#1
|
|||
|
|||
وسطية الحضارة الإسلامية (د. راغب السرجاني)
التوازن والوسطية من أبرز خصائص الحضارة الإسلامية، وتعني هذه الخاصية التوسُّط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادَّيْن؛ بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حَقِّه، ويطغى على مقابله ويحيف عليه.
ذلك التوازن والاعتدال الذي يليق برسالة عامة خالدة، جاءت لِتَسَعَ أقطارَ الأرض وأطوارَ الزمن. فترى حضارة الإسلام تجمع بين الروحية والمادية، أو مُتَطَلَّبَات الرُّوح ومتطلبات المادَّة، وتجمع بين علوم الشرع وعلوم الحياة، وتهتم بالدنيا كما تهتم بالآخرة، كما تجمع بين المثالية والواقعية، ثم إن فيها توازنًا بين الحقوق والواجبات. ومعنى التوازن بين هذه المتضادَّات أن يُفْسَح لكل طرف منها مجاله، ويُعْطَى حقَّه بالقسط؛ فلا غلو ولا تقصير، ولا طغيان ولا إخسار، كما أشار إلى ذلك كتاب الله سبحانه بقوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْا في الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} وإذا ما أردنا توضيح ذلك، فإنه قد تبيَّن من تاريخ الحضارات السابقة أن كلاًّ من الجوانب الرُّوحيَّة البحتة أو المادية البحتة وَحْدَها لا تَصْلُح أن تكون سبيلاً لسعادة الإنسان، فليس في مسلك الروحية البحت سوى التخلُّف، وتعطيل الإرادة والتفكير وطاقات العمل، وقتل آدمية الإنسان، وخسارة منافع الكون، وكذلك ليس في مسلك المادية البحتة سوى الطغيان والظلم والاستعباد والذلِّ، والتحكم الغاشم بالأرواح والأموال والأعراض. وهنا جاءت حضارة الإسلام الخالدة لتُزَاوج وتوازن بين مُتَطَلَّبَات الرُّوح ومتطلبات المادَّة، أو بين الماديَّة والرُّوحية الإنسانية؛ فتصبح الرُّوحية المهذَّبة أساس المادِّية المهذَّبة، وعندها ينعم الإنسان بالإرادة والحرية والتفكير وثمرة الجهود والعمل، في إطار من الإيمان والأخلاق القائمة على العدل والأمن والاستقرار والرحمة والمحبَّة فمن شأن ذلك التوازن إذن أن يُحَقِّق الانسجام والتوافق بين الفطرة الإنسانية والغاية العقلية، وكذلك التجاوب والانسجام الشامل في أفكار الإنسان وخيالاته، وإراداته ونياته.
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|