جزءًا أو سورة بتدبر وتأمُّل وتفكر - لَخيرٌ ألفَ مَرَّة من أنْ تَختم القرآن كاملاً دون أنْ تعي مما تقرأ شيئًا.
ولقد ورد عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّه أخذ في تحصيل سورة واحدة - هي سورة البقرة - ثماني سنوات يَتعلمها، لكن كيف كان يتعلمها أيَحفظها، والطفل من أطفالنا اليوم ربَّما حفظها في شهر أو شهرين أو ثلاثة؟ أيترنم بها؟ لا، بل كان يحفظها ويتعلم أحكامَها ومعانيها، وكل ما يتعلق بها، فلذلك كانت تأخذُ منه كل هذا الوقت والجهد، ألا فلنعقد العزم، ولنقتدِ بهم في هذا؛ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، ولنأتسِ بهم في قراءتنا لكتاب ربنا كمًّا وكيفًا.

والله الهادي إلى سواء السبيل.
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 22-06-2015, 12:52 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (28)
بخاري أحمد عبده



﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].
حس اليقين:
وقفنا طويلاً - وسنقف - نستنشِق عبير الحُرِّيةِ المتهادِيَ حول آيات الصيام شذًى سخيًّا، والهدايات التي تُصدرها الآياتُ غزيرة كثيرة، غير أنَّ رؤية الإنسان قد تختلف من حالة إلى حالة، والآية من القرآن تتفتَّح لك وفق ظروفِك؛ ترى منها في ساعات العسرة غيرَ ما ترى في ساعات اليسرة، وتنشد منها في أيام الشدَّة غير ما تنشد في أيام الرخاء.
والنَّفس المكلومة قد تصفو وتَرِقُّ، فتحس - بإذْن ربِّها - حسَّ اليقين الذي يشفُّ عن نفسٍ مكلومة، انطلق يعقوبُ - عليه السَّلام - يصيح في بنيه، وقد جاؤوه عشاءً يَبكون: ﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18].
وحين تكرَّرت المأساة أسعفَتْه البصيرة، وأدركه حسُّ اليقين، وكان ما حكى القرآن: ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 83 - 87].
هذا الإدراك الذي أسميناه حسَّ اليقين يسمَّى أحيانًا بالحاسة السادسة، ولعلَّه الألمعيَّة التي أشاد بِها العرب، وأجَلُّوا أصحابَها أيَّما إجلال، قال شاعرُهم يرثي ألمعيًّا رحل:
أَيَّتُهَا العَيْنُ أَجْمِلِي جَزَعَا
إِنَّ الَّذِي تَحْذَرِينَ قَدْ وَقَعَا

إِنَّ الَّذِي جَمَعَ السَّمَاحَةَ وَالنْ
نَجْدَةَ وَالْحَزْمَ وَالتُّقَى جُمَعَا

الأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكِ الظْ
ظَنَّ كَأَنْ قَدْ رَأَى، وَقَدْ سَمِعَا

أَوْدَى، وَمَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِذْ
أَوْدَى لِمَنْ قَدْ يُحَاوِلُ البِدَعَا


ولعلَّها فراسة المؤمن التي تعتمد على سداد البصَر، وجلاء البصيرة.
وقد حبا اللهُ يعقوب - عليه السَّلام - بِحظِّه من كلِّ هذه المعاني التي جلَّتْها المصيبة، حتَّى إنه - بهذا الحسِّ - يتشمَّم - على البعد - ريح يوسف، وفق ما جاء في القرآن الكريم: ﴿ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 93 - 96].
ونَحن بِنَفسٍ نكبت في حرِّيتها، مكلومةٍ - نجوس خلال الآيات نَنْشد في رياضها أرواحَ الحرِّية، وعبير الجنَّة المفقود الذي يسري خلال آياتٍ تَصْدع هذه الأُمَّة التي استمرَأَت الرِّقَّ، برغم نداءات الحرِّية التي ترتفع مِن مآذِن القُرآن الكريم.
عمارة الفراغ أيضًا:
تبيَّن لنا أنَّ الفراغ الأجوف كالأرض الموَات تكون لِمَن سبق، وتنبت كلَّ ما يبذر فيها، بل كالحفرة التي تمتصُّ كلَّ ما أُلقي فيها، أو سال نَحوها من قذر، أو وحل، أو غير ذلك، ومن هنا كان اهتمام الإسلام بملء الفراغ الذي يتمُّ جنبًا إلى جنب مع عمليات اجتثاث الطُّفيليات، ونزح المخلَّفات، وتطهير القيعان.
وقد عِشْنا مع الهدايات التي تُواكِب آيات الصِّيام وهي تجلو الأوعية، وتخصب التُّربة حتَّى تغدو صالحة، متفاعلةً مع الحقائق القرآنيَّة التي تخترق السُّدود، وتفرج عن نزلاء سجون الفراغ.
وظنِّي أن القرآن وهو يَصْدع الجاهلين بِمثل قوله: ﴿ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [يونس: 68]، ﴿ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [آل عمران: 66]، ﴿ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ﴾ [الأنعام: 148]، ﴿ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 143]، ﴿ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ [الزخرف: 20]، وبِمِثل قوله: ﴿ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ﴾ [القلم: 37]، بل ظني أنَّ القرآن بكلِّ آياته التي فيها من مادة (ع ل م)، أو مِن مادة (ك ت ب) - إنَّما كان يشجب الفراغَ، ويَسحق[1] صنيع الذين ينطلقون من فراغ، ويَحْدوهم إلى الموازنة الصَّحيحة بين الفارغ والمليء، بين الجاهليَّة والإسلام.
وواكبنا آياتٍ تَملأ خواء العقيدة، وخواءَ الوجدان وخواء القِيَم، وخواء الفِكر، وآياتٍ تربِّي بالتشريع الذين يغطِّي كل جوانب حياة المسلم[2]؛ حتَّى لا يكون فيها انكشاف، أو انفتاح يغري الهوامَ المتلصصة.
وشعار الإسلام: ((بلِّغوا عنِّي؛ فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع، ورُبَّ حامل فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه))، والإسلام - لِهذا - يأمر بإشاعة البَيِّنات والْهُدى، ويتهدَّد الذين يكتمون بالويلِ والثُّبور؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 159 - 160].
ولخطورة أمر الكتمان، ووخامة عاقبته في الدُّنيا والآخرة؛ شدَّد القرآنُ الكريم على الكاتِمين في آياتٍ مُختلفة تحتِّم جميعها متضامنة بثَّ العلوم، ونشر المعارف، وتُجسِّم مسؤولية الكاتِمين طمعًا في مقابل مادِّي أو معنوي.
1- نَعى[3] القرآن على الكاتِمين كتمانَهم ما شهدوا من حقٍّ أو عِلم، فقال: ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 42]، وقال: ﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [البقرة: 283].
2- وذكر أنَّ البيان عهْدُ الله الموثَّق على الأوَّلين والآخِرين: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].
3- وإظهارًا لشناعة الأمر؛ أخرجَه الله في صورةٍ مُجسَّمة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ﴾ [البقرة: 174].
والهدف أن ينتشر النُّور، ويتدفَّق؛ ليملأ كل فراغ، ويسدَّ كل خصاصة.
جمود التقليد:
التقليد يشي بالفراغ، ويورث الجُمود، والجمود صمَمٌ، وعمًى، وشلَل، والإسلام كما يقاسي من الجاحد يقاسي كذلك من الجامد.
والقرآن يهتمُّ بأن يحرِّكك حتى يحرِّرك، وكل تلك الأمواه[4] النَّقية الغنيَّة التي يَملأ بها القرآنُ الفراغَ، تَجرف - فيما تجرف - التقليدَ الأعمى ورواسِبَه، وخبثَه، وكسرًا لحواجز التقليد نعى القرآنُ كثيرًا على المقلِّدين، وأنكر مواقفهم، ورفض منطقهم القائم على: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23]، ﴿ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 53]، ﴿ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [الشعراء: 74]، وتلَقِّي تراث الآباء بالتقديس بلا نظر ولا إعمال فكر، بهيميَّة لا تليق بالإنسان الحُر، فلا عجب إذا حُشِر المقلِّدون مع سائر الفئات التي انحطَّت إلى درك الأنعام: ﴿ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ * إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾ [الصافات: 68 - 70].
والقرآن بُغْيةَ تحطيم هذه الأغلال؛ يحرِّك فيهم قُوَى الإدراك والفكر بأسلوبٍ حكيم ينطوي على سخرية لاذعةٍ تحمل على النَّظر والتفكير: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104].
وسورتُنا - البقرة - التي تهتمُّ بتأصيل جذور الحُرِّية، وإشاعة نورها في مُجتمعات المسلمين، لَم تغفل هذا الجانب، بل واصلَت الطَّرْق على هذا النِّير حتى يتفتَّت، ويَسقط.
تقرأ هذا في الآيات التي تَعرض مشاهد المتبوعين والأتباع، وهم يتحاجون في النار: ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 166 - 167].
وفي الآية التي تُعُجِّب (بضم التاء وتشديد الجيم المكسورة) مِمَّن يُهْرَعون أنعامًا خلف أنعام، مُلْفِين كلَّ القوى المدركة التي أنعم المولى عليهم بها: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 170 - 171].
بل يتجاوز القرآنُ قضيَّة التقليد إلى التقاليد الموروثة البالية التي يتَحاكمون إليها، ويقدرون بها والتي تتجلَّى في قالة الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 247].
وهذه النظرة التقليديَّة انتقلت (بالعَدوى) من يهود إلى العرب، فقالوا: ﴿ لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 31 - 35].
طَرقات، بل طَلقات تصيب عَرُى الأغلال التي كانت تكبِّلهم فتعوق نُموَّهم وتَحرُّرهم وتطوُّرَهم، فإذا انحلَّت عُرَى هذه الأصفاد، وسقطت عروةً من بعد عروة تَخفَّف المسلم، وانتصب عملاقًا، وتحرَّك وقد وضع آصارَ الشَّهوة والمادة، وتخلَّص من ضغوط التقليد، والتقاليد.
والإسلام بكلِّ تَعاليمه يَخلق الرُّوح الاستقلاليَّة في المسلم؛ ((لا تكونوا إِمَّعة، تقولون: إن أحسَن الناس أحسَنَّا، وإن ظلَموا ظلَمْنا، ولكن وَطِّنوا أنفُسَكم؛ إنْ أحسنَ الناسُ أن تُحسِنوا، وإن أساؤوا فلا تَظلموا))[5]؛ وهذه الرُّوح الاستقلالية التي يُذْكِيها الإسلام هي بداية فكِّ الارتباط بين منهجَي الحقِّ والباطل.
غزو الألباب:
والقرآن - وهو يزيل الأغشية، ويمزِّق الشِّباك، ويُحرِّر الأغرار المكبَّلين - اهتمَّ اهتمامًا بالغًا بحملات الغزو الفكري، وعمل على تنقية الألباب[6] مما غَشِيَها، أو تراكم فيها من سُموم الأفاعي، وقيء الشَّياطين، ولا نزاع في أنَّ الأجواف المفعمة بقيء الشياطين مَرتعٌ خصْب للأفاعي، ومسرح جيِّد لسمومها.
والشيطان الفكريُّ - من أجل هذا - الذي يوجّه لاجتياح نور الحقِّ، واحتلال القواعد التي يُمكن أن يحطَّ فوقها الحق، أو - على الأقل - لإطفاء ما تيسَّر من أضوائه، ومزاحَمتِه في قواعده.
والشيطان - من أجل هذا - يفرّغ تفريغًا، ويجوّف تجويفًا، ويغيِّر المفاهيم، ويزيِّف تزييفًا، وهو الذي يسدل أستار الغفلة، ويَجِدُّ كي يُلهي ويُنسي، ويبلي العزيمة: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115].
ولقد مارس الشيطان هذه اللُّعبة - أوَّلَ ما مارس - مع آدم وحواء؛ وسوس لهما، وقاسَمَهما، ودلاَّهُما بغرور، ومَنَّاهما، وأطمعَهما في الملكيَّة، والخلود، ولم يزَل بِهما حتَّى أزلَّهما، وبدت لهما سوءاتُهما وفق ما جاء في آياتٍ جَمَّة: ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 19 - 22]... إلخ.
وترديد هذه القصَّة، وتكرُّرها في مواطن عدَّة، بأساليب متكاملة يدلُّ على شدَّة اهتمام الإسلام بالغزو الفكري الخفي، واتِّقاء هذا الغزو، وابتغاء أن يطيش سهم الشَّيطان، ذكر القرآن أمر الشيطان، وكيدَه، وعداوته ووسوسته، وتغريره، وتزيينه، وعدَّد إمكاناتِه مرَّاتٍ، ومرات.
والشيطان لا يلعب هذه اللعبة وحده، بل ينطلق ومعه أولياؤه وجنودُه: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا... ﴾ [الأنعام: 128].
وأولياء الشيطان يردعونه، ويسدون مسدَّه حين يُسلسَل في رمضان: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا... ﴾ [الأنعام: 112].
والحُلَفاء من شياطين الإنس والجنِّ يهتَمُّون - بالدَّرجة الأولى - بالغزو الفكري، وما يتطلَّب من تعتيمٍ، وتخييل، وتَمويه، وتغرير، وتزييف حتَّى يَسُود الباطل، أو على الأقل يلتبس الحقُّ بالباطل.
وأهل الكتاب - بِما حرَّفوا، وبدَّلوا، وابتدعوا، وزيَّفوا - هم عُدَّة الشيطان، وأذْرُعه اليسرى[7] في هذا المَجال الوبيء، والمولى - جلَّ وعلا - يُحذِّر مِن تَحالُف القُوَّتين ضد محتوى الفكر المسلم؛ ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]، والذي جاء من العلم حَرِيٌّ أن يَملأ الفراغ، ويوقف مدَّ الأهواء والإغواء.
ويكشف سبحانه الدَّوافع المُحرِّكة وراء نزعة العدوان على محتوى الفِكر: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109].
ويزدري القرآنُ الكريم دعواهم، وينبذها نبذًا بلا نقاش؛ إيحاءً بتفاهتها وسقوطها: ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 111 - 112].
وإرادة التَّعتيم - حتى نبتلي بالتخبُّط، ونصاب بالخبال - تعيها حين تتدبَّر الآيةَ الكريمة التي تكاد تكون نصًّا في مُحاولات الغزو الفكريِّ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ... ﴾ [آل عمران: 118][8].


[1] يبعد.
[2] حياة المسلم حياة موصوله تمتد حتى الصراط المستقيم.
[3] شهر بهم تشهيرًا وأظهر عيوبهم.
[4] المياه.
[5] روي عن ابن مسعود موقوفًا، ورواه التِّرمذي عن حذيفة بإسنادٍ فيه ضعف.
[6] الألباب جمع لُبٍّ، واللبُّ: العقل والوجدان.
[7] ظَنِّي أن الشيطان كلتا يديه شِمال.
[8] لنا - إن شاء الله - وقفةٌ مع هذه الآية، ومع الغزو الفِكري، ولكن في مقام آخَر.
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 25-06-2015, 02:03 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

عرضُ القرآن في ليالي رمضان
الشيخ محمد صفوت نور الدين



عن ابن عباس[1] - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلِّ ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجود من الريح المرسلة؛ رواه البخاري ومسلم.
في الحديث الشريف: أن الرفقة الصالحة في الزمان الفاضل، عند هدوء شواغل الدنيا، وطيب الزاد (بمائدة القرآن الكريم: يطيب الخلق، وتعلو الهمة، وتهون أعراض الدنيا.
فالحديث حثَّ المسلم أن يتخذ الأيام الفاضلة كرمضان وذي الحجة، ليصحب فيها أهل الفضل على الزاد الطيب في العلم النافع من القرآن والسنة، فيقوى العبد في جهاد أعداء الإسلام، ولذا كان شهر رمضان شهر الانتصارات الباهرة للمسلمين على مر العصور، وكذلك هو شهر الجود، والعطاء، والألفة، والإخاء، والمحبة، وزوال البغضاء، وشهر العبادة والطاعة.
قال النووي: من فوائد الحديث: الحثُّ على الجود في كلِّ وقت، والزيادة في رمضان عند الاجتماع بأهل الصلاح، ومنه: زيارة الصلحاء وأهل الخير، وتكرار ذلك، إذا كان المزور لا يكرهه، ومنها: استحباب الاستكثار من قراءة القرآن في رمضان، وكونها أفضل من سائر الأذكار.
قال ابن حجر: وفيه إشارة أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان، فكان يعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفِّي فيه، عارضه به مرتين.
وفيه: أن فضل الزمان إنما يحصل بزيادة العبادة.
وفيه: استحباب تكثير العبادة في آخر العمر.
وفيه: مذاكرة الفاضل بالعلم، وإن كان لا يخفى عليه.
وفيه: فضل الليل في رمضان عن النهار في التلاوة، لأن الليل يخلو من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية.

من صور جود النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم:
قال جابر: "ما سُئل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - شيئًا قطُّ، فقال: لا"؛ متفق عليه.

وعن أنس: أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يُسأل شيئًا على الإسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل، فأمر له بشاءٍ[2] كثير بين جبلين مِن شاء الصدقة، قال: فرجع إلى قومه، فقال يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة؛ رواه مسلم.
وعن أنس: أن رجلاً سأل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم، فأعطاه غنمًا بين جبلين، فأتى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاءً، ما يخاف الفاقة، فإن كان الرجل ليجيء إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما يريد إلا الدنيا، فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه وأعز عليه من الدنيا وما فيها؛ رواه أحمد.
فكان في عطائه - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتألَّف القلوب في الإسلام، كما فعل يوم حنين، حيث قسم الإبل الكثيرة، والشاء، والذهب، والفضة في المؤلفة، ولم يعط الأنصار وجمهور المهاجرين شيئًا، بل أنفقه فيمن كان يحب أن يتألَّفهم على الإسلام، وترك أولئك لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، ثم قال لمن سأل من الأنصار: ((أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تحوزونه إلى رحالكم؟))، قالوا: رضينا برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقال أنس: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجود الناس، وأشجع الناس.
وكيف لا يكون كذلك، وهو رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - المحمول على أكمل الصفات، الواثق بما في يدي الله - عزَّ وجلَّ - الذي أنزل في كتابه العزيز: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:10]، وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] ولقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - لبلال: ((أنفق بلالُ ولا تخش من ذي العرش إقلالاً))، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلاَّ وملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا))، وقال لعائشة: ((لا توعي فيوعي الله عليك، ولا توكي فيوكي الله عليك)).
قال ابن الأثير: أي: لا تجمعي وتشحي بالنفقة، فيشح عليك وتُجازَيْ بتضييق في رزقك، ولا توكي؛ أي: لا تدخري وتشدي ما عندك، وتمنعي ما في يدك، فتنقطع مادة الرزق عنك.
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يقول الله - تعالى -: ابن آدم، أَنفق أُنفق عليك))، فكيف لا يكون أكرم الناس وأشجعهم، وهو المتوكل الذي لا أعظم من توكله، الواثق برزق الله ونصره، المستعين بربه في جميع أمره؟! ولقد كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - ملجأ الفقراء والأرامل والأيتام والضعفاء والمساكين.
دوافع الشح ودوافع الجود:
الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الله قدر العطاء تقديرًا، وأن الله - سبحانه - لا يترك عبدًا بغير رزق ساعة من نهار أو ليل - يزيل عن العبد شحه ويظهر جوده، وإيمان العبد بأنه لا ينفق نفقة إلا وجدها عند الله يوم القيامة؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، ذلك يُزيل شحَّه ويزيد جوده.

وإيمان العبد بأهوال يوم القيامة، وأن الله - سبحانه - يدفعها بالصالحات من الأعمال: ((عبدي استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: كيف أطعمك وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول: استطعمك عبدي فلان، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي))، فإذا علم العبد أن النفقة في رمضان يضاعف فيها الأجر، ويزاد فيها الثواب، سارع بالإنفاق في سبيل الله في رمضان، كل ذلك يدفع الشح ويظهر الجود.
فإذا صح اعتقاد العبد في ربِّه، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، زال شُحُّه، وظهر جوده.
فإذا حسنت رفقته أعين على ذكره في ليله ونهاره، عند ذلك تهون الدنيا عليه، ويؤثر الحياة الباقية على الفانية، فيزداد جوده وعطاؤه[3].
ولذا فإن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا دخل رمضان، ورافق جبريل، ورتَّل القرآن، كان في عطائه كالريح المرسلة، وفى التشبيه لعطاء الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالريح المرسلة - أى: بالخير - من المناسبة البديعة، ولذا، فإن الله - سبحانه - يقول في سورة الروم: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ * اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 46-50].
وهكذا يذكرنا الله بأنه أرسل الرياح، وأرسل الرسل، وجعل في كلٍّ حياة، وجعل في الرياح بشرى، والرسل جاؤوا مبشرين، والماء الذي تسوقه الرياح يحيي موات الأرض، والرسل يحيون موات القلوب، وينصر الله المؤمنين، فإذا جاء رمضان شهر القرآن، جمع للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وللمؤمنين من بعده بين العطاءين: القرآن عطاء الهداية، والصدقة والإنفاق عطاء المال، فيحيي به الله موات القلوب، وموات الأبدان، ويؤلف القلوب على الإسلام.
يقول ابن حجر: يعني: أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع، وبجوده كما تعمُّ الريح المرسلة جميع ما تهبُّ عليه.

عرض القرآن:
في حديث فاطمة - عليها السلام -: أسرَّ إلىَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كلَّ سنة، وأنه عارضني العامَ مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي.

وفى حديث أبى هريرة: كان يعرض على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف في كل عام عشرًا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه.
ومن ذلك نفهم أن الله قد أحكم كتابه إحكامًا، فلم تنته حياة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى عارضه بالقرآن ودارسه القرآن، فكان القرآن بسوره، وفواصله، وترتيبه، وتلاوته، كله وحي من عند الله – سبحانه - نصًّا، وتلاوةً، وترتيبًا، وقد حضر العرض الأخير زيد بن ثابت، وقيل: إن ابن مسعود حضرها كذلك، فلله الحمد نزَّل القرآن، وحفظه، فحفظ به الأمة، فدين في عنق الأمة مدارسة القرآن، وأن تكون أكثر المدارسة له في شهر رمضان.

ــــــــــــــــــــــ

[1]راوي الحديث هو عبدالله بن العباس بن عبد المطلب، وهو ابن عم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبوه العباس بن عبد المطلب، هو العم الذي عاش على الإسلام بعد وفاة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعبدالله بن عباس حبر الأمة، وفقيه العصر، وإمام التفسير، وكنيته أبو العباس، ولد بشعب بني هاشم، قبل الهجرة بثلاث سنوات، صحب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - نحوًا من ثلاثين شهرًا، وحدَّث عنه أحاديث كثيرة، وعن عمر، وعلي، ومعاذ، والعباس، وعبدالرحمن بن عوف، وأبى سفيان، وأبى ذر، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وخلق كثيرين من الصحابة، وقرأ القرآن على أُبي وزيد، وقرأ عليه مجاهد، وسعيد بن جبير، وطائفة من أهل القرآن، وروى عنه ابنه علي، وابن أخيه عبدالله، ومواليه: عكرمة، ومقسم، وكريب، وطاوس، وسواهم كثير، وكان وسيمًا، جميلاً، مديد القامة، مهيبًا، كامل العقل، ذكي النفس، من رجال الكمال، هاجر مع أبيه سنة الفتح، وقد أسلم قبل ذلك، فقد صحَّ عنه أنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين، أنا من الولدان، وأمي من النساء، قال ابن عباس: مسح النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأسي ودعا لي بالحكمة، مات رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وابن عباس له ثلاث عشرة سنة، غزا ابن عباس إفريقية مع ابن أبي السرح، وروى عنه من أهل مصر خمس عشرة نفسًا، ودعا له النبى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللهم علِّمه التأويل وفقِّهه في الدين))، ومناقبة كثيرة وعلمه غزير، فليراجع في مواضعه من كتب الرجال.
[2] الشاء: الغنم جمع شاة.
[3] هذا هو الدواء لكل من شكا من نفسه شحًّا أوشكا انصرافًا وإعراضًا.
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 26-06-2015, 02:17 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (31)
بخاري أحمد عبده

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].
عَوْد على بَدْء:
في رحلتنا البصيرة مع نفحات آيات الصيام راعتْنا "مفاعلات" التحرير تشعُّ خلال الآيات، تُبْطِل رِقَّ الهوى، وتَنقض أحابيل الشيطان، ثم تنقَضُّ - بفتح القاف وتشديد الضاد - على مرابض الباطل؛ تدمَغ الفِرَى - بكسر الفاء، وفتْح الراء، جمْع فِرْيَة - وتُوهِي العُرى - جمع عُروة - وتردُّ كيْد الكائدين.
ومفاعلات التحرير التي تنعش خلال الآيات تعتق الرِّقاب العانية - الأسيرة - وتحرِّك قُوَى الإيمان الكامنة، وتُبارِك الأنفس؛ حتى تُحدِّد الوجْهة، وتُسلم الوجْه المبارك إلى الله وحْده، فلا تستفزُّها رُقَى - بضم الراء وفتْح القاف، جمع رُقْية بضم الراء وإسكان القاف - الشيطان، ولا يستأثِرُ بها تراثُ الآباء، أو تقاليد البيئة؛ ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 21 - 22].
وعلى هدى تلك المفاعلات، أبصرنا أقنعة الزَّيف تتطايَر فتشي بالخُبثاء الماكرين، وتَفضَح تدابير المجرمين المتربِّصين.
وفي رحلتنا تلك واكبْنا - بعقيدة مَجلوَّة، وقلبٍ مؤمن - أرواحَ الحريَّة تُرفرف عبر كلِّ الهدايات القرآنيَّة، وتستنقذ من ظُلمة الطين، وأسْر المحسوس، ومن ذُلِّ الأنداد المتدافعة المتشاكسة، التي لا تفتأ تغرُّ وتُغري الإنسان؛ حتى يذلَّ وينحني، ثم يمضي مُكِبًّا على وجْهه، حَشْو أديمه تُرَّهات وخدَعٌ تتفاعل مع مركب النقْص الذي أحْكَم عُقدته ذُلُّ السنين، يمضي يَنْعِق نعيقَ البُهْم، ويَنِبُّ نبيبَ التيوس، ويهرُّ هريرَ الكلاب.
ورأينا أُمَّة احتواها الفراغ، فغَدَت تختنق، وتتخبَّط صمَّاءَ عمياءَ، نُهْبَ حملات غزْوٍ فكري وغير فكري، والقرآن يتداركهم فيُوسع الخِناق، ويملأ الفراغ، ويُطلق من حقِّه قذائفَ تُهشِّم الأغلال، فتَفكُّ الرِّقاب.
وأرواح الحرية الخفَّاقة لا يَطْعَمها ولا يَجد شَذاها، إلاَّ مَن رهَفَتْ مشاعره، وسَلِمتْ له حواسُّه، فغدَت تستقبل وتُرسل ما تستقبل، تغزو به كلَّ قُوى الإدراك التي تنشط؛ كي تَعِي وتتأثَّر، وتمثِّل وتختزن.
أما المبتلون ذَوُو الحواسِّ المتبلِّدة، فأنَّى لهم أن يُحِسُّوا؟
ولقد ابْتُلِيت أُمَّتنا بذَوِي الحسِّ الصفيق المتبلِّد، الذي يُورث الجمود، ويُنذر بالعَتَه والعَمَه.
والعَمَه نعني به: عمى الفؤاد؛ ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
والعَمَه بهذا المفهوم: مظهر من مظاهر غضب الله ومَقْته، وازدرائه للضالِّين ذَوِي الحسِّ الصفيق؛ ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة: 15].
وهو - بهذا المفهوم - دليلُ تخلِّي المولَى عن العامهين، وأنه - سبحانه - وكَلَهم إلى أنفسهم الساقطة المتهالكة على الشِّعاب المنحرفة المضلة؛ ﴿ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [يونس: 11].
ومُهْوَى العَمَه؛ مشحون بالعَفن، مُتْرَع بأجواء الغفلة، مُنْذَر بالأخْذ الوشيك؛ ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [الحجر: 72 - 75].
والعَتَه نعني به: الغفلة التي تُسلم إلى السكرة، والتي تُعَطِّل أو تَسْلُب قُوَى الحواس والإدراك، فيُمسي الغافلون أنعامًا، بل أضل؛ ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].
وأولئك وهؤلاء استبانتْ سبيلُهم، وتحدَّد مصيرهم، فلا ينبغي أن يُدْعَوا - بالبناء للمجهول - لرِيَادة، أو يُمَكَّنوا من قيادة، أو يُتْرَكوا في موقع تأثيرٍ؛ ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
وأولئك وهؤلاء منهم الجاحدون المخْلِدون إلى الأرض، المتشدِّقون بالماديَّة، والعلمانية، المتخذون دينَ الله هُزوًا ولعبًا، المحْتَذُون - حَذْوَ النَّعل بالنَّعل - خُطى الكافرين الموتورين؛ شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراع.
والكافرون الموتورون نُهينا عن أن نتَّخذَهم أولياءَ، أو وليجةً، أو بِطَانةً؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 57].
وهذه الآية التي تُحرِّم الموالاة، وتُجَرِّم - بضم التاء، وفتْح الجيم، وكسر الرَّاء المشددة - الموالين، دون أن تتعرَّض لأكثر من هذا، الآية تُشرع لحالة من حالات المسلمين، قد لا تكتمل فيها القُدرة على ردْعِ المستهزئين، أمَّا إذا كان الإسلام في ذِروة القوَّة والقدرة، فإن دستورَهم ما جاء في آية التوبة: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29].
وتنفيذ أمْر القطعية والمفاصلة حسبما ورَد في آية المائدة جِهادٌ، ولكنَّه جهادُ المستضعفين الملتبسين بحالة من حالات الضَّعف.
وأستطرد[1]، فأقول: إن القوى المناوئة للإسلام تَعْتريها في مواجهتها للمسلمين حالات:
1- حالة الهيبة البالغة؛ ﴿ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 13]، وفيها يحذرون أن تبدرَ منهم بادرة تشي بما في قلوبهم، فلا عجب إذا اتخذوا اللسان غِطاءً لِمَا يعتمل في الجَنان فأثنوا وهنَّؤوا، ونَمَّقوا الكلام، وداهنوا وأبدوا المودَّة، وتشدَّقوا واعتذروا عن مواقف الشُّبهات، وبرَّروا… إلخ، ولعل هذا إيحاءُ قول الله: ﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [آل عمران: 167]، وقوله: ﴿ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [الفتح: 11]، ﴿ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ ﴾ [التوبة: 8]، ﴿ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [الحشر: 13].
2- حالة الفرصة الآمنة، وهذه تَلْمسها وأنت تقرأ قوله - سبحانه -: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14]، وقوله - سبحانه -: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 76].
3- حالة انكشاف الغُمَّة وإفلات اللسان؛ ﴿ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ﴾ [الأحزاب: 19].
4- حالة الظهور والتمكُّن، فلا مودَّة، ولا مُجاملة، ولا مسالَمة، بل عُدوان وإساءة، وطِعان؛ ﴿ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ﴾ [الممتحنة: 2].
وواضح أن كلَّ حالة من هذه الحالات ردُّ فعلٍ بليغٍ ينمُّ عن مكانة المسلمين ومستواهم العسكري، والمستوى الذي يُرضي الله هو مستوى الظهور والتمكُّن، مستوى القمة والذُّرَى، أما مستوى الحُفَر والقِيعان والسفوح، فهو مسارح الدِّيدان، ومكامِن الحشرات.
والمسلم في أدنى حالاته، لا ينبغي أن يَهبط عن المستوى الذي يُمْكنه فيه أن يتَّخذ القرارَ ويَصمد، أمَّا أنْ يُحْشر إلى الله هشيمًا تَذروه الرياح، فذلك من الخُسران المبين.
فإذا كان ذلك هو موقف الإسلام ممن اتَّخذ آيات الله هُزوًا من غير المسلمين، فماذا عسى أن يكون موقفه من مسلمين يتطاولون على الشريعة، ويستهزئون بأحكامها، ويرتضون أن يُصبحوا - بألسنتهم وأقلامهم، وكلِّ إمكاناتهم - سهامًا من جعبة الشيطان، ونِصالاً في كِنانة الأعداء؟
إن المسلم الذي مسَّ الإيمان شغاف قلبِه يَحكم للتَّوِّ على أصحاب مثل تلك الأقلام بالرِّدَّة والمروق، ثم يكرُّ عليهم بالوعظ الشافي، والقول البليغ، والإعراض الزاجر الأليم؛ إعمالاً لقول الله: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾ [النساء: 63].
ذلك هو المتاح في ظروف غيبة الشريعة، وانتشار مدِّ الطاغوت؛ ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ﴾ [النساء: 60].
ومِن أولئك وهؤلاء جامدون يشتملون بمعلوماتهم اشتمالَ الصماء، والإسلام مع دقَّة تعاليمه مَرِنٌ، فِضْفاض، يَسَع ببُحبوحته الأوَّلين والآخِرين.
هؤلاء تَمرق بهم الأيام، فلا ينتبهون، وتُغْرِي أُمَّتهم الأحداث ولا ينتفضون، وتُدَحْرجهم الأقدام، فلا يتأوَّهون، تحسبهم - حين تُنْعِم فيهم النظرَ - أيقاظًا وهم رُقود، وتظنُّهم - بجامع السَّمت والهيئة - وَحْدة متعاطفة، والحقُّ أنَّهم صورة ناطقة لقول الحقِّ - جل وعلا -: ﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ [الحشر: 14].
فاتَهم فَهْمُ مُقتضى الحال، وإدراك عامل الزمن، وعامل المكان.
وهؤلاء أفْزعتْهم فَرْقَعة السِّياط، وحَشَرتْهم صَيْحات الزَّجْر، ودَفعات الرَّكْل؛ حتى انْزَوَوا وتَقَوْقَعوا في محارات ضيِّقة، ظنُّوها كلَّ الدِّين، والدين أرحبُ وأرغدُ، وأرفعُ مما رأَوْا وخَالوا.
هؤلاء الجامدون أيضًا آفتُهم تبلُّد الحِسِّ:
والبَلادة كما تتأتي مما رانَ على القلب من شرٍّ، تتولَّد كذلك من طول المعاناة، أو من عضَّة اليأْس، أو من غمرة الحَيْرة، أو من استفحال عُقدة النقْص، أو..، أو..، وحينئذ تَركُد العقول، ويَجمد الفكر، ويتَسنَّه ويأْسَن، فيعجز المصابون بهذا الداء عن مُجاراة العالَم، ومُلاحقة الرَّكب، وعن إدراك سُنن المولى في الكون، وعن استثمار نِعَم الله المبثوثة في تضاعيف الوجود.
والجامدون قد ينطوون على خيرٍ، ولكنَّهم في مَسيس الحاجة إلى يدٍ آسية؛ تفتح لذلك الخير المنافذ، وتَجلو ما انعقَد حوْله أو فوْقه من قَتَام وغَمام، وعِلَلٍ نفسيَّة جَليَّة وخفيَّة، تفقدُ التوازُن، وتُغري بعِشْق الذَّات، والتمحْوُر - بلا فِقهٍ - حول ما عرَفوا وألِفُوا.
نعم هم في مسيس الحاجة إلى قيادة رشيدة تجمع بين خصائص إمام الدعوة، وإمام السياسة والدولة، ولكن لِمَ هذا اللف والنشر والحديث ذو الشجون عن الجمود والجامدين؟
ثم ما علاقة هذا الحديث الساخن بالنفحات وآيات الصيام؟ أهي الملابسة الوثيقة التي بين الجمود والقيود، وبين التطور والتحرُّر؟
قد يكون إدراك تلك العلاقة حافزًا من الحوافز، ولكنَّ الذي أهمَّني أمرٌ وراء هذا، أمرٌ محورُه رمضان والعيد، وزَيْغة الحُكماء، فإلى لقاءٍ قريب، والله المستعان.



[1] أمْلَى هذا الاستطراد غُربةُ الإسلام ومِحنة المسلمين.
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 27-06-2015, 02:07 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

(نفحات قرأنية رمضانية)



آيات الصيام: مقاصد وأحكام



د. فارس العزاوي


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسولِ الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

وبعد:
فهذه وقفات مُوجزة مع آيات الصيام قصدت بها توضيحَ مقاصد الآيات وبيان مَعانيها، مُهتديًا ومسترشدًا بما قاله المفسرون، ومن المُهم التنبيه على ضرورة رَبْطِ فقه الصيام في تقرير أحكامه بالآيات المنزلة فيه؛ لجعل عبادة الصيام مُرتبطة بمرجعيتها القرآنية وبيانها النبوي.


ولعلَّ من المثالب والمعايب التي اتَّصفت بها المتون الفقهية وشروحاتُها وحواشيها عزلَ الأحكام الفقهية عن مَراجعها النصية، مع العلم أنَّ هذه الأحكامَ مأخوذةٌ استنباطًا واستخراجًا من الكتاب والسنة؛ لكونهما المصدرين الأصلِيَّين في الاجتهاد واستخراج الأحكام، ويحسب لمدرسة الأثر ربطها الأحكامَ بنصوصها، إلاَّ أنَّه يعيبها غيابُ النظر المقاصدي، وكان حريًّا بمدارس الفقه الإسلامي التأكيد على قراءة النصوص ومُقتضياتِها ومقاصدها في تقرير الأحكام، ولا شَكَّ أن النص الشرعي قرآنًا وسنة يستبطن حكمَه الظاهر ومَقصده المكنون.


وهنا تتجلى وظيفة الفقيه والمجتهد في قراءةِ النص من أجل التعرُّف على أحكامه ومقاصده، وفقًا لمنهجِيَّة أصولية معتبرة تستحضر معهودَ التنزيل وأسلوبَ القرآن العربي، وما يتعلَّق به من أسباب للنُّزول وناسخ ومنسوخ، واعتبار قواعد الألفاظ، وغير ذلك من قواعد التعامُل مع النص الشرعي.


وعليه؛ فبين يدي القارئ استعراض لآيات الصيام، وقراءة موجزة في مقاصدِها وأحكامها؛ عَلَّها تكون عونًا للمسلم المعاصر في فقهها وتنزيلها على الواقع؛ لتكونَ العبادة آخذة بجوامعه قلبًا وروحًا وجسدًا.


قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ * أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 183 - 187].


قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:
استئناف ابتدائي لفصل هذه الآية عن التي قبلها، وإنَّما فصلت؛ لاختلافِ الغَرَضين، واختلاف الحُكمَين، فالآياتُ السابقة تَختص بحكم القصاص والوَصِيَّة، وهذه الآيات إنَّما تتعلق بأحكام الصيام.


وهذا الجزء من الآية فيه جملة من الفوائد:
1- وصف الله المخاطبين بـ﴿ الذين آمنوا ﴾، ولم يقل: المؤمنون؛ وذلك خشيةَ اعتقادِ أنَّ هذا الحكم خاص بالمخاطبين، فقوله: ﴿ يا أيها المؤمنون ﴾ يَحتمل وجهين: العهد والاستغراق، فأتى بالكلمة التي لا تَحتمل إلاَّ وجهًا واحدًا وهو العموم؛ لأنَّ كلمةَ "الذين" اسم موصول، والأسماء الموصولة كما هو مَعروف عند علماء الأصول تُفيد العموم؛ قال ابن عاشور[1]: "الظاهر أن خطابات التشريع ونَحوها غير جارية على المعروف في توجُّه الخطاب في أصلِ اللغات؛ لأنَّ المشرع لا يقصد لفريق مُعين، وكذلك خطاب الخلفاء والولاة في الظهائر والتقاليد، فقرينة عدم قصد الحاضرين ثابتة واضحة"؛ لذلك نقول: إنَّ الخطابَ هنا - وفي غيره - للعموم.


2- وصفُ الله المخاطبين بالإيمان دليلٌ على أنَّ الخطاب هنا خاصٌّ بمن تَحقَّق فيه شرط الإيمان، وأمَّا الكفار، فليسوا داخلين في الخطاب ولا الحكم، من حيث أداؤه لا من حيث توجه الخطاب، وهي مسألة اختلف فيها أهلُ العلم: هل الكفارُ مُخاطبون بفروع الشريعة أو لا؟ والجمهور على أنَّهم داخلون في الخطاب، وإن لم يذكروا، ولكن لا عِبْرَة بفعلهم؛ لوجودِ المانع وهو الكفر، وإنَّما خُصَّ المؤمنون بالذكر تشريفًا لهم كما قال الشوكاني نقلاً عن بعض أهل العلم: "إنَّ المسلمين والمؤمنين خُصِّصوا من باب خطاب التشريف لا خطاب التخصيص"[2].


والدليل على أنَّ الكافرَ داخلٌ في الخطاب قوله - تعالى -: ﴿ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ﴾ [المدثر: 39 - 45].


3- وفي قوله: ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ إشارة إلى أنَّ الإيمان شرطٌ لقَبول العمل، والإيمان هو: "الإقرارُ المستلزم للقَبول والإذعان"، فلا بُدَّ من الإقرار بالقَلب واللسان، والقَبول باللسان، والانقياد بالجوارح، وحُذِفَ المتعلق؛ لدلالة ما قبله عليه في قوله - تعالى - بداية السورة: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ [البقرة: 3]، والإيمان له لوازمُ ينبغي معرفتها، والتحلي بها، نذكرها إجمالاً: إخلاص العمل لله، وتعظيم القرآن الكريم، ومَحبة الله ورسوله، والتمسُّك بما عليه الجماعة، ومَحبة المؤمنين؛ روى الإمام البخاري في صحيحه[3] من حديث أنس - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ثلاثٌ مَن كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أنْ يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأنْ يُحب المرء لا يُحبه إلا لله، وأن يكره أن يعودَ في الكفر كما يكره أنْ يقذف في النار))؛ قال الحافظ ابن حجر: "شَبَّهَ رغبةَ المؤمن في الإيمان بشيء حُلْوٍ، وأثبت له لازمَ الشيء وأضافه إليه"[4].


4- في قوله: ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ جاء الخطاب للمؤمنين بصيغة الجمع، وهذا فيه إشارةٌ إلى أنَّ الأمةَ جماعة واحدة على منهجٍ واحد، فلا يَجوز تفرقها، وهذا في جميع خطابات الشرع، وقد جاءت أدلَّة كثيرة، ونصوص صريحة من كتاب الله، وسنة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأقوال سلف الأمة في الأمر بالجماعة؛ قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وقوله: ﴿ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13]؛ روى الذهبي في سيره[5]: "قال الليث بن سعد وغيره: كتب رجل إلى ابن عمر أَنِ اكتُب إلَيَّ بالعلم كله، فكتب إليه: إنَّ العلمَ كثير، ولكن إنِ استطعتَ أنْ تلقى الله خفيفَ الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كافَّ اللسان عن أعراضِهم، لازمًا لأمر جماعتهم - فافعل".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أمرنا بملازمة الإسلام إلى الممات، كما أمر الأنبياء جميعهم بالإسلام، وأنْ نعتصمَ بِحَبله جميعًا ولا نتفرق، ونهانا أنْ نكونَ كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وهذا نظير قوله للرسل: ﴿ أنْ أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ، فهذه النصوص وما كان في معناها تُوجِب علينا الاجتماع في الدين، كاجتماع الأنبياء قبلنا في الدين"[6].


قوله - تعالى -: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ:
الصيام في اللغة: الإمساك؛ قال تعالى: ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 26]، وأمَّا في الشرع، فهو: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية التعبُّد لله - تعالى - ومن حكمة الله - تعالى - أنَّه نوَّع العبادات اختبارًا للمكلف كيف يكون امتثاله، هل يكون من جهة اتباع الهوى، أو من جهة إعلان العبودية لله - عزَّ وجلَّ - وهذا التقسيم والتنويع للعبادات جاء حتى يعرفَ مَن يَمتثل تعبدًا لله ممن يَمتثل تبعًا لهواه، هذا مع العلم أن الأصل في العبادات أنَّها غير معقولة المعنى، فالأصلُ فيها التعبد، ولكن لا يَمنع تلمس المعاني والمقاصد التي قصدها الشارع في تشريعه للعبادات، والمؤمن إذا اهتدى إليها كانت تثبيتًا وتأكيدًا لإيمانه، ودفعًا للاستزادة من الإيمان؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36].


قوله - تعالى -: ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ:
فيه إشارة إلى أن امتثالَ هذا الأمر يجعل المؤمن داخلاً في رَكْبٍ فيه أعظم من وجد على وجه البسيطة، هم الأنبياء والمرسلون وأتباعهم، ففي امتثالِ هذا الأمر تشريفٌ للمؤمن؛ لأنَّ له انتسابًا إلى خير الخلق؛ قال الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسيره: "يُخبر تعالى بما مَنَّ به على عباده بأنه فرض عليهم الصيام، كما فرضه على الأمم السابقة؛ لأنَّه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كلِّ زمان، وفيه تنشيط لهذه الأمة بأنَّه ينبغي لكم أنْ تنافسوا غيرَكم في تكميل الأعمال، والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة التي اختُصِصْتم بها"[7].


قوله - تعالى -: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ:
هذه الجملة تعليلية فيها معنى المفعول لأجله؛ لأنَّ الغاية من امتثال هذا الأمر حصول التقوى، ولقد جاء الخبر هنا جملة فعلية، وهي تتقون، وهي صيغة الفعل المضارع، التي تفيد التجدد والحدوث؛ أي: إنَّ التقوى تتجدد من قبل صاحبها مع أنَّ أصلها ثابت والمراد الزيادة، ولقد حذف المعمول؛ وذلك لأنه معلومٌ، والتقدير: لعلكم تتقون عذاب الله - تعالى - وهذا هو معنى التقوى الذي قرَّره العلماء، وهو: أن يَجعل العبد بينه وبين عذاب الله وقايةً بامتثال الأوامر واجتناب النواهي.


والصوم من أكبر أسباب التقوى؛ وذلك لأمور:
1- أنَّ فيه تركَ الطعام والشراب والجماع وغيرها، مع العلم أنَّها أمور تَميل إليها النفس، والغاية التقرُّب إلى الله راجيًا بتركها ثوابه، وهذا من التقوى.
2- أن في الصوم مراقبة لله، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه؛ لعلمه باطلاع الله عليه.
3- أن في الصيام الإكثار من الطاعات، والطاعات هي من خصال التقوى.
4- أن في الصيام التعرُّف والتحسس لما يُعانيه الفقراء من ألَم الجوع والعطش، ففيه معنى المواساة لهم، وهذا من التقوى.


قال ابن القيم: "وللصوم تأثيرٌ عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحِميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصومُ يَحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويُعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]... والمقصود: أنَّ مصالح الصوم لَمَّا كانت مشهودة بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة، شرعه الله لعباده رحمةً بهم، وإحسانًا إليهم، وحِمْيَة لهم وجنة"[8].


قوله - تعالى -: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ:
من رحمة الله - تعالى - بهذه الأمة أنْ رَبَطَ أحكامَ الشريعة المكلفة بها بالاستطاعة؛ قال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، وقال: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا ﴾ [الطلاق: 7]، فجعل الصيام أيامًا معدودات؛ أي: قليلات، ولم يَجعلها كثيرة؛ لئلا يشق على المكلفين، والواقع أنَّ الشريعة ليس فيها مشقة، وإن وجدت فهي مُحتملة كما قال العلماء، وإذا وصل بها الحد إلى المشقة غير المحتملة، سقط الواجب عندها؛ ولذلك قعَّد العلماء قاعدة: "لا واجب مع العجز".


قوله - تعالى -: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ:
في هذه الجملة محذوف وتقديره: فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فأفطر، فعِدَّة من أيام أخر، وهذا يُسميه أهلُ العلم دلالة الاقتضاء، وهي توقُّف الكلام على مَحذوف لو لم يقدر، لكان الكلام مَعيبًا، وهذا القدر من الآية مُتعلق بالأعذار التي تُبيح الفطر في رمضان، فالمرضُ المبيح للفطر هو الذي يشق على المكلف معه الصَّوم، وهذه المشقة المصاحبة للمرض عند التلبس بعبادة الصوم هي التي تَجعل الحكم الشرعي مُتغيرًا من الإيجاب بالصوم إلى إباحة الفطر.


وعليه؛ فإنَّ المرض المقصود في الآية ليس كل مرض، وإنَّما هو الذي يترتب عليه المشقة والضَّرَر، أمَّا المرض الخفيف الذي ليس له أثر على المكلف عند التلبس بالعبادة، فليس مُعتبرًا في تغير الحكم الشرعي.


قوله - تعالى -: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ:
كان فرض الصيام في السنة الثانية للهجرة، وقد فرض على مرحلتين:
الأولى: التخيير بين الصيام والإطعام، والصوم أفضل، وهو الذي دلَّت عليه هذه الآية.
الثانية: تعيين الصيام وبَقاء الإطعام لمن لم يَستطع الصيام من الرجل الكبير، والمرأة الكبيرة، أو المريض الذي لا يُرجى بُرؤه، ولا يستطيع الصيام.


روى مسلم في صحيحه من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -[9] قال: "كُنَّا في رمضان على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من شاء صام، ومن شاء أفطر، فافتدى بطعام مسكين، حتى أُنْزِلت هذه الآية: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]، وفي رواية قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]، كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.


وقد روى البخاريُّ عن ابن عباس قوله[10]: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أنْ يَصوما، فيطعمان مكانَ كل يوم مسكينًا، وهذا الذي قرَّره ابنُ عباس هو الذي يظهر لنا، وعليه فإن الآية متعلقة بالمرض الذي لا يُرجى برؤه، ويشق معه الصوم، وكذلك المكلف الذي بلغ من الكبر عتيًّا؛ بحيث لا يستطيع الصوم، ومن الجدير ذكرُه في هذا السياق أنَّ هناك من المكلفين مَن يدخل عليهم الخرف؛ بسببِ تقدُّمهم في السن، وهؤلاء على صُورتين: الأولى: أنْ يستحكمَ الخرف فيهم؛ بحيث يصبح المرءُ لا يعقل شيئًا، ففي هذه الحالة يرتفع عنهم التكليف، فلا صومَ ولا كفارة، والصورة الثانية: أنْ يكونَ حالُهم مُتفاوتًا، فيكون تارة عاقلاً، وتارة أخرى خرفًا، وهنا ينبغي التنبه إلى أنَّه مكلف حال كونه عاقلاً، فيجب أمره بالصوم، وإلاَّ فعليه الكفارة، وأمَّا في حالة كونه خرفًا، فإن التكليف يسقط عنه، فلا صَوْمَ ولا كفارة.


قوله - تعالى -: ﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ:
والتقدير: وصومكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون، وحذف مُتعلق بعد خير؛ لإفادة العموم، فالخيرية عامَّة شاملة لأمور الدين والدنيا.


قوله - تعالى -: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ:
أي: هذا الصوم يكون في شهر رمضان، وهذه فضيلة لهذا الشهر الكريم، وزاده فضيلة أخرى، وهي إنزال كتاب الله - تعالى - قال الشنقيطي: "لَم يبيِّن هنا هل أنزل في الليل منه أو النهار؟ ولكنَّه بيَّن في غير هذا الموضع أنَّه أنزل في ليلة القدر من رمضان في قوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، وقوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3]؛ لأنَّ الليلة المباركة هي ليلة القدر على التحقيق، وفي معنى إنزاله وجهان: الأول: أنه أنزل فيها جملة إلى السماء الدنيا، كما ثبت عن ابن عباس، الثاني: أن معنى إنزاله فيها ابتداء نزوله، كما قال به بعضهم"[11].


قوله - تعالى -: ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ:
هدى هنا قد يكون حالاً، وقد يكون مفعولاً لأجله، وهنا الهدى ورد نكرة، والنكرة عند أهل العلم تعُمُّ، فهدايةُ القرآن عامة شاملة، والتنوين في هدًى للتعظيم، وهذا أسلوب معروف في القرآن أنَّ النكرةَ قد يُراد بها التعظيم، وقد يُراد بها التحقير، وكلاهما في كتاب الله - تعالى - أمَّا التعظيم فهنا مثاله، وأمَّا التحقير كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾ [البقرة: 96]؛ قال أهلُ العلم: النكرة هنا للتنويع، سواء كانت عزيزة أم ذليلة، المهم عندهم أنَّها حياة؛ قال السعدي: "هو القرآن الكريم المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية، وتبيين الحق بأوضح بيان، والفرقان بين الحقِّ والباطل، والهدى والضلال، وأهل السعادة وأهل الشقاوة، فحقيقٌ بشهر هذا فضله"[12].


قوله - تعالى -: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185]:
وهنا أعاد الرُّخصة؛ خشيةَ أنْ يظن أنَّها منسوخة بحكم ذكرها في الآية السابقة، وهي منسوخة على مَن قال بالنسخ، كما تقدم آنفًا، فقرر أنَّها ما زالت قائمة.


قوله - تعالى -: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ [البقرة: 185]:
وهذه قاعدةُ الشريعة في الحكمة من التشريع، فإنْ قصد الشارع في وضع الشريعة أنْ لا تكليفَ بما لا يطاق، ولا تكليف بما فيه حرج، وقد ذكر أهلُ العلم أنَّ الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين:
الأول: الخوف من الانقطاع في الطريق وبغض العبادة.
الثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع.


قال الشاطبي: "اعلم أنَّ الحرج مرفوع عن المكلف؛ لوجهين: أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله، والثاني: خوف التقصير عند مُزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أُخَر تأتي في الطريق، فربَّما كان التوغُّل في بعض الأعمال شاغلاً عنها، وقاطعًا بالمكلف دونها، وربَّما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء، فانقطع عنها"[13].


لذلك كانت الصفة التي اتَّسمت بها الشريعة هي الاعتدال لتناسب العباد.


قال ابن كثير في تفسيره معلقًا على هذه الآية: "أي: إنَّما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار؛ لإرادته بكم اليسر، وإنَّما أمركم بالقضاء؛ لتكملوا عِدَّة شهركم"[14]؛ قال ابن الجوزي مُبينًا حقيقة المرض والسفر المبيحين للفطر: "ليس المرض والسفر على الإطلاق، فإنَّ المريضَ إذا لم يضر به الصوم، لم يَجز له الإفطار، وإنَّما الرحمة مَوقوفة على زيادة المرض بالصوم، واتفق العلماء على أنَّ السفر مقدر"[15].


قوله - تعالى -: ﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ:
قال الآلوسي: "﴿ ولتكبروا الله ﴾ عِلَّة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته، ﴿ ولعكم تشكرون ﴾ عِلَّة الترخيص والتيسير، وتغيير الأسلوب؛ للإشارة إلى هذا المطلوب بمنزلة المرجوِّ؛ لقوة الأسباب المتآخذة في حصوله، وهو ظهور كون الترخيص نعمة، والمخاطب موقن بكمال رأفته وكرمه مع عدم فواتِ بَركات الشهر، وهذا نوعٌ من اللفِّ لطيف المسلك قَلَّما يُهتدى إليه؛ لأنَّ مُقتضى الظاهر ترك الواو؛ لكونها عللاً لما سبق؛ ولذا قال: مَن لَمْ يبلغ درجة الكمال إنَّها زائدة أو عاطفة على علة مقدرة ووجه اختياره، أمَّا على الأول فظاهر، وأمَّا على الثاني، فلِمَا فيه من مزيد الاعتناء بالأحكام السابقة مع عدم التكلف؛ لأنَّ الفعل المقدر؛ لكونه مُشتملاً على ما سبق إجمالاً يكون ما سبق قرينة عليه مع بقاء التعليل"[16].


قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186]:
وَجْهُ جَعْلِ هذه الآية بعد آيات الصيام أنَّ فيها إشارةً إلى أن الصيام والدعاء متلازمان، فإنَّ العبد خلال صيامه وقيامه وطاعته وبعده عن المعاصي والسيئات يكون قريبًا من ربِّه - سبحانه - وإذا اقتربَ العبدُ من ربه، استجاب دُعاءَه، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال[17]: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله قال: مَن عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلَيَّ عبدي بشيء أَحَبَّ إِلََيَّ مِما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلَيَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سَمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يَمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)).


وقوله: ﴿ عبادي ﴾ إضافة تشريف وتكريم لهم؛ إذ أضافهم إلى نفسه - سبحانه - وكان الجواب بلا واسطة؛ إذ الغالبُ في السؤال في القرآن يكون جوابه: قل، إلاَّ في هذا الموضع، وذلك للإشعار بأنَّ الله قريب إلى العبد بلا واسطة.


قوله - تعالى -: ﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]:
هنا حذف المعمول؛ ليدلَّ على العموم، فالرشادُ يَحصل لهم في أمورِ الدين والدُّنيا؛ قال الشوكاني في تفسيره: "قوله: ﴿ فليستجيبوا لي ﴾؛ أي: كما أجبتهم إذا دعوني، فليستجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعات، وقيل: معناه: يطلبون إجابة الله - سبحانه - لدُعائهم باستجابتهم له؛ أي: القيام بما أمرهم به، والترك لما نهاهم عنه"[18].


قوله - تعالى -: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187]:
هذه الآية استفاض في بيانِها المفسرون؛ لأنَّ فيها مسائلَ كثيرة؛ قال القرطبي في تفسيره: "فيه ست وثلاثون مسألة"[19]؛ قال الصابوني مُبينًا المعنى الإجمالي: "وقد يسر - تعالى - على عباده وأباح لهم التمتُّع بالنساء في ليالي رمضان، كما أباح لهم الطعام والشراب، وقد كان ذلك من قبلُ محرمًا عليهم، ولكنه - تعالى - أباح لهم الطعام والشراب، والشهوات ال***ية من الاستمتاع بالنساء؛ ليُظْهِرَ فضله عليهم، ورحمته بِهم، وقد شَبَّه المرأة باللباس الذي يستر البدن، فهي ستر للرجل وسكن له، وهو ستر لها؛ قال ابن عباس: معناه: "هن سكن لكم وأنتم سكن لهن"، وأباح معاشرتهن إلى طلوع الفجر، ثُمَّ استثنى من عموم إباحة المباشرة مباشرتهن وقتَ الاعتكاف؛ لأنَّه وقت تبتل وانقطاع للعبادة، ثُمَّ ختم - تعالى - هذه الآيات الكريمة بالتحذير من مُخالفة أوامره، وارتكاب المحرمات والمعاصي، التي هي حدود الله، وقد بيّنها لعباده؛ حتى يجتنبوها، ويلتزموا بالتمسك بشريعة الله؛ ليكونوا من المتقين"[20].


وأهم ما تتضمنه الآية من مسائل ما يأتي:
1- جواز مجامعة المرأة في أي جزء من أجزاء الليل:
ويلزم من ذلك أنْ يكونَ المكلف عند جماعه في آخر لحظة من الليل جُنُبًا أن يدخل عليه الفجر وهو جُنُب، وهذا لا يؤثر في الحكم، فقد ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنْ شرع في الصوم وهو جُنُب.


2- إباحة الأكل والشرب:
والآية وإن جاءت في سياق الأمر، إلاَّ أنَّه مُراد، وإنَّما المراد به الإباحة؛ لأنَّه أمر جاء بعد الحظر، والقاعدة عند الأصوليِّين: أنَّ الأمر بعد الحظر إباحة، أو أنَّه يعود إلى ما هو عليه قبل الحظر، وهنا يُنبِّه إلى أنَّ الفجرَ المقصود في الآية هو الفجر الصادق، الذي ينتشر أفقيًّا وليس عموديًّا، فإن الأخير يُعَدُّ كاذبًا، وقد جاء في الصحيح من حديث أنس: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابن أم مكتوم))[21].


3- إن زمن الصيام ممتد من الفجر الصادق حتى غروب الشمس:
كما دَلَّ عليه الهدي النبوي، وعليه فإن المقصود من الليل في الآية التلبس بأول جزء من الليل وهو سقوط قرص الشمس وغيابه، وعند تَحقُّق ذلك شرع التعجل بالفطر؛ لأنَّه الهدي النبوي الكريم، وسبب للخيرية في الأمة، كما دل عليه قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يزال الناسُ بخير ما عجلوا الفطر))[22].


3- يشرع الاعتكاف ويتأكد في رمضان:
وخاصَّة في العشر الأواخر منه، كما دلَّت عليه النصوص النبوية، والاعتكاف شرعًا: لزوم المسجد؛ طاعةً لله، وله شروط وآداب مظانُّها كتب الفقه والأحكام، والآية دَلَّت على أن الاعتكاف إطارُه المسجد دون سواه، واختلف أهلُ العلم في المراد بالمساجد في الآية، فمن قائل: المراد بها *** المساجد، فتكون (أل) التعريف فيها ***يةً، وهو قولُ الجمهور، ومن قائل: إنَّ المرادَ بِها المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، ومرجع الخلاف حديثٌ ثابت عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رواه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا اعتكافَ إلاَّ في المساجد الثلاثة))[23]، إلا أن الجمهور ردُّوا على هذا الاستدلال، وأجابوا عن حديث حذيفة بأنَّ المراد الأفضلية وليس الحصر، ومعناه: أنَّه لا اعتكافَ أفضلُ من المساجد الثلاثة.


[1] "التحرير والتنوير"، محمد الطاهر بن عاشور، ج1ص320.
[2] "إرشاد الفحول"، محمد بن علي الشوكاني، ج1ص222.
[3] رقم الحديث: 16.
[4] "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، ابن حجر العسقلاني، ج1ص136.
[5] "سير أعلام النبلاء"، الذهبي، ج3ص222.
[6] "مجموع الفتاوى"، شيخ الإسلام ابن تيمية، ج19ص115.
[7] "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص94.
[8] "زاد المعاد في هدي خير العباد"، ابن قيم الجوزية، ج2ص28.
[9] رقم الحديث: 1145.
[10] رقم الحديث: 4235.
[11] "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن"، محمد الأمين الشنقيطي، ج1ص73.
[12] "تيسير الكريم الرحمن"، مرجع سابق، ص95.
[13] "الموافقات في أصول الشريعة"، أبو إسحاق الشاطبي، ج2ص136.
[14] "تفسير القرآن العظيم"، ابن كثير، ج1ص295.
[15] "زاد المسير في علم التفسير"، أبو الفرج ابن الجوزي، ج1ص185.
[16] "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني"، ج2ص62.
[17] رقم الحديث: 6137.
[18] "فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير"، ج1ص185.
[19] "الجامع لأحكام القرآن"، شمس الدين القرطبي، ج2ص314.
[20] "روائع البيان في تفسير آيات الأحكام"، ج1ص193.
[21] أخرجه مسلم، برقم: 2588.
[22] أخرجه مسلم، برقم: 2608.
[23] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، برقم: 8357، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة"، برقم: 2786.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 28-06-2015, 12:38 AM
fulcrum fulcrum غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: May 2015
المشاركات: 30
معدل تقييم المستوى: 0
fulcrum is on a distinguished road
افتراضي

جزاك الله كل خير
رد مع اقتباس
  #11  
قديم 29-06-2015, 02:03 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (32)
بخاري أحمد عبده



قال تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ï´¾ [البقرة: 183-185].
دين اليسر:
يقف المؤمن خاشعًا أمام قوله سبحانه ï´؟ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ï´¾ [البقرة: 185] ويستحضر - وهو يتمعن - كل صفات الجمال التي نعت (بالبناء للمجهول) بها رب العالمين، من حلم، ورحمة، وسلام، وود، وغفران، ورأفة … إلخ.
ومثل هذه الوقفة الخاشعة حرية أن تتداعي لها الآيات، وتتنادي لها الأحاديث التي تعمق الإحساس باليسر، والرفق، وسائر الألطاف التي تغمر البرية، قاصيها، ودانيها، تقيها وعاصيها. "ليس أحد أصبر على أذي سمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدًا، وإنه ليعافيهم، ويرزقهم" البخاري. "... ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد" متفق عليه.
وألطاف الله كانت تملأ خاطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقد عاش يتطلع إليها، ويستمطرها ويشكرها ويهدي المسلمين إليها.
ولعله - عليه الصلاة والسلام - كان يعنيها وهو يسأل ربه النور الغامر "اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، واجعل لي نورًا) رواه الخمسة.
فليس ألطف، ولا أرق وأصفى من الأنوار الربانية ï´؟ اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ.. ï´¾ [النور: 35].
والمولى سبحانه رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على ال***، وما لا يعطي على سواه) رواه مسلم. وفي رواية له أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: "عليك بالرفق وإياك وال***، والفحش، إن الرفق لا يكون في شئ إلا زانه، ولا ينزع من شئ إلا شانه".
وشعار الإسلام الذي عليه خاتم محمد - صلى الله عليه وسلم - (بشروا، ولا تنفروا، ويسروا، ولا تعسروا) متفق عليه. وكمال هذا الشعار وثمرته "التطاوع والوفاق" فإنهما يدلان على السماحة، وطيب النفس ويسرها. أما التنافر والشقاق فهما صدي المتربة النفسية وضيق الصدر، والتطاوع، والوفاق تجدهما فيما رواه ابن أبي بردة قال: - بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا موسي، ومعاذا إلي اليمن فقال: يسرا، ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا، ولا تختلفا) متفق عليه. وليس معني هذا أن نعدل، ونغير في الحقائق ولكن المعني أن نوغل برفق، وأن نرعي عند التطبيق حسن المدخل، وننشد روح الإسلام حين يغزر عطاء النص.
ومبدأ التيسير المطلق الذي يسود آفاق الإسلام فوق أنه يوفر المناخ الصحي السلس الذي يطلق الطاقات يفسح - كذلك - مجالات الحرية، ويطلق أعنتها (بكسر العين وتشديد النون المفتوحة. جمع عنان) ذلك لأن التعسير تعتيم، وتقييد، وحد لفاعلية المعنويات التي تحفز للطموح، وتغري بالنهوض.
و الإسلام - حدا من أوزار المعسرة والتعسير - يكفل للمسلم كل الأجواء النقية التي تشرح الصدور، وتوفر الصحة النفسية. والصحة النفسية هي طيب النفس. وطيب النفس النعيم وانشراح الصدر، وانفكاكه عن الأوزار التي تشد إلي أسفل، وتصد عن السبيل، أول بواعث الوثوب وبشائر النجاح ï´؟ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ï´¾ [الزمر: 22].
وظني أن المولي جل وعلا إذ يقرر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقضايا شرح الصدر، ووضع الوزر، وتحرير الظهر، واذهاب العسر.. إنما يمن على الرسول الكريم بهذه النعم. التي تتيح له - صلى الله عليه وسلم -، وللمسلمين أن يمضوا أصحاء، أسوياء، مستبشرين، متخففين نحو الغاية المثلي التي حددت لهم ï´؟ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ï´¾ [الشرح: 1 - 8] نعم إذا خلص الإنسان من أوضاره، وفرغ من وطأة أوزاره فلا شئ يعوقه عن أن يكدح إلي ربه، وينصب في سبيل مولاه متخففًا من كل العوائق، متحررًا.
وإدراكًا لمغبات العسر كان - صلى الله عليه وسلم - لا يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا. فإن كان إثمًا كان أبعد الخلق عنه. مصداق ما جاء في الصحيح.
والعسر قد تبذر بذوره في طريقك. وقد تتصاعد أبخرته من أعماقك. وقد تنعقد سحبه في آفاقك منبعثة من عقلك، عالقة بأفكارك. ولعل الإسلام حين كره الشؤم والطيرة، والعيافة، والطرق[1]، وحين نفى العدوى، والهامة[2] وصفر والغول، أراد أن يحرر النفوس والعقول من وطأة هذه المعتقدات التي تكبل العقول، وتحجب الرؤية، وتقلل من حرية الحركة.
إن الإسلام حريص على محو درن العقول، وخبث النفوس، والعسرة التي تجثم في الصدور. وتحقيقًا لهذا أولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضايا الشعوذة، والخبال اهتمامًا زائدًا، وحذر في مواقف عدة عن الاستسلام المخزي لأفكار الجاهلية وعدها من الجبت "من السحر والكهانة". قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد" وقال فيما رواه أبو داود "العيافة والطرق، والطيرة، من الجبت".
اتقوا زيغة الحكيم:
والإسلام الذي حرر العقول من التبعية العمياء للآباء، والأجداد، والذي حرر من الأمعية، ومن الدوران الأصم في فلك المترفين أولي النعمة، أو المرموقين أرباب الألسنة النعمة، أو الأقلام أو الأفكار... حررنا كذلك من أن نظن العصمة ببشر خلا الرسول صلوات الله وسلامه عليه. فلا حصانة لفكر بشري، ولا قداسة لرأي بشري، ولا ثقة في علم بشري يستقي مقدماته من الرؤية القاصرة المحدودة، ويبني نتائجه على الاتفاقية فروض قد تشط وتجمح، وقد تضل، وتقصر، ولا في عالم قد تتعدد رؤاه فتلتبس أموره، وقد تتنازعه النوازع فيبعد عن الموضوعية. وقد... وقد... والقصور العلمي قدر البشرية ï´؟ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ï´¾ [الإسراء: 85] والقلة هنا تعني قلة الكم، وتعني ضآلة القدرة على الاستفادة بما نستظهر، فرب حامل فقه غير فقيه".
ولعل الإسلام وهو يذكر فتنة قارون بعلمه ï´؟ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ï´¾ [القصص: 78] وحين يركز على مصائر أقوام أثاروا الأرض، وعمروها، ونحتوا من الجبال، واتخذوا المصانع. ï´؟ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ï´¾ [الشعراء: 128-129] ï´؟ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا ءَامِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ.. ï´¾ [الشعراء: 146-149]، وحين يذكر فسوق كثير من الأحبار، والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، وحين يذكر افتتان أقوام بالأحبار، والرهبان ï´؟ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا... ï´¾ [التوبة: 31]... الإسلام بمثل هذا يستهدف تربية المسلم تربية استقلالية تكفل له ألا يعيش دهره ترسًا في عجلة.. يدور حيث دارت العجلة، أو ذنبا في "دبر" يبصبص، أو يرتفع وينخفض، ويهتز بإرادة حيوان، كيف وقد بوأك الإسلام الصدارة، وضمن لك مقام الشهادة، وأتاح فرص الخيرية المطلقة (لك الصدر دون العالمين أو القبر)؟
ولقد تشبع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الروح الإسلامية المتفتحة الفطنة، وصاغوا من روحهم، الوثابة، ومن تشبعهم بالرحيق السماوي، ومن وعيهم، وانتفاعهم بهدايات الإسلام، ومن رؤيتهم المقتبسة من النبعين الثريين، صاغوا وصايا حكيمة سديدة لتبقي مشاعل ومعالم على الطريق تتضافر كلها على توفير المناخ الصحي الذي تزدهر فيه شجرة الحرية.
أ- من ذلك ما رواه الدارمي بسند صحيح. عن زياد بن حدير قال:- قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال:- قلت لا. قال (يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الائمة المضلين). وكل واحد من هؤلاء الثلاثة ينطلق من موقع تأثير. إلا أن العالم قد لا يأمن - بعلمه - غوائل البشرية، وقد تثور في دمه أعاصير المادة والهوى فيتعثر، أو يزل ويسقط وينهار والإمام يغوى من موقع تأثير. والمنافق يماري ملوحًا بالكتاب الكريم ذي التأثير ولكن ليموه ويمكر ويخدع.
والمؤمن الحصيف ينبغي ألا يمزج بين الوعاء، والموعي (بضم الميم، وفتح العين) وألا ينسى أن الإناء قد يصدأ، أو يشرخ أو يشدخ ويكسر، ويتفتت، وارتباط المؤمن بالأشخاص ارتباطًا أعمى، وتلقفه لكل أقوالهم بلا تمحيص، يشل كياسته، ويعطل فطنته، ويعجز حركته، ويسكب حريته - المذابة - في إناء غيره ليعيش مسلوب الحرية إمعة، ليعيش ذيلًا.
ب- ومن ذلك ما رواه يزيد عن عمير قال:- كان معاذ لا يجلس مجلسًا للذكر إلا قال:- الله حكم قسط. هلك المرتابون. فاحذروا زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق الحق. قال - قلت لمعاذ: وما يدريني؟ فقال:- اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال فيها ما هذه، ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع الحق. وتلق (بفتح اللام وتشديد القاف) إذا سمعته، فإن على الحق نورًا) فتح المجيد ص 273.
وظني أن معاذًا رضي الله عنه يشير (بزيغة الحكيم) إلي زلة العالم، ويدعو إلي موضوعية العلم، والتحرر من كل تأثير خارجي.
وهذه الآثار التي ذكرناها، أو ألمحنا إليها، تتضافر كلها لتعلن:-
1- إن الإسلام - برغم وضوح معالمه، ودقة نصوصه، وتحدد أهدافه - فيه مجال للنظر وتعدد الرؤي بشرط ألا نتجاوز النطاق الذي تفرضه النصوص القاطعة الصحيحة.
2- وأن المسلم إذا تشعبت أمامه السبل يتحري المسلك الأيسر الذي يصل به إلي الغاية مظللًا (بضم الميم، وفتح الظاء، وتشديد اللام الأولي مفتوحة) بالسكينة، مجنبًا مشاكل الوعورة، وبواعث اللهاث.
3- وأن الرفق:
(‌أ) أن ترفق بنفسك (التي بين جنبيك فلا تكلفها شططًا، ولا تحملها من البلاء ما لا تطيق، ولا تزج بها في دياجير الشعب، ومخاطر المشتبهات … إلخ.
(‌ب) وأن ترفق بغيرك فتجبر كسره، وترعى جوانب ضعفه في كل المواقف (رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشتري، وإذا اقتضي) رواه البخاري.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - حين يدعو إلي السماحة المترفقة:
(1) يؤكد مضمون الآية الكريمة ï´؟ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ... ï´¾ [البقرة: 280].
(2) ويحدوك عليه الصلاة والسلام إلي أفعال المولى جل وعلا الذي يجيب المضطر ويكشف السوء، ويغفر لكل من اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم.
ومن الرفق بالغير أن تهديه إذا أدلهمت - عليه - السبل، وأن تختار له إذا التبست - عليه - الأمور، وأن تغضي عن هنأته، وتصفح عن صغائره، وألا تتبع عوراته، أن تهتم به، وبمصالحه، حاضرًا معك أو غائبًا عنك.
4- وإن الاسلام أشبع، وأغني، فلا عطاء يعلو على عطائه ولا اجتهاد في حضرة نصوصه، ولا طاغوت يرعي في ساحته.
5- وأن الناس خلفاء، يخلف اللاحق منهم السابق. والذوات تعظم، أو تصغر بمقدار قربها، أو بعدها من الله، وهداياته، وشريعته. وأن القيم التي علا بها العالون باقية، وأن نعمة الوعي التي فقه بها الأولون ماضية، وأن كلمات الله التي اعترفوا منها لا تنفد.
6- وأن روح الإسلام تخفق من حول المسلمين، وتنعش في سمواتهم فلا يمكن لعين مؤمنة أن تخطئها. وهي الملاذ أن تعددت الرؤي، وكثرت المفاهيم.
7- وأن رائد المسلمين دائمًا أحاديث رسول الله، ومنها ما رواه ابن مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهما: (نضر الله عبدًا سمع مقالتي، فحفظها، ووعاها، وأداها: فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلي من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل[3] عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحيط من ورائهم".
يتبع،،


[1] العيافة: زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها وأصواتها، والطرق نوع من التكهن. ومنه الضرب بالحصى، والخط في الرمل، واللعب بالودع ونحوها من التمائم... والغول واحد الغيلان وهي *** من الجن، والشياطين. وكانت العرب تزعم أن الغول يتراءى للناس في الفلاة وتتلون لهم تلوناً في صور شتى وتضلهم عن الطريق وتهلكهم فنفاه النبي، وأبطله. فتح المجيد ص310
[2] الهامة اسم طير كانوا يتشاءَمون به، أو إشارة على ما كانوا يعتقدون من أن روح الميت تنقلب هامة تطير. وصفر ما كانوا يعتقدون من أن في البطن دابة تهيج عند الجوع وربما ***ت صاحبها.. إلى غير ذلك من قولهم أنه العدوى، أو حية في البطن، أو ما كانوا يعتقدون من أن شهر صفر شهر شؤم.
[3] لا يدخله حقد، ولا يخون، والمعنى أن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدخل والشر. أ.هـ «مشكاة».
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 30-06-2015, 02:44 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن




أحمد مظهر العظمة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]


في ليلة مباركة من شهر رمضان الذي كان سيدنا محمد يأوي فيه إلى غار حراء، يفكر فيه فيما كان يرى ويسمع من قومه، مما ينكره لبه ولا يميل إليه قلبه، ويمعن في هدوء الغار أمام جمال السماء وجلال الجبل، بآلاء مَن خلَق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعَله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة، فخلق العلقة مضغة، فخلق المضغة عظامًا، فكسا العظام لحمًا، ثم أنشأه خلقًا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين[1]؛ في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر - تنزل القبس الأول من شعلة النور الإلهي، يحمله الوحي إلى رسول العرب والعجم (صلى الله عليه وسلم)، كما يحمل الفجر هدية ذُكاء إلى النهار.
تنزل القبس الإلهي في نور من الكلام، ألفاظه مصابيح الهدى، لتكون الأرض كالسماء: لهذه كواكب تضيء، ولهذه عباد صالحون، يملؤونها حقًّا وعدلاً وجمالاً، بعد أن ملئت باطلاً وظلمًا وظلامًا.
كلمات وجمل، حية خالدة، عملها أن تثير في النفوس إعجابًا لا ينتهي، ونشوة لا تنقضي، وعلمًا لا ينفد، وإيمانًا لا شك معه ولا فتور ولا ضعف، كلما زدتها نظرًا، زادتك إعجابًا ونشوة وعلمًا وإيمانًا... وانتهت بك إلى معانٍ للإعجاز خلفها معانٍ، كأنها (اللانهاية) لا تقف فيها على حد مهما طويت بُعدًا وبذلت جهدًا!
وإن كتابًا عربيًّا على ذلك كلماته وآياته، كيف تنتهي بيناته ومعجزاته؟ وكيف لا يجعل أمة لها للبيان أسواق، ولناشئها فيه أحكام بلغت من لطف الذوق وقوة الإمعان وسلامة الرأي، ما لم نسمع له مثيلاً في آداب الأمم الأخرى[2]، كيف لا يجعلها تؤخذ أخذًا لا تجد عنه سبيلاً؟ حتى كان فيها مَن يسجد لبيانه إذا تليت عليه آياته، كما كان ذلك حين سمع أحدهم قارئًا يقرأ: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ﴾ [النجم: 1][3]، ومن أروع ما يروى في هذا الصدد: أن الوليد بن المغيرة والأخنس بن قيس وأبا جهل بن هشام، وهم من أكابر بلغاء قريش، سمعوا ليلة آيَ الذِّكر الحكيم يتلوها النبيُّ عليه أفضل الصلاة والتسليم، وهو يصلي في بيته، وانصرفوا صباحًا، فجمعتهم الطريق، فتلاوَموا وقالوا: إنه إذا رآكم سفهاؤكم تفعلون ذلك، فعلوه واستمعوا إلى ما يقوله، واستمالهم، وآمنوا به، ولكنهم عادوا في الليلة الثانية، ولما أصبحوا، جمعتهم الطريق، فتحالفوا ألا يعودوا لمثل ما فعلوا، فلما تعالى النهار، جاء الوليد بن المغيرة إلى الأخنس بن قيس، فقال: ما تقول فيما سمعت من محمد؟ فقال الأخنس: ماذا أقول: قال بنو عبدالمطلب: فينا الحجابة، قلنا: نعم، قالوا: فينا السدانة، قلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم، يقولون: فينا نبي ينزل عليه الوحي، والله لا آمنتُ به أبدًا، فصدته العصبية كما ترى عن الحق، والوليد بن المغيرة هذا هو الذي طلب إليه أبو جهل أن يقول في النبي صلى الله عليه وآله قولاً يبلغ قومه أنه له كاره، وكان قد سمع منه القرآن، فقال: ماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برَجَزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمِر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدَعْني حتى أفكر، فلما فكر قال: (هذا سِحر يؤثر، يأثره عن غيره)، وخير من هؤلاء عمرُ بن الخطاب الذي انقلب إلى الإيمان بالقرآن، وقد جاء ليصد عنه ولينكل بمن آمن به.
• • •


اجتمعت لغات الغرب ببيان القرآن، على أفضل ما يمكن أن تجتمع عليه من الكمال، فبقي منها الصالحُ للبقاء، وذهب الزبد جفاءً، وكشف بمعانيه ما كان في صدورهم من غِلٍّ، وما يدور بينهم من شَحْناء، فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا، ولبث يؤثِّر فيهم تأثيرًا عامًّا برِفْق وحكمة وأناة، حتى يفقهوا الإسلام فقهًا صحيحًا، ويقفوا على أغراضه، ويسعَوا إلى غاياته، فيحملوا راياته من الصحراء إلى الظل والماء، ويحوطوها بهمم وعزائم وثبات، إلى أن يوفوا على القصد فيبلغوا كلمتها سليمة كما أنزلت ففهموها بلغتها وبلاغتها، ويجعلوا الأمم كلها تشترك في بناء ***ية قلوب مؤمنة بالله، عربية بلسان كتابها العربيِّ المبين، ولكن ليست عصبية ما دامت لقلوب أمم وسلامة أوطان.
• • •


كذلك أخذ القرآن يؤثِّر في العرب، حتى خلقهم خَلْقًا جديدًا، قرآنيًّا، فأصبح القرآن مناجاة الصلاة، وإلهام الخلق، وسنَّة الحكم، ومنهاج العمل، ووحي الأدب، ولسان الدعوة، ونشيد الجهاد، وأصبح العرب معانيَ للفضائل في صور البشر، هبت على العالم، فملأته عطرًا من أنفاس الحق والخير والجمال.
• • •


وقد تعهد المسلمون كتابهم عملاً وحفظًا ودرسًا وتلاوة، حتى كان لهم به من معارف العلوم والفنون الشيء الكثير، وبلغ تفسير أحد مفسريه مائة مجلد، وكان منهم من يختم تلاوته في شهرين، ومنهم في شهر، وفي عشر ليال، وفي ثمان ليال، وفي سبع - وهذا أفضل الأكثرين من السلف - وفي ست، وفي خمس، وفي أربع، وفي ثلاث، وفي يوم وليلة، وبلغ أبعد من ذلك أن الكاتب الصوفي[4] روى أنه ختم أربع ختمات في الليل، وأربعًا في النهار، وممن كان يختمه في ركعة: عثمان بن عفان، وتميم الدَّاري، وسعيد بن جبير، رضي الله عنهم.
وتدبر القرآن هو المقصود بالتلاوة، ولا جرم أن الناس يتفاوتون في تدبرهم بتفاوت مداركهم وأشغالهم، كما يختلف التدبر نفسه بمعانيه الدانية القطوف أو البعيدة المنال.
وخير لمن يظهر له بالإمعان في قراءة القليل مع الاتئاد، ما لا يظهر له في قراءة الكثير مع الإسراع: أن يقتصر على قليله؛ فإن قليله جليل، والعبرة (للكيفية) لا (للكمية)، وفي الأثر لا في النظر، وقد كان من السلف من يتلو الآية الواحدة ليلة أو معظمها يتدبرها، وكان ضياء الدين بن الأثير أحد أئمة البلاغة وصاحب كتاب المَثَل السائر، يختم القرآن مرة في الأسبوع، وزاد إمعانه فيه، فأخذ يقرؤه مرة في الشهر، وقوي تدبره إياه، فجعل يقرؤه مرة في السنة، وغاص في طلب درره، فأتى عليه سبع سنين، لم يبلغ فيها بلاغة كلمه وحروفه فحسب، لا معجزاته الخلقية والعلمية والاجتماعية...
• • •


وإن مما يحز في النفس، أن نرجع البصر اليوم إلى شباب الإسلام - وهم أملنا في الغد - فنرى كثيرًا منهم يتعثر لسانه في قراءته، كأنه يسير في طريق لاغب، فكيف لا يتعذر عليه بعد ذلك تدبره، وكيف ترجو أن يكون على خير، وقد أحاط به التواءُ العصر وتيهه من كل جانب، فأصبح كبيئته: بلسان ملتوٍ، وجنان تائهٍ، وآمال كخضرة الدمن؟
وهكذا ضعفت قراءة القرآن فضعف البيان، وهانت النفوس، وكلَّت العزائم، وفشلت السياسة، وهكذا كانت الرطانة جرثوم المرضى، وعلاجها بالقرآن ثابت؛ إذ ما جرت البلاغة على لسان أو قلم كاتب بالعربية مسلم أو غير مسلم، إلا وجرى من قبلها القرآن على لسانه، وجرى منه إلى نفسه نوره الذي يشرق فيما يخرجه من آثاره للناس.
المصدر: مجلة التمدن الإسلامي، السنة الثالثة، العدد السادس، 1356هـ - 1937م

[1] اقرأ تفسير أصل الآية العجيب للأستاذ الحكيم داود الأنطاكي، المتوفي سنة 1008، وقد نقلها المرحوم النابغة الأستاذ الرافعي لكتاب: إعجاز القرآن، ص 173.
[2] من ذلك أن الخنساء نقدت حسان بن ثابت في سوق عكاظ حين أنشدها قوله:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

ولدنا بني العنقاء وابني محرق
فأكرِمْ بنا خالاً وأكرم بنا ابنما

فقالت له: ضعفت افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع، قال: وكيف؟ قالت: قلت (لنا الجفنات) والجفنات ما دون العشر، فقللت العدد، ولو قلت: (الجفان) لكان أكثر، وقلت (الغر) والغرة: البياض في الجبهة، ولو قلت: البِيض لكان أكثر اتساعًا، وقلت: (يلمعن)، واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو: (يشرقن) لكان أكثر؛ لأن الإشراق أدوم من اللمعان، وقلت: (بالضحى) ولو قلت: (بالعشية) لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا، وقلت: (أسيافنا)، والأسياف: دون العَشر، ولو قلت: سيوفنا كان أكثر، وقلت: (يقطرن) فدللت على قلة ال***، ولو قلت: (يجرين) لكان أكثر لانصباب الدم، وقلة: (دمًا) و(الدماء) أكثر من الدم، وفخرت بمن ولدت، ولم تفتخر بمن ولدك، (فتأمل).
[3] حدثنا الأمير شكيب أرسلان حفظه الله عن فتاة ألمانية كانت تسمع في الآستانة القرآن مِن قارئ تركي حسن الصوت، ولما أتم قراءته قال للأمير وقد شهدها تبكي: ما يُبكي هذه أهي موسيقية؟ فسألها الأمير فأجابت: لقد سمعت ما لم أسمع له مثيلاً، وأرجو أن تدعوني لسماع هذا القارئ كلما دعوته للقراءة، فتأمل في موسيقا القرآن وتأثيره منه حتى في الأعاجم.
[4] كتاب الأذكار للنووي.
رد مع اقتباس
  #13  
قديم 02-07-2015, 02:29 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (33)
بخاري أحمد عبده



قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة : 183 - 185].

ذهب رمضانُ الشهرُ، ولكن بقيت النفوس المحمومة التي تتقلب في رمضاء[1] حياة قفرةٍ عجفاء[2].

بقيت نفوسٌ لهفى[3] (بتسكين الهاء، وفتح الفاء)، تعوزها السكينةُ والعزة، والوئام والصحة النفسية، ويؤودها الجحود والجمود، والغلظة والإمعية، والتبعية الذليلة.

وظنَّي أنَّ الارتباط الطويل بآلاء الصيام، وأشفية القرآن، ورِضاب[4] الحكمة، ونفحات السماء يوفر لتلك النفوس الرَّمِضَة (بتشديد الراء وكسر الميم؛ أي: المحترقة) فرصَ الصحوة، والنخوة والانبعاث، ويهيِّئ لها أن ترشدَ وتعي، وتستأنف المسيرة على هدًى وبصيرة.

فلا ملامة إذا تشبثنا بهذه الآيات، نحتلب دَرَّهَا، ونحيا بَرَّهَا، ونستمطر فَيْضَها؛ عسى أنْ يسَّاقط (بتشديد السين المفتوحة) غَدَقًا[5] فوق أجداث[6] رمت فينبت ما فيها من هشيمٍ، كما تنبت الحبَّة في حميل السيل[7].

فوق أنَّنا - إذْ نظلُّ مشتملين بآيات الصِّيام متلبسين بأرواحِها - نظلُّ نجترُّ أمجادَ الشهر، ونستحضر طلاوتَه وحلاوته، ونعيش أجواءَه العبقة، نغالب بها عفنَ الواقع، وضراوة الأيام.


الفضاء القرآني:
والفضاء القرآني كالفضاء الكونيِّ، هذا لا يُدرك مداه، وذاك لا تنقضي عجائبُه، مصداقَ ما أُثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلاهما يأسر ويدهش، ويثير بإعجازه مشاعرَ العجز، والضآلة في هذا الإنسان، وكلاهما ينفتح كلَّ يوم عن آفاقٍ جديدة تهدي، وتُرْبي (بضم التاء وتسكين الراء) حقيقةَ الإيمان.

ولقد سَبَحْنا سبْحًا طويلاً في الفضاء القرآني المهيب، مقتفين هديَ آياتٍ تَزْخَرُ بالحياة، وتبثُّ من أضواء الحرية، والشَّمم ما تبث، واستقامتْ إشاراتُ القرآن اللطيفة إلى مدارج التحرير وأسباب الخلاص، وإلى مقوِّمات الشخصية الإسلامية المستقلة، استقامتْ معالم بل مفاعلات بناءة تتوهَّج رشيدةً وكأنها أطواقُ النجاة تطفو فوق العُباب، وتتراءى لأبصارِ غرقى لاهثين يعانون ذلَّ المَتْرَبة وحرَّ المَسْغبة، وحقارةَ الأذناب وضغط القيود، وأغلال الجمود.

وأطللنا من الفضاء القرآني على عالم المسلمين فأطلنا الإطلالة، ورصدنا - متأثرين بما نعاني من جوًى وقهر - ما كان - كما هو كائن اليوم - من فراغ وجداني، ومن غزوٍ فكري، ومن استثمار خسيس لمشاعر الجهالة، وعقد التخلف، والنقص.

وأطللنا فرأينا يدَ الإسلام الآسية تسل سخيمة الصدور، وتمحو علل الهوى، والشهوة، والمادانية العمياء، وكلَّ الآفات التي يبذر بذورَها الشيطان، ويصلى نارَها الحمقى.

تنطع وتصدع:
وأطللنا - متأثرين بما نعاني - فرأينا عينًا حَمِئَةً، آسِنةً يعمرها قوم لا يكادون يفقهون قولاً، داؤهم الجمود الذي يورث الشَّلل، ويشي بالفراغ الرَّهيب، لا يسمنون ولا يغنون، تحسبهم أيقاظًا وهم رقود، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتَّى، تراودهم الرؤى، وتلفهم أغشيةٌ تحجب عنهم يُسرَ الإسلام، ورفقه وسماحته، وقدرته على التطوير والإظهار، وحول العين الحمئة[8] - حيث تغرب الشمس - رأينا تيوسًا جاحدة تعرْبِد وتَنِبُّ، حُشي أديمُها بالجذع والمغالطات، والمقت الشديد للنور، ثم أُطلقت لتعبث وتفسد، ودارتْ حول أمعائها كما يدور الحمار بالرَّحى، لا يفطن إلى أنه معلَّق، ولا يدرك أنَّ زمامه في يد غيره.

وأولئِك، وهؤلاء ذوو حس متبلِّد صَفيق ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ [الأعراف : 179] فأنى لهم أنْ يحسوا بمثل الإسلام وقيمه، وشأوه الرَّفيع؟

أنى لأمثال هؤلاء المطوِيِّين في لفائف الجمود، وأولئك المستهتكين[9] المنتشين بعرْي (بضم العين وإسكان الراء) الجحود أنْ يدركوا:
1- أنَّ المؤمن إذا امتلأ فراغه بالإيمان استقام على الطريقة وسكن.

2- وأنه إذا داوى علل عالم الشهادة بأشفية من عالم الغيب صحَّ، واتَّزن (بتشديد التاء المفتوحة).

3- وأنه إذا عالج سُعار المادانية بتِرْياق الرَّوحانية سلم، وأمن.

4- وإذا تعاهد وعورةَ النفس ببلسم السَّماحة وسائر صفات الجمال طاب، وغنم.

5- وإذا سالت أوديتُه بقدرها فلم يغل (بإسكان الغين وضم اللام)، ولم يتقعر، وغدا وراح رحب الشمائل فضفاض الرداء رضي وأرضى، ونزل سهلاً، وحلَّ في كل مكان أهلاً.

6- وأنه إذا جمد نبذ، وإذا ركد أسن وتعفَّن، وإذا اشتمل بعقده اشتمال الصماء افتقد مرونة المسلم وتخلف، وبات على الصورة التي جاءت في حديث "أم زرع"[10] على لسان الزَّوجة الأولى التي وصفتْ زوجَها بأنه: ((..لحم جملٍ غث، على رأس جبل، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل..)).

7- وأنَّ الإسلام يحرِّك ويحرِّر، ويكر على الأغلال النفسية وغير النفسية ينقضها ويحطمها، حلقةً حلقةً، وعروةً عروةً، ويتيح - بهذا - للمسلم أن يخمل غيرَه، ويسبق عصره.

8- وأنَّ الخِلال السمحة التي ألزمنا بها الإسلام هي قوام الحرية، وهي المركب الميمون إلى سُدَّة (بضم السين وتشديد الدال المفتوحة؛ أي: الباب) التَّقارب والتكامل والوفاق، وهذه الصفات تعد من دعائم المجتمع الإسلامي المنيع، وهي ومثيلاتُها من رِفْق ويسر وحلم وليدة الأنفس الأبيَّة، السويَّة التي طهرتْ من أحاسيس الهوان، وعُقَدِ النقص.

إنَّ إنسانية المسلم تصقلها وتجلوها هذه الخلال، وأصالة المجتمع المسلم ترسخ وتتأكَّد إذا اعتمد البناء على لبِنات مسلمة قوامها تلك الخلال.

قداسة الزمان:
والإسلام بكلِّ شعائره يستهدف - فيما يستهدف - تنميةَ المعنويات العليا في الإنسان، ثمَّ يحرص على أن "يعسكر" بالمسلم في أوقات ومواسمَ خاصة حتى تبقى لياقته، وتنمو قدراته على مغالبة ما رُكِّب فيه من لَدَدٍ ولجاج، وهوية وأنانية، وهلعٍ وطغيان... إلخ، فما أحراه بعد هذا أن يغزو كلَّ أشهر العام بمعطيات شهر رمضان، وأن ينفقَ فيها مما اكتسب في رمضان.

والحقُّ أنَّ الإسلام ميَّز أزمنةً وفضَّل أيامًا، وكرَّم أشهرًا وحرَّم أخرى.

إلا أنَّ فيض هذه الأوقات المختارة فيضٌ متعدٍ غيرُ لازم؛ بمعنى أنَّ الأيام التي اجتبيت، وخصت بمزيد فضل تبث خيرَها، وتمد شعاعها، وتشحن بسناها القلوب الملتزمة، وتفيض هذه القلوب بدورها فتملأ بنورها الأرجاء، وتعمُّ بأريحِها كلَّ الأزمنة، فكأنَّ الأوقات التي ميزها الإسلام محطات تقوية لكهربية الإيمان، وفاعلية الخير، وديمومة الإخلاص والإحسان والأخوَّة، وهذه الأوقات المميزة لا تلد هذه الخلال، ولا تصدرها إصدار قرص الشَّمس للحرارة والضوء، ولكنها مستودع ومستقر، والمولى - جلَّ وعلا - اقتضتْ حكمته أن يصدر إلينا أمره السامي الكريم؛ بأن قفوا أمام هذه المقدسات - الزمانية أو المكانية - وامتزجوا بها حتى يَحْدُثَ تفاعلٌ مهيب بينكم وبينها، ومصدر هذه القوة المفاعلة امتثال أمر الله، وتعظيم محارم الله، وتقديس شعائر الله، والقبول والرِّضى - بلا أدنى شكٍّ - بحكم الله، والوقوف - بلا عدوان - عند المعالم التي رفعها الله.

وثمرة هذا التفاعل أنْ يدعم المولى هذه الوقفات، وأن يباركها ويرْبيها، حتى تغدو سحَّاحةً، ضخَّاخة، فيَّاضة، وأن يوفق هذا الإنسان المبارك إلى أن يشحن هذه الأوعية بالخير.

وهكذا نعلم أنَّ هذه المقدسات تأخذ من الإنسان وتعطيه، لتأخذ منه المزيد، ثم تعطيه أزيد وأزيد على مدار العام كلِّه، والعمرِ كله.

أمَّا إذا جفا الإنسان وقلا، وانفكَّ فلا يندمج، ولم ينفعل أو اكتفى بعلاقات شكلية جوفاء، أو ملأ تلك الأوقات بأشياء مبتدعة أو منكرة… إلخ، إذًا لنضب المعين، وانقطع التيار، وجفَّ الضَّرْع الثَّرَار، ورفعت البركة التي يتفضل بها الله.

وآثار الانتفاع بخير هذه الأوقات تتجلى وئامًا والتئامًا، وجمعًا للكلمة، ووحدةً في الصف، وتقديسًا للهدف، واستعمالاً للحكمة وفقهًا للسُّنن، وموجبات التَّطور.

فإذا انتفتْ هذه الخلال وحلَّ محلها التنافر والتدابر، والغلظة والشقاق وعشق الذات، والتزمت الخ…، فإنَّ لنا أن نوقن بأن هناك انفصامًا بين العقيدة والسُّلوك، وأنَّ الارتباط بالمقدسات ارتباط شكلي، وأنَّ دعوى الالتزام يكذبها الواقع، ويعوزها الدليل، مهما ضخمت العمامة، أو عظمت اللِّحية أو طابت الخطبة، أو خليت القراءة أو حسن السمت، أو قصر اللِّباس.

إنَّ الإسلامَ مخبرٌ ومظهر، والشَّكليات المحضة تحيل أصحابها إلى دُمًى (جمع دُمية) وتورث النِّفاق وتشي بالعته، والفراغ.

قداسة المكان:
كذلك اصطفى اللهُ أراضيَ وأمكنة، وأضفى عليها من القداسة والجلال ما أضفى، وأمر أنَّ نتخذها مشاعرَ ومناسك ومزارات، وهذه المشاعر لا تنضح قداسة ولا تشعُّ جلالاً، ولكنَّها تثير المشاعر وتشبع الأرواح، وتسبي القلوب المؤمنة المذعنة المؤتمرة بأوامر الله، الممتلئة خشيةً، ورغبةً، وطاعةً، وحبًا، وإيثارًا، لما عند الله.

وعند الممارسة والاتصال بهذه المقامات يتمُّ تفاعل لا يُدرك كنهُه بين المشاعر وبين الآمِّين النَّاسكين، وتتفتح في الطَّائفين والعاكفين والرَّكع السجود آفاقٌ، وتتحرك أسرار وتزكو أشواق، وتتدفق معانيَ الإجلال والهيبة والروحانية من تلك النفوس المؤمنة المشوقة، لتلتبس بهذه المشاهد، وتلتحم ويختلط المنبع بالمصبِّ، فالقشعريرة التي يحسها العاكف تنبعث من ذاته؛ من نفسه المؤمنة الخاشعة التي تهيَّأتْ لتكون أداةً حسَّاسة تستقبل وتُرسل، ﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ [الزمر: 23]، والمعاني التي في تلك المقامات بتأثير ذلك الاتصال يباركها المولى، ويربيها حتى تغدو زادًا مباركًا يمتد خيرُه لكل مكان، ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة : 197].

إنَّ الأزمنةَ التي آثرها الإسلام، والأمكنةَ التي قدَّسها الإسلام وخصَّها بالشرف والرفعة، هي في الحقيقة طاقات بث، بل شواحن تدور أو تُؤَمُّ[11] (بالبناء للمجهول؛ أي: تقصد) فتفرغ من حمولاتها في القلوب لتزكو بها، ولتحصن - منها -[12] ذخرًا للأيام، وتنشر - منها - إغاثةً للأنام، فهي إذ تتراءى لا تتراءى ضيقةً، وهي إذ تغيب لا تغيب موعية[13] ممسكة، بل تنفح ولا تستبقي، وترسل دائمًا سحائبَها مثارة لتنتظم الأرجاء والآناء[14].

والإنسانُ المؤمن الذي جلا الإيمانُ شغافَ قلبه، هو الذي يستوعب كلَّ هذه النفحات ثمَّ ينشرها، ويغمر بها العباد والبلاد.

فإذا جمد المسلم، وغلظت قشرتُه أضحى مصمتًا[15]، مختنق المسام، رديء التوصيل، وإذا ماع وتسيَّب تسيُّبَ الكثيب الهيل[16] افتقد التماسُك، وعجز عن الفاعلية والتأثير.

ومِن هنا وجب أنْ يكون المؤمن سريعَ التكيُّف، مرنًا، مصداق الحديث: ((مثل المؤمن كمثل الخَامة من الزَّرع تميلها الريح تارة، وتعدلها أخرى)).

ووجب أن يكون هينًا لينًا، مصداق الحديث: (( كالجمل الأنف، إنْ قيد انقاد، وإنْ أنيخ على صخرةٍ استناخ))، فأين نحن من هذا؟

إنَّ معظمنا شارد، ناب، يظهر وفق صورة أخرى سجلها حديثُ أم زرع ((قالت السابعة: زوجي غَيَاياء[17]، أو عَيَاياء[18]، طَبَاقاء[19]، كل داء له داء، شجَّك[20]، أو فلَّك، أو جمع كلاًّ لك..)).

معظمنا يرزح في أغلال الخيبة، وينوء تحت أطباق العجز ويشكو متبرِّمًا من كلِّ شيءٍ، ومن لا شيء، ويثور فيفقد توازنه، ويؤذي - قبل البعداء - الأقرباء، فهل يؤتمن مثل هذا على الإسلام، والمسلمين؟

(يتبع)


[1] الرمضاء: القيظ الشديد.

[2] ذهب خيرها.

[3] حسيرة تستغيث.

[4] الرضاب الشهد.

[5] غزيرًا.

[6] الأجداث: القبور، والمراد: من فيها.

[7] حميل السيل: ما فيه من طين ونحوه مما يساعد على الإنبات.

[8] ذات طين أسود.

[9] لا يبالي أن يهتك ستره.

[10] حديث صحيح تناول مؤتمرًا نسائيًّا تحدثت فيه الزوجات عن أزواجهن بصراحة.

[11] تقصد.

[12] تدخر.

[13] مختزنة، مخفية.

[14] الآناء: الأوقات

[15] المصمت الذي لا جوف له.

[16] الكثيب المهيل: الرمل المتناثر، من قوله سبحانه: ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا ﴾ [المزمل : 14]؛ أي: رملاً مجتمعًا متناثرًا بعد أن كنت حجارة صلبة متماسكة.

[17] من الغيِّ الذي هو الضلال والخيبة.

[18] العيي العاجز الضعيف.

[19] تنطبق عليه الأمور وتستغلق فلا يرى لها حلاًّ.

[20] كناية عن تخبطه، وتهوره وعدوانيته.







رد مع اقتباس
  #14  
قديم 03-07-2015, 07:46 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

أسرار القرآن في شهر رمضان



خميس النقيب

نعيش مع كتاب الله - عزَّ وجلَّ - نعيش مع هذا القرآن، عطاءِ الله للأمَّة في شهر رمضان؛ ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، كتاب مبارك: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾ [الأنعام: 92]، أُنزل في ليلة مباركة: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3] ليلة السلام، ليلة الأمن، ليلة القدر؛ ﴿ إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 1- 5].

نعيش مع كتاب الله الذي ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].
لو أن أمَّة من الأمم أُعْطِيت آية واحدة صحيحة من هذا الكتاب لاتَّخذَتْ ذلك اليوم عِيدًا، ولعَضَّتْ عليها بالنواجذ.
إنَّ الله - تعالى - اختارها لِهَذا الكتاب، واختار هذا الكتاب لها، رُزِقت القيادة، ورُزقت الرِّيادة، وجعَلها الله - عزَّ وجلَّ - الأمة الوارثة؛ ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105]، وجعَلَها أمَّة الخيريَّة: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾ [آل عمران:110]، وجعَلَها الله الأُمَّة الشاهدة على الأمم يوم القيامة؛ ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].
لِتَكونوا شهداء على الناس بهذا الكتاب، ويكون الرسول عليكم شهيدًا أيضًا في هذا الكتاب، بلْ ذِكْر الأمَّة مرتبط بالقرآن؛ ﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10]، فيه مجْدُكم، وفيه عِزُّكم، وفيه علُوُّكم؛ ﴿ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].
حياة أفضل بالقرآن، وطريقة أفْضَل بالقرآن، وشريعة أفْضل بالقرآن، وإنَّ هذا الكتاب ليَشْكو إلى الله - عزَّ وجلَّ - هذه الأمَّة، لماذا اخْتارت الجهل وأمَامَها العلم؟! وهي أمَّة اقرأ؛ ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، اختارت الذِّلَّة وأمَامها العزَّة؛ ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 139] اختارت الضَّلاَلة وقد هداهَا الله ربُّ العالَمين، ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 39] ﴿ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 178].
الأمم السابقة آثروا العمَى على الهدى: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [فصلت: 17].
إذًا؛ كتاب ربِّكم بين أيديكم، أيْن أنْتَ من حَلاله وحرامه؟ أين أنت من ذِكْره وشُكْره؟ أين أنت من تلاوته وترتيله؟ أين أنت من حروفه وحدُوده؟ أين أنت من أمْرِه ونَهْيه؟! هل تعلَّمْتَ تلاوته وترتيله؟ هل تدبَّرْت آياتِه ومعانِيَه؟ هل علَّمْتَه أولادك؟ إنَّه حبْل الله المتين، ونورُه المبين، وصراطه المستقيم، ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [الزخرف: 43] نعَم، سوف تُسألون عن آياته، وعن حرُوفه وعن حدوده، وعن أمره ونَهْيه، كتاب الله - عزَّ وجلَّ - مَن ترَكَه مِن جبَّار قصَمه الله، ومَن جعلَه خلْفَ ظهْرِه أضلَّه الله، ومن صَدَّ الناس عنه أذَلَّه الله!
كتاب يستقيم مع الفطرة: هل يَحْيا السمك بلا ماء؟! هل يَعيش البشر بلا هواء؟! كلاَّ! كذلك الكون يَحتاج إلى منهج لِيَنتظم مع فطرة الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30] منهج الإصلاح ومنهج التصحيح، منهج الذِّكْر: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ [الأنبياء: 10] ومنهج العلو ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139] دستور القوامة والبشر في الأرض؛ ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9] المنهج الحاجز من التدَنِّي، والمانع من الجهالة والعاصم من الضلالة؛ ((ترَكْتُ فيكم شيئين لَن تضلُّوا بعدَهما: كتاب الله وسنَّتِي، ولن يتفرَّقا حتَّى يَرِدا عليَّ الحوض))؛ تخريج السيوطي، عن أبي هريرة، تحقيق الألباني: "صحيح" انظر حديث رقم: 2937 في "صحيح الجامع".
ويقول الله - تعالى -: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
إن الإسلام منهج حياة بالقائد القرآني، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم المنهج الربَّاني وهو الكتاب والسُّنَّة، ثم بالجِيل الذي يَقتدي بالرسول القرآني، ويطبِّق المنهج الرباني.
الله - تعالى - يقول: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23] أحسن الحديث تلين له الجلود وتخشع له القلوب، والله - عزَّ وجلَّ - قد وصَف عباده عندما يقرؤون كتاب الله: ﴿ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ [الفرقان: 73] كيف؟ لا يَسمعونه سَماع الصُّم، لا يقرؤونه قراءة المنافقين، كيف؟ ((رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه))؛ يقْرَأ آيات الصدق ويكْذِب، ويقرأ آيات الإخلاص ويُشْرِك، ويقرأ آيات العدل ويظلم، رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه.
أمَّا عباد الرحمن عندما يَجلسون مع القرآن فلَهُم آذان مصْغِية، ولهم قلوب واعية، ولهم أعْين راعية، ترعَى حدود الله - عزَّ وجلَّ - فلا تتعدَّاها.
كتاب الله - عزَّ وجلَّ - أنزله على قلب رسوله؛ ليقرأه على الناس على مكث لتخشع قلوبهم، وتتطهَّر صدورهم، وتتزكَّى نفوسهم، وتتألَّق عقولهم؛ ليتعرَّفوا على ربهم وخالقهم ورازقهم - سبحانه وتعالى.
كتاب ربَّاني شامل:
القرآن فيه آيات الله وأسماؤه وصفاته، فيه صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين، ومصاير هؤلاء، فيه الجنة والنار، فيه الوعد والوَعِيد، فيه الترغيب والترْهيب، فيه الأمر والنَّهْي، قال - تعالى -: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89].
كيف لا، وهو رُوحٌ تسْري في الأمَّة؟! ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].
كيف لا، وهو حياة تَنْعم بها الأمَّة؟! ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122].
كيف لا، وهو شفاء؟! ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82].
كيف لا، وهو سبيل الهداية لِمَا يُصْلِح البلاد والعباد؟! ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9].
كيف لا، وهو حَبْل الله المَتِين، ونُورُه المبين، وصراطه المستقيم، مَن قال به صدَق، ومن حَكَم به عدَل، ومن عَمل به أُجِر، ومن دَعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم؟!
لكل مؤلِّف كتاب، ولكلِّ شاعر ديوان، ولكل فيْلسوف منْطِق، وكلٌّ يقدِّم لِعَملهقائلاً: "إنْ كان هناك تقصير فمن نفسي وان كان غير ذلك فمن الله"، أمَّا كتاب الله فالأمْر فيه يَختلف؛ إنه - سبحانه - يقدِّم له بقوله: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ [البقرة: 2].
أين نحن من هذا المنْهج الربَّاني؟ أين نحن من دسْتور الأمَّة؟ أيْن نَحْن من حبل الله المتين؟ ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103] أين نحن من حلاله وحرامه؟ مِن دوائه وشفائه؟ من أمْرِه ونهيه؟ من وعْده ووعيده؟ من ترغيبه وترهيبه؟! بل أين نَحن من تلاوته وتدَبُّره والتأثُّر به ذِكْرًا ووجَلاً وقربًا من الله - عزَّ وجلَّ؟!


أمَّة بغير قرآن كيف سيكون حالُها؟! أمَّة بغير منْهج كهذا: كيف سيكون مصيرها؟! أمَّة عطَّلَت آياتِه وأحكامَه وحدودَه وهي جريمة شنيعة كيف سيكون مآلُها.
كتاب للتدبر والتذكر:
جاء القرآن كتابًا مبارَكًا من عند الله؛ لِتَتَّبِعه الأمَّة؛ ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]؛ لتتدبره الأمة؛ ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، ولا تُنْكِرَه؛ ﴿ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [الأنبياء:50]، يَصُونوا حدوده، ويَرْعوا عهوده، يحفظوا كلماته ويدَّبَّرُوا آياته؛ ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]! كتاب تأثَّر به كلُّ شيء في الحياة:
تأثَّر المشْرِك حين سمع القرآن فقال: إنَّ له لَحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعْلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يَعْلو ولا يُعْلَى عليه.
سَمعه أهل الكتاب فخشعت قلوبُهم، ودمعت أعينهم، وآمنوا بالله ورسوله؛ ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83].
سمِعَتْه الجن ﴿ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن:1،2] ﴿ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 29] وتحوَّلوا إلى دُعاة لهذا المنهج؛ ﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 31].
سَمِعه الجماد، فخشَع من خشية الله؛ ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21].
هل بَعد ذلك يتأثَّر المؤمن عند سَماعه للقرآن؟ نعَم، المؤْمن الحقُّ يتأثَّر ويزداد إيمانًا؛ ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].
كتاب يطمْئِنُ النفوس، ويُسكن الأرواح، ويُفْرِح القلوب:
ظنَّ البعض بأنَّ مرور الزمان يقلِّل من صلاحية القرآن في الهداية، وهذا خطأ على الإطْلاق؛ فالقرآن هو كتابُ هداية مطْلَق متَى فَهِمه الإنسان فهْمًا صحيحًا، وأنَّ هداية القرآن ليست مُرتبطة بظرف أو زمان؛ ففي كلِّ الظروف هناك هداية ربَّانية، القرآن الكريم له صفة الإطلاق والقطعيَّة والَّتي لا يتَّصِف بها غيره من الكتب السَّماوية، كما أنَّ القرآن يُعْنَى بالكلِّيات والأمور العامة والأصول الثابتة الَّتي لا علاقة لها بالمتغيِّرات.
كما أنَّ إعجاز القرآن هو إعجاز عِلْمي يَصْلح في كلِّ زمان ومكان، كما أنَّ القرآن نزل للناس جميعًا على كافَّة مسْتوياتهم، لكنَّ الكثير من المسلمين غاب عنهم "تفعيل القرآن في الحياة".
وإنَّ القرآن أصْبح يُقرأ في المآتم أو على الأمْوات، ويَستأجرون مَن يَقرأ عليهم؛ ممَّا طبَع في أذهان الكثير من العوامِّ أنَّ القرآن يُقْرَأ في الأحزان فقط، في حين أنَّ القرْآن جاء للطمأنينة والسَّكِينة والفرح والغِبْطة والسرور، بل إنَّ القرآن جاء أيضًا لإِحْياء القلوب والعقول.
فالقرآن الكريم ربَّى الأمَّة المسلمة على كيفية التعامل والتعايش مع الأُمَم الأخرى؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، وقال - تعالى -: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [البقرة: 83].
يُرْوَى أنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يَسِير في طرقات المدينة، وإذا به يرى طفلاً صغيرًا ذاهبًا إلى المسجد؛ ليحْفظ كتاب الله، وكان هذا الفتى يمشِي كعادة الفِتْية لاهيًا ولاعبًا في طريقه، لكنَّه كان يردِّد آيات الله التي سيَقوم بتسميعها لمعلِّمه في المسجد، وإذا بأذُنِ عمر بن الخطاب تَسمع هذه الآية من هذا الصبي الصغير: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7 8] فسقط عمر بن الخطاب من سماعها علي الأرض مغشيًّا عليه، وكلما كلَّمَه أحد قال: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7 8] يا ربِّ ارْحم عمر بن الخطاب، يا رب ارحم عمرَ بن الخطاب، وظل مريضًا في فراشه لمدَّة شهْر!.
صلاح الدِّين يتفَقَّد خِيَام الجند ليلاً قُبيل حطِّين، فيَسمع أزيز صدور جنودٍ يَقُومون الليل ويَقرؤون القرآنَ فيشير للخيمة محدِّثًا مساعده، قائلاً: من هنا يَأتي النَّصْر، ثم يمرُّ على خيمةٍ أخرى فيَسمع جنودًا يَلْهُون ويلعبون، فيقول: ومن هنا تأتي الهزيمة.
قال عبد الله بن مسعود: إنَّ أحَدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته، لا يُسْقِط منه حرفًا واحدًا، وقد أسقَط العمل به.
هل تتأثَّر لتلاوة القرآن أو لسماعه؟
يقول صاحب "الظِّلال": "الحياة في ظلال القرآن نعْمة، نعمةٌ لا يعرفها إلاَّ مَن ذاقها، نعمة تَرفع العمر وتباركه وتزكِّيه".
وهذا بطل العالَم في الملاكمة "محمد علي كلاي" عام 1960 لما بلَغ العشرين من عمره حصَل على لقب بطل العالَم في الملاكمة في أقْصَر المباريات، وأمام ضَجِيج المعْجَبين، وفلاشات آلات التصوير أَعْلَن إسْلامه قائلاً: "أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله"، ولمَّا سُئِل عن سبب إسلامه قال: "بدَأْتُ أعيش مع القرآن، وخاصَّةً مع الفاتحة أوَّلِ سورة حَفِظتها منه، وبدأتُ رحلةَ الإسلام رحلةَ طُمَأنينة، ورحلة إيمان يَعِيشها صاحبُها بتعاليم خالِقه" وقال: "إننا لو قُمْنا بهذه الدعوة سنَجِد حشودًا كبيرة تَدخل إلي الإسلام، الَّذي عنْدما تقارنه بغيره مِن الأديان تعرف أنَّه الدِّين الذي يهدي القلوب إلى دين الحق والنقاء".
جاء القرآن لتأسيس أصُول الحياة وبناء الحياة ونشْر العدالة والمساواة بين الناس، قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الإسراء: 70].
كما أنَّ القرآن دعا إلى الحرِّية، فمِن نُظُمِ القرآن في الهداية والإصلاح "الإعداد للمستقبل"، مثلما جاء في قصة سيدنا يوسف: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ﴾ [يوسف: 47]، فالقصَّة ليست استثناءً، ولكنها دعوة للمسلمين جميعًا إلى التخطيط والإعداد للمستقبل.
ولقد استوعبَ القرآنُ الحضاراتِ السابقة؛ فالقرآن الَّذي هو منهاج الإسلام لم يأت للقضاء على الحضارات السابقة، ولكنْ لتقويمها وتصليحها وتعديلها، والاستفادة من تَجارِبها، ولقد رَحَّب الإسلام بكل منْجَزات البشرية، والتي لا تتعارَضُ وإنسانيةَ الإسلام، نزَل مفرَّقًا على ثلاثة وعشرين عامًا على مُكْث؛ لِتُعْلِمَ الناس بما فيه.
وعلى هذا؛ فإنَّ جَميع المسلمين مدْعوُّون كلٌّ على قدْر استطاعته إلى العمل بما يخْدم الإسلام والمسلمين، وبالوسائل الممْكِنة والنافعة، فإنَّ الفلاح كلَّ الفلاح في الأخْذ بهذا المنهج القويم، وصدَق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنِّي تارِكٌ فيكم ما إنْ تمَسَّكتم به لن تَضِلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنَّتِي))؛ صحيح مسلم.
والأمَّة التي تَستمسك بِهذا القرآن قادمة، نَرى بشائرها في الجهاد المقدَّس، وفي امْتلاء المساجد، وفي الأمْر بالمعروف، وفي النهي عن المنكر، وفي المواقف القويَّة التي تَقُول للفاجر: قِفْ، وللظالِم: توقَّف، وللناسي: تذكَّر، وللجاهل: تعلَّم، وللمقصِّر: عُد، وللمذْنِب: استغْفِر، وللضالِّ: اهْتَدِ.
نريد الصَّحْوة التي تنبعث من أعماق البيوت، وتَخرج من أعماق المساجد، وتَدخل في أعماق القلوب؛ لتحرِّكها بالله، وتَجمعها على الله، وتذكِّرها بالله؛ ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45] وتؤثِّر فيها بكتاب الله؛ ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10].
اللَّهم اهْدِنا إلى العمل بكتابك وبسنَّة نبيِّك، وارْزقنا الإخلاص في القول والعمل، ولا تَجْعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مبْلغ عِلْمنا، وصلَّى الله على محمد، وعلى آله وصحْبه وسلَّم، والحمد لله ربِّ العالمين.
رد مع اقتباس
  #15  
قديم 05-07-2015, 12:30 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (34)
بخاري أحمد عبده


قال تعالى:-
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].
النفحات التي تُزجيها هذه الآيات نفحاتٌ ذات شجون[1]، وهي وإن خُيلت (بالبناء للمجهول) مشرقة مغرية، أو تبدَّت للرائين منتشرة متفرقة - حلقات يمسك بعضُها بحُجَز بعض وتدور كلها - من قريب أو من بعيد، حول المحاور الخلاَّقة التي استبانت لنا منذ الوقفة الأولى، وتعينت أصولاً، ومعالم تحدِّد المسار، وتشي بالغاية.
ولقد وقفنا - في المقال الماضي - وقفةً متأنية حِيال مقدَّسات الإسلام الزمانية والمكانية، وعرضْنا للتفاعل المهيب الذي ينتظم الإنسانَ المؤمن، والمقدسات، ورأينا آثار ذلك التفاعُل جلاءً للبصائر، وتزكيةً للأفئدة، وتنشيطًا للدورة الإيمانية في الكيان، وتجديدًا لقوى الرُّوح، وتقوية لمعنويات الدَّاعية حتى يدعو من مركز مطمئنٍ، مرموق، متجاوبًا مع استعدادات زمانه ومكانه، بأسلوب يوفق ويحقق الانسجامَ بين حقائق الإسلام الثابتة وبين مطالب الظروف الزَّمانية والمكانية المتغايرة، وأحجام الناس المتفاوِتة.
والداعية الذي لا يَعِي الحقائقَ، ولا يقدِّر الظروف، ولا يستبين الأحجام، داعيةٌ يصرخ - كما يقولون - في وادٍ، وينفخ في رمادٍ، وينعق بما لا يُفهم - بالبناء للمجهول - هو داعيةٌ أصم، أعمى، مشلول.
الثرى والثريا:
وأستطرِدُ مرةً أخرى[2] معتذرًا، وقبل أن أضع النقط على الحروف - فأعود إلى "الظروف" الزمانية والمكانيَّة، والواقعية التي تلابس حياةَ الإنسان فتؤثِّر وتُغير، وتُعلي وتخفض، وتبني وتهدم؛ عسى أن يكون الحديثُ المستفيض هدى لفئاتٍ تعيش على هامش الزَّمان والمكان، دون أن يبلوا الواقع، أو يقدروا الظروف، ذيولاً أو نفايات تحت السَّنابك والعجلات، ولقد علمنا أنَّ آفة المسلمين ومشكلة الإسلام تتركَّزانِ في الجاحدين من أبنائه وفي الجامدين.
أمَّا الجاحدون فمثلهم كمثل الذين ينكرون الرُّبوبية والألوهية، ينكرون وجود سلطةٍ غيبية وراء الطبيعة تتحكَّم في الكون، وتصرِّف وتدبِّر، والقرآن الكريم وهو يزرع في القلوب شجرةَ التوحيد لم يعرض لهؤلاء الجاحدين كثيرًا تحقيرًا لشأنهم، وتسفيهًا لمذهبهم الذي يَتَعارَض مع الفطرة والعقل.
وأمَّا الجامدون ففي كثيرٍ منهم إخلاصٌ، وعند كثير منهم غيرةٌ على الدِّين وحب للإسلام، إلا أنَّ إهمالَهم لعامل الظُّروف المكانية والزمانية والواقعية أبطل فاعليةَ ذلك الحب، وعَزَلَهم عن روح الإسلام المَرِن الفينان، وأوقفهم موقفَ الدُّبِّ الذي *** صاحبَه؛ ظانًّا أنه يذُب عنه.
واعتبارًا لجوانب الخير الدفينة، ينبغي ألا نقطعَ عنهم أناتنا، وأن نواليهم حتى تلتئمَ الحلقة التي تآكلت فقطعت التيار، وأفقدت الفاعلية والإبصار، وحصرتْهم في قواقع خانقة خالوها الوجود فحجروا الدِّين، وجهلوا عمومية الإسلام وشموليته، وأسفُّوا (بفتح السين وتشديد الفاء المضمومة) فرضُوا بأن يكونوا مع الخوالِف قيد الأوهام والأحلام، وإذا قُدِّر لهم أن يغوصوا ففي الحفر مع الديدان والهوام، وإذا حلَّقوا كان سماؤهم المهدي المنتظر آية آخر الزَّمان، ولا غرابة فقدْ شاهدناهم، واستمعنا لهم في حضرة عالمٍ كبير شدُّوا إليه الرِّحال، وعبروا البحارَ ليسألوه عن أجساد الأنبياء، هل تأكلُها الأرض فتبلى؟ وعن درجة الكفر الذي يتبوَّؤها منكِرُ المهدي المنتظر، وعن عدد الذبذبات التي ينبغي أن تصدرَها السَّبابة والمصلي في وضع التشهد[3]... إلخ، أي بؤس هذا؟ وأي انحدار؟ ذلك وعدونا يقطعُ بمراكبِه أجوازَ الفضاء، ويحطُّ على الزهرة والمريخ، ويرى ويسمع بالأقمار، فما أبعد الثَّرى من الثُّريَّا!
إنَّ الله أرسل رسولَه بالهدى ودين الحق ليظهرَه على الدِّين كله، وكلمة "الدين" بأداتها "أل" التي تفيد الاستغراق ويتابعها "كله" الذي يفيد التوكيد، تعني كافَّةَ المذاهب، والأيديولوجيات الغابرة والمعاصرة سماويها وأرضيها، ولكن الدين نزل رفيعًا ظاهرًا وانتشر، وتمكَّن رفيعًا ظاهرًا، فما معنى "ليظهره
إنَّ الدِّين هو المعتصَم والملاذ والمعراج، وإظهاره يعني - ضمن ما يعني - ظهور الملتزمين، ورفعة المعتنقين؛ ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10]، ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ﴾ [الزخرف: 44].
والمصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - عاش ما عاش يُجاهد كي يرفع النَّاس إلى مستوى الدين.
وظني أنَّ من ظلَّ قانعًا بالوِهاد، يعطي الدنايا منكسًا وضيعًا، ينبغي عليه أن يقوِّم (بتشديد الواو المكسورة) من جديد درجةَ انتمائه للإسلام الرفيع العزيز.


إِذَا أَنْتَ غَمَّتْ عَلَيْكَ السَّمَاءُ

وَضَلَّتْ حَوَاسُكَ عَنْ صُبْحِهَا




فَعِشْ دُودَةً فِي ظَلاَمِ الْقُبُورِ

تَغُوصُ، وَتَسْبَحُ فِي قَيْحِهَا





درس كوني على الطريق:
تعاقبُ الليل والنهار ظاهرةٌ كونيَّة تطوي وتنشر كلَّ الكائنات، وهي ظاهرةٌ معلومة بالضَّرورة، ورغم هذا أطال القرآنُ الوقوفَ عندها، والتمعُّن في أعراضِها وآثارها، تلمَّسْ هذا وأنت تتدبر مثل قوله - تعالى -: ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الزمر: 5]، ومثل قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ﴾ [الأعراف: 54]، ومثل قوله - سبحانه -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62].
ومثل قوله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يس: 37 - 40]
وظنِّي أنَّ مثل هذه اللفَتات الكريمة فوق أنها تبصِّر بعظمة الله، وقدرته وعلمه، وفوق أنها تربِّي في المسلم القدرةَ على التأمُّل والتدبُّر والبحث العلمي - تربط النَّاسَ بما وراء هذه الظاهرة من:
1- مضاء الزَّمن: كالسيف القاطع، واختراقه أحشاءَ كلِّ الكائنات.
2- مضيه: كالبرق الخاطف، وتقلبه بما حوى وأوعى بكلمة الله الذي قدر المنقلب والمثوى ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44]
3- ومن: تأثيره وتغلغل إشعاعاته في الأعماق بشكل يورِثُ اللهاث، ويورد المُنْقَلَبَ المحتوم منقلبَ المعرضين، أو منقلبَ الشَّاكرين؛ ﴿ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144].
وتروعك - خلال الآيات - الحركةُ الدائبة، والحيويَّة الفيَّاضة، والنبض الذي تجد صداه في قلبِك حين تندمج في الآيات، وتنفذ منها إلى الحياة، ثمَّ تُشد - بالبناء للمجهول - بأسبابِها إلى الممات، وتستهويك الإيحاءات الدَّقيقة التي تنبعث هادية مُعبرة، ومن تلك الإيحاءات:
1- أنَّ الكون فلكٌ دوَّار، وأنَّ كل ما فيه يدور تلقائيًّا، وبالتَّبعية.
2- وأنَّ من فقد الحركة الذاتية فلم يدر طوعًا، انفردت به التبعية فدار كرهًا بلا اتِّزان ولا انضباط ولا إرادة، وتبارك الذي ﴿ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11].
3- وأنَّ الكائنات - ولا سيما الأناسي - لم توجَد لتظلَّ خامدة هامدة، بل لتنتعش وتنشطَ حول محاورها - محكومة بسنن الله، وقوانينه التي تحل في الزمان وفي المكان - مستبقة جادة حتى مغرب الشمس ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ﴾ [يس: 40].
ولعلَّ من مظاهر الاستباق الذي تخوضه الكائنات:
1- اختلاف الليل والنهار طولاً وقِصَرًا حسب تباين الفصول، أو مواقع البلاد.
2- واختلاف الصَّيْف والشتاء وغيرهما من الفصولِ ضِيقًا واتساعًا، وحرارةً وبردًا.
3- واختلاف البِقاع المحكومة بقوانين الله في الزَّمان والمكان، ازدهارًا وإقفارًا، وامتلاءً وخَواءً، وقوةً وضعفًا.
4- وامتداد النهار في بعض البلاد، والتفاف بلادٍ أخرى في ليل طويل.
نحو حتفه بظِلْفِه:
إنَّ الكون بكلِّ مفاعلاته ومحتوياته، يستحث الخُطى إلى الأجل المسمَّى الفاغر فمه:
1- ليلتقمَ الأفراد ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 78].
2- وليلتقم الأُمم ﴿ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ [الحجر: 5].
3- وليلتقم القُرى ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ﴾ [الحجر: 4].
مصايرُ مبصرة تتربَّص بكلِّ الكائنات، يسجلها المولى بارزةً كي ترتفعَ زاجرة، واعظةً محرِّكة للضمائر موقظة من السُّبات العميق ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 45، 46].
هكذا تتدافع الكائنات، ويخلفُ اللاحِقُ السابقَ ليؤثر كما تأثر، وليرْبِي التراث الذي آل إليه حتى يؤول إلى غيره أربى وأرحب، ولقد اقتضتْ حكمة الله التدرجَ في إيجاد الكون، وإشارة إلى أنَّ الحكمة في هذا أجل من أن تعيها العقولُ المحدودة يختم الله الآيات التي تعكس مشهدَ الخلق بقوله: ﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [يس: 38]، ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [فصلت: 9 - 12].
واقتضت حكمتُه كذلك أنْ يظلَّ هذا الكون متغيرًا متطورًا نشطًا، حتى يعدو الإنسان قدرَه ويعيد ظنه، ويعميه غرورُه، ويبلغ الذروة التي تشرف على الهاوية؛ ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].
كن على سفر:
روى البخاري عن علىٍّ - رضي الله عنه - أنه قال: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مُقبلة".
وارتحال الدُّنيا على أجنحة الليالي والأيام حقيقةٌ ملموسة، أمَّا ارتحال الآخرة فأمرٌ اعتباري، فهي تدنو منك بقدر ما تبتعد أنت عن الدُّنيا، بقدر ما يتناقص عمرُك، تمامًا كما تدنو البقعةُ المطلوبة من المسافر كلما طوى نحوها الأشواط، والدنيا المرتحلة كالمركبة المتحرِّكة لا بد أن يسايرَها الراكبُ بكل كتلته، متجاوبًا متأثِّرًا منسجمًا، فإنَّ فَقَدَ الانسجامَ فَقَدَ اتزانَه وانقلب.
وعلي - رضي الله عنه - استعار هذا التصويرَ من نبينا - عليه الصلاة والسلام - الذي ألمح إلى أنَّ قدر الإنسان يكون دائمًا متحرِّكًا غيرَ جامد، وأنَّ الأيام مركبُ الأنام إلى مراميهم، فقال فيما رواه أحمدُ وابنُ ماجه والترمذيُّ عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((ما لي وللدنيا؟ وما أنا والدنيا إلا ****بٍ استظلَّ تحت ظلِّ شجرة ثم راح وتركها))[4].
ذلك لأنَّ الدنيا المتغيرة المتلاشية عَرَضٌ زائل وَفْقَ ما روى عمرو - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب يومًا فقال: ((ألا إنَّ الدنيا عرَض حاضر يأكل منه البَرُّ والفاجر، ألا وإنَّ الآخرة أَجَلٌ صادق ويحكم فيه مَلِكٌ قادر...))[5].
ويجدر - قبل أن نمضي - أنْ نومئ إيماءً إلى إيحاءِ كلمات: "راكب" و"استظل" و"راح وتركها"، فكلها كلماتٌ تشي بالحركة والعلو، وبأنَّ المؤمن لا يهمِلُ الدُّنيا إهمالاً، بل ينعم ببردها ويستظل بظلِّها، وبأنَّ حق اتخاذ القرار مكفولٌ للمؤمن، هي المقبلة، وهو باختياره بعوض "راح وتركها".
والدُّنيا ككل الأعراض حائلة ثائرة، متقلِّبة تضم فتحنو، وتغط[6] فتعصر، وتطوي وتنشر، والمرء - كي يأمن - لا بد أنْ يكون مرنًا، يحسن استخدام القوى الفعَّالة التي حباه الله بها، والتي تعتم في داخله، فإذا تجاوب مستمسكًا بعرى الإسلام، مسترشِدًا بنور الإيمان بَذَّ الأقرانَ وسبق، وإلا اختلَّ توازنُه وسقط نهب المدى، وتحت الأقدام، ولا يكفيه أن يتعلقَ بأذيال القادرين.
والحركة في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - "مالي وللدنيا..."، تبدو وكأنَّها تنبعث من الرَّاكب وحده - فهو الظَّاعن[7]، وهو المستظِلُّّ، وهو الرَّائح التارِك - والحقُّ أنَّ الدنيا هي المركب، وعلى متنها العريض الممتد تنتظم أفواج بعد من بعد أفواج، ولكلِّ فوج "محطته" الأخروية، ومنزله المحتوم، أما القطار - بعرباته الجمَّة - فماضٍ حتَّى يأتي أمرُ الله.
الحركة إذًا في الأصل حركة المركب، أمَّا الراكب فتابِعٌ، ودوره التنسيق وإيجاد الانسجام، واستثمار حركة المركب والركب، في هدي الدين على النحو الذي يرضي المولى - جل وعلا - ويحقق الخلافة.
وهؤلاء الذين يعمرون الدنيا - متعاقبين - معادنُ متفاوتة، وهم - متكاملين - يتبعون مركزَ الخلافة في صياغة هذه الدُّنيا، واللاحقون - بحكم انتفاعهم بتراث السابقين، وإثرائهم للتراثِ بما استحدثوا وجمعُوا وأوعوا - أوضحُ رؤية، وأضبط حركة، وأحسن مرتفقًا، وأعظمُ مسؤولية من السابقين، وهم - بما أتيح لهم - رُفعوا (بالبناء للمجهول) درجات دنيوية عن الأولين، فبلاؤهم أشدُّ، ومحنتهم أجلُّ، وظني أنَّ هذه المعاني هي التي تسبق إلى خواطرِنا حين نتدبر قولَه - سبحانه -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 165]
إنَّ كل جيل يضيف من ثقله على مواقع السَّابقين فترْبُو وتعلو، ويحتاج شاغلوها المتميزون بصياغة فكريةٍ جديدة، إلى عطاء متميِّزٍ جديد.
(طابع الأرض، وصبغة الظروف):
مما رواه أحمدُ والترمذي عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنَّ الله خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدمَ على قدر الأرض، فيهم الأحمرُ والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث، والطيب)).
فالإنسان - كما يقولون - طرْحُ الأرض ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ... ﴾ [طه: 55]، وهو - كالأرض - يخضع لعوامل التَّعرية، وعوامل التنمية ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5]، وهو - ككل ما تنبت الأرض - قد يمسخ شجرة خبيثة، وقد يسمق شجرة طيبة أصلُها ثابت، وفرعُها في السماء تؤتي أكلَها كل حين بإذن ربها.
ولكنَّ الإنسان - مع هذا - حفيدُ أمسه ووليد يومه وصدى ظروفه، فصِلَتُه بماضيه وثيقة، وصلته بحاضره أوثق، لأنَّ الماضي بجميع أحواله رافد من روافد الحاضر، وملامح الماضي دائمًا ترتسم على مُحَيَّا (بضم الميم، وفتح الحاء، وتشديد الياء) الحاضر، وعلى ضوء هذا البيان يمكن أن نفهم ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: "سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الناس أكرم؟ قال ((أكرمهم عند الله أتقاهم)) قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فأكرمُ النَّاسِ يوسف نبيُّ الله، ابن نبي الله ابن نبي الله، ابن خليلِ الله))، قالوا ليس عن هذا نسألك، قال: ((فعن معادنِ العرب تسألون))، قالوا: نعم، قال: ((فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا))؛ متفق عليه.
والمعنى: أنَّ أريج الأصول العَطِر يزكِّي الفروع، وأنَّ الماضي يفرغ من شرِّه وخيره على الحاضر، وعبارة "إذا فقهوا" تشير إلى اصطباغ الشخصية بصبغة الظروف.
شخصية الإنسان إذًا تتأثر بالتَّاريخ وبالزمان والمكان، وبالظروف المادية والمعنويَّة الملابسة.
وليس معنى هذا أنَّ الأناسيَّ الذين تجمعهم مؤثراتٌ متماثلة يتساوون بالضرورة، كيف وهناك حظ الإنسان من أمه الأرض؟ هذا الحظ الذي يختلف قوةً وضعفًا، كثرة، وقلة، ويدق دقة التغاير الذي بين نبرات الأصوات، أو بين بصمات البنان ﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [القيامة: 4] إنَّ لميراث الأرض وزنًا بين الصفات المتفاعلة التي تبني شخصية أي إنسان.
ونبادرُ فنعلن أنَّ هذا التفاعل الحيويَّ سنةُ الله في الكون والكائنات، فهو بعيدٌ كل البعد عما ادَّعاه الطبيعيون أصحاب شعار: ﴿ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ﴾ [الجاثية: 24] مِنْ أنَّ هذا الكون أزليُّ العناصر، قديم المركبات، وأنَّ عناصره تتفاعل منذ القِدَم ذاتية، فتلتئم وتنفصِم، وتجتمع وتفترق… إلخ، هكذا بلا مدبر ولا موجِّه ولا مهيمن، بل بقواها الساذجة المكتومة التي لا تعي، إنَّ وراء كلِّ الظواهر الكونيَّة قوة الخالق البارئ المصور، ملهم النفوس فجورَها، وتقواها وهاديها النَّجْدَيْن.
وانفعال الأنفس بالأجواء الكونية التي تكتنفها تحسه وأنت تتدبَّر آيات قرآنية، تلفت النهي إلى آيات كونية، ثمَّ تتحدث عن النفس باعتبارها آية، وإيحاء بارتباطها العميق الدَّقيق بتلك الظواهر التي سبقت، وبحركتها وإشعاعاتها… إلخ، وتنبيهًا إلى أنَّ النفس تتأثر بما تبث هذه الأجرام، وبما تعكِس ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 1 - 8]، وعطاء هذه الأجرام يختلف بلا شكٍّ من بيئة لبيئة، وإذا أخذنا في الاعتبار قدرةَ أهل هذا القرن على ارتياد الآفاق، واستغلال الفضاء، والاستفادة بالطاقة الشمسية - أمكننا أن نقول: إنَّ عطاءَها يختلفُ من زمنٍ إلى زمن.
والنتيجة المُستفادة من كلِّ ما سردْنا هي: (أنَّ إنسان اليوم واسعُ الإمكانات، جمُّ المعلومات متشابك الصِّلات، مزدحم الفكر، فلا بد له من أسلوبٍ عصريٍّ باهر يقنعه ويمتعه، ويؤثر فيه).
يتبع.


[1] متصلة.
[2] هدفنا من هذا الاستطراد الطويل توطيد أرضية علمية وفكرية صلبة يتأكد من خلالها أنَّ الإنسانَ يتفاعل تفاعلاً كيمائيًّا مع الأجواء التي تحتويه، وأنَّ رُؤيته - البشرية - تتكيف بهذا التفاعل، وأنَّ إفرازاته تخضع لتأثير الزمان والمكان والملابسات، لعلنا بهذا البيان نزحزح أولئك الذين اتخذوا رؤى الفقهاء دينًا وأسفارهم دساتير، فانطووا فيها وانسلخوا عن زمانهم المتميز.
[3] كان هذا في موسم الحج الماضي 1404.
[4] ورد هذا المعنى في حديث رواه البيهقي "في الشعب" عن جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((... وهذه الدنيا مرتحلة ذاهبة، وهذه الآخرة مرتحلة قادمة...))
[5] رواه الشافعي، وروى نحوه أبو نعيم "في الحلية" بإسناد ضعيف.
[6] تضم بشدة.
[7] المسافر.
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 03:57 AM.